تمددت مساحة الفراق وسيطرت عنوة علي مشاعر بيت السيدة العجوز, التي بدت وكأنها قد كبرت أضعاف عمرها بعد أن غاب ولدها البكر( سعد) في فوضي الحرب, غاب من دون موت, أو مات من دون جثمان وقبر.. تلاشي تماما ولكنه ترك خلفه ذكري حزينة وانتظار ثقيل..
بعد ان انقطعت أخبار( سعد) وانطفأت أضواؤه في مسرح الهلاك, وبات مصيره مجهولا, عقدت الأم لسانها وخاصمت النطق, وصاحبت مفاهيم التشاؤم مرغمة, واتشحت بالسواد حتي بدت وكأنها جزء من ظلمة الليل..
كانت دائما ما تشرد من الازمة وترحل مع الذاكرة للحظة ولادته وسر تسميته, كونه بكرها ومصدر سعادتها وثمرة وجودها في هذا العالم.. علاوة علي انه تتويج لعلاقتها الزوجية التي تأثرت قليلا بسبب تأخر الانجاب.. وعلي الرغم من هذا الغوص في عمق الذاكرة, إلا انها سرعان ما كانت تعود لواقعها الموجع والمثقل بالمرارة, وكانت دائما ما تستغرب نفسها من عدم قدرتها علي البكاء علي مصير فقيدها المجهول.. إلا انها كانت تندب حظها النحس الذي سلب منها معني السعادة..
كان بيت السيدة العجوز يقع علي مسافة قريبة من مسجد الحي, حيث كان صوت الآذان والأدعية يتسلل الي أرجاء البيت. وكان لآذان المغرب تحديدا, ذائقة خاصة علي مسامعها كونه يفتح لها أبواب الحزن علي مصراعيها.. ذلك انها كانت تراقب السماء وقت الغروب وتهرب خلسة الي سطح البيت لتتأمل بإصغاء دقيق صوت المؤذن الشجي الذي يضعها علي مساحة واحدة بين السماء والارض.
ذلك التيه وفوضي المشاعر يشكل خوفا آخر عندها.. خوف من ان يلتحق ابنها الثاني( صباح) في خدمة التجنيد الالزامي ويلحق بأخيه الغائب..
كانت توجه عينيها صوب منارة الجامع وترفع يديها الي السماء وتدعو الرب بتوسل مذل بأن يعيد إليها ابنها الغائب ويعطل مسار( صباح) لئلا يكون جزءا من الحرب.. من دون ان تدرك ان( صباح) كان يسمع دعواتها وهو يتسحب بخطي عجولة تجاه موت المعركة من دون ان يودعها.. خوفا عليها من الانهيار بين يديه, او ان ترغمه علي البقاء وتحمله مسؤولية التخاذل أو الهروب من الخدمة الالزامية..
لم يكن( صباح) اجتماعيا مع أقرانه الجنود.. بل كان رسميا جدا في التعامل مع الجميع..
كان يقضي معظم أوقات فراغه في تنظيف سلاحه الشخصي, ويتفادي النقاش في أي موضوع ولا يطيق الحديث عن أي شيء مهما بلغت أهميته, خصوصا بعد ان فقد الاب الروحي; أخاه الأكبر سعد.
وفي احدي ليالي الحرب وبعدما انهي مهمة جوية في طائرة الهليكوبتر برفقة عدد من الجنود.. تقافز الجنود من الطائرة بعد هبوطها مباشرة إلا هو..
انفرد بنفسه كعادته واستحضر أخاه( سعد) بعد ان أخرج صورته الشخصية التي احتفظ بها في جعبته العسكرية, وهي ممارسة يومية اعتادها لسرد يوميات الحرب لاخيه حتي قبل فقدانه..
أسند الصورة بزجاج نافذة الطائرة وبدأ يخاطبها بحرقة عن آلام روحه والاهداف العسكرية والخوف والشوق وضجيج المشاعر اللامنتهية في ميدان الحرب, وعن سماء المدينة الملبدة بالدخان.. وعن توسلات الام وجنونها بغيابه, ولم تنقطع سلسلة الافكار والتواصل بينهما إلا بعد ان أسدل النوم ستاره علي( صباح)..
ما من صديق سوي الوحدة مع السيدة العجوز التي باتت تجهل مصير ولديها بعد ان التحق( صباح) بساحة القتال.
كانت تقتل أوقات انتظارها بخياطة أكفان لولديها التائهين, المتلاشيين تحت وجع الحرب.
عطرت قطعة القماش الناصعة البياض, بالعطور التي يحبها الاخوان.. وجلست علي الارض قبالة صورتيهما المعلقة تحت الساعة الجدارية وسط صالة البيت, وبدأت بالخياطة والحديث المعاتب مع الصورة كاسرة بذلك جدار الصمت الذي شيدته بعد فقدان سعد وصباح..
قفزت من مكانها مرعوبة بعدما سمعت طرقات قوة هزت الباب الخارجي.. توقفت في مكانها رغما عنها وكأنها مسمار ثبت في الارض. علي الرغم من لهفتها لمعرفة من في الخارج, غير انها تجمدت وتخيلت مشهد الدخول بجثمان احد الغائبين..
لم ينتظر الطارق طويلا.. وإنما دفع الباب بقوة ودخل بخطي ثقيلة وتوقف عن باحة البيت.. وصرخ بصوت متعب: صباح.. صباح.
ركضت الام تجاه الصوت وإذا بها تواجه ابنها( سعد) وقد شحبت ملامحه, من شدة النزف الذي رافقه بعدما نسي ذراعه اليسري مع أشلاء الجنود..
تقبلت الصدمة علي مضض, واحرقت أول الأكفان واحتفظت بالثاني لصباح الذي صار شاهدا علي أسري الحروب.
بعد ان انقطعت أخبار( سعد) وانطفأت أضواؤه في مسرح الهلاك, وبات مصيره مجهولا, عقدت الأم لسانها وخاصمت النطق, وصاحبت مفاهيم التشاؤم مرغمة, واتشحت بالسواد حتي بدت وكأنها جزء من ظلمة الليل..
كانت دائما ما تشرد من الازمة وترحل مع الذاكرة للحظة ولادته وسر تسميته, كونه بكرها ومصدر سعادتها وثمرة وجودها في هذا العالم.. علاوة علي انه تتويج لعلاقتها الزوجية التي تأثرت قليلا بسبب تأخر الانجاب.. وعلي الرغم من هذا الغوص في عمق الذاكرة, إلا انها سرعان ما كانت تعود لواقعها الموجع والمثقل بالمرارة, وكانت دائما ما تستغرب نفسها من عدم قدرتها علي البكاء علي مصير فقيدها المجهول.. إلا انها كانت تندب حظها النحس الذي سلب منها معني السعادة..
كان بيت السيدة العجوز يقع علي مسافة قريبة من مسجد الحي, حيث كان صوت الآذان والأدعية يتسلل الي أرجاء البيت. وكان لآذان المغرب تحديدا, ذائقة خاصة علي مسامعها كونه يفتح لها أبواب الحزن علي مصراعيها.. ذلك انها كانت تراقب السماء وقت الغروب وتهرب خلسة الي سطح البيت لتتأمل بإصغاء دقيق صوت المؤذن الشجي الذي يضعها علي مساحة واحدة بين السماء والارض.
ذلك التيه وفوضي المشاعر يشكل خوفا آخر عندها.. خوف من ان يلتحق ابنها الثاني( صباح) في خدمة التجنيد الالزامي ويلحق بأخيه الغائب..
كانت توجه عينيها صوب منارة الجامع وترفع يديها الي السماء وتدعو الرب بتوسل مذل بأن يعيد إليها ابنها الغائب ويعطل مسار( صباح) لئلا يكون جزءا من الحرب.. من دون ان تدرك ان( صباح) كان يسمع دعواتها وهو يتسحب بخطي عجولة تجاه موت المعركة من دون ان يودعها.. خوفا عليها من الانهيار بين يديه, او ان ترغمه علي البقاء وتحمله مسؤولية التخاذل أو الهروب من الخدمة الالزامية..
لم يكن( صباح) اجتماعيا مع أقرانه الجنود.. بل كان رسميا جدا في التعامل مع الجميع..
كان يقضي معظم أوقات فراغه في تنظيف سلاحه الشخصي, ويتفادي النقاش في أي موضوع ولا يطيق الحديث عن أي شيء مهما بلغت أهميته, خصوصا بعد ان فقد الاب الروحي; أخاه الأكبر سعد.
وفي احدي ليالي الحرب وبعدما انهي مهمة جوية في طائرة الهليكوبتر برفقة عدد من الجنود.. تقافز الجنود من الطائرة بعد هبوطها مباشرة إلا هو..
انفرد بنفسه كعادته واستحضر أخاه( سعد) بعد ان أخرج صورته الشخصية التي احتفظ بها في جعبته العسكرية, وهي ممارسة يومية اعتادها لسرد يوميات الحرب لاخيه حتي قبل فقدانه..
أسند الصورة بزجاج نافذة الطائرة وبدأ يخاطبها بحرقة عن آلام روحه والاهداف العسكرية والخوف والشوق وضجيج المشاعر اللامنتهية في ميدان الحرب, وعن سماء المدينة الملبدة بالدخان.. وعن توسلات الام وجنونها بغيابه, ولم تنقطع سلسلة الافكار والتواصل بينهما إلا بعد ان أسدل النوم ستاره علي( صباح)..
ما من صديق سوي الوحدة مع السيدة العجوز التي باتت تجهل مصير ولديها بعد ان التحق( صباح) بساحة القتال.
كانت تقتل أوقات انتظارها بخياطة أكفان لولديها التائهين, المتلاشيين تحت وجع الحرب.
عطرت قطعة القماش الناصعة البياض, بالعطور التي يحبها الاخوان.. وجلست علي الارض قبالة صورتيهما المعلقة تحت الساعة الجدارية وسط صالة البيت, وبدأت بالخياطة والحديث المعاتب مع الصورة كاسرة بذلك جدار الصمت الذي شيدته بعد فقدان سعد وصباح..
قفزت من مكانها مرعوبة بعدما سمعت طرقات قوة هزت الباب الخارجي.. توقفت في مكانها رغما عنها وكأنها مسمار ثبت في الارض. علي الرغم من لهفتها لمعرفة من في الخارج, غير انها تجمدت وتخيلت مشهد الدخول بجثمان احد الغائبين..
لم ينتظر الطارق طويلا.. وإنما دفع الباب بقوة ودخل بخطي ثقيلة وتوقف عن باحة البيت.. وصرخ بصوت متعب: صباح.. صباح.
ركضت الام تجاه الصوت وإذا بها تواجه ابنها( سعد) وقد شحبت ملامحه, من شدة النزف الذي رافقه بعدما نسي ذراعه اليسري مع أشلاء الجنود..
تقبلت الصدمة علي مضض, واحرقت أول الأكفان واحتفظت بالثاني لصباح الذي صار شاهدا علي أسري الحروب.