في معمل لعلف الحيوانات , كان المكان البديل لمقر وحدته العسكرية , وفي كل غروب كانت أنواع من الطيور تلتقي تحت المسقفات الحديد لمخازن الذرة التي ستحال إلى مأكل للدواب والدواجن , كان يشاهد التقاءها وبعض صراعات فيما بينها حول أماكن النوم الأكثر راحة لها , ثم وبعد وقت قصير تحل السكينة والظلام الذي يسيطر على المكان ,ويرى المركبات القادمة من الجنوب نحو بغداد , والذاهبة نحو الجنوب منها , أما الجنود فيتم توزيعهم في أماكن الحراسة المطلة إحداها على قرية بيوتها من الطين , يستيقظ أهلها من رجال ونساء قبيل شروق الشمس متجهين نحو العمل في مزارع حكومية كبيرة , ولا يرجعوا إلا قبيل الغروب , فأراد برغبة غريبة أن تكون نوبات حراسته اليومية والتي تأخذ ثلاث ساعات من ليله أمام تلك القرية . لم يكن يفصل بينه وبينها سوى سياج من الحديد المشبك , ثم نهر كان بعض الصبيان يصطادون السمك فيه بداية كل ليلة , أما هو فيأخذه التأمل لألوان الأضواء السقيمة التي تنتشر في تلك المنازل عبر نوافذ صغيرة , أو فوق الأبواب المطلة على الشوارع المتربة صيفا والموحلة كل أيام الشتاء , وخلال ليلة تأمُلٍ قادتهُ عيناه لجسد فتاة ترتدي وفق ما أظهرته الأضواء الشاحبة ثوبا اخضر فضفاض , تقترب نحو النهر وبيدها دلو , وكما الحلم , مسح عينيه ليتأكد في ما يراه بأنه حقيقة وليست أوهام أفرزتها خوذته في رأسه , شاهد اقترابها ونزوله الهادي نحو الضفة لتغرف في الدلو ماء لترحل ويرحل هو بصمت تمثال يحمل بندقية كنصب تذكاري لمقاتل طوت حياته الحروب , وبعد دقائق تكرر المشهد ودبت الحياة في سكونه ذاك ثم تململ في إشارة لانتباهها وتجنُب خشيتها لو رأته في صورة المتلصص الصامت , ورأى ما رأى بسمة عبر الظلام شجعته أن يمسيها بالخير , وبصوت خجول إجابته بمثل ما حياها , فأكتشف سر تلك الرغبة الغريبة التي أدت به إلى حب ذاك المكان وانتظار وقت الحراسة الذي كفر فيه البقية , وكالسجين كان يمسك قضبان الحاجز الحائل بينهما , يجيبها عن أسئلتها : من أي مدينة أتى , وكيف هو المكان هنا . فتمر الساعات الثلاثة بسعادة ألغت من قواميسه بهجة انتظار النزول للبيت والأيام السبعة في الإجازة , الإجازة التي قرر أن يقضي اغلبها بالقرب منها , وعلى نفس الضفة التي هي فيها , بعدما كُشف أمره واتُهم أثناء التحقيق معه بتسريبه أسرار المكان البديل , لولا شهادتها بأنه كان يفشي أسرار ذاته , عبر ذلك النهر..