محمد حافظ رجب - المبيـت فـي ســركي الــوارد


.. الرجل الذي صمت كثيراً من الدهر:
اسمحوا لي بالتمدد فوق فراش الإقامة فقراء نحن: عندما يأتي لحم الأضاحي من فوق الأضرحة، نصبح في عيد: أتولي أنا توزيع الأصابع: كفتة عزيزة علينا:طعامنا اليوم.. في غفوة الشراسة: انتبهت لهم داعبتهم بألم ساحق أشعر بالذنب في حجم جني مارد يتمدد في داخلي، يلمس نبض السماء بيديه.. آذيتهم أمس.
.. «الجدة»: إنت بغزالة ساعة تروح وساعة تيجي..
الرجل الصامت: التهمت لحماً: مضغته، بصقت ذراته فوق الأرض الصماء: يلاحقني المرض! غاضبة السماء، ربها وجنودها عليه.. لم تذرف علينا دمعة واحدة، رغم أن الواقع ساحق، يستحق تسرب ماء العيون..
طوال يومي هنا ( في سكرتارية المحافظة) و (فايزة) تحاول اقتحامي..
فايزة: ياسلام علي الزوجة الشاطرة لما تسوي السردين بالبخار.
الرجل الصامت: «أعلم أنها تريدني بعلا لها، لكني سجين سر يمنعني من مغادرته، والالتحام بأي إمرأة، مع أني أشتاق للأنثي وأود لو تمكنت يوماً من احتواء إمرأة تكون رفيقة ما تبقي من رحلتي.. لذلك أتعامل مع (فايزة) بالإشارات.. لتستمر في التعلق بي رغم قيود السر المكبلة لحركتي.
.. حضر الآن: (الرجل الشرير).. صديق (بهجت) رئيس السكرتارية.. يلف الغموض الرجل.. قال لي (الرجل الشرير): أريدك لي في المساء والظهيرة في كل وادٍ.. أينما كنت: أنجب منك البنين والبنات وتنجب من العبقري الحسان..
.. أخرجت سيفي: ضربته ضربة واحدة.. طار العنق يحمل الرأس.. امتنعت عن الخروج من المنزل.. هزال شديد .. أسناني تساقطت..
.. يوم الخميس.. حضرت (عزيزة) ابنة خالتي (وأم كامل).. صديقتها.. تدخل (أم كامل) و (عزيزة).. (أم كامل) تسوق أمامها رجلاً جلفاً.. في عنقه طوق من حديد.. تتدلي منه سلسلة .. (أم كامل) تمسك بطرفها.
عزيزة: (أم كامل) جارتي.. جئت بها إليك.. تكتب لها شكوي ضد هذا الرجل.. أشارت إلي الجلف.
.. (أم كامل) عاوزة أكتب شكوي ضد المتعوس ده تاجر الحديد .. غني هو من تجارته.. دكانه جنبي. «تموت بالحسرة ياقليل الدراهم» يخرج الورق الأحمر والأخضر من محفظته.. وأنا أموت بالحياة وأندفن كل يوم في تراب عمود السواري.. عايزة أتمتع بالورق.. مراته البلهاء تتمتع بيها وحدها..
.. الرجل الذي صمت كثيراً من الدهر: «أم كامل امرأة حركة مغرية قادرة علي بث الرغبة في أكثر الرجال تحفظاً وبروداً.. أم كامل قارحة بالفعل.. تصطاد هذا الرجل ليتزوجها لو مات زوجها الكنترجي.. أو لو تخلصت منه.
..(عزيزة) :يا ابن خالتي جئت لك بحبيبتي أم كامل.. تريد مساعدتك لها.
.. (أم كامل): جئت إليك بهذا الجلف لتكتب لي شكوي ضده: «أريد لفت نظره إلي عديم النظر.. لكي يشعر بقوتي.. يستجيب لي.. أريده بدلاً من أن يكون لزوجته.. ثروته تكون لي.. ليست لهذه المرأة المشوهة البلهاء.. لكنه يريد أن يقضي معي بعض الوقت مقابل ورقة واحدة خضراء أو حمراء.
.. الجلف يهب واقفاً: يا أفندي.. أريدها مقابل ورقة واحدة كل مرة.. فيها عيب دي..
.. (أم كامل): المنكود أصبح غنياً من تجارته.. تجارته راجية.. دكانه جنب بابي وشباكي. «تموت بالحسرة ياقليل الدراهم..» كل ساعة يطلع الورق الملون.. قدامي.. يفرده من محفظته..
.. (الجلف): شيلي الطوق اللي علي رقبتي.. مالكيش عندي إلا ورقة واحدة كل مرة.. مفهوم..
.. (عزيزة): ياابن خالتي (أم كامل) عاوزه تصطاده يتجوزها لو مات جوزها الكنترجي.. أو اتلقظ منه..
أم كامل: أخشي عيون الشارع.. قاعدة أنا في منطقة الغجر.. أنا حيرانة.. أبص له باشتياق.. وهو بيسقي زرعه.. والميه بركة تقوم فيها السحالي والأبراص.. أحكي لك عن بنتي الجميلة.. بتشتغل في (شيكوريل) واحد موظف كبير اتجوزها..
- (عزيزة): أم كامل.. عاوزه تعصر جوز بنتها.. ضمت البنت لها.. رفعت قضية نفقة والمتأخر علي جوز بنتها.. عاوزه ترتوي من مية الفيضان.. لكن الموظف الكبير بحر في عقل البنت .. رجعت لجوزها.. رجعت لها راكبة مركب.. سابت أمها.
.. (أم كامل) «ياابن خالتي في الخامسة والأربعين.. تستولي علي نقود أولادها.. ومساعدتهم لها.. بتقدمها لزوجها (الكنترجي) عمره أكثر من سبعين سنة.. وحشاش بريمو .. بتقدم له مساعدات ولادها من راجل غير الراجل اللي معاها.. لابنها منه.. ولما وجدها الأولاد طماعة.. تركوها لفقرها.. تعيش مع (الكنترجي).. وآديها بتطمع في فلوس تاجر الحديد».
.. (المحروسة): «اتفق وزراء الخارجية العرب علي انعقاد مؤتمر القمة في الخرطوم.. عبد الناصر يرأس اجتماع مجلس الوزراء الليلة، المجلس يستأنف بحث الموقف السياسي للدولة.. عدت إلي بيت السركي: جلد لحمي هو: أدخل فيه أختفي في جدرانه.. أذهب إلي (السلسلة) لأشاهد رماة الأطباق الطائرة، أحاول أن أصطاد السمك بلا صنارة في البوصة ولا شبكة مثقوبة.. بينما أنا أغلق النوافذ علي .. ترامي إلي صوت ضجة.. برز لي من بين سطور الوارد رجل.. حياني باحترام.. دعاني لأقرأ شكواه: «من حسن محمد محمود إلي قائد شرطة المرافق.. الموضوع: بتاريخ 5 مارس 1966 توفي عبد القادر سلامة أحمد الذي كان حارس مبولة (حلقة السمك) بالأنفوشي، وانحصر ميراثه في زوجته: (نعمة عبد المعطي الشربيني) وصرفوا لها الثلاثة شهور، وتقرر لها معاشه، إلا إنها تزوجت من زميله المدعو (أحمد خليل زقزوق) سراً وبعلمه، ورزقت من زوجها الحالي بمولود، وأنها لا تزال تستلم معاش المتوفي بعلم واتفاق زوجها الحالي، مع العلم بأن للمتوفي شقيقة تدعي (وهيبة) وسكنها حارة الكبال نمرة 13 قسم الجمرك .. الأمر الذي يوجب علي سيادتك عمل الإجراء اللازم لصرف المعاش إلي شقيقة المتوفي وليس إلي زوجته السابقة، والتي تتقاضي معاش زوجها المتوفي للآن بدون وجه حق، وسكن (نعمة عبد المعطي الشربيني) وزوجها 5 شارع النبي أبو العباس جعلكم الله عونا للمحتاجين وإعطاء كل ذي حق حقه».
.. في الثالثة صباحاً.. وبينما أنا داخل جدران السركي.. ترامي إلي سمعي صوت صريح النافذة وهي تفتح.. قمت فزعاً... وإذا بامرأة ترتدي السواد.. تهبط علي مرقدي..: «أنا نعمة ياخويا نعمة عبدالمعطي الشربيني.. أظنك قريت الشكوي.. والنبي يا خويا الولية ديه فضحاني في كل حتة.. أنا ما أجوزتش يا نضري.. ده واحد صاحب جوزي المرحوم.. بيتردد علي بيساعدني وأنا لا أتجوزته ولا حاجة».
«أم كامل» تتربع علي سري.. تنتفض خلاياي كلما تذكرت سري.. ترقص وتغني أمامي.. وبائع الحديد يكوي قلبها الأبكم قدامي.. ويعمل لها غسيل معوي».
«مصطفي أبوشامة جلس بجانبي في دهاليز وحواري السكرتارية.. سألني حائرا: له حاطين في الشوارع سدادات طرق..؟
قالت «فايزة لأبواليزيد» الموظف الصغير: «واد يا أبواليزيد تعالي هوي لي» تود أن تحرك اهتمامي الخالص بها قام أبواليزيد يهوي لها بالهواء.. لكنها انزعجت منه عندما اقترب منها اقترابا شديدا طردته: ذبابة متحركة هو في نظرها.. بعد قليل نهضت «فايزة» اقتسمت كوب شاي مع بسيوني طلبة أحد خدام قصر المدينة الحافلة.. خطفت قطعة هريسة منه.
بين جدران السركي.. جلست أسجل الوارد القادم من المبني الرئيسي بالمحافظة إلي السكرتارية، لفت نظري الضعيف هذه الشكوي من العاملين بحديقة حيوان المدينة بالنزهة تبع القسم البيطري التاريخ 1/5/67 صدرت التعليمات بأن يبدأ العمل من الساعة الثامنة حتي الساعة الرابعة بعد الظهر، أما بالنسبة للعمل بحديقة الحيوان، فإن العمل يستمر بعد الساعة الرابعة إلي الساعة الثامنة فيكون مجموع ساعات العمل 10 ساعات متوالية بلا انقطاع وإن هذه القرارات الاشتراكية الاجتماعية البناءة العادلة أعطت كل ذي حق حقه، لذلك نلتمس من سيادتكم النظر في شكوانا هذه حيث إن السيد الرئيس جمال عبدالناصر حفظه الله قد حدد لنا معالم الطريق الذي نسير فيه ونتمسك به، فالدولة لها حقوق قبلنا ونحن نضحي من أجل الدولة بكل عزيز ونحن لنا حقوق قبل الدولة وحقوقنا واضحة كالشمس في ضوء القرارات الاشتراكية الاجتماعية البناءة التي صدرت أخيرا.. وأعطت كل ذي حق حقه، ونحن واثقون من السيد المحترم محافظ الإسكندرية بأن ينظر إلي طلبنا هذا وصرف جميع استحقاقاتنا عن ساعات العمل الإضافية وهي تبلغ ثلاثة أشهر من تاريخ 1/5/67 وفقكم الله للصالح العام وتحيا الجهمورية العربية المتحدة في ظل زعيمنا المناضل الرئيس جمال عبدالناصر.. حفظه الله. الإسكندرية في 4/7/67 إمضاء حوالي 50 توقيعا».
قمت من رقدتي من بين جدران سركي الوارد فتحت النوافذ.. أطفأت نور السلم، رفعت عيني ترامت إلي أصوات كثيرة متنافرة: «وسع يا جدع أنت وهوه.. الجماعة حضروا الأسد وجماعته وباقي الحيوانات بالحديقة جايين لتدعيم مطالبنا احنا رجالة الجنينة.. جايين يدعموا رجالتهم».
خرجت إلي الردهة: وجدت حقيقة الأسد ورجالته وجماعته وبقية الحيوانات.. داخلين في نظام وهدوء ووقار وثقة بالغة بالنفس.
يا أفندي..احنا علمنا إن رجالتنا قدموا شكوي هنا لتحسين حالهم.. إحنا جايين من هناك ندعم مواقفهم.. احنا الحيوانات شاعرين بحالهم..هم من غير شك يستحقوا الزيادة اللي اتقدموا بيها عندك يا أفندي..عن ساعات العمل الإضافية .. طبعاً إنت قريت الشكوي.. شكوي عادلة ولا شك..الرجا تبلغهم فوق في المحافظة بحث حالة جماعتنا علي وجه السرعة.. علشان يهدأ بالنا وبالهم الرجا يا أفندي تبلغهم الاهتمام بحالة رجالتنا.. سلامو عليكم.. وخرج وفد الحيوانات في هدوء ووقار كما دخلوا وأنا في حالة غريبة من التفكير العميق في الأمر.
رجعت إلي مأواي.. استسلمت بسركي الوارد.. بوق سيارة يدوي بالخارج.. دويه متواصل في إلحاح وتوتر: أزحت الستائر عن نافذة مرقدي، لمحت سائق سيارة خاصة يرفع حنجرته فوق يديه عاليا.. ياللا يا بيه يا صاحب العربية اللي قدامي يشيل عربيته، المرور بيمنع الوقوف هنا..حبكت القافية لسان أبواليزيد أفندي الموظف الصغير.
يا أفندي يا حمار أنا جي أهه.. يا ابني مش ح أتفسح النهارده الله يخرب بيتك».
وجدت الرجل الشرير داخلا: تلاشي بهجت أفندي صار عصير خيار في المعصرة.. خيار لم يدركه المذاق الطيب بعد.
قلت له: أين حذاء قدمك «دبحتك بسيفي ومازلت تحبي.. لسه بدور علي مرقدلك تحسست سيفي.. قلت له: ضع عنقك تحته.. سأغفر لك شذوذك معي.. ماذا اتفقت عليه أنت وبهجت رئيس السكرتارية ممرضك.. قال الرجل الشرير يا للا بينا احنا نلعب لعبتنا قدامه.. يا بهجت. أغلق علينا الباب.. هل تريد يا بهجت اللعب معانا.. سيكون لك دور مهم فيها.. أنا عارفك كويس».
قلت له: هل وقع بصرك علي أم كامل من قبل وأنت في الطريق إلينا يا غبي سأرسلها إليك.. ستستلم جثتك بعد أن أحنطك.. هويت بسيفي علي عنقه.. طار من مكان رقدته.. تمتمت: هديتي لك يا أم كامل.. أيتها السيدة الطازجة دائماً

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...