أحمد عبدالله إسماعيل - الحذاء..

يتلقى التهاني بمناسبة شراء حذاء جديد، بعد سنوات أحجم فيها عن الإقدام على تلك الخطوة؛ إذ كانت تتطلب منه، في كل مرة، تفكيرًا عميقًا وتدبيرًا طويلًا، وبحثًا شاقًّا عن حذاء بمواصفات خاصة.
وبعد انقضاء عملنا اليومي المعتاد، الساعة الثالثة عصرًا، في يوم غائم شديد برده، يمشي إلى جواري واضعًا يده في جيبه، يتأبَّط حذاءه الجديد!
استغرب الناس منظره غير المألوف حتى اشتد ضحكهم، وتعجبت أنا أيضًا من تصرفه غير المتوقع؛ فأوقفته مستفسرًا:
- لماذا تمشي حافي القدمين في هذا البرد العاصف؟!
أجاب مبديًا قلقه:
- أخاف أن يتلف ماء المطر الحذاء.
ثم أردف وقد بدت الدهشة على وجهه، والحدة في نبرة صوته:
- الغريب أنك تسأل، ألا تعرف قيمته؟!
غمرني العجب، ووضعت يدي على الجرح قائلًا:
- قيمته؟! الحذاء حذاء ولو امتلأ بالذهب!
تجاهل ما قلت، وبحماسة كأنه يتحدث عن اكتشاف جديد وصل إليه العلم، قال:
- إنه حذاء قيّم، مصنوع من الجلد الطبيعي، سميك البطانة، ثابت الكعب، والأهم أنه خفيف الوزن.
- خفيف ...؟!
- نعم، وما أدهشني، أكثر، أنه عندما اشتريته كانت قاعدته تنثني بمرونة حين أمسكته من طرفيه بكلتا يديَّ.
في الشارع الطويل، تحت المطر الذي أخذ يتساقط فيملأ الجو، حكَّ كفيه، بدأ يبوح، يتكلم، كأنما يناجي روحه، ولكنه في الوقت نفسه يحاول تبرير أفعاله؛ ليقنع نفسه التي عانت معه طوال عمره، تأمره بالسوء في كثير من الأحيان، وتلومه في كل مكان؛ تنتقده في البيت، وتتحمل أعباء تصرفاته في العمل، وفي القطار...
ضحك الناس ضحكات هستيرية؛ فعجبت من تصرفه الذي يُظهر خفيّ حقيقته، رغم أنه يتقاضى راتبًا لم يحلم برُبع عُشْره يومًا!
نعم، هو شخص محير؛ في منتصف عمره، قوي البنية، منتصب القامة، له شارب كثيف، ضخم الجسم، مقبَّب الكتفين، عابس الوجه.
الآن، أحس أنه كان مخطئًا مع ذاته طوال السنوات الماضية، وأن عليه، الآن، أن يتغير ويعطيها حقها، وأن يُعاملها بالاحترام اللائق المستحق، وألا يحرص على الدنيا، توالت دقات قلبه، وقال بصوت مهتز:
- أذنبت في حق نفسي، والحياة أيضا ظلمتني حين ولدت لأب فقير؛ أنجب سبعة أولاد؛ فلم أسعد مثل باقي أطفال القرية، ولم يحن الوقت ليهدأ خوفي رغم ما صرت فيه من سعة العيش، ولم تطمئن سريرتي أو أمنحها الفرصة لالتقاط الأنفاس؛ لأن خيالات العهد القديم تطاردني، و كلما حاولت لبس هذا الحذاء الجديد، لا أطاوع نفسي!!!
ظل يتحدث بضيق، وكلماته تشعره بحقيقة ما فقده طوال حياته.
التفت إليَّ بوجه عابس، وأخذ يقدم الوعود:
- سوف أبذل غاية جهدي كي أتغير، وأصلح ما فسد من حالي؛ فأكون كما يتمنى أولادي، وكما تدعو زوجتي، وأفعل ما يُرضي زملائي في العمل، وأنفذ كل ما يريده فؤادي ويتمناه في بقية عمري، نعم، سوف أفتح صفحة جديدة، ابتداءً من اليوم، لا، بل من الغد.
نظرت إليه نظرة استياء وقلت:
- توقف والبس الحذاء، كفى فضائح!
- فضائح؟! هل انحرفت عن القيم الخلقية؟! أم فعلتُ ما يجلب العار؟!
- بل فعلتَ ما يؤذي المجتمع!
نظر في دهشة كمن يُطلب منه فعل المستحيل، ثم قال بتهكم وهو ينظر إلى الوجوه المستغربة على جانبي الطريق:
- ألبسه بمجرد الوصول إلى المحطة، فقط حتى أحافظ على مشاعر المجتمع!
مضينا معًا، وأعجب ما جرى ما حدث عندما وصل إلى محطة القطار؛ إذ انتقل الحذاء من تحت إبطه إلى قدميه، ولم يربت عليه أو يحاوره أو يداعبه لأول مرة منذ اشتراه، بل كانت بداية التغيير حين اتجه إلى شباك التذاكر؛ فأدركت رغبته في شراء تذكرة لأول مرة منذ أن صاحبني!
أذهلني حين قال إنه يتحرج مني كثيرًا؛ لذا ألحَّ أن يشتري لي تذكرة، هذه المرة، على حسابه!
وجد طابورًا طويلًا، ولأنه يشعر بالملل دومًا من الانتظار، نسي ما قال توًّا، بارتياح شديد أعاد النقود إلى جيبه، وتركني أقف في طابور التذاكر كالعادة، ثم توجه على الفور إلى الرصيف، وقف أسفل مظلة أسمنتية ينتظر القطار في مكان جاف نظيف.
بعد دقائق، جادت السماء بمطر غزير روى الأرض؛ فنظر حوله يتفحص الوجوه ثم خلع حذاءه، وقفز إلى داخل القطار حافيًا.
جلستُ في أول مقعد صادفني، من المقاعد القليلة الخالية، أما هو فانصهر وسط الزحام، وبحرص شديد حاول أن يلبس حذاءه، ظل يلتفت يمينًا ويسارًا، يقف على أطراف أصابعه خائفًا يترقب المحصل، قبل أن ينزل عليه مثل الصاعقة أو أن يُباغته كملك الموت، ولم يهدأ حتى رآه يحادث المسافرين في أول العربة؛ فانطلق شديد متجنِّبًا الأقدام الوَحِلة، هاربًا إلى العربة التالية بخفَّة كالمعتاد، يتأبط حذاءه!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...