بدأتْ تدرك منذ عامٍ واحد فقط، معنى الألوان، منذ أن وطأتْ قدمُها أرض القارة العجوز، قبلها لم تكن تدرك شيئاً.
ثلاثة عشر عاماً لم تُميز فيها لوناً.
كانت الأرواح تغطي جلود البشر، الناس في غانا لا لون لهم.
كثيرا ما ساورتها الشكوك بأن غانا أرض بلورية، كل شيء فيها شفاف، بلا لون، يلمع كما يلمع الماس وحبات الكريستال المصقول.
حتى البشر يلمعون، ولا يتمايزون.
لكنها تعلم الآن جيداً أنها لم تعد شفافة، وأن جلدها قد ابتلع روحها، وطفا على السطح بسواده الحالك، ليخبرها أن موطن والدها ليس غانا، ولن يكون غانا.
منذ أن جاءت إلى هنا، وهي ترى كل شيء بوضوح، بشر بيض وثلوج بيضاء.
وحدها من تحمل طابع السواد.
تذكرت يوم أن سألت أمها، وهي تبكي ببراءة حينما كانت في الخامسة من عمرها :
- لماذا انسلخ جلد والدي؟ لماذا يبدو شاحبًا؟ هل سلقه زعيم القبيلة في النار ونزع جلده؟
ضحكت أمها متعجبة من وصفها بصوتٍ عالٍ ، وهي تسألها :
ولماذا يفعل زعيم القبيلة ذلك؟
هزت الصغيرة كتفيها بعفوية وقالت :
- لا أدرى ربما كان جائعًا، لكن عليه أن يعيد لأبي جلده، لا أريد أن يمرض أبي.
لم تكن تعلم أن في موطن والدها الناس بلا جلود أيضاً ! البرد قاسٍ ، كيف يحتملونه؟!
الناس هنا بارعون، يجيدون تمييزها بسهولة، ويطلقون عليها نكاتا سمجة. صديقتها البلهاء تسميها "حبة زيتون". لايهم، هي بدورها أسمتها قطعة الجبن الفاسدة، فقد تعلمت كيف تنعت البشر بصفات قاسية.
كم تكره قرار والدها، لم يصبر على فراق أمها فتركها في قبرها ، وهرب بذكرياته.
كيف تحمّل غياب أمها عنهم؟! رحلت في سن السادسة والثلاثين، وهي تعاند الملاريا الخبيثة.
وأعطتها قبل أن ترحل كل شيء، لونها الحالك، شعرها القصير الأجعد، وشفتيها الغليظتين، لكنها لم تعطها الصبر على فراقها، ولا لون عينيها السوداوين، فقد ورثت لون عيني والدها.
مازحتْها أمها مرة، وهي تحكي لها عن الفئران البلجيكية الضخمة :
-في ليلةٍ مظلمة، عض أحد الفئران وجه والدك، وهو نائم عقاباً له، لأنه عاند والدته، فصارت عيونه بهذا اللون، وأنت ورثت عنه لون عينيه والعناد.
هل تصدقين يا صغيرتي؟ لون عينيه الغريب هو ما جعلني أتزوجه ،
ياه كم تبدين جميلة مثله !
من المؤكد أن أمها كانت تمزح، فقد شعرت أنها تطابقها في كل شيء ، حتى أنها تخطئ في الحساب مثلها، ولا تميز البشر إلا بأرواحهم مثلما تفعل،
لا يمكن أن يكون البشر حبات زيتون!
عادت في مساء يومٍ شتوي من المدرسة إلى المنزل، نظرت إلى والدها الجالس على الأريكة، وهو يقلب كتابًا طبيًّا بين يديه.
باغتته بسؤال قبل أن تلقي عليه تحية المساء :
-لماذا تزوجتها؟
رفع رأسه وعيناه الخضراوان تلمعان خلف عدستي نظارته الطبية، وسألها :
- من هي؟
قالت له بامتعاض واضح :
-تلك السوداء، أمي!
سألها :
-لماذا تقولين هذا ولم تسألين الآن؟!
-لأنه كان بإمكانك أن تتزوج امرأة بيضاء مثلك، تمنحني جلدا مسلوقا مثل جلدك.
قال لها معاتباً ، وهو يرمي الكتاب جانباً :
-أوتعلمين لماذا؟
لأن لها عينين جميلتين تشبه عينيكِ ، لم أر قط مثل عينيّ أمك.
لأعوامٍ طويلة، وأنا أعالج عيون البشر، أراها من خلف عدسة مكبرة، وأشخّص المرض.
إلا عينيّ أمك شديدة السواد، رأيتها بقلبي.
أقسم لك أن عينيها كانت تنبض كما ينبض القلب، تلمع كالماس النادر.
كانت أمك ابنة عشرين عاماً، عندما جئت طبيبًا مع حملة إغاثة إلى غانا.
لم أكن أعلم، أنني سوف أحصل على جوهرتي في غرب أفريقيا.
يقولون أن أفريقيا هي قارة المعادن والجواهر.
كنت أحسب كل ذلك هراءً ، إلى أن فحصت عينيّ أمك، وتأكدت من ذلك بنفسي.
أتعلمين؟ أفتقدها الآن جداً.
عليكِ أن تكوني ممتنة لأنك تحملين صفاتها ودفئها.
كم يحلو لي النظر إليكِ كي أذكرها.
لقد كان الرب رحيماً بي، جعل صورتك من صورتها، كي لا يقتلني الشوق إليها.
أنتِ لا تفهمين، أنا لست أبيض كما تظنين، هذا اللون لا شيء.
في داخلي جلد والدتك الأسود يغلف روحي، يجعلني أشعر بالطمأنينة.
السواد طاقة سكينة ودفء، أيتها الحمقاء.
نظرتْ إليه ودمعُها يلمع على خدها الزيتوني، وقالت :
-أنا أيضا أفتقدها، لم أعرف أني أشبهها حقاً ، إلا عندما أتيت بي إلى بلجيكا، ولم أعرف أني سوداء مثلها إلا عندما هاجرت من غانا.
كنت أنت المختلف يا أبي هناك.
لكن الاختلاف لم يضايقك بل كان مصدر سعادتك، لأنك ترى أناساً كُثر يشبهون حبيبتك، ولون حبيبتك.
أنت تعشق السواد لأنه أمي.
لكنني هنا وحيدة، أكره سوادي، وأكره اختلافي.
وغاضبة منك جدا، لأنك أناني، حملتني من أفريقيا كتذكار أسود أبدي، إلى مهجر أبيض يشبهك، ولا أعرفه.
أنا لست مثلك يا أبي، اختلافي يضايقني، يجعلني أرى الجلود بوضوح. لم أعد أرى الأرواح كما في غانا.
هناك يا أبي البلور والماس، هنا أنا لست سوى حبة زيتون.
تعال يا أبي، ضع يدك حولي،
أريد أن أسحب بعضًا من لونك إلى لوني، ربما صرتُ أُشبهك.
أو عُد بي إلى غانا، حيث تزول الألوان، ويبقى لمعان الكريستال.
<تمت>
---------------------
* د. ندى مأمون إبراهيم
ثلاثة عشر عاماً لم تُميز فيها لوناً.
كانت الأرواح تغطي جلود البشر، الناس في غانا لا لون لهم.
كثيرا ما ساورتها الشكوك بأن غانا أرض بلورية، كل شيء فيها شفاف، بلا لون، يلمع كما يلمع الماس وحبات الكريستال المصقول.
حتى البشر يلمعون، ولا يتمايزون.
لكنها تعلم الآن جيداً أنها لم تعد شفافة، وأن جلدها قد ابتلع روحها، وطفا على السطح بسواده الحالك، ليخبرها أن موطن والدها ليس غانا، ولن يكون غانا.
منذ أن جاءت إلى هنا، وهي ترى كل شيء بوضوح، بشر بيض وثلوج بيضاء.
وحدها من تحمل طابع السواد.
تذكرت يوم أن سألت أمها، وهي تبكي ببراءة حينما كانت في الخامسة من عمرها :
- لماذا انسلخ جلد والدي؟ لماذا يبدو شاحبًا؟ هل سلقه زعيم القبيلة في النار ونزع جلده؟
ضحكت أمها متعجبة من وصفها بصوتٍ عالٍ ، وهي تسألها :
ولماذا يفعل زعيم القبيلة ذلك؟
هزت الصغيرة كتفيها بعفوية وقالت :
- لا أدرى ربما كان جائعًا، لكن عليه أن يعيد لأبي جلده، لا أريد أن يمرض أبي.
لم تكن تعلم أن في موطن والدها الناس بلا جلود أيضاً ! البرد قاسٍ ، كيف يحتملونه؟!
الناس هنا بارعون، يجيدون تمييزها بسهولة، ويطلقون عليها نكاتا سمجة. صديقتها البلهاء تسميها "حبة زيتون". لايهم، هي بدورها أسمتها قطعة الجبن الفاسدة، فقد تعلمت كيف تنعت البشر بصفات قاسية.
كم تكره قرار والدها، لم يصبر على فراق أمها فتركها في قبرها ، وهرب بذكرياته.
كيف تحمّل غياب أمها عنهم؟! رحلت في سن السادسة والثلاثين، وهي تعاند الملاريا الخبيثة.
وأعطتها قبل أن ترحل كل شيء، لونها الحالك، شعرها القصير الأجعد، وشفتيها الغليظتين، لكنها لم تعطها الصبر على فراقها، ولا لون عينيها السوداوين، فقد ورثت لون عيني والدها.
مازحتْها أمها مرة، وهي تحكي لها عن الفئران البلجيكية الضخمة :
-في ليلةٍ مظلمة، عض أحد الفئران وجه والدك، وهو نائم عقاباً له، لأنه عاند والدته، فصارت عيونه بهذا اللون، وأنت ورثت عنه لون عينيه والعناد.
هل تصدقين يا صغيرتي؟ لون عينيه الغريب هو ما جعلني أتزوجه ،
ياه كم تبدين جميلة مثله !
من المؤكد أن أمها كانت تمزح، فقد شعرت أنها تطابقها في كل شيء ، حتى أنها تخطئ في الحساب مثلها، ولا تميز البشر إلا بأرواحهم مثلما تفعل،
لا يمكن أن يكون البشر حبات زيتون!
عادت في مساء يومٍ شتوي من المدرسة إلى المنزل، نظرت إلى والدها الجالس على الأريكة، وهو يقلب كتابًا طبيًّا بين يديه.
باغتته بسؤال قبل أن تلقي عليه تحية المساء :
-لماذا تزوجتها؟
رفع رأسه وعيناه الخضراوان تلمعان خلف عدستي نظارته الطبية، وسألها :
- من هي؟
قالت له بامتعاض واضح :
-تلك السوداء، أمي!
سألها :
-لماذا تقولين هذا ولم تسألين الآن؟!
-لأنه كان بإمكانك أن تتزوج امرأة بيضاء مثلك، تمنحني جلدا مسلوقا مثل جلدك.
قال لها معاتباً ، وهو يرمي الكتاب جانباً :
-أوتعلمين لماذا؟
لأن لها عينين جميلتين تشبه عينيكِ ، لم أر قط مثل عينيّ أمك.
لأعوامٍ طويلة، وأنا أعالج عيون البشر، أراها من خلف عدسة مكبرة، وأشخّص المرض.
إلا عينيّ أمك شديدة السواد، رأيتها بقلبي.
أقسم لك أن عينيها كانت تنبض كما ينبض القلب، تلمع كالماس النادر.
كانت أمك ابنة عشرين عاماً، عندما جئت طبيبًا مع حملة إغاثة إلى غانا.
لم أكن أعلم، أنني سوف أحصل على جوهرتي في غرب أفريقيا.
يقولون أن أفريقيا هي قارة المعادن والجواهر.
كنت أحسب كل ذلك هراءً ، إلى أن فحصت عينيّ أمك، وتأكدت من ذلك بنفسي.
أتعلمين؟ أفتقدها الآن جداً.
عليكِ أن تكوني ممتنة لأنك تحملين صفاتها ودفئها.
كم يحلو لي النظر إليكِ كي أذكرها.
لقد كان الرب رحيماً بي، جعل صورتك من صورتها، كي لا يقتلني الشوق إليها.
أنتِ لا تفهمين، أنا لست أبيض كما تظنين، هذا اللون لا شيء.
في داخلي جلد والدتك الأسود يغلف روحي، يجعلني أشعر بالطمأنينة.
السواد طاقة سكينة ودفء، أيتها الحمقاء.
نظرتْ إليه ودمعُها يلمع على خدها الزيتوني، وقالت :
-أنا أيضا أفتقدها، لم أعرف أني أشبهها حقاً ، إلا عندما أتيت بي إلى بلجيكا، ولم أعرف أني سوداء مثلها إلا عندما هاجرت من غانا.
كنت أنت المختلف يا أبي هناك.
لكن الاختلاف لم يضايقك بل كان مصدر سعادتك، لأنك ترى أناساً كُثر يشبهون حبيبتك، ولون حبيبتك.
أنت تعشق السواد لأنه أمي.
لكنني هنا وحيدة، أكره سوادي، وأكره اختلافي.
وغاضبة منك جدا، لأنك أناني، حملتني من أفريقيا كتذكار أسود أبدي، إلى مهجر أبيض يشبهك، ولا أعرفه.
أنا لست مثلك يا أبي، اختلافي يضايقني، يجعلني أرى الجلود بوضوح. لم أعد أرى الأرواح كما في غانا.
هناك يا أبي البلور والماس، هنا أنا لست سوى حبة زيتون.
تعال يا أبي، ضع يدك حولي،
أريد أن أسحب بعضًا من لونك إلى لوني، ربما صرتُ أُشبهك.
أو عُد بي إلى غانا، حيث تزول الألوان، ويبقى لمعان الكريستال.
<تمت>
---------------------
* د. ندى مأمون إبراهيم