د. ندى مأمون إبراهيم - ذات بهجة..

تعلمت خطواتها الأولى سريعا، حروف الهجاء كانت على لسانها سهلة ...لم تكثر من أكل الحلوى كما بقية الأطفال... بل كانت تخبئ جزء منها تحت وسادتها لتأكل منها حين تكبر .
ذلك المشط الذهبي ...هدية عيد ميلادها السابع...كان شديد اللمعان... فآثرت أن تخبئه لسنوات شبابها الرائعة.
دراجتها ذات العجلات الثلاث ،مركونة في سقيفة بيتها.....لم تمرح بها مثل ما فعلت بنات الحي بدراجاتهن ...خيالها أخبرها أنها في المستقبل سوف تقودها في طريق أوسع .
وعصفور الكناري ذو الألوان المبهجة، الذي اشترته صباح العيد...كان يغني لها مع الشروق أغنية عذبة ... وكانت تظن أنه سيبقى إلى الأبد.
ذات يوم غافلها...طار بعيدا ...لكنها احتفظت بقفصه الوردي ربما يعود ذات يوم .
بلورة الكريستال اللامعة ذات اللون الليلكي ...أغلى هدايا معلمتها لها في صفها الأول...كانت ترى من خلالها ضوءا مشعا ومستقبل... خبأتها هي الأخرى فوق الخزانة في كيس من المخمل الأخضر لتبهجها حينما تكبر.

(ذات بهجة) ...كانت تتعجل .
تريد أن تعبر فصول الحياة سريعا، وأن تشرق ،حتى البسمات والضحكات...وخفقات القلب الصافية ...و لمعات عيونها البراقة....كانت تخبئها في طفولتها لمستقبل بعيد تأمل قدومه.
تعبر بروحها مجرات الكون...
تصاحب كواكبا ونجوم ...وتخيط من زرقة السماء ثوبها الأجمل .

بنت بأناملها الصغيرة ذات يوم كوخًا من أغصان الشجر وأوراق التوت، وقالت هذا بيتي عندما أكبر .
لم تكن ترسم مع الأطفال ،بل خبأت في حقيبتها الصغيرة خيالها الرقيق وألوانا خشبية جميلة ،وكراسة رسم مشرقة بلون أصفر ... آملة أن ترسم عليها فصول روعة مستقبلية .

خبأت ما يزيد عن ألف وألف من أغراضها الثمينة ، وأمنيات برائحة المشمش في ليلة صيفية .

(ذات بهجة) ...تعثرت ... تأثرت ...تبددت أحلامها السرمدية .

استيقظت يوم خريف ممل مظلم، وهي متعبة ، على صوت عصفور كناري ملون جميل ...يقف عند حافة نافذتها المكسورة...يغرد منتشيا ...مبتهجا... بصوت عال...يخرق الصمت...ومن خلفه تتساقط أوراق شجرة التوت العتيقة.
غرفتها المظلمة تلفها رائحة أعواد محترقة في مدفئتها المهملة.
ورزنامة التواريخ معلقة على حائطها الرمادي تشير إلى عيدها السبعين ... تفحصتها بصعوبة، بعيون ذابلة لكنها لم تكن مخطئة في حساب تجاعيد وجهها العميقة وساعة يدها المعروقة لم تعد تعمل .

(ذات بهجة) ...لم تعد تتعجل !!
بحثت عن كنوز طفولتها الثمينة بين ردهات الزمن لكن قصتها كانت عجيبة ...لم تجد أشياءها الثمينة ... لم تستعمل منها شيئاً ، لم تعد تتذكر.
لم تأكل الحلوى ... أضاعت بلورتها الليلكية... ومشطها الذهبي مكسور في خزانتها بين أغراض قديمة... لم تضحك ...لم تبتسم...قلبها ضعيف النبض ...وعيونها لم تعد تلمع .

قامت منزعجة من سريرها تسير في ضيق وحنق تجاه ذلك الكناري اللعين ...طردته من طرف نافذتها...فصوته صار مزعج...لم تعد تصدقه.
أغلقت النافذة ...وعادت إلى سريرها... لا أمنيات بلورية تضيء يومها، ولا نجوم براقة...حتى ثوب السماء الأزرق لم يعد يناسب جسدها المترهل.
أطفأت النور وراحت في نوم عميق، وهي تعانق هدوءاً سخيًّا خانق، تفوح منه رائحة الماضي الذي بددته .
(ذات بهجة)...لم تعد تحلم...
لم تعد تحب صوت طائرها المفضل.
( ذات بهجة )... لم تعد تتعجل.

**************************

* بعد النص :

كثير منا يفعل مثل ما فعلته (ذات بهجة) ...يسرف في إرجاء كل شيء لمستقبله المجهول، ولا يترك لحاضره شيئاً...حتى إنسانيته ومشاعره ...يؤجلها بلا وعي ويهملها بسذاجة .
ينتظر السعادة في مأمول خفي ...فلا تمتعه أشياء حاضره الثمينة، و لا أحاسيسه الدافئة بين يديه ...هو يطرد أغنية عصفور الكناري الرائعة من قلبه...يبعثها في فضاء الزمن الطويل...وقد لا تعود...وينتظر ربيعا مقبلا ...فيكبل حاضره بخريف متعمد .

( ذات ببهجة) كانت مخطئة ...فلا تخطئ أنت .


-------------
* د.ندى مأمون إبراهيم 2022

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...