بلال بوزيان - «الشاي» عند المشرفي

يعد الشاي من الأعشاب أو الحبوب التي لها حضور قوي في المجتمع المغربي، حتى أنه أصبح جزءا لا يتجزأ من الثقافة المغربية، بحيث لا يخلو بيت من هذه العشبة، وأصبح مشروبا أساسيا على مائدة المغاربة، وهو الذي يطلق عليه (أتاي) في التداول الجمعي المغربي، فالشاي أو أتاي هو الأنيس المطرب الذي تجتمع حوله الأسر المغربية في الأفراح والأقراح، وله طقوس خاصة في طريقة تحضيره وتقديمه، انطلاقا من اختيار نوعية هذه العشبة فهو أنواع، وانتقاء الأواني الخاصة به من (صينية وبراد…) وكذا بعض الأعشاب التي تمزج به (كالنعناع) وغيره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجد أن تاريخ دخول هذه العشبة إلى المغرب كان في القرن الثامن عشر، حسب بعض الدراسات التأريخية، وبدأ انتشاره في المغرب في منتصف القرن التاسع عشر نظرا للتعامل التجاري مع أوروبا والاحتكاك الأوربي.

كما أن هذا النموذج الثقافي المغربي كتبت حوله كتابات ودراسات مهمة قديما وحديثا، وعلى سبيل المثال لا الحصر نجد ما نظمه عبد السلام الأزموري في أرجوزته عن الشاي المغربي التي تناول فيها: طرق تهيئته وأوانيه ومجالسه… وقد شرح هذه الأرجوزة الرائعة العلامة المكي البطاوري الرباطي، بعنوان: «شرح الأرجوزة الفائقة المستعذبة الرائقة فيما يحتاج الأتاي إليه، ويتوقف شربه وإقامته عليه» ودارسة مهمة لمؤلفيها عبد الأحد السبتي وعبد الرحمان لخصاصي عنوانها: «من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ» هذه وغيرها من الكتابات التي اهتمت بهذه العشبة باعتبارها مكون من مكونات الثقافة المغربية.

عموما، هذه لمحة مقتضبة حول حضور العشبة (الشاي) في المجتمع المغربي وتاريخ دخولها وبعض الكتابات حولها، إلا أنّ الغرض من هذا المقال هو التطرق إلى كلام سطره أحد أعلام المغرب الحديث وهو أبو عبد الله المشرفي المتوفي سنة 1916م، في إحدى كتاباته القيمة، المسماة «تحفة الإمام ونصيحة الإسلام فيما يتوقف عليه الخاص والعام» وهي رسالة وجّهها المشرفي إلى السلطان العلوي الحسن الأول (ت1894م)، قدم له فيها مجموعة من النّصائح كنبراس يستضيء بها السلطان في طريق إصلاح البلاد وأمور العباد، وقد تطرق في بعض صفحات هذه النصيحة إلى ذكر عشبة الشاي المغربي، فما الذي قاله المشرفي فيها وعنها؟

نستهل تقريب قول المشرفي في الشاي ببيان الحكم الشرعي الذي قال به في شرب هذا المشروب، يقول: «قد بلغنا أن بعض العلماء برباط الفتح أفتى بحرمة تناولها للإذاية الحاصلة من هذه العشبة، مع التبذير والإسراف فيه، وهو أولى بالصواب» فهو عنده إذن من المحرمات التي يحرم شربها ويعضّد فتواه بما تحصّل لديه من أقوال العلماء، ويذكر أن الشيخ ميارة (ت1072ه) نقل في كتابه «الروض المبهج» عن شيخه أبو العباس التلمساني (ت1041ه) ما نصه: «أكل المحترق لا يجوز، ولو كان خبزاً» ونقل أيضا: «وأكل المحترق قد منع لأضراره، وهو جامع بين الفقه والطب» فعشبة الشاي أو الأتاي عند المشرفي في حكم المحترق الذي لا يجوز أكله ولا شربه في حالة الشاي هذه، نظراً لما فيه من الضّرر على الصّحة «وعلّلوا الحرمة بالأضرار فيما يضر، وهذه العشبة ضررها بيِّن لا يخفى على كل من تعاطاها» فعلّة التّحريم حسب فتوى المشرفي هي الضرر الذي ينتج عن شرب هذه العشبة فهي محرمة لذلك، وتأكيداً لهذا الحكم نظم المشرفي أبياتاً يقول فيها:

قالوا بحرمتها لما فيها من أذى *** وضـيـاع مـال لهـا بكـل أوان
تـبّـاً لـهـا مـن عـشبـة عـم الأذى *** بتعاطيها في هذه الأوطان

هذا فيما يخص حكم شرب الشاي وتعليله الشرعي، وهو اجتهاد من فقيه مسلم ضليع في العلوم الشرعية له باع طويل فيها، رأى في هذه العشبة الوافدة من الخارج تهديداً لعامّة المسلمين، ومكيدة مدبّرة من الغرب! «ومما يقوّي النّظر في إذايته وجلبه المضار، عدم تناول الروم له، فلا تجد روميا يتعاطاه لعلمهم بخواصه، فوجهوه لنا لينالوا منا ما يريدون، وقد ظفروا بمرادهم هذا مدة مديدة، مع جلبهم دراهم عديدة، فباعوا لنا الإذاية بالدراهم وهم يعدون ذلك من عدم فطنتنا وجهلنا بحقيقة الأشياء، وبه يجب قطع إذايته عن المسلمين، ولينظر مولانا الخليفة رجلا مولعا بتناوله، ورجل بدوي لا يناوله، من الأقوى والأشجع، فتقف على صدق قولنا وبالله التوفيق».

وهكذا، فالعشبة -الشاي- هي من خطط الغرب لإضعاف المسلمين والنّيل من عزائمهم، فهي أذية نشتريها بأموالنا لنؤذي به أنفسنا، كمن يشتري المخدرات وما يهلك به ذاته، وما هذا إلا من جهلنا وقلة علمنا بحقائق الأمور، لذلك وجب أن نترك استعمال هذه الإذاية الوافدة، وما على الخليفة إلا الإسراع في قطع هذه الآفة «ومن النّصيحة أيضا، دفع الضّرر اللاحق بالمسلمين، وخصوصا أهل الحاضرة من تناول العشبة المسماة بالأتاي، فلو سعى مولانا الخليفة أيده الله في قطعها وتعطيلها، للدفع عن هذه الرعية أذى عظيما، فإنها مورّثة للخفقان مضعفة للباءة جداً، مقللة للقوة والصّحة لمن اعتادها، وقد عم أذاها جميع الأمة، حضريّها وبدويّها، فترى الرجل عند المواجهة في غاية ما يكون من بهت ووقف، ووجد نفيه في غاية الضعف وعدم الصحة، وإن قلبه ليخفق من تعب ذلك، وعَلتْه صُفرة، ويورّث أيضا الجبن بالتجريب الحاصل، ليست فيه فائدة يعود نفعها على شاربها في ذاته ولا في طبعه، وكثير من الناس قد شعر بإذايته وترك تناوله»!

يا لها من حملة شنّها العلامة المشرفي على هذا الشراب المتجذر في حياة المجتمع المغربي، حتى أنني أكتب هذه الكلمات وأنا أرتشف رشفات من كأس شاي منعنع، وكلما زاد المشرفي ذم هذه العشبة إلا وأرتشف رشفات متتالية سريعة! لا قدر الله أن تظهر على هذه الأوصاف والأعراض التي أطلقها المشرفي في نصيحته هذه، ومن يدري فقد يمسي شارب الشاي سليماً ويصبح عليلا قليلة الباءة مصفر الوجه وجبان أيضا والعياذ بالله! ويسترسل المشرفي ذم هذه العشبة الإذاية ويقول في ذلك شعرا:

إنّ الأتــاي لـــعــشــبـــة مــــضـــــــــــــرّة *** تــفـضي بجلب الضعف للإنسان
حــلــو الــمــذاق مــنــشــط لـكنــــــــــــه *** مــرُّ الحـــال مُــورّث الخفقـــــــــان
ومن النهوض لشهوة الحـب مـانــــع *** ساعٍ فــي كــل مـذلّة وهـــــــــوان
ما رامـــــه ذو قـــوة وبــــســــــــالــــــــة *** إلا وعــاد فــي قـــوة الولـــــــــدان
ترى الــرجـــال بــه فـي أكمل صــورة *** وضـــخامـة موفورة الأبــــــــــــدان
فــإذا اعــتراهــا تــكــلــف ومشقّــــــــة *** بدت عليها معالم النقصـــــــــــان

فما أغفله المشرفي في نصه الأول استدركه في هذه الأبيات الشعرية، ليؤكد عدم جدوى استعمال هذه العشبة وبيان مضرتها وتبعاتها الخطيرة على الإنسان مادياً ومعنوياً، هذا وقد تنبه المشرفي إلى أن هناك من الفقهاء والأدباء من سبقه في مدح هذه العشبة ونظموا في مدحها قصائد وقالوا عكس ما يقول! لكن المشرفي عند قوله، فعقب قائلا: «وما قيل فيه -أي الشاي- من المدح من بعض الأدباء، كان ذلك قبل الاطلاع على مضاره وإذايته، لأنها خفية لا تظهر عند الشبوبية والقوة بالقرب، وإنما تبدو بعد طول المدة»!

عموما، هذه بعض الشذرات (الشايية الأتايية) التي سطرها صاحب النّصيحة في نصيحته، وتحدث عن هذه العشبة -الشاي- حسب واقعه وزمانه، فهو بذلك يجسد نموذجاً للفقيه الواقعي الذي يقف عند مستجدات وقته ويفحصها وينظر فيها ويعبر عن رأيه ويفتي حسب اجتهاده، ولكل مجتهد أجر، فرحم الله أبا عبد الله المشرفي، رجل من رجالات الفكر الإسلامي المغربي في الفترة الحديثة، ورائد من رواد الإصلاح الذين أسهموا في بث الأفكار النهضوية في هذه الفترة وأسهم بما استطاع إليه سبيل من أفكار وكتابات مهمة.

بلال بوزيان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...