لقدْ عُرِفَ محمّد خير الدّين، منذ بداياتِه الأدبية، بكونه شاعر الاحتجاج والغضب، على مستويات حيويّة عِدّة، منها السّيّاسي والميتافيزيقي والعائلي والشّخصيّ... لكنّ الكتابة لديه لم تكن تكتفي بالاحتجاج والإدانة، « ذلك أنّها تتفجّر مع الدّريئة التي حدّدتْها لنفسِها...» (بيير مُوريل، صحيفة لوموند). ومن مظاهر فَنّ الكتابة لدى خير الدّين، تمرُّدُه على الفصْلِ بين الأجناس الأدبيّة، وعلى الحدود التي تقامُ عادة بين الواقع والحلم والهلوسة والاستيهام... ممّا يُؤدّي إلى كون رواياته نفسِها تجمع بين المسرح والشّعر والسّرد الواقعيّ والحلميّ والعجائبي والأوتوبيوغرافي، وقد تتلاقى فيها شخصيات من التاريخ بأخرى مُتخيَّلة أو فِعلية حتّى، معاصرة أو منتمية إلى ماضٍ قريب، بل وقد تكون من عالم الحيوانات نفسِه، علما بأنّ شخصيّة خير الدّين نفسها كثيرا ما تتحيّن الفرص للظهور، بصورة أو بأخرى، على مسرح الأحداث في العديد من تلك الروايات...
تتميّز كتابة خير الدّين بغناها المذهل بالصّور الفريدة، غير المتوقّعة بل والشّديدة الغرابة أحيانا، وهي تبدو وكأنّها تدْهَم صاحبَها من حيثُ لا يَعلم. فالدّيناميّة الحُلميّة لديه هي دائما في أقصى زخمها، ويَحدثُ أن يمنح الحرّيّة لليد في ممارسة الكتابة الآليّة، وأن يستلذّ اللعب بالكلمات، بلْ وخلقَ كلمات جديدة ( في أحيان نادرة)... وتأثير رامبو على كاتبنا واضح، وقد كان يحفظُ مجموع آثاره الشّعريّة عن ظهر قلب، ويعتبر شعرَه «نارًا ممزوجة بالدّم». كما أنّ للسّورّياليّة حضورها الأساسيّ في ثقافة خير الدّين، فمن بين قصائد مجموعته "شمس عنكبوتيّة"، هنالك واحدة في رثاء أندري بريتون، هي "رفضُ الدَّفن". والشاعر بريتون كان، في زمنه، المنظّر الأكبر للسّوريالية. ومعلوم أنّ هذه الأخيرة كانتْ حركة تجديدية تمسّكتْ بحرّية الخيال وبالحُرّيّة على العُموم، وكانتْ، بصفة عامّة، قريبة من الحركات اليساريّة. وقد كان لها، طبعا، مُعادون، وصلتْ ببعضهمْ الضَّغينة حدّ القول، إثر وفاة بريتون، بأنّ السّوريالية « ماتتْ رفقة أندري بريتون، بعد احتضار طويل...». ممّا نقرؤه في قصيدة خير الدّين المذكورة: «لا أبكي هذا الدَّمَ الذي وُوجِهَ بالصّراخ المعادي / بل طيران جوارح / حتّى العلوّ الذي يحمل فيه الدّمُ سماتِه التي لا تتبدّل / (...) / الكلمة الأخيرة لا توجَد. ديناميتُ الكلمة الأولى يكفي. / يا أناسا هم براميلُ بارودي، يا أناسا مُحَصَّنين ضِدّ الإنسان / يا إنسانا لمْ يَعُدْ له وقتٌ للشّكّ / يا إنسانا هو نظرة ضائعة، / حين تبلغُ القصيدة أقصى خُضْرَة الهذيان وتُعيدُ الصّحراء كلّ الشّفافيّة لذلك الألم غير المتقطّع الذي كان يُحَرِّكُك / يا أندري بريتون /... / تُواجِهُني العين / أبيعُ موتي. / (...) / أحيّي هذا الحصان الذي هوى من حالِق / أندري بريتون / الذي تنبجس منه القصيدة كالجنّية / ... ».
ولا يَدور، طبعا، بخَلد أحد أن يعتبر خير الدّين سورياليا أو منتميا إلى أيٍّ من المدارس الأدبيّة، فكاتبٌ من صنفه لا يُطيقُ العيش بين الجُدران العازلة التي تحيطُ بها الجماعات «المغلقة» نفسها. لكنّ المهمّ هو أنّ صاحب "شمس عنكبوتيّة" لم يكنْ "لامباليا" إزاء حركة شعريّة تركتْ بصماتِها على أحسن ما كُتِبَ بَعْدَها من شِعر. كما أنّ تأثيرها علـي شعره واضح، فلولا ذلك التّأثير لما قرأنا لـخير الدّين: « أُشَمِّسُ جرائمَ الرّبيع»؛ « الأنهار ترمي أكياسَ شموس»؛ « أتحدّثُ عن عينٍ مَصبوبة في كلّ غرام من العنبر المُرّ»؛ « تموت فجأة/ في الواقِع أنت تَشْهَرُ جذورك/ في ظلّي غير القابل للتّوقُّع حيثُ يتأمّلك بتأثُّر/ رجالُ الساقية الحمراء/ ترسَّبْ فوق الرّيح الشّرقيّة التي غطّاك بها نهرُ السِّين» ( هذا المقطع الأخير هو من قصيدة " وصف راية"، المُهداة إلى الشّهيد المهدي بن بركة).
ثمّ إنّ علينا أن نستحضر عددا من الأمور الأخرى الأساسيّة لدى حديثنا عن خير الدّين: فهنالك انتماؤه الجِذرى، "الحَشَويّ"، الحميم، إلى بُسطاء النّاس من أبناء الشّعب، بل من مختلِف الشّعوب، وتَشَبّعه، خاصّة، بالإرث الثّقافي لأهل الجنوب المغربي، وهنالك عدم ممالأته للقارئ، من جهة ثانية، أي أنّه كان يكتب كما كان ينبغي أن يكتب - حتّى لو اعتبر البعضُ كتاباتِه «مُعَقّدةً» أو «مستغلقةً» على المتلقّي– وبهذا يُتاحُ لذاكَ المُتلقّي أنْ يُمارسَ القراءة المُبدِعة، لا «التلقّيّ» السّلبي. ومن خلال ما أشرْنا إليه، نفهم العلاقة الأدبية الحميمة التي جمعتْ خير الدّين بشعراء الزّنوجة ( سنغور، إيمي سيزيرْ، لِيُونْ غونتران داماسْ...)، ورفضَهُ لضروبِ التّسلّط، وحضورَ الجنوب المغربي في العديد من رواياته...
وُلِدَ خير الدّين سنة 1941، في قرية أزْرُو واضو ( حَجَر الرّيح، بالأمازيغيّة)، قُرْبَ تافراوت، في الجنوب المغربي. هاجَرَ والِدُهُ إلى الدّار البيضاء، لِتعاطي التّجارة، وبقي هو في مسقط رأسه حتّى السّابعة أو الثّامنة، رفقةَ أمه التي « لم تَكُن تُحِبّه، لكنّها لم تكنْ تَضرِبُه» - كما كتب في أحد نُصوصِه - وجَدِّه، الذي سيتركُ في وجدانِه أثَرا قويّا. أمّا علاقتُهُ بأبيه فستشهدُ توتّرات حادّة، خاصّةً إثر تطليق هذا الأخير للأمّ. هذه العلاقات ستبرز في العديد من كتابات خير الدّين، حيثُ كثيرا ما يستعيدُ زمن طفولته وأمكنتها... حسب الشّاعر الفرنسي جان بول ميشيل، وهو صديق حميم لخير الدّين وناشِرُ عددٍ من أعمالِه، فإنّ سِنّ الحادية عشرة، التي عاش خلالها خير الدّين الطِّفل حادثة تطليق الأمّ باعتبارِها (أي حادثة التّطليق) تجسيدا للعسـف وللظّلم، هي التي شهـدتْ لديه مَنْشأ « التّمرّد على الأب والعائلة و الدّين والسُّلطات القائمة»، هذا التَّمرُّد الذي « سيُحَدِّدُ بعمق مسار حياة الشّاعر».
شرع خير الدّين في كتابة الشِّعر، وهو بعدُ تلميذ بإحدى ثانويات الدّار البيضاء، وكان مصطفى النّيسابوري (الذي سيصبح بدوره شاعرا معروفا انطلاقا من أواخر ستينيات القرن العشرين) من زملائه في الدّراسة، وجمعتْ بينهما صداقة متينة كَرَّسَ لها محمّد خير الدّين صفحات جميلة من روايته " حياة وحُلم وشعبٌ، دوما في التّيه"... أنجزَ خير الدّين مُحاولاتِه الشّعريّة الأولى بالعربيّة، متأثّرا بالقصائد التي كان يُغَنّيها محمّد عبد الوهاب، لكنّه سرعان ما أدرك أنّ اللغة التي يُحْسِنُها فِعلا هي الفرنسيّة، فانتقل إلى التّعبير بِها. وتخلّى عن مُتابعة الدِّراسة إثْر حصولِه على البكالوريا. بعد الزّلزال الذي ضرب أغادير (1960)، اشتغل لحساب الضّمان الاجتماعي في تلك المدينة المنكوبة، لفترة محدودة (1961-1963)، وقد شكّلتْ هذه التّجربة منطلقـا وخلفيّة لروايته "أغادير"، التي صدرتْ عن منشورات سُويْ سنة 1967 ( كان عنوانُها، في الأصل، هو "التّحقيق"، لكنّ ناشِرها آثر تسمية "أغادير"، باعتبار أثر اسْمِ المدينة المُدَمّرة في أذهان القُرّاء وقتها). ونحن ننعت "أغادير" بالرّواية، على وجه التّقريب، إذْ في هذا العمل، كمـا في "حكاية إلـه طيّب" أو "أنا الحامض"... يَدمج خير الدّين السّرد والشّعر والمسرح والخطاب الشّفويّ في نطاق ما كان يُسَمّيه بالكتابة (كما أسلفت). وقد احتفت الأوساط الأدبيّة الفرنسيَّة بِ"أغادير"، واعتبرتْ صاحِبَها « كاتبا استِثْنائيا».
عاشَ خير الدّين حياة صعبة، أثناء إقامته المديدة في باريس - من أواخر 1965 حتّى أبريل 1979- و كان من الذين ساندوه: سارتر، بيكيت، ميشال ليرِيسْ... وفي باريس، تزوّج بِآنّي ديفوار، وأنجبا ولدا (ألكسندر)... وانفصلا. وبعد عودتِه إلى المغرب، وحتّى وفاتِه بسرطان الفكّ في 18 نونبر 1995، واجه ظروفا قاسية في أغلب الأوقات... ورغم كلّ ذلك، تمكّن خلال عُمره القصير، وبشجاعة واقتدار نادرين، من إنجاز أعمال أدبيّـة أصيلة، نذكـر من بينهـا: في مجال الرّواية: أغادير ( 1967)، "جِسْمٌ سالب، يليه: قِصّة إله طيّب" ( سُويْ، 1968)، أنا الحامِـض ( سُوي، 1970)، النّبّاش ( سُويْ، 1973)، رائحة الوَدَك (سوي، 1976)، أسطورة أغونشيش وحياتُه ( سُويْ، 1984)... وفي نطاق الشّعر: شمس عنكبوتيّة ( سُويْ، 1969)، هذا المغرب (سُوي، 1975)، انبعاثُ الأزهار البرّيّة ( منشورات الستوكي، الرّباط، 1981)،... وبعد وفاتِه، ظهرَتْ لهُ أعمالٌ لمْ تكنْ بَعْدُ قدْ نُشِرتْ، من بينها رواية بعنوان: "كان هنالك زوجان مُسِنّان سعيدان" (سوي، 2001)، ومجموعة قصص: "الدّفن ومقطوعات نثريّة أخرى وجيزة" (منشورات وِليم بليك والشّركاء، 2009)...
في مقدّمته لِ"شمس عنكبوتية" (في طبعتها الجديدة، الصّادرة ضمن سلسلة شعر/ غاليمار، 2009)، يقول الشّاعر جان بول ميشال - وهو بالمناسبة صاحب دار نشر William Blake and Co - عن خير الدّين، إنّ الكتابة نَصَّبَتْه « بطلا للعُزلة أمام كلّ الثّقافـات... محاوِرا لكلّ اللغات...». ويقول أيضا: « لم أعهَدْ لديْهِ ضغينةً قَطّ».
تبقى إشارة أودّ أن أورِدَها هنا، وتتعلّقُ بواحد من نصوص خير الدّين التي أخصّها بهذا التّقديم، أعني النّصّ الذي اخترتُ لهُ عنوان "هذا الدّم". فهو مقتبس من "أغادير"، التي تُصنَّفُ عادةً كرواية، لكنّ خير الدّين كان قد نشر ما يشكّل قسما كبيرا منه في العدد الثّاني من مجلّة أنفاس تحت عنوان "دماء"، باعتباره أقرب إلى الشّعر، كما قال عنه هو نفسُه... ولن يستعصي على القارئ إدراكُ الطّابع الشِّعْرِيّ لِ"هذا الدّم". أمّا القصائد الأخرى التي أقدّم في ما يلي فمستقاة من مجموعتين شعريتين، هما: "شمس عنكبوتيّة"، و"انبعاثُ الأزهار البَرّية".
*****
النّصوص:
آنِّيغاتور
إنّه حُلْمٌ له جِلْدُ أُمِّ أربع وأربعين يمتطي ظهري
يَبْهَرُ ظلّي إنّه سمكةٌ إنّه خاصرةٌ لا تستكين
دمُه يضعُ جسمي الذي هو جسمُ الرّيح الشّرقيّة
على فَمٍ مُجلّل بالرّماد على الحِبْر
إنّه نفْثَةُ هَوْلٍ لا يُعَوَّض إنّه عصفور حفّارٌ
ومعه الأوراق التي تَصْحَبُهُ مهتاجةً
عبْرَ السُّيول السَّريعة حيثُ البروق تُطْلِق
مقصّاتنا من إسارِها
إنّها هي التي تُمدّد
هذا الظّلَّ المكوّن من حواجزَ مُرتجلة
ومن حشراتٍ
زَحفتْ عبر دماغي
تُمدِّدهُ خلفي
حيث أجعل مهاوي عينيها تنفثُ
نجوما صقيلة
إنها هي حين أتبرَّع على نفسي بليلة
شَوَتْها شُموسٌ
وكلماتٌ ستكسر أنابيبكم خلال نهار
مشتبه في أمره!
إلى جان ديفوار
شموس الأحلام، الرّهيبةُ
جُثَثُ الأقمار والصّحراء، الدّبقةُ
تَكُونُ تحت إبط مُهرِّب البشر عبر الحدود
أكثرَ عددا من عصافير الأرض قاطبة
حين يرسمُ البحر المُترجّح نتيجةَ تسمّم الطّحالب المُرّة
صِلة وَصْلٍ بين
السّماء اللّدنة ووجهك، وجه الغزالة السّوداء
القبور هوتْ على الأنهار الباردة
كان ثمّة سلاحٌ ضروري: لساني النّاشف لساني الأعمى
باصقا من جديد أحصنة عنيدة
عليها تنطلق الخرافات في الفضاء
ولا غنى عنها في مراسم إضفاء القُدُسِيّة
على ربيع بقرتْ بطنَه
أقدامُنا المتصلّبة
وها الكلبُ المائل الجسم، كلبُ التّهديدات
المُداوَرة
يتمدّدُ لِصْقَ جلدي
سماءً قريبة تتلقّى القذائفَ
تنهبُ وجوهنا
الأحافيرُ المُحتَدّة البِزَزُ
وهذا المرضُ
على حَدقاتها الرّماديّة
جسرٌ
وصمتٌ خلال دبيب هذه العذابات
لكنْ
ما الزّهرة إنْ لم تكنْ موتَ الرّتيلاء
أقولُ هذه النّار البيضاء والسّوداء أو البنفسجيّة
بين السقوف النّائيّة العتيقة
أقول الطّائرة- الذُّبابةُ- الغريبة على أعناقنا الخضراء
ألم نَغرقْ منذُ قرون هذا ما كنّا عنه
نتساءل
أقول هذا الأمرَ التّلقائي هذه البدلةُ
لباسُ العُقاب الذي وُلِدَ ميِّتا
لا أقول شيئا ولْنَمُرَّ على القليل القليل
من العُرَى المتشظّية
القبور هوتْ على الأنهار الباردة
سَيْرُنا كان شَرَكا
ولم نكن جارحين
كانتْ أيدينا تُرَبّت
على الظّهر الأملس للسّماء البغلة
عيوننا المتشكّلة قبل أوانها
موجّهة إلى وجوهك التي أزهرتْ مُجدّدا بين الأشواك
حينما
ملفوظةً من قِبَل الإعصار
أنشأتْ أجسامُنا وقد جاشتْ مشاعرها
بِرَكًا
في
الحُرّية
هذا الدّم
أنا كاتبٌ وزني عشرة كيلوغرامات طولي؟ 0,10، دقّقوا، هذا جواز سفري:
المملكة المغربية
الاسم العائليّ ؟
الاسم الشّخصيّ ؟
الجنسيّة ؟
المهنة: متمرّد
العنوان: يهوديّ تائه
البرْد الرّاتع في غرفتي التي تنفتح على الشّارع، ونافذتي التي لا تنغلق ، كتابي المُقَلّبُ بشكلٍ سيّئ، سيْري على غير هُدىً، هدفي، مخّي السّارح الحاضِر متى إذنْ ستكون بَغْلا بشكل أقلّ؟ رأسي، لُقْيَتِي، حافظةُ أوراقي، وجدّي الذي نبشتُ قبره لأعرف إن كان قد غيّرَ مكَانَه، الموتُ الذي يَرفضني، أنا عَفِن، أنا لِحاءُ الشّجرة العجوز المهووسة، لحاءُ شجرة التّفّاح التي تمّ وصْفُها، دمي أو بالعكسِ لِمْفايَ ضاربة إلى السّواد، دمٌ عَدَمٌ، دمُ نحلةٍ، دمي الهائل، دمي بلا اسْمٍ، دمي الذي هو ليلٌ دائما... أُفْرِغُ لوحدي بنوكَ الدّم، دمٌ هو هياجُ حشرة تجوسُ الحديقة حيث الصّداقة معقودة بين المصاطب، دمٌ مُمَلّحٌ مُدَخَّنٌ، دمٌ زلزال يَنطلقُ من إبهام قدمِي... دمٌ نقود مزيّفة، أنْسَلُّ وليس بدافع الخطأ يُسلّمني الدّم كأني جانٍ، أمضي إلى ضوضاء المدن من دون اسم حقيقي، وفي كلّ مكان ألاقي سُحُبًا من الذّرّات، على كلّ خطوط الهاتف تَحطّ كواكب سيئة النوايا وأعمدة مائيّة، لا أتوجّه إليكَ بالكلام إلا لأننا نبقى غير منفصلين، تقول، نحن غير قابلين للانفصال، نحن قابلان للانفصال، أجيب أنا الذي استُحْلِفتُ في اللحظة التي تمّ خلالها اغتيالي، لقد شكّلْتُكَ كما اقتضتْ لياقتي، وبحسب مهارة الفخاخ، دون إسقاط شيء من سحر إله الفودو الذي أطاح به الأوربي ذو الأسنان المشحوذة جيدا واليدين الطّويلتين، الحائزُ معارفَ العظاية الباسمة، وهنالك أبو الآباء، أبو السمكة العجوز التي صنعتْها الرُّتيلاء المُسِنّة أمام أبِي الآباء وأمّ الآباء، لم أجعلْ منك ندّا لله ولا متحكّما في كوكب الأرض، لقد منحتكَ صوتي، فكلّ منا في حِلّ من أمر صاحبه، هذا ما تقوله، وأنا أعترض، وأعلن انتسابي إلى حضارةٍ للنّموس والأفاعي الفوضويّة، لا أعرفُ آسيا، عن طريق السّماع والكتب الضّخمة الجُملِ القوافي الانقلاباتِ حالاتِ الغثيان والدّمُ مثلما مِسْبحة مُهداة إلى الثّائرين السّيّاسيّين المنتمين إلى دمي والذين يقطعون الأنسام والزّاد على من يبغي أن يرتوي منه، طبعا أنا أختفي، أيها الدّم- المحرقة الدّم- البنزين الدّم- المعركة الدّمُ، لا تشُكّوا في قولي إنّي أعاين بوضوح سوء سلوك الدّماء والعيون المصابة باللوكيميا، لا أمرّ دون أن ألحظ السّدود التي يقيمها الدّم، الدّم وسَرْدينةُ الدّم السّوداء، شهدتُ عمليات فَصْدٍ من العنق والعانة، كان ذلك على عرش من الحجر المتبلر وعلى الفراغ الذي يتوسّط الهذيان، وكانت العانس المحتدّة المزاج بسبب مشاقّ العمل في الحقل وحَفْرِ الآبار تغرز رأسَها نفسَه في الحجر وتضحك شِبْهَ نائمة فيما أعْلى منها بلْ على جلدها ترسُمُ الدّكتورة الطّوفانَ، الدّخانَ، الثّلجَ، الحَرْبَ، كانت المنيّة حاضِرة، قلْتُ لنفسي، فهل لها قلب ودمٌ وجسدٌ يمكنه أن يسحرني؟ لا، لقد كان لها شعر طويل رمادي، كانت سوداء غِرْبِـيـبَـةً شَعْرُها مسنونُ الأطراف، المنيّة لم توصف، المنيّة المتسلّطة على الدّم لابدةٌ وسط أحزاننا وانصعاقاتنا التي أبعدْنا عنّا، ولقد ضممتها إلى روحي، منحتُها قلبي، فجعلتْ منه طائرا يصحبها إلى أيّ مكان تقتُلُ فيه وتُعَرّي، تأكل فيه وتسكر، للمنيّة نوايا إيجابية، إنّها تُبرّر ولا تُعاقب وقد مارسْنا الحُبّ المُقدّس لا أعلم لِماذا، صنعتُ لها كعكة بديعة بمنيّي ودمي المرشوش بالدّقيق، هذا لن يُنسيها مُلامساتي، لن يُنسيها قَوْلي لها ابْقَيْ- لا ترحلي- أنا- زوجُك- أنتِ- المُصطفاة- مِن- قِبَلي، ستتذكّر ذلك زمنا طويلا في كُلّ الأحوال، ربّما تَعود في ليلة ما وهي لن تنبثقَ من أحشائي، وستُصَفّق ومن بعيدٍ تناديني يا سيّدا كأنّي قيصر، يا بومةُ كأني القُرصان أو الإعصارُ حاملاَ هذا الاسم، تعال لأسمّمك، تعال لأكسوَك لباسَ رومانيٍّ قديم، لباسا أبيضَ مذهلا، تعالَ أيّها النّسيان، ولْأكُفّ عن الظّنّ، ولْأَرْغب في تجرّع الموت قطرة قطرة، علاماتٌ مُشاةٌ سائقو سيّارات راكبو درّاجاتٍ مُلوكٌ أفّاكون كتّابٌ أنساقٌ منطقيّةٌ جماركُ غزواتٌ، المساءُ يفتحُ المقاهي، المصابيح تقتات من الشّمسِ، الإنسان يُتلف كبده، إنّهم يُرَقّعون دمي، وأشعر بالألم في الأماكن التي تحمرّ من جسدي، يرونني أركض تحت البُسُطِ وتحت الموائد المجبولة من صُهارة المعادن، أنشر العفن في الفسيفساء، أُثَقِّبُ الأرائك، أكسرُ سيقان الأزهار، أَسُدّ المراحيض، لا أُولِي أهمّيّة للنّقود التي تسقط من الجيوب الممزّقة لهؤلاء البسطاء الذين يخافونك، دمي الإغوانة، وأنا دوما أسائل دمي الذي أنعتُه بمطرح نفايات المدينة، بالفأر المُصاب بالطّاعون، بوباء أقمارٍ نتنة، بنقيضِ كُلِّ ما يمنحنا الهناء فنتشبّثُ به أثناء تهاطل المطر إذْ يُصبح الفحم الحجريّ بثمن الدّم، دمي الذي تقيّأتُه، دمي الذي لا يمضي لتناوُلِ الكَرْكَنْدِ مُضمّخَ الشّارب بالطِّيبِ مُصفَّفَ الشَّعر على الطّريقة الإيطاليّة، دمي الأعرجُ، الذي كسَرَ قرونا، الذي يُسَبّبُ الشّيخوخة، دمي الخَسيس، دمي العاديُّ، دمي نسيجُ الملبس الشّتوي الذي أتعلّم فيه التّخفّي، أتعلّمُ فيه عدَّ كِسَرِالجليد حُبيباتِ البَرَدِ، دمي الرّصيفُ، دمي اللقيط الخانع والماكِرُ، الذي ليس كلبا راقيا تصْحبه في الصّالونات سيّدة نُحاسِيّة البسْمة فبسمةُ عَبّادِ الشّمسِ الحقيقيّة لكَ أنت أيّها الدّمُ المُهَذّبُ الذي ينزلق دوما صَوْبَ جذور الفوْضى، دمي الجذامُ، دمي مثل سانْ جوستْ على منصّة الإعدام، دمي إنّكَ ترتجف، دمي إنّك تُتَوِّجُ شِرّيرا حقيقيا، دمي إنّك تُطْلِقُ النّار، دمي عينُك إرهابيّة، دمي لقدْ هربْتَ من رُكامِ حصباءَ أنْشَأتْهُ يَدٌ مُتمرّسَةٌ، دمي الذي فيه تُقرقع سَلاسلُ تَطِنُّ أجراسُ قصور، دمي الذي يقضي مساءً سيئا وسيقضي ليلة رديئة ويومَ اثنينٍ من التّجاعيد، دمي أنت لا تربح في اليانصيب، دمي أنت تسحب خلفك صلصتك الخاثرة التي انبثقت من نُسْغ كواكبَ ذُبِحتْ على الصّوّان وفوق شجرة الخرّوب على آخر الدّوائر الحلزونيّة للدَّوْخَة... دمي اليهوديّ الملياردير، دمي المغربي البروليتاري، دمي الذي لا يَكتب، دمي الذي يرشو اليأس، دمي الذي يُوَبّخ الغيوم والأشجار المُسِنّة...
قصيدة
الزّاحِفُ صوب سُرَّتي التي هي من سيول مغراء
والذي يضرب أعناقَ ياقاتي المنبهرة بالبروق
ساطورٌ كان يحدث أن يضحك
هذه السَّماء الخالية من الملائكة استعادتْ كُلَّ أظافرها
لكنَّ كتلة القنّبِ الخفيَّة تدور بشكل سيّئ
في الأساس نفسِه من حائط الأهوال
الزّاحفِ صوب سُرّتي التي هي من سيول مغراء
قَطِّعوا إذن جسوم عصافيري الوحيدة
أتحدّثُ عن عينٍ تُسكب في كلّ غرام
من العنبر المُرّ
يُدخَّن يُبصَقُ على هذا المُلْصَق الدّعائي لكوكب
يهوي فيه صوتي القزمُ الأسودُ
شبيهُ صوتِ العَلَقة
قطِّعوا إذن جسوم عصافيري الوحيدة
هالتّهديدُ دونما فاصلة قد جُهر به
من طرف مساميرَ معلومةٍ لديَّ انقلبتْ صقورا
شاءت الصّدفة أن تقبعَ ها هنا طريقٌ
وأعناقُ أطفال تبجَّحَ بهم العضوُ الجِنسيّ
المُضخّمُ بالشّيلم
والنّومِ
وهالتّهديدُ دونما فاصلة قد جُهر به
حين تنغرز أظافرُهُ في اللحم الأزرق
للحُسام
يجأرون دوما بماذا ويبكون مَنْ
مخدوع أنا بالصّمت وهذي ليلةٌ سَكْرَى بلا رَحِم
خلالها تَطيرُ الحشرةُ عقيلتي
أقربَ من أيّ قارِبٍ يستطيع البحر أنْ يتذكَّره
حين تنغرز أظافرُهُ في اللحم الأزرق
للحُسام
وَثائقُ كلّ النّيازكِ النُّحاسِيّة ذاتِ الهلوسات
ومسألةُ المستعمرات الفينيقيّة هاته تجتاحني في كامل
شساعتي
تكتسحُ ظلّيَ الذي من نبيذ أحمر
بالصّرخةِ الأنثى لصيّاد الطّيور
لكنْ ما دامتِ الشّمسُ فاكهةً تالفة
لها ظلُّ شهير
فهذا الظّلّ وخيطُه يتسلّلان إلى جِلْدي
وثائقَ لكلّ النّيازِكِ النّحاسِيّةِ ذاتِ الهلوسات
وأرحل مع ما تبقَّى لي من أناي
الذي صرخوا في وجهه
أرحلُ ملتصقا بالرّصيف
رفقةَ تحدِّيَ ذي ألقِ الرّملِ أشربُ
تحت الشَّجرة الكثيفةِ الأوراقِ حيثُ ثعابيني الزوابعُ
تَكسرُ النَّايات
وأرقص منبهرا على شوكةِ بؤبؤيك الخرقاء
وأرحلُ مع ما تبقَّى لي من أناي
الذي صرخوا في وجهه
أُرْغِي بقصائد منعتْها الرّقابة وبمشروبِ أبْسَنْتٍ
لم ينقشع أثرُه أبسنتِ رُكَبٍ مائلةٍ في تحليقها
أُوَجِّهُ شتائمي للرّخوية القابعة في هذه القوقعة
البيضاءِ حيثُ ثبَّتَتِ العادةُ قضبانها
التي تسمّيني الأسدَ المنبجس كالسّائل
الأسدَ ذا السّترةِ غير المألوفة
سترةِ جساراتٍ يعرفها
المستنقع ذو المكانة العليا
أُرْغي بقصائدَ منعتها الرقابة وبمشروبِ أبسنتٍ
الآن أرمي إليكم بِرِئتيّ الطّيّارتين الورقيّتين
بالدّقّة التي تُطَرّي فضائي
وأقول
الرّبيعُ لا يوجد لقد انكسرت فَقَارُ ظَهْره
إذ تعرّضَ لهبّة ريح صوتُها غيرُ مُمَيَّزٍ
(كما النّخلة-السِّجن
التي تكتبكَ أنتَ نفسَك وتُدهِشك)
الآن أرمي إليكم بِرِئتيّ الطّيّارتين الورقيّتين
أراضٍ صُلبة
مُنهَك أنا لكوني عاريا بين عجائب
حياة غريبة صفراء
حيثُ صمتُكِ وولادتي الحقيقية
يقتاتان من الموائد التّذكارية
للعدم الرّقيق البارد
أنتِ النّجمة التي تجرّ خلفها
غيابيا
دماءً هائلة
منهَك لكوني كُسيتُ بياضا بمفعول
بسمات أناسٍ يمشون
إلى الخلف في شارعٍ
لن تشرب فيه لا كلماتُ الكسوف
ولا أسوأ الحكايا الأسطوريّة
الآن أغادركِ من العين الممنوعة
على ارتفاع الزّمن الموقوف فوق ركبتيّ
اللتين ليستا بالخضراوين ولا بالسّمراوين
لكنّ
الضّحكة المنيعة التي تتطاير منها عقبانٌ
تزدري معاذيرَ سُحُب الرّمال
التي تمنحها حنجرتي عُشْرا مقدّسا
إلى كلّ فَـتـيـتَـة خُبز
مثلما يرحل الأفق الطّبيعيّ
من كلّ كلمة تمزجها
بكحول أراضٍ حمراء صُلبة
في إفْرِيقْيَات الدّم
كلمةٌ أجملُ من أن تَكون ينبوع السّماء المكتوبة
منهكٌ أنا بسبب مواكبك
وهذه سحنتي التي كأنها
من أديمِ غليون وإهابِ تَابِيرٍ
لا جريمةِ قتل
هكذا يمكننا أن نعتقد أنّ كلّ مستنقع
يعرف كيف يَبيضُ بيضته
ملغيا ولادتي المزدوِجة
متشبّها في ذلك بالوَزَغَة
إنّه أنا من أَقْمَع
في هذا الزّمن الكسير
زمن المساعي غيرِ النّاجحة
للهاوية
صحراء
أيّها الكلب المتوحّش، الشَّديدُ النّزق، أترغبُ في التّعبير
عن صحراءِ ظلّي التي تبعث على الألم؟
يا ابنَ آوَى لا يظهرُ إلا خلال الليالي غيرِ المُقمرة،
تعالَ وارقُصْ على الجراح الزّاهية لنهارات الهياج.
أمنحكمْ ساعاتٍ مرضوضةً يَنْضَحُ
قيحُها عبر منقار الغُراب.
مدينةٌ مأهولة بالمجانين تنبش
طُرُقًا أصبحتْ مِزَقا.
ذَرّاتي تَطِنّ مثلما شُهُب
في الدّموع المَحْبوسة.
أيّتها الضّباعُ الهائمة، حطّمي هذا الجسد
على الصّقيلة من بين الغيوم.
==================
* نُشِرَتْ هذه النّصوص، في الأصل، في العدد 17/18 من مجلة "البيت" المغربية.
تتميّز كتابة خير الدّين بغناها المذهل بالصّور الفريدة، غير المتوقّعة بل والشّديدة الغرابة أحيانا، وهي تبدو وكأنّها تدْهَم صاحبَها من حيثُ لا يَعلم. فالدّيناميّة الحُلميّة لديه هي دائما في أقصى زخمها، ويَحدثُ أن يمنح الحرّيّة لليد في ممارسة الكتابة الآليّة، وأن يستلذّ اللعب بالكلمات، بلْ وخلقَ كلمات جديدة ( في أحيان نادرة)... وتأثير رامبو على كاتبنا واضح، وقد كان يحفظُ مجموع آثاره الشّعريّة عن ظهر قلب، ويعتبر شعرَه «نارًا ممزوجة بالدّم». كما أنّ للسّورّياليّة حضورها الأساسيّ في ثقافة خير الدّين، فمن بين قصائد مجموعته "شمس عنكبوتيّة"، هنالك واحدة في رثاء أندري بريتون، هي "رفضُ الدَّفن". والشاعر بريتون كان، في زمنه، المنظّر الأكبر للسّوريالية. ومعلوم أنّ هذه الأخيرة كانتْ حركة تجديدية تمسّكتْ بحرّية الخيال وبالحُرّيّة على العُموم، وكانتْ، بصفة عامّة، قريبة من الحركات اليساريّة. وقد كان لها، طبعا، مُعادون، وصلتْ ببعضهمْ الضَّغينة حدّ القول، إثر وفاة بريتون، بأنّ السّوريالية « ماتتْ رفقة أندري بريتون، بعد احتضار طويل...». ممّا نقرؤه في قصيدة خير الدّين المذكورة: «لا أبكي هذا الدَّمَ الذي وُوجِهَ بالصّراخ المعادي / بل طيران جوارح / حتّى العلوّ الذي يحمل فيه الدّمُ سماتِه التي لا تتبدّل / (...) / الكلمة الأخيرة لا توجَد. ديناميتُ الكلمة الأولى يكفي. / يا أناسا هم براميلُ بارودي، يا أناسا مُحَصَّنين ضِدّ الإنسان / يا إنسانا لمْ يَعُدْ له وقتٌ للشّكّ / يا إنسانا هو نظرة ضائعة، / حين تبلغُ القصيدة أقصى خُضْرَة الهذيان وتُعيدُ الصّحراء كلّ الشّفافيّة لذلك الألم غير المتقطّع الذي كان يُحَرِّكُك / يا أندري بريتون /... / تُواجِهُني العين / أبيعُ موتي. / (...) / أحيّي هذا الحصان الذي هوى من حالِق / أندري بريتون / الذي تنبجس منه القصيدة كالجنّية / ... ».
ولا يَدور، طبعا، بخَلد أحد أن يعتبر خير الدّين سورياليا أو منتميا إلى أيٍّ من المدارس الأدبيّة، فكاتبٌ من صنفه لا يُطيقُ العيش بين الجُدران العازلة التي تحيطُ بها الجماعات «المغلقة» نفسها. لكنّ المهمّ هو أنّ صاحب "شمس عنكبوتيّة" لم يكنْ "لامباليا" إزاء حركة شعريّة تركتْ بصماتِها على أحسن ما كُتِبَ بَعْدَها من شِعر. كما أنّ تأثيرها علـي شعره واضح، فلولا ذلك التّأثير لما قرأنا لـخير الدّين: « أُشَمِّسُ جرائمَ الرّبيع»؛ « الأنهار ترمي أكياسَ شموس»؛ « أتحدّثُ عن عينٍ مَصبوبة في كلّ غرام من العنبر المُرّ»؛ « تموت فجأة/ في الواقِع أنت تَشْهَرُ جذورك/ في ظلّي غير القابل للتّوقُّع حيثُ يتأمّلك بتأثُّر/ رجالُ الساقية الحمراء/ ترسَّبْ فوق الرّيح الشّرقيّة التي غطّاك بها نهرُ السِّين» ( هذا المقطع الأخير هو من قصيدة " وصف راية"، المُهداة إلى الشّهيد المهدي بن بركة).
ثمّ إنّ علينا أن نستحضر عددا من الأمور الأخرى الأساسيّة لدى حديثنا عن خير الدّين: فهنالك انتماؤه الجِذرى، "الحَشَويّ"، الحميم، إلى بُسطاء النّاس من أبناء الشّعب، بل من مختلِف الشّعوب، وتَشَبّعه، خاصّة، بالإرث الثّقافي لأهل الجنوب المغربي، وهنالك عدم ممالأته للقارئ، من جهة ثانية، أي أنّه كان يكتب كما كان ينبغي أن يكتب - حتّى لو اعتبر البعضُ كتاباتِه «مُعَقّدةً» أو «مستغلقةً» على المتلقّي– وبهذا يُتاحُ لذاكَ المُتلقّي أنْ يُمارسَ القراءة المُبدِعة، لا «التلقّيّ» السّلبي. ومن خلال ما أشرْنا إليه، نفهم العلاقة الأدبية الحميمة التي جمعتْ خير الدّين بشعراء الزّنوجة ( سنغور، إيمي سيزيرْ، لِيُونْ غونتران داماسْ...)، ورفضَهُ لضروبِ التّسلّط، وحضورَ الجنوب المغربي في العديد من رواياته...
وُلِدَ خير الدّين سنة 1941، في قرية أزْرُو واضو ( حَجَر الرّيح، بالأمازيغيّة)، قُرْبَ تافراوت، في الجنوب المغربي. هاجَرَ والِدُهُ إلى الدّار البيضاء، لِتعاطي التّجارة، وبقي هو في مسقط رأسه حتّى السّابعة أو الثّامنة، رفقةَ أمه التي « لم تَكُن تُحِبّه، لكنّها لم تكنْ تَضرِبُه» - كما كتب في أحد نُصوصِه - وجَدِّه، الذي سيتركُ في وجدانِه أثَرا قويّا. أمّا علاقتُهُ بأبيه فستشهدُ توتّرات حادّة، خاصّةً إثر تطليق هذا الأخير للأمّ. هذه العلاقات ستبرز في العديد من كتابات خير الدّين، حيثُ كثيرا ما يستعيدُ زمن طفولته وأمكنتها... حسب الشّاعر الفرنسي جان بول ميشيل، وهو صديق حميم لخير الدّين وناشِرُ عددٍ من أعمالِه، فإنّ سِنّ الحادية عشرة، التي عاش خلالها خير الدّين الطِّفل حادثة تطليق الأمّ باعتبارِها (أي حادثة التّطليق) تجسيدا للعسـف وللظّلم، هي التي شهـدتْ لديه مَنْشأ « التّمرّد على الأب والعائلة و الدّين والسُّلطات القائمة»، هذا التَّمرُّد الذي « سيُحَدِّدُ بعمق مسار حياة الشّاعر».
شرع خير الدّين في كتابة الشِّعر، وهو بعدُ تلميذ بإحدى ثانويات الدّار البيضاء، وكان مصطفى النّيسابوري (الذي سيصبح بدوره شاعرا معروفا انطلاقا من أواخر ستينيات القرن العشرين) من زملائه في الدّراسة، وجمعتْ بينهما صداقة متينة كَرَّسَ لها محمّد خير الدّين صفحات جميلة من روايته " حياة وحُلم وشعبٌ، دوما في التّيه"... أنجزَ خير الدّين مُحاولاتِه الشّعريّة الأولى بالعربيّة، متأثّرا بالقصائد التي كان يُغَنّيها محمّد عبد الوهاب، لكنّه سرعان ما أدرك أنّ اللغة التي يُحْسِنُها فِعلا هي الفرنسيّة، فانتقل إلى التّعبير بِها. وتخلّى عن مُتابعة الدِّراسة إثْر حصولِه على البكالوريا. بعد الزّلزال الذي ضرب أغادير (1960)، اشتغل لحساب الضّمان الاجتماعي في تلك المدينة المنكوبة، لفترة محدودة (1961-1963)، وقد شكّلتْ هذه التّجربة منطلقـا وخلفيّة لروايته "أغادير"، التي صدرتْ عن منشورات سُويْ سنة 1967 ( كان عنوانُها، في الأصل، هو "التّحقيق"، لكنّ ناشِرها آثر تسمية "أغادير"، باعتبار أثر اسْمِ المدينة المُدَمّرة في أذهان القُرّاء وقتها). ونحن ننعت "أغادير" بالرّواية، على وجه التّقريب، إذْ في هذا العمل، كمـا في "حكاية إلـه طيّب" أو "أنا الحامض"... يَدمج خير الدّين السّرد والشّعر والمسرح والخطاب الشّفويّ في نطاق ما كان يُسَمّيه بالكتابة (كما أسلفت). وقد احتفت الأوساط الأدبيّة الفرنسيَّة بِ"أغادير"، واعتبرتْ صاحِبَها « كاتبا استِثْنائيا».
عاشَ خير الدّين حياة صعبة، أثناء إقامته المديدة في باريس - من أواخر 1965 حتّى أبريل 1979- و كان من الذين ساندوه: سارتر، بيكيت، ميشال ليرِيسْ... وفي باريس، تزوّج بِآنّي ديفوار، وأنجبا ولدا (ألكسندر)... وانفصلا. وبعد عودتِه إلى المغرب، وحتّى وفاتِه بسرطان الفكّ في 18 نونبر 1995، واجه ظروفا قاسية في أغلب الأوقات... ورغم كلّ ذلك، تمكّن خلال عُمره القصير، وبشجاعة واقتدار نادرين، من إنجاز أعمال أدبيّـة أصيلة، نذكـر من بينهـا: في مجال الرّواية: أغادير ( 1967)، "جِسْمٌ سالب، يليه: قِصّة إله طيّب" ( سُويْ، 1968)، أنا الحامِـض ( سُوي، 1970)، النّبّاش ( سُويْ، 1973)، رائحة الوَدَك (سوي، 1976)، أسطورة أغونشيش وحياتُه ( سُويْ، 1984)... وفي نطاق الشّعر: شمس عنكبوتيّة ( سُويْ، 1969)، هذا المغرب (سُوي، 1975)، انبعاثُ الأزهار البرّيّة ( منشورات الستوكي، الرّباط، 1981)،... وبعد وفاتِه، ظهرَتْ لهُ أعمالٌ لمْ تكنْ بَعْدُ قدْ نُشِرتْ، من بينها رواية بعنوان: "كان هنالك زوجان مُسِنّان سعيدان" (سوي، 2001)، ومجموعة قصص: "الدّفن ومقطوعات نثريّة أخرى وجيزة" (منشورات وِليم بليك والشّركاء، 2009)...
في مقدّمته لِ"شمس عنكبوتية" (في طبعتها الجديدة، الصّادرة ضمن سلسلة شعر/ غاليمار، 2009)، يقول الشّاعر جان بول ميشال - وهو بالمناسبة صاحب دار نشر William Blake and Co - عن خير الدّين، إنّ الكتابة نَصَّبَتْه « بطلا للعُزلة أمام كلّ الثّقافـات... محاوِرا لكلّ اللغات...». ويقول أيضا: « لم أعهَدْ لديْهِ ضغينةً قَطّ».
تبقى إشارة أودّ أن أورِدَها هنا، وتتعلّقُ بواحد من نصوص خير الدّين التي أخصّها بهذا التّقديم، أعني النّصّ الذي اخترتُ لهُ عنوان "هذا الدّم". فهو مقتبس من "أغادير"، التي تُصنَّفُ عادةً كرواية، لكنّ خير الدّين كان قد نشر ما يشكّل قسما كبيرا منه في العدد الثّاني من مجلّة أنفاس تحت عنوان "دماء"، باعتباره أقرب إلى الشّعر، كما قال عنه هو نفسُه... ولن يستعصي على القارئ إدراكُ الطّابع الشِّعْرِيّ لِ"هذا الدّم". أمّا القصائد الأخرى التي أقدّم في ما يلي فمستقاة من مجموعتين شعريتين، هما: "شمس عنكبوتيّة"، و"انبعاثُ الأزهار البَرّية".
*****
النّصوص:
آنِّيغاتور
إنّه حُلْمٌ له جِلْدُ أُمِّ أربع وأربعين يمتطي ظهري
يَبْهَرُ ظلّي إنّه سمكةٌ إنّه خاصرةٌ لا تستكين
دمُه يضعُ جسمي الذي هو جسمُ الرّيح الشّرقيّة
على فَمٍ مُجلّل بالرّماد على الحِبْر
إنّه نفْثَةُ هَوْلٍ لا يُعَوَّض إنّه عصفور حفّارٌ
ومعه الأوراق التي تَصْحَبُهُ مهتاجةً
عبْرَ السُّيول السَّريعة حيثُ البروق تُطْلِق
مقصّاتنا من إسارِها
إنّها هي التي تُمدّد
هذا الظّلَّ المكوّن من حواجزَ مُرتجلة
ومن حشراتٍ
زَحفتْ عبر دماغي
تُمدِّدهُ خلفي
حيث أجعل مهاوي عينيها تنفثُ
نجوما صقيلة
إنها هي حين أتبرَّع على نفسي بليلة
شَوَتْها شُموسٌ
وكلماتٌ ستكسر أنابيبكم خلال نهار
مشتبه في أمره!
إلى جان ديفوار
شموس الأحلام، الرّهيبةُ
جُثَثُ الأقمار والصّحراء، الدّبقةُ
تَكُونُ تحت إبط مُهرِّب البشر عبر الحدود
أكثرَ عددا من عصافير الأرض قاطبة
حين يرسمُ البحر المُترجّح نتيجةَ تسمّم الطّحالب المُرّة
صِلة وَصْلٍ بين
السّماء اللّدنة ووجهك، وجه الغزالة السّوداء
القبور هوتْ على الأنهار الباردة
كان ثمّة سلاحٌ ضروري: لساني النّاشف لساني الأعمى
باصقا من جديد أحصنة عنيدة
عليها تنطلق الخرافات في الفضاء
ولا غنى عنها في مراسم إضفاء القُدُسِيّة
على ربيع بقرتْ بطنَه
أقدامُنا المتصلّبة
وها الكلبُ المائل الجسم، كلبُ التّهديدات
المُداوَرة
يتمدّدُ لِصْقَ جلدي
سماءً قريبة تتلقّى القذائفَ
تنهبُ وجوهنا
الأحافيرُ المُحتَدّة البِزَزُ
وهذا المرضُ
على حَدقاتها الرّماديّة
جسرٌ
وصمتٌ خلال دبيب هذه العذابات
لكنْ
ما الزّهرة إنْ لم تكنْ موتَ الرّتيلاء
أقولُ هذه النّار البيضاء والسّوداء أو البنفسجيّة
بين السقوف النّائيّة العتيقة
أقول الطّائرة- الذُّبابةُ- الغريبة على أعناقنا الخضراء
ألم نَغرقْ منذُ قرون هذا ما كنّا عنه
نتساءل
أقول هذا الأمرَ التّلقائي هذه البدلةُ
لباسُ العُقاب الذي وُلِدَ ميِّتا
لا أقول شيئا ولْنَمُرَّ على القليل القليل
من العُرَى المتشظّية
القبور هوتْ على الأنهار الباردة
سَيْرُنا كان شَرَكا
ولم نكن جارحين
كانتْ أيدينا تُرَبّت
على الظّهر الأملس للسّماء البغلة
عيوننا المتشكّلة قبل أوانها
موجّهة إلى وجوهك التي أزهرتْ مُجدّدا بين الأشواك
حينما
ملفوظةً من قِبَل الإعصار
أنشأتْ أجسامُنا وقد جاشتْ مشاعرها
بِرَكًا
في
الحُرّية
هذا الدّم
أنا كاتبٌ وزني عشرة كيلوغرامات طولي؟ 0,10، دقّقوا، هذا جواز سفري:
المملكة المغربية
الاسم العائليّ ؟
الاسم الشّخصيّ ؟
الجنسيّة ؟
المهنة: متمرّد
العنوان: يهوديّ تائه
البرْد الرّاتع في غرفتي التي تنفتح على الشّارع، ونافذتي التي لا تنغلق ، كتابي المُقَلّبُ بشكلٍ سيّئ، سيْري على غير هُدىً، هدفي، مخّي السّارح الحاضِر متى إذنْ ستكون بَغْلا بشكل أقلّ؟ رأسي، لُقْيَتِي، حافظةُ أوراقي، وجدّي الذي نبشتُ قبره لأعرف إن كان قد غيّرَ مكَانَه، الموتُ الذي يَرفضني، أنا عَفِن، أنا لِحاءُ الشّجرة العجوز المهووسة، لحاءُ شجرة التّفّاح التي تمّ وصْفُها، دمي أو بالعكسِ لِمْفايَ ضاربة إلى السّواد، دمٌ عَدَمٌ، دمُ نحلةٍ، دمي الهائل، دمي بلا اسْمٍ، دمي الذي هو ليلٌ دائما... أُفْرِغُ لوحدي بنوكَ الدّم، دمٌ هو هياجُ حشرة تجوسُ الحديقة حيث الصّداقة معقودة بين المصاطب، دمٌ مُمَلّحٌ مُدَخَّنٌ، دمٌ زلزال يَنطلقُ من إبهام قدمِي... دمٌ نقود مزيّفة، أنْسَلُّ وليس بدافع الخطأ يُسلّمني الدّم كأني جانٍ، أمضي إلى ضوضاء المدن من دون اسم حقيقي، وفي كلّ مكان ألاقي سُحُبًا من الذّرّات، على كلّ خطوط الهاتف تَحطّ كواكب سيئة النوايا وأعمدة مائيّة، لا أتوجّه إليكَ بالكلام إلا لأننا نبقى غير منفصلين، تقول، نحن غير قابلين للانفصال، نحن قابلان للانفصال، أجيب أنا الذي استُحْلِفتُ في اللحظة التي تمّ خلالها اغتيالي، لقد شكّلْتُكَ كما اقتضتْ لياقتي، وبحسب مهارة الفخاخ، دون إسقاط شيء من سحر إله الفودو الذي أطاح به الأوربي ذو الأسنان المشحوذة جيدا واليدين الطّويلتين، الحائزُ معارفَ العظاية الباسمة، وهنالك أبو الآباء، أبو السمكة العجوز التي صنعتْها الرُّتيلاء المُسِنّة أمام أبِي الآباء وأمّ الآباء، لم أجعلْ منك ندّا لله ولا متحكّما في كوكب الأرض، لقد منحتكَ صوتي، فكلّ منا في حِلّ من أمر صاحبه، هذا ما تقوله، وأنا أعترض، وأعلن انتسابي إلى حضارةٍ للنّموس والأفاعي الفوضويّة، لا أعرفُ آسيا، عن طريق السّماع والكتب الضّخمة الجُملِ القوافي الانقلاباتِ حالاتِ الغثيان والدّمُ مثلما مِسْبحة مُهداة إلى الثّائرين السّيّاسيّين المنتمين إلى دمي والذين يقطعون الأنسام والزّاد على من يبغي أن يرتوي منه، طبعا أنا أختفي، أيها الدّم- المحرقة الدّم- البنزين الدّم- المعركة الدّمُ، لا تشُكّوا في قولي إنّي أعاين بوضوح سوء سلوك الدّماء والعيون المصابة باللوكيميا، لا أمرّ دون أن ألحظ السّدود التي يقيمها الدّم، الدّم وسَرْدينةُ الدّم السّوداء، شهدتُ عمليات فَصْدٍ من العنق والعانة، كان ذلك على عرش من الحجر المتبلر وعلى الفراغ الذي يتوسّط الهذيان، وكانت العانس المحتدّة المزاج بسبب مشاقّ العمل في الحقل وحَفْرِ الآبار تغرز رأسَها نفسَه في الحجر وتضحك شِبْهَ نائمة فيما أعْلى منها بلْ على جلدها ترسُمُ الدّكتورة الطّوفانَ، الدّخانَ، الثّلجَ، الحَرْبَ، كانت المنيّة حاضِرة، قلْتُ لنفسي، فهل لها قلب ودمٌ وجسدٌ يمكنه أن يسحرني؟ لا، لقد كان لها شعر طويل رمادي، كانت سوداء غِرْبِـيـبَـةً شَعْرُها مسنونُ الأطراف، المنيّة لم توصف، المنيّة المتسلّطة على الدّم لابدةٌ وسط أحزاننا وانصعاقاتنا التي أبعدْنا عنّا، ولقد ضممتها إلى روحي، منحتُها قلبي، فجعلتْ منه طائرا يصحبها إلى أيّ مكان تقتُلُ فيه وتُعَرّي، تأكل فيه وتسكر، للمنيّة نوايا إيجابية، إنّها تُبرّر ولا تُعاقب وقد مارسْنا الحُبّ المُقدّس لا أعلم لِماذا، صنعتُ لها كعكة بديعة بمنيّي ودمي المرشوش بالدّقيق، هذا لن يُنسيها مُلامساتي، لن يُنسيها قَوْلي لها ابْقَيْ- لا ترحلي- أنا- زوجُك- أنتِ- المُصطفاة- مِن- قِبَلي، ستتذكّر ذلك زمنا طويلا في كُلّ الأحوال، ربّما تَعود في ليلة ما وهي لن تنبثقَ من أحشائي، وستُصَفّق ومن بعيدٍ تناديني يا سيّدا كأنّي قيصر، يا بومةُ كأني القُرصان أو الإعصارُ حاملاَ هذا الاسم، تعال لأسمّمك، تعال لأكسوَك لباسَ رومانيٍّ قديم، لباسا أبيضَ مذهلا، تعالَ أيّها النّسيان، ولْأكُفّ عن الظّنّ، ولْأَرْغب في تجرّع الموت قطرة قطرة، علاماتٌ مُشاةٌ سائقو سيّارات راكبو درّاجاتٍ مُلوكٌ أفّاكون كتّابٌ أنساقٌ منطقيّةٌ جماركُ غزواتٌ، المساءُ يفتحُ المقاهي، المصابيح تقتات من الشّمسِ، الإنسان يُتلف كبده، إنّهم يُرَقّعون دمي، وأشعر بالألم في الأماكن التي تحمرّ من جسدي، يرونني أركض تحت البُسُطِ وتحت الموائد المجبولة من صُهارة المعادن، أنشر العفن في الفسيفساء، أُثَقِّبُ الأرائك، أكسرُ سيقان الأزهار، أَسُدّ المراحيض، لا أُولِي أهمّيّة للنّقود التي تسقط من الجيوب الممزّقة لهؤلاء البسطاء الذين يخافونك، دمي الإغوانة، وأنا دوما أسائل دمي الذي أنعتُه بمطرح نفايات المدينة، بالفأر المُصاب بالطّاعون، بوباء أقمارٍ نتنة، بنقيضِ كُلِّ ما يمنحنا الهناء فنتشبّثُ به أثناء تهاطل المطر إذْ يُصبح الفحم الحجريّ بثمن الدّم، دمي الذي تقيّأتُه، دمي الذي لا يمضي لتناوُلِ الكَرْكَنْدِ مُضمّخَ الشّارب بالطِّيبِ مُصفَّفَ الشَّعر على الطّريقة الإيطاليّة، دمي الأعرجُ، الذي كسَرَ قرونا، الذي يُسَبّبُ الشّيخوخة، دمي الخَسيس، دمي العاديُّ، دمي نسيجُ الملبس الشّتوي الذي أتعلّم فيه التّخفّي، أتعلّمُ فيه عدَّ كِسَرِالجليد حُبيباتِ البَرَدِ، دمي الرّصيفُ، دمي اللقيط الخانع والماكِرُ، الذي ليس كلبا راقيا تصْحبه في الصّالونات سيّدة نُحاسِيّة البسْمة فبسمةُ عَبّادِ الشّمسِ الحقيقيّة لكَ أنت أيّها الدّمُ المُهَذّبُ الذي ينزلق دوما صَوْبَ جذور الفوْضى، دمي الجذامُ، دمي مثل سانْ جوستْ على منصّة الإعدام، دمي إنّكَ ترتجف، دمي إنّك تُتَوِّجُ شِرّيرا حقيقيا، دمي إنّك تُطْلِقُ النّار، دمي عينُك إرهابيّة، دمي لقدْ هربْتَ من رُكامِ حصباءَ أنْشَأتْهُ يَدٌ مُتمرّسَةٌ، دمي الذي فيه تُقرقع سَلاسلُ تَطِنُّ أجراسُ قصور، دمي الذي يقضي مساءً سيئا وسيقضي ليلة رديئة ويومَ اثنينٍ من التّجاعيد، دمي أنت لا تربح في اليانصيب، دمي أنت تسحب خلفك صلصتك الخاثرة التي انبثقت من نُسْغ كواكبَ ذُبِحتْ على الصّوّان وفوق شجرة الخرّوب على آخر الدّوائر الحلزونيّة للدَّوْخَة... دمي اليهوديّ الملياردير، دمي المغربي البروليتاري، دمي الذي لا يَكتب، دمي الذي يرشو اليأس، دمي الذي يُوَبّخ الغيوم والأشجار المُسِنّة...
قصيدة
الزّاحِفُ صوب سُرَّتي التي هي من سيول مغراء
والذي يضرب أعناقَ ياقاتي المنبهرة بالبروق
ساطورٌ كان يحدث أن يضحك
هذه السَّماء الخالية من الملائكة استعادتْ كُلَّ أظافرها
لكنَّ كتلة القنّبِ الخفيَّة تدور بشكل سيّئ
في الأساس نفسِه من حائط الأهوال
الزّاحفِ صوب سُرّتي التي هي من سيول مغراء
قَطِّعوا إذن جسوم عصافيري الوحيدة
أتحدّثُ عن عينٍ تُسكب في كلّ غرام
من العنبر المُرّ
يُدخَّن يُبصَقُ على هذا المُلْصَق الدّعائي لكوكب
يهوي فيه صوتي القزمُ الأسودُ
شبيهُ صوتِ العَلَقة
قطِّعوا إذن جسوم عصافيري الوحيدة
هالتّهديدُ دونما فاصلة قد جُهر به
من طرف مساميرَ معلومةٍ لديَّ انقلبتْ صقورا
شاءت الصّدفة أن تقبعَ ها هنا طريقٌ
وأعناقُ أطفال تبجَّحَ بهم العضوُ الجِنسيّ
المُضخّمُ بالشّيلم
والنّومِ
وهالتّهديدُ دونما فاصلة قد جُهر به
حين تنغرز أظافرُهُ في اللحم الأزرق
للحُسام
يجأرون دوما بماذا ويبكون مَنْ
مخدوع أنا بالصّمت وهذي ليلةٌ سَكْرَى بلا رَحِم
خلالها تَطيرُ الحشرةُ عقيلتي
أقربَ من أيّ قارِبٍ يستطيع البحر أنْ يتذكَّره
حين تنغرز أظافرُهُ في اللحم الأزرق
للحُسام
وَثائقُ كلّ النّيازكِ النُّحاسِيّة ذاتِ الهلوسات
ومسألةُ المستعمرات الفينيقيّة هاته تجتاحني في كامل
شساعتي
تكتسحُ ظلّيَ الذي من نبيذ أحمر
بالصّرخةِ الأنثى لصيّاد الطّيور
لكنْ ما دامتِ الشّمسُ فاكهةً تالفة
لها ظلُّ شهير
فهذا الظّلّ وخيطُه يتسلّلان إلى جِلْدي
وثائقَ لكلّ النّيازِكِ النّحاسِيّةِ ذاتِ الهلوسات
وأرحل مع ما تبقَّى لي من أناي
الذي صرخوا في وجهه
أرحلُ ملتصقا بالرّصيف
رفقةَ تحدِّيَ ذي ألقِ الرّملِ أشربُ
تحت الشَّجرة الكثيفةِ الأوراقِ حيثُ ثعابيني الزوابعُ
تَكسرُ النَّايات
وأرقص منبهرا على شوكةِ بؤبؤيك الخرقاء
وأرحلُ مع ما تبقَّى لي من أناي
الذي صرخوا في وجهه
أُرْغِي بقصائد منعتْها الرّقابة وبمشروبِ أبْسَنْتٍ
لم ينقشع أثرُه أبسنتِ رُكَبٍ مائلةٍ في تحليقها
أُوَجِّهُ شتائمي للرّخوية القابعة في هذه القوقعة
البيضاءِ حيثُ ثبَّتَتِ العادةُ قضبانها
التي تسمّيني الأسدَ المنبجس كالسّائل
الأسدَ ذا السّترةِ غير المألوفة
سترةِ جساراتٍ يعرفها
المستنقع ذو المكانة العليا
أُرْغي بقصائدَ منعتها الرقابة وبمشروبِ أبسنتٍ
الآن أرمي إليكم بِرِئتيّ الطّيّارتين الورقيّتين
بالدّقّة التي تُطَرّي فضائي
وأقول
الرّبيعُ لا يوجد لقد انكسرت فَقَارُ ظَهْره
إذ تعرّضَ لهبّة ريح صوتُها غيرُ مُمَيَّزٍ
(كما النّخلة-السِّجن
التي تكتبكَ أنتَ نفسَك وتُدهِشك)
الآن أرمي إليكم بِرِئتيّ الطّيّارتين الورقيّتين
أراضٍ صُلبة
مُنهَك أنا لكوني عاريا بين عجائب
حياة غريبة صفراء
حيثُ صمتُكِ وولادتي الحقيقية
يقتاتان من الموائد التّذكارية
للعدم الرّقيق البارد
أنتِ النّجمة التي تجرّ خلفها
غيابيا
دماءً هائلة
منهَك لكوني كُسيتُ بياضا بمفعول
بسمات أناسٍ يمشون
إلى الخلف في شارعٍ
لن تشرب فيه لا كلماتُ الكسوف
ولا أسوأ الحكايا الأسطوريّة
الآن أغادركِ من العين الممنوعة
على ارتفاع الزّمن الموقوف فوق ركبتيّ
اللتين ليستا بالخضراوين ولا بالسّمراوين
لكنّ
الضّحكة المنيعة التي تتطاير منها عقبانٌ
تزدري معاذيرَ سُحُب الرّمال
التي تمنحها حنجرتي عُشْرا مقدّسا
إلى كلّ فَـتـيـتَـة خُبز
مثلما يرحل الأفق الطّبيعيّ
من كلّ كلمة تمزجها
بكحول أراضٍ حمراء صُلبة
في إفْرِيقْيَات الدّم
كلمةٌ أجملُ من أن تَكون ينبوع السّماء المكتوبة
منهكٌ أنا بسبب مواكبك
وهذه سحنتي التي كأنها
من أديمِ غليون وإهابِ تَابِيرٍ
لا جريمةِ قتل
هكذا يمكننا أن نعتقد أنّ كلّ مستنقع
يعرف كيف يَبيضُ بيضته
ملغيا ولادتي المزدوِجة
متشبّها في ذلك بالوَزَغَة
إنّه أنا من أَقْمَع
في هذا الزّمن الكسير
زمن المساعي غيرِ النّاجحة
للهاوية
صحراء
أيّها الكلب المتوحّش، الشَّديدُ النّزق، أترغبُ في التّعبير
عن صحراءِ ظلّي التي تبعث على الألم؟
يا ابنَ آوَى لا يظهرُ إلا خلال الليالي غيرِ المُقمرة،
تعالَ وارقُصْ على الجراح الزّاهية لنهارات الهياج.
أمنحكمْ ساعاتٍ مرضوضةً يَنْضَحُ
قيحُها عبر منقار الغُراب.
مدينةٌ مأهولة بالمجانين تنبش
طُرُقًا أصبحتْ مِزَقا.
ذَرّاتي تَطِنّ مثلما شُهُب
في الدّموع المَحْبوسة.
أيّتها الضّباعُ الهائمة، حطّمي هذا الجسد
على الصّقيلة من بين الغيوم.
==================
* نُشِرَتْ هذه النّصوص، في الأصل، في العدد 17/18 من مجلة "البيت" المغربية.