وقفت على استعداد لمغادرة منزلنا الفقير، الرابض في سكون تلك الفيافي الريفية الهادئة ، قاصدا مدينة القيروان، لمواصلة الدراسة بمدرسة ترشيح المعلمين. مازلت أذكر ذلك الجو المثقل بالصمت، والجمود اللذين خيما على ملامح الحاضرين، في ذلك الصباح الخريفي الباهت، وصرنا واجمين، نحملق في فراغ كئيب مظلم، أحدثه غياب أمي بالبيت منذ أكثر من أسبوع. لم يكن باستطاعتها الوقوف أمام عاصفة الغضب التي اجتاحت أبي حين قرر، بكل صرامة، أن لا بقاء لها بالبيت. فغادرت، مغلوبة على أمرها، إلى منزل أخيها، غير بعيد، على مشارف قرية جبلية.
الكل، في بيتنا، يدرك أن لا سبيل لمناقشة أبي، إذا ما تعلق الأمر بقرارته الصارمة ؛ فتلك طبيعة ترسخت لديه، وازدادت صلابة بفعل تجربته القاسية التي عاشها مجندا، لسنوات انتهت، بتوقف تلك الحرب العالمية الطاحنة، المدمرة.
سلمت على أخي، وأختي، واستدرت إلى المكان الذي اعتادت أمي الجلوس فيه، فتراءى لي طيفها، وبدت لي، منشرحة الملامح، فاتحة ذراعيها لتعانقني، وتضمني الى صدرها ضما ، وهي تدعو لي بصوت متهدج، وكلمات أغرقتها الدموع : "اِمْضِ يا بني ! صحبتك السلامة ! "
اِنتصف النهار، فغادرت المنزل بمعية والدي وزميلي، الذي اتخذ معي نفس الوجهة، وقاسمني نفس الطريق.
وقد تقرر أن نبيت ليلة سفرنا، بمنزل أحد الأقرباء المقيمين بصفاقس، قبل التحول إلى القيروان .
اِنقضت تلك الليلة، الطويلة المثقلة بالأرق، وبمشاعر التوتر والترقب . كيف لا، ونحن ماضون إلى مكان لم نكن نعرفه من قبل، ولن يكون العيش فيه، كما كان شأننا في سابق الأيام. كنا على يقين من أنه، بسبب بعد وجهتنا الجديدة، لأكثر من مائتي كيلومتر عن ديارنا، لن يتسنى لنا اللقاء بالأهل إلا في العطل المدرسية.
حلت الساعة الخامسة فجرا، فألفيتني، صحبة أبي ورفيقي، متسللين من دار مضيفنا، سيرا على الأقدام، سالكين الطريق المؤدية إلى محطة النقل القريبة، نستعجل الخطى عبر الأنهج الضيقة والأزقة الساكنة المظلمة.
اِنطلقت بنا الحافلة مسرعة، تطوي المسافات، وقد امتزج دوي محركها المزمجر، بأحاديث المسافرين، وأصواتهم المتعالية، التي باتت تقرع رؤوسنا، وتملؤها ضجيجا صاخبا.
اِنبلج الصبح، وأشرقت الشمس لتضيء مدينة القيروان، التي لاحت من بعيد بمبانيها البيضاء السامقة، تتوسطها صومعة جامع عقبة، لتضفي على جمال عمرانها بهاء، وتزيده رونقا وإشراقا.
تنسحب الدقائق مسرعة، وإذا بالحافلة تتوغل بنا في المدينة وسط شارع واسع طويل، وتمضي متهادية، لينتهي بها السير إلى محطة مكتظة بالحافلات، مزدحمة بالمسافرين الغادين، والرائحين، في حركة دؤوبة، لا تهدأ كامل اليوم .
اِلتفت، فإذا بناية مدرسة ترشيح المعلمين تنتصب، محاذية للمحطة حيث انتهت سفرتنا. وبعد هنيهة، وجدت نفسي أتخطى المدخل الرئيسي لتلك المنارة العلمية، وألج ، لأول مرة، بهوها الخارجي. أنهينا إجراءات التسجيل بالمبيت المدرسي، ثم خرجنا في جولة بالمدينة، عدنا بعدها عند الظهر، لنمكث في انتظار أن يؤذن لنا بالدخول إلى المبيت، وترتيب استعدادنا لصباح الغد موعد افتتاح العام الدراسي .
فجأة، أدرت بصري فإذا بأبي قد غاب عن ناظري، ولم أعد أراه، وسط الملإ من التلاميذ ومن رافقهم من الأولياء، الذين تجمعوا قبالة المدرسة. كنت أظن أن ابتعاده لن يطول كثيرا، وسوف يعود لرؤيتنا، قبل رجوعه إلى صفاقس.
مر وقت، سرحت فيه بذهني، واختلطت في رأسي الهواجس، وإذا برفيقي يوقظني من شرودي، ليعلمني بأن أبي أسر إليه، قبل انصرافه، بأن وقت العودة قد حان، وأن عليه أن يبرح المكان.
حينها، أدركت أن الاِنسحاب الخفي، الذي ارتآه أبي، لم يكن إلا ليختصر على نفسه وعلي، لحظات القلق والاِنزعاج مجددا.
لاريب، أنه أحس بتأثري الشديد، بالأمس، وأنا أغادر المنزل دون توديع أمي، فحاول أن يرمم ما ألم بي من فراغ نفسي، عازما على مصاحبتي في رحلتي تلك.
وعلى الرغم من ذلك ، ظل الشوق يهزني لملاقاة أمي، وبات يلازمني حتى عودتي إلى ربوعنا ، في أعقاب ثلاثية دراسية قاسية، ومضنية، بقيت تفاصيلها، إلى اليوم، محفورة في الذاكرة.
الهادي نصيرة
الكل، في بيتنا، يدرك أن لا سبيل لمناقشة أبي، إذا ما تعلق الأمر بقرارته الصارمة ؛ فتلك طبيعة ترسخت لديه، وازدادت صلابة بفعل تجربته القاسية التي عاشها مجندا، لسنوات انتهت، بتوقف تلك الحرب العالمية الطاحنة، المدمرة.
سلمت على أخي، وأختي، واستدرت إلى المكان الذي اعتادت أمي الجلوس فيه، فتراءى لي طيفها، وبدت لي، منشرحة الملامح، فاتحة ذراعيها لتعانقني، وتضمني الى صدرها ضما ، وهي تدعو لي بصوت متهدج، وكلمات أغرقتها الدموع : "اِمْضِ يا بني ! صحبتك السلامة ! "
اِنتصف النهار، فغادرت المنزل بمعية والدي وزميلي، الذي اتخذ معي نفس الوجهة، وقاسمني نفس الطريق.
وقد تقرر أن نبيت ليلة سفرنا، بمنزل أحد الأقرباء المقيمين بصفاقس، قبل التحول إلى القيروان .
اِنقضت تلك الليلة، الطويلة المثقلة بالأرق، وبمشاعر التوتر والترقب . كيف لا، ونحن ماضون إلى مكان لم نكن نعرفه من قبل، ولن يكون العيش فيه، كما كان شأننا في سابق الأيام. كنا على يقين من أنه، بسبب بعد وجهتنا الجديدة، لأكثر من مائتي كيلومتر عن ديارنا، لن يتسنى لنا اللقاء بالأهل إلا في العطل المدرسية.
حلت الساعة الخامسة فجرا، فألفيتني، صحبة أبي ورفيقي، متسللين من دار مضيفنا، سيرا على الأقدام، سالكين الطريق المؤدية إلى محطة النقل القريبة، نستعجل الخطى عبر الأنهج الضيقة والأزقة الساكنة المظلمة.
اِنطلقت بنا الحافلة مسرعة، تطوي المسافات، وقد امتزج دوي محركها المزمجر، بأحاديث المسافرين، وأصواتهم المتعالية، التي باتت تقرع رؤوسنا، وتملؤها ضجيجا صاخبا.
اِنبلج الصبح، وأشرقت الشمس لتضيء مدينة القيروان، التي لاحت من بعيد بمبانيها البيضاء السامقة، تتوسطها صومعة جامع عقبة، لتضفي على جمال عمرانها بهاء، وتزيده رونقا وإشراقا.
تنسحب الدقائق مسرعة، وإذا بالحافلة تتوغل بنا في المدينة وسط شارع واسع طويل، وتمضي متهادية، لينتهي بها السير إلى محطة مكتظة بالحافلات، مزدحمة بالمسافرين الغادين، والرائحين، في حركة دؤوبة، لا تهدأ كامل اليوم .
اِلتفت، فإذا بناية مدرسة ترشيح المعلمين تنتصب، محاذية للمحطة حيث انتهت سفرتنا. وبعد هنيهة، وجدت نفسي أتخطى المدخل الرئيسي لتلك المنارة العلمية، وألج ، لأول مرة، بهوها الخارجي. أنهينا إجراءات التسجيل بالمبيت المدرسي، ثم خرجنا في جولة بالمدينة، عدنا بعدها عند الظهر، لنمكث في انتظار أن يؤذن لنا بالدخول إلى المبيت، وترتيب استعدادنا لصباح الغد موعد افتتاح العام الدراسي .
فجأة، أدرت بصري فإذا بأبي قد غاب عن ناظري، ولم أعد أراه، وسط الملإ من التلاميذ ومن رافقهم من الأولياء، الذين تجمعوا قبالة المدرسة. كنت أظن أن ابتعاده لن يطول كثيرا، وسوف يعود لرؤيتنا، قبل رجوعه إلى صفاقس.
مر وقت، سرحت فيه بذهني، واختلطت في رأسي الهواجس، وإذا برفيقي يوقظني من شرودي، ليعلمني بأن أبي أسر إليه، قبل انصرافه، بأن وقت العودة قد حان، وأن عليه أن يبرح المكان.
حينها، أدركت أن الاِنسحاب الخفي، الذي ارتآه أبي، لم يكن إلا ليختصر على نفسه وعلي، لحظات القلق والاِنزعاج مجددا.
لاريب، أنه أحس بتأثري الشديد، بالأمس، وأنا أغادر المنزل دون توديع أمي، فحاول أن يرمم ما ألم بي من فراغ نفسي، عازما على مصاحبتي في رحلتي تلك.
وعلى الرغم من ذلك ، ظل الشوق يهزني لملاقاة أمي، وبات يلازمني حتى عودتي إلى ربوعنا ، في أعقاب ثلاثية دراسية قاسية، ومضنية، بقيت تفاصيلها، إلى اليوم، محفورة في الذاكرة.
الهادي نصيرة