السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بمناسبة الدّخول المدرسي ، أذكّر نفسي و كلّ الزّملاء و الزّميلات بكلام الإبراهيميّ رحمه الله تعالى .. نسأل الله التّوفيق و الإخلاص و القَبول ..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أي أبنائي المعلّمين
مراحل التعليم الابتدائي هي- بالأصول- مراحل التكوين الأول للناشئة وعلى أساسها يُبْنَى مستقبلهم في الحياة، فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمّتهم ولأنفسهم. وإن كان ناقصًا مختلًّا زائفًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمّة، وكانت الأميّة أصلح لها منه وأسلم عاقبة.
إن تبعة ذلك كله تلقى على المعلمين الكرام.فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدّوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليجعلوا من أخلاقهم وعزائمهم مرآة للناشئة وقدوة صالحة لها، لينطبع هذا الجيل الذي هو باكورة النهضة على أخلاق متينة، وعزائم قوية ودين صحيح، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل سافًا حتى يعلو البناء ويشمخ. وإن البناء لا يعلو قويًّا صحيحًا متماسك الأجزاء متعاصيًا على الهزات والزلازل إلا إذا كان الأساس قوّيًا متينًا، متمكنًا ركينًا، وإن هذا الجيل الذي بين أيديهم هو حجرة الأساس في بناء هذه الأمّة من جديد. فليثبتوا الأساس، ليثبتوا الأساس.
...
ليعلم أبناؤنا معلّمو هذا الجيل، أننا- ولا منة عليهم- مهّدنا لهم كثيرًا من العقاب، وذلّلنا لهم كثيرًا من الصعاب، وحللنا كثيرًا من العقد الاجتماعية التي عقدها البعد عن هداية الدين، والجهل بحقائقه، ووطأنا لهم أكناف النفوس المستعصية عن العلم، المستعصمة بالجهل، فأقبلت على العلم بعد أن كانت عنه معرضة، وجادت في سبيله بالمال بعد أن كانت به شحيحة، واستمرأت القراءة فآمنت بها وأنِسَتْ، واستوبلت الأميّة فكفرت بها واستوحشت منها، وعرفت القرآن بعد أن هجرته وتنكرت له، وأصبحت تهتز لسماع لغة القرآن اهتزاز النشوة والطرب، وفتحنا أذهانها على حقائق الإسلام فأدركتها وجدّت في طلبها بعد أن كانت تتلهّى عنها بقشور تسمّيها الإسلام، ووصلنا ماضيها المشرق بحاضرها المظلم لينعكس عليه إشراقه بعد أن قطعت الصلة بينها وبينه بجهلها ورعونتها، ووجّهناها إلى سعادة الحياة وشرف الحياة وجدّ الحياة بعد أن كانت قانعة منها لهزلها وسفاسفها وتوافهها. وكل ذلك مما يعين المعلّمين لهذا الجيل، ويخفف عنهم المشقّة.
...
فليعلموا أننا تعبنا في هذه المرحلة لينعموا ولو بقليل من الراحة، وأن على مقدار تعبهم في تربية هذا الجيل وتعليمه وإعداده للحياة ومطالبها تكون الراحة لمن بعدهم من المعلّمين والعاملين لخير هذه الأمّة في جميع الميادين.
إن زمانكم بطل فقاتلوه بالبطولة لا بالبطالة. وإن البطل هو الذي يتعب ليستريح غيره.
...
إن الذبذبة التي شهدنا آثارها السيئة في هذا الجيل الذي نحن في آخره، معظم السبب فيها آت من قارئيه ومتعلميه- على قلّتهم- فهم على تفاهة معلوماتهم وقلة محصولهم من المعرفة، لا يرجعون إلى أصل واحد في التعليم ولا إلى منهج واحد في التربية. وإذا اختلفت الأصول والمناهج في أمّة واحدة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف. وخير المناهج لأمّة كأمّتنا في ظرف كظروفنا ما خرج سالكه بفكر صحيح وإن لم يخرج بعلم كثير ...
...
أعيذكم بالله يا أبنائي المعلّمين أن تجعلوا كل اعتمادكم في تربية الصغار للرجولة على البرامج والكتب. فإن النظم الآلية لا تبني عالمًا ولا تكون أمّة ولا تجدّد حياة، وإنما هي ضوابط وأعلام ترشد إلى الغاية، وتعين على الوصول إليها من طريق قاصد وعلى نهج سويّ. أما العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها ويقتبسونها منكم، وما تبثّونه في أرواحهم من قوة وعزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم. وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وكل هذا مما لا تغني فيه البرامج غناء. ولو كانت البرامج تكفي في التربية لكان كل عالم مربّيًا، ولكن الواقع خلاف هذا.
أي أبنائي المعلّمين:
هناك أمم تقدّمتكم في العلم والمعرفة والنظام، فخذوا من مباديها العبرة، وخذوا من مصايرها العظة، وإن عبرة العبر لكم فيها أن العلم وإن تشعبّت عندها أغصانه، وتفرّعت أفنانه، وأسلس لها عَصِيُّهُ حتى فتحت به مغلقات الكون، لم يغن عنها فتيلًا مما تغني الأخلاق والفضائل.
إن العلم لم ينه مفسدًا عن الإفساد، ولم يزع مجرمًا عن الإجرام، ولم يمت في نفوس الأقوياء غرائز العدوان والبغي على الضعفاء، بل ما زاد المتجرّدين من الفضيلة إلا ضراوة بالشر، وتفنُنًا في الإثم. فاجعلوا الفضيلة رأس مال نفوس تلامذتكم واجعلوا العلم ربحًا.
أي أبنائي المعلّمين:
إنكم في زمن، كراسي المعلّمين فيه أجدى على الأمم من عروش الملوك، وأعود عليها بالخير والمنفعة. وكراسي المعلّمين فيه أمنع جانبًا وأعزّ قبيلًا من عروش الملوك: فكم عصفت العواصف الفكرية بالعروش، ولكنها لم تعصف يومًا بكرسي المعلم.
إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمّة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمّة بين أيديكم، سلّمتهم إليكم أطفالًا، لتردّوهم إليها رجالًا، وقدّمتهم إليكم هياكل لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملأوها بالفضيلة والمعرفة.
إنكم رعاة، وإنكم مسؤولون عن رعيتكم. وإنكم بناة، وإن الباني مسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف.
إن من الطباع اللازمة للأطفال أنهم يحبّون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر. فواجب المربّي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسألهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة. فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة- طريقة الترغيب- حبّب إليهم المدرسة والقراءة والعلم. وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ. وكثيرًا ما رأينا الصغار الذين يربيهم معلّموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تربه بقسمه وبمعلّمه، ويباهي زميله في مدرسة أخرى بمدرسته، كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت. وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.
..
ليحذر المعلّمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلّمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة. إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق، وتغرس فيهم الجبن والخوف، وتُبغض إليهم القراءة والعلم. وكل ذلك معدود في جنايات المعلّمين الجاهلين بأصول التربية.
وليدرس المعلم ميول الأطفال بالاختلاط بهم، وليكن بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزّع بشاشته ويزرع بينهم نصائحه، ويردّ الناد منهم عن المحجة برفق. إن درس الميول يمكّن المعلم من إصلاح الفاسد منها، ومن غرس أضدادها من الفضائل في نفوسهم. وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا ... ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين.
أيها المعلّمون الكرام:
إن البيت عند الأمم الحية هي أخت المدرسة. كلتاهما مكمّلة للأخرى، فالتلميذ بينهما يتقلّب بين عاملين من عوامل التثقيف والتهذيب. أما البيت عند أمّتكم فهي ضرة المدرسة، ما تبنيه هذه تهدمه تلك، وما تزرعه هذه تقلعه تلك. لأن قعائد البيوت جاهلات. وقعائد البيوت هنّ قواعدها، وويل لبيوتنا من هذه القواعد ما دمن جاهلات. ووارحمتا لكم من هذه الحالة وهذا الموقف، ولا أب يؤيّد ويناصر، ولا أم تعين وتؤازر.
..
إذا كان الأمر كذلك فانظروا - يا رعاكم الله- أي عبء ألقته المقادير على كواهلكم، وأي واجب تؤدّونه لدينكم ولغتكم وأمّتكم، وأي عهد في أعناقكم يجب أن توفوا به لها.
ههنا توقظ الليالي هاجعها، وههنا تجافي الجنوب مضاجعها، وههنا تسمو نفوس، وتسف نفوس، وههنا تنسى المادة الخسيسة حتى كأنها ليست من هذا الوجود ...
أي أبنائي المعلمين:
إن الأطفال مفطورون على غرائز ناقصة يزيدها الإهمال وفقدان التربية الصالحة نقصًا وشناعة، وتعالجها التربية الحكيمة كما تعالج الأمراض. فإذا لم تعالج في الصغر اندملت نفوسهم عليها كما يندمل الجرح على فساد، وجفّت كما يجفّ العود على عوج، فضعوا أيديكم على تلك النقائص وتعمدوها بالإصلاح والتقويم، أو بالتشذيب والتعديل.
فمن النقائص اللازمة للصغار: الخوف والغضب والحسد وسرعة التأثر والانفعال وسرعة التصديق بكل شيء وإفشاء كل ما تسمعه آذانهم وتراه أعينهم.
أما الخوف فمنشؤه أوهام تحوكها الأم الجاهلة لصغيرها منذ الرضاعة تستعين بها على إسكات الطفل أو تسكين حدّته، وهي لا تدري ماذا تجني عليه من تلك الأوهام، ولا أي مرض عضال ابتلته به صغيرًا ليتجرّع غصصه كبيرًا.
فاجتثوا هذا الغرس الخبيث من نفوسهم بتقوية الإرادة فيهم وبتنمية الحقائق في أذهانهم. وداووا كل نقيصة من تلك النقائص بتقوية ضدها في نفوسهم، وببيان أضرارها بالتصوير العملي على قدر ما تحتمله عقولهم. وأنجع الأدوية ترويضهم على الصبر والصدق والتسامح والشجاعة. ربّوهم على الفضائل- وأكرّر القول وأعيده- وقدّموها على العلم.
إن الأخلاق العالية هي الأصل، وإن العلم لا يغني عنها، ولا يأتي بها، وكم رأينا من عالم يعظ الناس وينهاهم عن المنكر ثم يخالفهم إلى ما نهاهم عنه. وكم رأينا من طبيب يبيّن مضار الخمر للناس وهو يعاقرها.
ربّوهم على الرجولة وبعد الهمّة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى المروءة والوفاء، وعلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح، وعلى حب الدين والعلم والوطن والوالدين والمعلم.
أفهموهم من الصغر معنى الأسرة وروابطها وواجباتها، وتدرّجوا بهم من معنى الأسرة إلى معنى الأمّة، وأشربوا قلوبهم أنهم فروع من دوحة واحدة ذات خصائص طبيعية ليحافظوا عليها.
كونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال والأقوال. لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال. وإن الكذب في الأحوال أضرّ على صاحبه وعلى الأمّة به من الكذب في الأقوال. فالأقوال الكاذبة قد يحترز منها، وأما الأحوال الكاذبة فلا يمكن منها الاحتراز. وقد يقول لكم قائل: إنه رجل صالح، فتحتقرونه لأنه مُزَكٍّ لنفسه، ولكون الاحتقار، مانعًا من الاغترار. ولكنه يأتيكم من طريق أخرى فيلبس لبوس الصالحين ويتظاهر بأحوالهم من الصمت والسمت فتغترون به، وهو هو بعينه. وكم أهلك هذه الأمّة المتظاهرون بالصلاح، والمتظاهرون بالزعامة، والمتظاهرون بالإمامة.
أي أبنائي المعلّمين:
إنكم جنود الإصلاح، فأصلحوا نفوسكم وداووها من داء الأنانية والغرور وتلاقوا على الحرفة الجامعة بالأخوّة والتعاون، والتساند والتضامن.
إنكم من جيل فتح آذانه على نغمة متردّدة كثر لوكها حتى أصبحت دعوى كل مدّع، وشعوذة كل مشعوذ، وهي خدمة الأمّة، وخدمة الوطن. وإن أشرف خدمة يقدّمها العاملون المخلصون لأمّتهم ولوطنهم هي التعليم والتربية الصالحة، فهما سلّم الحياة وإكسير السعادة.
إن أستاذ العاملين الأكبر هو الاستعمار نفسه. يدلّهم بفضائحه البادية، وأعماله الباغية العادية، على طريقة العمل. فإن أردتم أن تعرفوا الطريقة المثلى لخدمة أمّتكم، وتتبيّنوا الطريق القاصد، فانظروا إلى الاستعمار، واعرفوا الطرق التي سلكها لقتل أمّتكم فاسلكوا ضدّها لإحيائها. وادرسوا الوسائل التي تذرع بها لاستعباد أمّتكم فاستخرجوا منها وسائل تحريرها.
أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمّة، وإن الوطن لا يعلّق رجاءه على الأميّين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسّك بصداها وكرّرها كما تكرّر الببغاء.
كان الله لكم، وجعلكم عند حسن ظننا بكم، وأجرى على أيديكم الفتح والنجح.
آفلو، رجب عام 1361هـ.
المصدر : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله
بمناسبة الدّخول المدرسي ، أذكّر نفسي و كلّ الزّملاء و الزّميلات بكلام الإبراهيميّ رحمه الله تعالى .. نسأل الله التّوفيق و الإخلاص و القَبول ..
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أي أبنائي المعلّمين
مراحل التعليم الابتدائي هي- بالأصول- مراحل التكوين الأول للناشئة وعلى أساسها يُبْنَى مستقبلهم في الحياة، فإن كان هذا التكوين صالحًا كانوا صالحين لأمّتهم ولأنفسهم. وإن كان ناقصًا مختلًّا زائفًا بنيت حياة الجيل كله على فساد، وساءت آثاره في الأمّة، وكانت الأميّة أصلح لها منه وأسلم عاقبة.
إن تبعة ذلك كله تلقى على المعلمين الكرام.فلينظروا أي موقف أوقفتهم الأقدار فيه، وليشدّوا الحيازيم لأداء الأمانة على وجهها، وليجعلوا من أخلاقهم وعزائمهم مرآة للناشئة وقدوة صالحة لها، لينطبع هذا الجيل الذي هو باكورة النهضة على أخلاق متينة، وعزائم قوية ودين صحيح، وليعلموا أنهم إنما يبنون للأمة من كل جيل سافًا حتى يعلو البناء ويشمخ. وإن البناء لا يعلو قويًّا صحيحًا متماسك الأجزاء متعاصيًا على الهزات والزلازل إلا إذا كان الأساس قوّيًا متينًا، متمكنًا ركينًا، وإن هذا الجيل الذي بين أيديهم هو حجرة الأساس في بناء هذه الأمّة من جديد. فليثبتوا الأساس، ليثبتوا الأساس.
...
ليعلم أبناؤنا معلّمو هذا الجيل، أننا- ولا منة عليهم- مهّدنا لهم كثيرًا من العقاب، وذلّلنا لهم كثيرًا من الصعاب، وحللنا كثيرًا من العقد الاجتماعية التي عقدها البعد عن هداية الدين، والجهل بحقائقه، ووطأنا لهم أكناف النفوس المستعصية عن العلم، المستعصمة بالجهل، فأقبلت على العلم بعد أن كانت عنه معرضة، وجادت في سبيله بالمال بعد أن كانت به شحيحة، واستمرأت القراءة فآمنت بها وأنِسَتْ، واستوبلت الأميّة فكفرت بها واستوحشت منها، وعرفت القرآن بعد أن هجرته وتنكرت له، وأصبحت تهتز لسماع لغة القرآن اهتزاز النشوة والطرب، وفتحنا أذهانها على حقائق الإسلام فأدركتها وجدّت في طلبها بعد أن كانت تتلهّى عنها بقشور تسمّيها الإسلام، ووصلنا ماضيها المشرق بحاضرها المظلم لينعكس عليه إشراقه بعد أن قطعت الصلة بينها وبينه بجهلها ورعونتها، ووجّهناها إلى سعادة الحياة وشرف الحياة وجدّ الحياة بعد أن كانت قانعة منها لهزلها وسفاسفها وتوافهها. وكل ذلك مما يعين المعلّمين لهذا الجيل، ويخفف عنهم المشقّة.
...
فليعلموا أننا تعبنا في هذه المرحلة لينعموا ولو بقليل من الراحة، وأن على مقدار تعبهم في تربية هذا الجيل وتعليمه وإعداده للحياة ومطالبها تكون الراحة لمن بعدهم من المعلّمين والعاملين لخير هذه الأمّة في جميع الميادين.
إن زمانكم بطل فقاتلوه بالبطولة لا بالبطالة. وإن البطل هو الذي يتعب ليستريح غيره.
...
إن الذبذبة التي شهدنا آثارها السيئة في هذا الجيل الذي نحن في آخره، معظم السبب فيها آت من قارئيه ومتعلميه- على قلّتهم- فهم على تفاهة معلوماتهم وقلة محصولهم من المعرفة، لا يرجعون إلى أصل واحد في التعليم ولا إلى منهج واحد في التربية. وإذا اختلفت الأصول والمناهج في أمّة واحدة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف. وخير المناهج لأمّة كأمّتنا في ظرف كظروفنا ما خرج سالكه بفكر صحيح وإن لم يخرج بعلم كثير ...
...
أعيذكم بالله يا أبنائي المعلّمين أن تجعلوا كل اعتمادكم في تربية الصغار للرجولة على البرامج والكتب. فإن النظم الآلية لا تبني عالمًا ولا تكون أمّة ولا تجدّد حياة، وإنما هي ضوابط وأعلام ترشد إلى الغاية، وتعين على الوصول إليها من طريق قاصد وعلى نهج سويّ. أما العمدة الحقيقية في الوصول إلى الغاية من التربية فهي ما يفيض من نفوسكم على نفوس تلاميذكم الناشئين من أخلاق طاهرة قويمة يحتذونكم فيها ويقتبسونها منكم، وما تبثّونه في أرواحهم من قوة وعزم، وفي أفكارهم من إصابة وتسديد، وفي نزعاتهم من إصلاح وتقويم. وفي ألسنتهم من إفصاح وإبانة. وكل هذا مما لا تغني فيه البرامج غناء. ولو كانت البرامج تكفي في التربية لكان كل عالم مربّيًا، ولكن الواقع خلاف هذا.
أي أبنائي المعلّمين:
هناك أمم تقدّمتكم في العلم والمعرفة والنظام، فخذوا من مباديها العبرة، وخذوا من مصايرها العظة، وإن عبرة العبر لكم فيها أن العلم وإن تشعبّت عندها أغصانه، وتفرّعت أفنانه، وأسلس لها عَصِيُّهُ حتى فتحت به مغلقات الكون، لم يغن عنها فتيلًا مما تغني الأخلاق والفضائل.
إن العلم لم ينه مفسدًا عن الإفساد، ولم يزع مجرمًا عن الإجرام، ولم يمت في نفوس الأقوياء غرائز العدوان والبغي على الضعفاء، بل ما زاد المتجرّدين من الفضيلة إلا ضراوة بالشر، وتفنُنًا في الإثم. فاجعلوا الفضيلة رأس مال نفوس تلامذتكم واجعلوا العلم ربحًا.
أي أبنائي المعلّمين:
إنكم في زمن، كراسي المعلّمين فيه أجدى على الأمم من عروش الملوك، وأعود عليها بالخير والمنفعة. وكراسي المعلّمين فيه أمنع جانبًا وأعزّ قبيلًا من عروش الملوك: فكم عصفت العواصف الفكرية بالعروش، ولكنها لم تعصف يومًا بكرسي المعلم.
إنكم تجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك، رعاياها أطفال الأمّة، فسوسوهم بالرفق والإحسان، وتدرجوا بهم من مرحلة كاملة في التربية إلى مرحلة أكمل. إنهم أمانة الله عندكم، وودائع الأمّة بين أيديكم، سلّمتهم إليكم أطفالًا، لتردّوهم إليها رجالًا، وقدّمتهم إليكم هياكل لتنفخوا فيها الروح، وألفاظًا لتعمروها بالمعاني، وأوعية لتملأوها بالفضيلة والمعرفة.
إنكم رعاة، وإنكم مسؤولون عن رعيتكم. وإنكم بناة، وإن الباني مسؤول عما يقع في البناء من زيغ أو انحراف.
إن من الطباع اللازمة للأطفال أنهم يحبّون من يتحبب لهم، ويميلون إلى من يحسن إليهم، ويأنسون بمن يعاملهم بالرفق، ويقابلهم بالبشاشة والبشر. فواجب المربّي الحاذق المخلص، إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وأن يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن يتحبب إليهم، ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسألهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم، ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال، ويظهر لهم من الحنان والعطف ما يحملهم على محبته، فإذا أحبّوه أطاعوه وامتثلوا أمره، وإذا أطاعوا أمره وصل من توجيههم في الصالحات إلى ما يريد، وتمكّن من حملهم على الاستقامة وطبعهم على الخير والفضيلة. فإذا ملك نفوسهم بهذه الطريقة- طريقة الترغيب- حبّب إليهم المدرسة والقراءة والعلم. وإن الصغير لا يفلح في التربية ولا ينجح في القراءة إلا إذا أحبّ معلّمه كحبّه لأبويه أو أعظم، وأحبّ المدرسة كحبّه لبيت أبويه أو أشدّ. وكثيرًا ما رأينا الصغار الذين يربيهم معلّموهم على هذه الطريقة الحكيمة يباهي أحدهم تربه بقسمه وبمعلّمه، ويباهي زميله في مدرسة أخرى بمدرسته، كما يتباهون في العادة بالآباء والبيوت. وما ذلك إلا أثر من آثار المعاملة من المعلم.
..
ليحذر المعلّمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العتيقة التي كانت شائعة بين معلّمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت هذا الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة. إن القسوة والإرهاب والعنف تحمل الأطفال على الكذب والنفاق، وتغرس فيهم الجبن والخوف، وتُبغض إليهم القراءة والعلم. وكل ذلك معدود في جنايات المعلّمين الجاهلين بأصول التربية.
وليدرس المعلم ميول الأطفال بالاختلاط بهم، وليكن بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزّع بشاشته ويزرع بينهم نصائحه، ويردّ الناد منهم عن المحجة برفق. إن درس الميول يمكّن المعلم من إصلاح الفاسد منها، ومن غرس أضدادها من الفضائل في نفوسهم. وإن المعلم لا يستطيع أن يربّي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلًا ... ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان هو صالحًا، لأنهم يأخذون منه بالقدوة أكثر مما يأخذون منه بالتلقين.
أيها المعلّمون الكرام:
إن البيت عند الأمم الحية هي أخت المدرسة. كلتاهما مكمّلة للأخرى، فالتلميذ بينهما يتقلّب بين عاملين من عوامل التثقيف والتهذيب. أما البيت عند أمّتكم فهي ضرة المدرسة، ما تبنيه هذه تهدمه تلك، وما تزرعه هذه تقلعه تلك. لأن قعائد البيوت جاهلات. وقعائد البيوت هنّ قواعدها، وويل لبيوتنا من هذه القواعد ما دمن جاهلات. ووارحمتا لكم من هذه الحالة وهذا الموقف، ولا أب يؤيّد ويناصر، ولا أم تعين وتؤازر.
..
إذا كان الأمر كذلك فانظروا - يا رعاكم الله- أي عبء ألقته المقادير على كواهلكم، وأي واجب تؤدّونه لدينكم ولغتكم وأمّتكم، وأي عهد في أعناقكم يجب أن توفوا به لها.
ههنا توقظ الليالي هاجعها، وههنا تجافي الجنوب مضاجعها، وههنا تسمو نفوس، وتسف نفوس، وههنا تنسى المادة الخسيسة حتى كأنها ليست من هذا الوجود ...
أي أبنائي المعلمين:
إن الأطفال مفطورون على غرائز ناقصة يزيدها الإهمال وفقدان التربية الصالحة نقصًا وشناعة، وتعالجها التربية الحكيمة كما تعالج الأمراض. فإذا لم تعالج في الصغر اندملت نفوسهم عليها كما يندمل الجرح على فساد، وجفّت كما يجفّ العود على عوج، فضعوا أيديكم على تلك النقائص وتعمدوها بالإصلاح والتقويم، أو بالتشذيب والتعديل.
فمن النقائص اللازمة للصغار: الخوف والغضب والحسد وسرعة التأثر والانفعال وسرعة التصديق بكل شيء وإفشاء كل ما تسمعه آذانهم وتراه أعينهم.
أما الخوف فمنشؤه أوهام تحوكها الأم الجاهلة لصغيرها منذ الرضاعة تستعين بها على إسكات الطفل أو تسكين حدّته، وهي لا تدري ماذا تجني عليه من تلك الأوهام، ولا أي مرض عضال ابتلته به صغيرًا ليتجرّع غصصه كبيرًا.
فاجتثوا هذا الغرس الخبيث من نفوسهم بتقوية الإرادة فيهم وبتنمية الحقائق في أذهانهم. وداووا كل نقيصة من تلك النقائص بتقوية ضدها في نفوسهم، وببيان أضرارها بالتصوير العملي على قدر ما تحتمله عقولهم. وأنجع الأدوية ترويضهم على الصبر والصدق والتسامح والشجاعة. ربّوهم على الفضائل- وأكرّر القول وأعيده- وقدّموها على العلم.
إن الأخلاق العالية هي الأصل، وإن العلم لا يغني عنها، ولا يأتي بها، وكم رأينا من عالم يعظ الناس وينهاهم عن المنكر ثم يخالفهم إلى ما نهاهم عنه. وكم رأينا من طبيب يبيّن مضار الخمر للناس وهو يعاقرها.
ربّوهم على الرجولة وبعد الهمّة، وعلى الشجاعة والصبر، وعلى الإنصاف والإيثار، وعلى البساطة واليسر، وعلى العفة والأمانة، وعلى المروءة والوفاء، وعلى الاستقلال والاعتداد بالنفس، وعلى العزة والكرامة، وعلى التحابب والتسامح، وعلى حب الدين والعلم والوطن والوالدين والمعلم.
أفهموهم من الصغر معنى الأسرة وروابطها وواجباتها، وتدرّجوا بهم من معنى الأسرة إلى معنى الأمّة، وأشربوا قلوبهم أنهم فروع من دوحة واحدة ذات خصائص طبيعية ليحافظوا عليها.
كونوا لتلاميذكم قدوة صالحة في الأعمال والأحوال والأقوال. لا يرون منكم إلا الصالح من الأعمال والأحوال، ولا يسمعون منكم إلا الصادق من الأقوال. وإن الكذب في الأحوال أضرّ على صاحبه وعلى الأمّة به من الكذب في الأقوال. فالأقوال الكاذبة قد يحترز منها، وأما الأحوال الكاذبة فلا يمكن منها الاحتراز. وقد يقول لكم قائل: إنه رجل صالح، فتحتقرونه لأنه مُزَكٍّ لنفسه، ولكون الاحتقار، مانعًا من الاغترار. ولكنه يأتيكم من طريق أخرى فيلبس لبوس الصالحين ويتظاهر بأحوالهم من الصمت والسمت فتغترون به، وهو هو بعينه. وكم أهلك هذه الأمّة المتظاهرون بالصلاح، والمتظاهرون بالزعامة، والمتظاهرون بالإمامة.
أي أبنائي المعلّمين:
إنكم جنود الإصلاح، فأصلحوا نفوسكم وداووها من داء الأنانية والغرور وتلاقوا على الحرفة الجامعة بالأخوّة والتعاون، والتساند والتضامن.
إنكم من جيل فتح آذانه على نغمة متردّدة كثر لوكها حتى أصبحت دعوى كل مدّع، وشعوذة كل مشعوذ، وهي خدمة الأمّة، وخدمة الوطن. وإن أشرف خدمة يقدّمها العاملون المخلصون لأمّتهم ولوطنهم هي التعليم والتربية الصالحة، فهما سلّم الحياة وإكسير السعادة.
إن أستاذ العاملين الأكبر هو الاستعمار نفسه. يدلّهم بفضائحه البادية، وأعماله الباغية العادية، على طريقة العمل. فإن أردتم أن تعرفوا الطريقة المثلى لخدمة أمّتكم، وتتبيّنوا الطريق القاصد، فانظروا إلى الاستعمار، واعرفوا الطرق التي سلكها لقتل أمّتكم فاسلكوا ضدّها لإحيائها. وادرسوا الوسائل التي تذرع بها لاستعباد أمّتكم فاستخرجوا منها وسائل تحريرها.
أنتم معاقد الأمل في إصلاح هذه الأمّة، وإن الوطن لا يعلّق رجاءه على الأميّين الذين يريدون أن يصلحوا فيفسدون، ولا على هذا الغثاء من الشباب الجاهل المتسكع الذي يعيش بلا علم ولا عقل ولا تفكير، والذي يغط في النوم ما يغط، فإذا أفاق على صيحة تمسّك بصداها وكرّرها كما تكرّر الببغاء.
كان الله لكم، وجعلكم عند حسن ظننا بكم، وأجرى على أيديكم الفتح والنجح.
آفلو، رجب عام 1361هـ.
المصدر : آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله