1- نصيحة أبي تمام للبحتري حول كتابة الشعر
نُصّب أبو تمام في وقته زعيما للمحدثين. أما في العصر الحديث فقد نصب أيضا ممثلا للإبداع في مواجهة الاتباع. لكن حين يقرأ المرء نصيحته للبحتري في كيفية الاقتراب من الشعر يصاب بخيبة أمل، إلى حد ما. فمدخله مدخل محافظ، ولا يختلف عن المدخل التقليدي المعروف. خذ كلامه عن النسيب مثلا: "فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق". ثمة هنا روح اتباعية واضحة لا شك فيها. فـ: بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، هي الوصفات التقليدية المعروفة. ثم خذ هذا أيضا: "وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية". ورغم أن أبا تمام كان يتقصد أحيانا غير المألوف، فإنه هنا يقدم نصيحة تضع الشعر بين يدي المعروف المألوف، أي الذوق العام، وتمنعه من المغامرة مع المجهول. وانظر إلى هذا أيضا: "وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه". هذا ذوق محافظ، يختار ما اختاره الذوق العام والزمن.
لكن هذا ليس كل شيء في النصيحة بالطبع. ففيها أيضا ما يدل على الطريق الذي اختاره أبو تمام، وجعل من شعرة سبكة متماسكة، مثل منحوتة تلتم على ذاتها، ولا تنكسر حتى لو سقطت أرضا. إنه الاختصار، أو كما يسميه البحتري في حديثه عن النصيحة (وجوه الاقتضاب). أما أبو تمام فيقول عن هذا الاقتضاب في النصيحة إياها: "وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام". وهنا، هنا بالضبط، نقطة قوة الوصية، وقوة أبي تمام أيضا: الثياب على مقادير الأجسام. لا قطعة تزيد أو تنقص. لا كلمة لا ضرورة لها، ولا حشو. فالقصيدة شجرة تنهض بالتقليم والحذف لا بالحشو والتكثير.
على كل حال، يمكن لي أن أقول أن الوصية لا تشعرني بالراحة كثيرا عند قراءتها. لكن هذا لا يعني أنها غير مهمة. على العكس إنها واحدة من البيانات النادرة عن الشعر العربي من شاعر كبير. وهي في هذا مثلها مثل القسم الأهم من مقدمة أبي العلاء للزومياته. تقول النصيحة كاملة:
"قال أبو عبادة الوليدة بن عبيد البحتري: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه؛ فكان أول ما قال لي:
يا أبا عبادة؛ تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم. واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر؛ وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب؛ فاجعل اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد؛ فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقامه. وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر؛ فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه؛ ترشد إن شاء الله تعالى" (ابن رشيق، العمدة).
2- البيان الشعري لأبي العلاء المعري
كانت نصيحة أبي تمام للبحتري بيانا شعريا موجزا.
أما أبو العلاء المعري فلم يكن ينصح أحدا في بيانه الشعري القصير الذي جاء في سياق مقدمة لزومياته. بدأ هذا البيان بسطر واحد في أول المقدمة، ثم أنهاه بعدة سطور في نهايتها. أما السطر الأول فيقول: "كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط".
الكذب والصدق هنا محور البيان الشعري لأبي العلاء. كذب الشعراء وصدقهم. ومع أن لهجته توحي بأنه يقدم بيان خلقيا، لكنه في الحقيقة أبعد من ذلك، كما سيتضح بعد ذلك. فالأخلاق التي يتحدث عنها هي، في الواقع، أساليب الشعر وطرائقه التي سار عليها الشعراء واتبعوها، كما سنرى حين نكمل بيانه الشعري في الأسطر الأخيرة من المقدمة. وفي هذه الأسطر يوضح موقفه من كلام كان قاله من قبل: "وقد كنت قلت في كلامٍ قديم إني رفضت الشعر رفض السَّقْبِ غرْسَه والرأل تريكته). والمعنى: أنني رفضت الشعر رفض ولد الناقة لقناع مشيمته بعد ولادته، وفرخ النعامة لقشرة بيضته التي غادرها. وقد فُهم من هذا الكلام أن يريد أن يهجر الشعر فأراد أن يؤكد أن كلامه لا يعني مغادرة الشعر، بل مغادرة طرائق الشعراء، وتكلفاتهم التي تهدف لتهييج الشعر في دواخلهم:
"والغرض [من قولي ذاك هو] ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فأما الكائن عظة للسامع وإيقاظا للمتوسّن، وأمرا بالتحرر من الدنيا الخادعة... فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام، لأنه يتوخى الصادقة، ويطلب من الكلام البرّة. ولذلك ضعف كثير من شعر أمية بن أبي الصلت ومن أخذ في فريّه من أهل الإسلام. ويروى عن الأصمعي كلام معناه أن الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعف).
إذن، فأبو العلاء يريد مغادرة أكاذيب الشعراء، ويرغب أن يحول شعره إلى وعظ يوقظ الغافين، ويحررهم من الدنيا الخادعة. وهذا أيضا قد يوحي بأن الأمر يتعلق بالأخلاق. بل إن أبا العلاء في المقتبس مقتنع، بشكل ما أن الأمر يتعلق بالأخلاق. بل إنه يكاد ان شعره ضعف بسبب ذلك. لكن حين يكمل نكتشف أن الأمر يتعلق بالأغراض الشعرية عموما:
"وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين الكلام بالكذب، وهو من القبائح، وزيّنوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر، وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب، واحتلبوا أخلاف الفكَر، وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يعانون من حثّ الركائب وقطع المفاوز ومراس الشقاء".
هنا يتضح بجلاء أن أبا العلاء يرفض الأساليب التي يلجأ إليها الشعراء للدخول إلى الأغراض الشعرية كما رسخت في التقليد الشعري حتى عهده. فالكذب هنا ليس خلقا، بل طريقة محددة في الكتابة. طريقة تبحث عن تهييج الشعر بأغراض محددة. وهو يرفض هذه الأغراض رفضا مطلقا. فلا غزل عنده بعد، ولا وصف للنساء، ولا نعت للخيل، ولا حرب، ولا عبور صحار قاسية صعبه. فكل هذا حيل من أجل الوصول إلى الشعر. كل هذا كذب. وهو ليس كذبا أخلاقيا، بل كذب فني. وهو لا يريد هذه الحيل الكاذبة. إذ هو قادر على الوصول على الشعر من دونها. وبالفعل، فقد بر بوعده، وابتعد عن تكلفات الشعراء وأغراضهم. فليس في اللزوميات أغراض شعرية. ليس فيها غزل ولا نسيب ولا مدح ولا هجاء ولا فخر ولا حرب ولا وصف نياق ولا رحلة في الصحاري، ولا غير ذلك من أغراض الشعر والشعراء. وهكذا أطاح أبو العلاء بضربة واحدة فقط بأعراض الشعر العربي كلها. هناك فقط غرض واحد: ورطة الإنسان في الكون والحياة، ومحاولة تدجين الموت، وتأليفه.
أما في (سقط الزند) فقد كان أبو العلاء يتبع أغراض الشعراء وأساليبهم. وحينها كان بإمكانه أن يقول:
أقول للوحش ترميني بأعينها
والطير يعجب مني كيف لم أطر
لمُشمعلّين كالسيفين تحتهما
مثل القناتين من أينٍ ومن ضمر
في بلدةٍ مثل ظهر الظبي بت بها
كأنني فوق ظهر الظبي من حذر
هنا يتصرف أبو العلاء كشاعر قوي، لكنه شاعر تقليدي. بل وتقليدي جدا. فهو، مع كونه ضريرا، ينشئ قصيدته كما لو أنه شاعر مبصر، ويخوض مغامراته المفترضة مثل الشعراء المبصرين تماما. أما في اللزوميات فقد كف عن هذا. كف عنه نهائيا. بذا صار بمقدوره أن يتحدث عن ضعفه وبؤسه ويأسه:
إذا راكب نالت به الشأو ناقة
فما أينقى إلاّ الظوالع والحسرى
ناقته هنا لا تبلغ به شأوه، فهي ناقة ظالعة متعبة. والحق أنه لم يعد له من حاجة إلى ناقة ليرحل عليها، فقد صار حبيس بيته. بذا فرحلته رحلة في أعماق الذات، وفي أعماق الناس والكون.
وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن البيان الشعري المكتوب لأبي العلاء أوسع من السطور التي ذكرناها. لكنه بيان منثور في قصائده في ديوان اللزوميات. وخذ هذه الأبيات عن الشعر والشعراء:
بني الآداب غرتكم قديماً
زخارف مثل زمزمة الذباب
أأُذهب فيكم أيام شيبي
كما أذهبت أيام الشباب؟
ويضيف:
فما أم الحويرث في كلامي
بعارضة ولا أم الرباب
وإن مقاتل الفرسان عندي
مصارع تلكم الغَنَم الرباب
وألقيت الفصاحة عن لساني
مسلمة إلى العرب اللباب
هنا يوجد أكمل تعبير عن رفض أبي العلاء لمثال الشعراء في عصره. فهو يرفض زمزمتهم وغزلهم وتشبيبهم، ويرى مقاتل الفرسان التي يتحدثون عنها كما لو أنها مقاتل دواب وأغنام. ثم يقول جملته الحاسمة الأخيرة: "وألقيت الفصاحة عن لساني، مسلمة إلى العرب اللباب". إنه يرفض فصاحتهم ذاتها ويرمي بها، مخترعا فصاحة أخرى غيرها. والحق أن ديوان اللزوميات فصاحة أخرى، أي شعر آخر. وهذه الفصاحة هي التي مكنت أبا العلاء من توسيع قاموسه الشعري عن طريق التقاط الكلمات الشعبية، التي كان يربأ الشعراء عن الاقتراب منها. عليه فشعره يمتلئ بالكلمات القاموسية الصعبة وبالكلمات الشعبية التي تبدو مبتذله لغيره.
على كل حال، فقد تحدثنا عن البيان الشعري لأبي العلاء خارج الكتابة الشعرية. أما بيانه الأهم فيتضح من الفرق بين ديواني (سقط الزند) و (اللزوميات). الفارق بين هذين الديوانين هو التطبيق العملي لبيانه الشعري. وما من شاعر عربي قديم قسم حياته الشعرية إلى ديوانين مختلفين جذريا كما فعل أبو العلاء. وقد كان يفعل ذلك مضطرا وواعيا. فمع اللزوميات كان قد غادر طرق الشعراء كلهم، ونحت لنفسه- ولنا- طريقا آخر لم نعهد مثيلا له من قبل.
====
نُصّب أبو تمام في وقته زعيما للمحدثين. أما في العصر الحديث فقد نصب أيضا ممثلا للإبداع في مواجهة الاتباع. لكن حين يقرأ المرء نصيحته للبحتري في كيفية الاقتراب من الشعر يصاب بخيبة أمل، إلى حد ما. فمدخله مدخل محافظ، ولا يختلف عن المدخل التقليدي المعروف. خذ كلامه عن النسيب مثلا: "فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق". ثمة هنا روح اتباعية واضحة لا شك فيها. فـ: بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، هي الوصفات التقليدية المعروفة. ثم خذ هذا أيضا: "وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية". ورغم أن أبا تمام كان يتقصد أحيانا غير المألوف، فإنه هنا يقدم نصيحة تضع الشعر بين يدي المعروف المألوف، أي الذوق العام، وتمنعه من المغامرة مع المجهول. وانظر إلى هذا أيضا: "وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه". هذا ذوق محافظ، يختار ما اختاره الذوق العام والزمن.
لكن هذا ليس كل شيء في النصيحة بالطبع. ففيها أيضا ما يدل على الطريق الذي اختاره أبو تمام، وجعل من شعرة سبكة متماسكة، مثل منحوتة تلتم على ذاتها، ولا تنكسر حتى لو سقطت أرضا. إنه الاختصار، أو كما يسميه البحتري في حديثه عن النصيحة (وجوه الاقتضاب). أما أبو تمام فيقول عن هذا الاقتضاب في النصيحة إياها: "وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام". وهنا، هنا بالضبط، نقطة قوة الوصية، وقوة أبي تمام أيضا: الثياب على مقادير الأجسام. لا قطعة تزيد أو تنقص. لا كلمة لا ضرورة لها، ولا حشو. فالقصيدة شجرة تنهض بالتقليم والحذف لا بالحشو والتكثير.
على كل حال، يمكن لي أن أقول أن الوصية لا تشعرني بالراحة كثيرا عند قراءتها. لكن هذا لا يعني أنها غير مهمة. على العكس إنها واحدة من البيانات النادرة عن الشعر العربي من شاعر كبير. وهي في هذا مثلها مثل القسم الأهم من مقدمة أبي العلاء للزومياته. تقول النصيحة كاملة:
"قال أبو عبادة الوليدة بن عبيد البحتري: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضابه، حتى قصدت أبا تمام، وانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه؛ فكان أول ما قال لي:
يا أبا عبادة؛ تخيّر الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم. واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر؛ وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة، وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب؛ فاجعل اللفظ رقيقا، والمعنى رشيقا، وأكثر فيه من بيان الصبابة، وتوجع الكآبة، وقلق الأشواق، ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد؛ فأشهر مناقبه، وأظهر مناسبه، وأبن معالمه، وشرف مقامه. وتقاض المعاني، واحذر المجهول منها. وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر؛ فأرح نفسك، ولا تعمل شعرك إلا وأنت فارغ القلب، واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه؛ فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين، فما استحسن العلماء فاقصده، وما تركوه فاجتنبه؛ ترشد إن شاء الله تعالى" (ابن رشيق، العمدة).
2- البيان الشعري لأبي العلاء المعري
كانت نصيحة أبي تمام للبحتري بيانا شعريا موجزا.
أما أبو العلاء المعري فلم يكن ينصح أحدا في بيانه الشعري القصير الذي جاء في سياق مقدمة لزومياته. بدأ هذا البيان بسطر واحد في أول المقدمة، ثم أنهاه بعدة سطور في نهايتها. أما السطر الأول فيقول: "كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط".
الكذب والصدق هنا محور البيان الشعري لأبي العلاء. كذب الشعراء وصدقهم. ومع أن لهجته توحي بأنه يقدم بيان خلقيا، لكنه في الحقيقة أبعد من ذلك، كما سيتضح بعد ذلك. فالأخلاق التي يتحدث عنها هي، في الواقع، أساليب الشعر وطرائقه التي سار عليها الشعراء واتبعوها، كما سنرى حين نكمل بيانه الشعري في الأسطر الأخيرة من المقدمة. وفي هذه الأسطر يوضح موقفه من كلام كان قاله من قبل: "وقد كنت قلت في كلامٍ قديم إني رفضت الشعر رفض السَّقْبِ غرْسَه والرأل تريكته). والمعنى: أنني رفضت الشعر رفض ولد الناقة لقناع مشيمته بعد ولادته، وفرخ النعامة لقشرة بيضته التي غادرها. وقد فُهم من هذا الكلام أن يريد أن يهجر الشعر فأراد أن يؤكد أن كلامه لا يعني مغادرة الشعر، بل مغادرة طرائق الشعراء، وتكلفاتهم التي تهدف لتهييج الشعر في دواخلهم:
"والغرض [من قولي ذاك هو] ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فأما الكائن عظة للسامع وإيقاظا للمتوسّن، وأمرا بالتحرر من الدنيا الخادعة... فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام، لأنه يتوخى الصادقة، ويطلب من الكلام البرّة. ولذلك ضعف كثير من شعر أمية بن أبي الصلت ومن أخذ في فريّه من أهل الإسلام. ويروى عن الأصمعي كلام معناه أن الشعر باب من أبواب الباطل، فإذا أريد به غير وجهه ضعف).
إذن، فأبو العلاء يريد مغادرة أكاذيب الشعراء، ويرغب أن يحول شعره إلى وعظ يوقظ الغافين، ويحررهم من الدنيا الخادعة. وهذا أيضا قد يوحي بأن الأمر يتعلق بالأخلاق. بل إن أبا العلاء في المقتبس مقتنع، بشكل ما أن الأمر يتعلق بالأخلاق. بل إنه يكاد ان شعره ضعف بسبب ذلك. لكن حين يكمل نكتشف أن الأمر يتعلق بالأغراض الشعرية عموما:
"وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين الكلام بالكذب، وهو من القبائح، وزيّنوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والإبل وأوصاف الخمر، وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب، واحتلبوا أخلاف الفكَر، وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يعانون من حثّ الركائب وقطع المفاوز ومراس الشقاء".
هنا يتضح بجلاء أن أبا العلاء يرفض الأساليب التي يلجأ إليها الشعراء للدخول إلى الأغراض الشعرية كما رسخت في التقليد الشعري حتى عهده. فالكذب هنا ليس خلقا، بل طريقة محددة في الكتابة. طريقة تبحث عن تهييج الشعر بأغراض محددة. وهو يرفض هذه الأغراض رفضا مطلقا. فلا غزل عنده بعد، ولا وصف للنساء، ولا نعت للخيل، ولا حرب، ولا عبور صحار قاسية صعبه. فكل هذا حيل من أجل الوصول إلى الشعر. كل هذا كذب. وهو ليس كذبا أخلاقيا، بل كذب فني. وهو لا يريد هذه الحيل الكاذبة. إذ هو قادر على الوصول على الشعر من دونها. وبالفعل، فقد بر بوعده، وابتعد عن تكلفات الشعراء وأغراضهم. فليس في اللزوميات أغراض شعرية. ليس فيها غزل ولا نسيب ولا مدح ولا هجاء ولا فخر ولا حرب ولا وصف نياق ولا رحلة في الصحاري، ولا غير ذلك من أغراض الشعر والشعراء. وهكذا أطاح أبو العلاء بضربة واحدة فقط بأعراض الشعر العربي كلها. هناك فقط غرض واحد: ورطة الإنسان في الكون والحياة، ومحاولة تدجين الموت، وتأليفه.
أما في (سقط الزند) فقد كان أبو العلاء يتبع أغراض الشعراء وأساليبهم. وحينها كان بإمكانه أن يقول:
أقول للوحش ترميني بأعينها
والطير يعجب مني كيف لم أطر
لمُشمعلّين كالسيفين تحتهما
مثل القناتين من أينٍ ومن ضمر
في بلدةٍ مثل ظهر الظبي بت بها
كأنني فوق ظهر الظبي من حذر
هنا يتصرف أبو العلاء كشاعر قوي، لكنه شاعر تقليدي. بل وتقليدي جدا. فهو، مع كونه ضريرا، ينشئ قصيدته كما لو أنه شاعر مبصر، ويخوض مغامراته المفترضة مثل الشعراء المبصرين تماما. أما في اللزوميات فقد كف عن هذا. كف عنه نهائيا. بذا صار بمقدوره أن يتحدث عن ضعفه وبؤسه ويأسه:
إذا راكب نالت به الشأو ناقة
فما أينقى إلاّ الظوالع والحسرى
ناقته هنا لا تبلغ به شأوه، فهي ناقة ظالعة متعبة. والحق أنه لم يعد له من حاجة إلى ناقة ليرحل عليها، فقد صار حبيس بيته. بذا فرحلته رحلة في أعماق الذات، وفي أعماق الناس والكون.
وعلينا أن نلفت الانتباه إلى أن البيان الشعري المكتوب لأبي العلاء أوسع من السطور التي ذكرناها. لكنه بيان منثور في قصائده في ديوان اللزوميات. وخذ هذه الأبيات عن الشعر والشعراء:
بني الآداب غرتكم قديماً
زخارف مثل زمزمة الذباب
أأُذهب فيكم أيام شيبي
كما أذهبت أيام الشباب؟
ويضيف:
فما أم الحويرث في كلامي
بعارضة ولا أم الرباب
وإن مقاتل الفرسان عندي
مصارع تلكم الغَنَم الرباب
وألقيت الفصاحة عن لساني
مسلمة إلى العرب اللباب
هنا يوجد أكمل تعبير عن رفض أبي العلاء لمثال الشعراء في عصره. فهو يرفض زمزمتهم وغزلهم وتشبيبهم، ويرى مقاتل الفرسان التي يتحدثون عنها كما لو أنها مقاتل دواب وأغنام. ثم يقول جملته الحاسمة الأخيرة: "وألقيت الفصاحة عن لساني، مسلمة إلى العرب اللباب". إنه يرفض فصاحتهم ذاتها ويرمي بها، مخترعا فصاحة أخرى غيرها. والحق أن ديوان اللزوميات فصاحة أخرى، أي شعر آخر. وهذه الفصاحة هي التي مكنت أبا العلاء من توسيع قاموسه الشعري عن طريق التقاط الكلمات الشعبية، التي كان يربأ الشعراء عن الاقتراب منها. عليه فشعره يمتلئ بالكلمات القاموسية الصعبة وبالكلمات الشعبية التي تبدو مبتذله لغيره.
على كل حال، فقد تحدثنا عن البيان الشعري لأبي العلاء خارج الكتابة الشعرية. أما بيانه الأهم فيتضح من الفرق بين ديواني (سقط الزند) و (اللزوميات). الفارق بين هذين الديوانين هو التطبيق العملي لبيانه الشعري. وما من شاعر عربي قديم قسم حياته الشعرية إلى ديوانين مختلفين جذريا كما فعل أبو العلاء. وقد كان يفعل ذلك مضطرا وواعيا. فمع اللزوميات كان قد غادر طرق الشعراء كلهم، ونحت لنفسه- ولنا- طريقا آخر لم نعهد مثيلا له من قبل.
====