مقدمة
يشكّلُ الماضي لحظة زمنية مفارقة يكفل لنا التأريخ خزنها لتحضرَ كلّ الوقائع والأحداث والمواقف المكوّنة لذلك الماضي بعدّها نصوصاً غائبة قابلةً للحضور عند وجود حاجة لإستدعاءها، لتكونَ ذاكرةً فرديةً أو جمعية ، ولعلّ حضور هذا الغائب من الماضي بكونه ذاكرة ، إنما بدافع التفاعل والتأثير في الراهن والقادم من حياة المجتمعات والأفراد ، وبهذا المعنىُ فإن الذاكرة تأخذُ وضعاً متعالياً علىٰ الزمن ، أي لاتبقىٰ حبيسة الماضي ، وانما تمتلك القدرة على المحايثة الزمنية مع الراهن والمستقبل ، لذا فإن تحويل هذا الماضي/ الذاكرة الىٰ فعل سردي عبر الرواية يتخذ توصيف فن استعادة المنسي المختزن في الذاكرة التأريخية سواء كانت هذه الذاكرة قريبة الأمد أو بعيدة الأمد ، إذ لايمكن تحويلها إلى زمن بشري إلّا عبر السرد حسب بول ريكور الذي يَعدّ الفعل السردي للذاكرة الفاعلة (نمط من الفعل الإرادي ضدّ النسيان ) 1 ومن هنا كان سبب اختيارنا لموضوع سرد الذاكرة ، فهو من الانماط السردية المتعددة التي اهتمت بها سرديات مابعد الكلاسيكية / مابعد البنيوية ، انطلاقاً من تعدّدية المراكز في الفكر ال (مابعد حداثي) ، حيث جرىٰ الاهتمام بالمحيط والهامش والماضي والسيَري واليوميات والاعترافات
وسواها من الانماط التي استغلقتها السرديات الكلاسيكية ذات المركز الواحد / البنيوي ، إذ صار بالإمكان الانتقال من الوصف إلى التحليل والتفسير والتأويل ، فالذاكرة من المفاهيم التي تفتح المجال واسعاً أمام السرديات البنيوية لتطوير مفاهيمها واستخدامها في السياق التأويلي ، لأنها ( ظاهرة ثقافية وترتبط بظواهر أخرى كالسلطة والهوية والتأريخ ، وهي في الرواية تحيل إلى بنيات دالّة ذاتية وثقافية وتأريخية ) 2 وبالامكان عدّها أحد العناصر المكوّنة للهوية فردية كانت أم جمعية .
* السرد / الذاكرة / الإستلاب
تعرّض مصطلح (السرد) الىٰ وفرة في التعاريف منذ ظهوره وحتىٰ الٱن ، ولعل صيرورة الأنماط السردية وتطورها كان من دوافع وضع تعريفات متوازنة ومناسبة لإتجاهات تلك الأنماط علىٰ مرّ الأزمان التي استدعت صيرورة الحياة فيها ظهور تلك الأنماط والتجديد والتطور الحاصل فيها ، لكننا سنختار تعريفاً يتناسب واختيارنا موضوع الذاكرة مثابة للبحث مبتعدين عن المعنى اللغوي والاصطللاحي الذي اهتم به وثبته. الدرس السردي من أنه خطاب يُعنىٰ بنقل الوقائع والأحداث ، يشير الناقد المغربي د. سعيد يقطين الىٰ أن السرد هو (فعل لا حدود له يتَّسعُ ليشمل الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية ، يردعه الإنسان أينما وجد ، وحيثما كان ، ويصرّحُ (رولان بارت) قائلاً :- يمكن أن يؤدّىٰ الحكي بواسطة اللغة المستعملة شفاهية كانت أو كتابية ، أنه -السرد- حاضر في الأسطورة والخرافة والإمثولة والحكاية والقص )3 , وازاء ذلك فإن السرد يحتلّ مكانة مهمة في الثقافات الإنسانية المختلفة حسب تودوروف، وحسب بارت فإن هذا العلم متطور من التأريخ والثقافة مثل الحياة ، ومن خلال هذين المفهومين للسرد نجترح المعطىٰ الٱتي : وهو أن الأنماط السردية المتعددة ومنها مكونات الذاكرة تُشكّلُ مادّة حكائية للرواية بعدّها جنساً وفنّا أدبياً يعيد إنتاج مكونات الذاكرة تخييلاً أو تمثّلا ، ليس بعيداً عن سيرة الروائي الذاتية أو السيرة الموضوعية لمجتمع من المجتمعات ، وهي --الذاكرة-- ستكون مصدرا من مصادر ابداع الكاتب ، إذ هي في أبسط تعريفاتها : مجموع مانتذكر ، وهي القدرة على تذكر الخبرات الماضية وعملية استدعاء الحقائق والتجارب والانطباعات والمهارات والعادات السابق للعقل ، ولعل من بين مكونات الذاكرة الفردية والجمعية هي الوقائع والأحداث التي تشكّل مفاصلاً مهمة في حياة الأفراد والجماعات ، مثل حالة الإستلاب بكل أنواعه الفكري والثقافي والديني ومما يكوّن هوية الأفراد. والجماعة ، وإذا ماعلمنا أن (الاستلاب) يعني خضوع واستعباد بفعل ظروف اجتماعية ، اقتصادية أو فكرية أو سياسية خارجة عن إرادة الفرد ، فإن هذه الظاهرة قد عانت منها الشخصية العراقية على مرّ الحقب والأجيال ولاتزال ، وتختزن الذاكرة التأريخية العراقية الكثير من الوقائع والأحداث التي تشير إلى وقوع الشخصية العراقية تحت طائلة هذه الظاهرة التي دفعت الروائيين العراقيين منذ ظهور الرواية العراقية في النسيج الثقافي ولحد الٱن ، إذ مارست السلطات السياسية المتعاقبة الإستلاب بكل مستوياته وأشكاله لإخضاع الشخصية العراقية لمواجهات تلك السلطات ، ومن الممكن وضع اليد على العديد من الروايات العراقية التي عالجت هذه الظاهرة عبر الذاكرة السردية أو سرد الذاكرة التي تحتفظ بالكثير من مظاهر الإستلاب منذ ستينيات القرن الماضي مرورا لحقبة النظام الديكتاتوري وحقبة الاحتلال الامريكي وممارسات التنظيمات الإرهابية مثل داعش في القسم الشمالي من الوطن خاصة ماتعرّضت له الطوائف والإثنيات الدينية والقومية كالمسيحيين والايزيديين وسواهم ، فقد شكّلت وقائع تلك الانتهاكات الإستلابية مادة خام للعديد من الروايات العراقية ، على سبيل المثال :- ( الوشم) للروائي عبد الرحمن مجيد د الربيعي و (الهجرة نحو الأمس) لعبد الستار ناصر و(ليل البلاد) لحنان جاسم حلاوي و (اصغي إلى رمادي) لحميدد العقابي و(ذاكرة ارنجا) لمحمد علوان جبر و( الإرسي) لسلام ابراهيم و.... (في سوق السبايا) لدنيا ميخائيل و ( عذراء سنجار) لوارد بدر السالم و(بهار) لعامر حميو وسواها الكثير ، إذ كانت المادة الحكائية لهذه الروايات هي ما اختزنته الذاكرة من أحداث ووقائع وشخصيات ووثائق تتمثل ظاهرة الإستلاب بكافة مستوياته ، ولضيق مجال النشر في هذا المقام فقد اختار البحث رواية. ( الوشم) للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي عينة له .
* سرد الذاكرة المستلبة وانشطار الراوي
في رواية (الوشم)
ووفق ماتم الإشارة إليه ٱنفاً بخصوص العلاقة بين السرد والذاكرة ستكون مقاربتنا النقدية لرواية (الوشم)4 وهي الرواية الأولى للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي الصادرة عام 1972/ دار العودة / بيروت ،د.
يحتفظ العنوان(الوشم) كنص موازي بقدرة دلالية تمثّل المدخل الى المتن الروائي ، فالوشم علامة راكزة في الذاكرة الجمعية باعتباره وحسب التوصيف المعجمي , شكل من أشكال التعديل الجسدي ويتم بوضع علامة في الجسم وذلك بغرز الجلد بالإبرة ثم وضع الصبغ عن طريق هذه الفتحات والجروح ليبقى داخل الجلد ولايزول ، وقد ورد ذكره في الرواية عند دخول بطل الرواية الىٰ بيت العاهرات وملاحظة الوشم الذي وشمت به العاهرة البدينة فخذها ، وتكثر عادة وشم الجسد في الريف العراقي خاصة الجنوبي منه كإجراء تزييني لجسد المرأة ، وتعكس هذه العادة مدى الفقر وعدم القدرة على اقتناء المعادن الثمينة كالذهب والفضة لتتزين به المرأة، على أننا وبعد الانتهاء من قراءة الرواية وجدنا بأن ال(وشم) قد امتلك دلالة مجازية تجاوزت المعنى الايقوني للمفردة كما ورد في المعجم ، فلم يكن الوشم إلّا تلك العلامة المعنوية التي وسمت بها شخصية بطل الرواية بعد تأييد اعترافاته والاعتراف على رفاقه في التنظيم الحزبي الذي ينتمي إليه والبراءة منه كشرط لإطلاق سراحه من المعتقل ، والأمر ينسحب علىٰ البقية من رفاقه الذين ذهبوا إلى مافعله ، فيشير في الصفحة الأولى من الرواية موجهاً كلامه الى صديقه حسون السلمان ( ولماذا أعود؟ كيف نطيق اظهار وجوهنا للناس ؟
-- انت تتكلم وكأنك المذنب الوحيد )5
إذ أن مافعله بطل الرواية والاخرون هو الوشم/ العلامة الذي لايزول وسيظل يلاحقه حتىٰ يقرر مغادرة العراق الى الكويت باعتباره حلّا لتفادي مواجهة الآخرين كما يعدّه هروبا من تأنيب الضمير ، ومايؤكد ذلك هو قراره بمغادرة مدينته الناصرية إلى بغداد بعد يوم من إطلاق سراحه لعدم قدرته على مواجهة الناس والمعارف في مدينته والذين يعرفون ثمن إطلاق سراح المعتقل السياسي ، فقد كان قرار الابتعاد عن الناصرية هو تجنب الشعور بالعار والخيانة ، وعلى الرغم من افتعال حالة الفرح والسرور لمقابلته لاهل مدينته وأصدقائه وأهله بعد إطلاق سراحه الّا أنه كان يشعر بأن شيئاً قد انكسر في داخله وهو ما أخبرنا به الراوي العليم في الصفحة الاولىٰ ( خرج كريم الناصري سالماً ومبتسماً ، يتفقد الاصدقاء ويرد التحية على الآخرين ويستقبل تهنىتهم بمناسبة إطلاق السراح ، ولكن في داخله كان هناك شيء قد نُسف ) 6 إذ أن هذا الإحباط والإنكسار الداخلي كان بسبب ماقدمه من اعترافات والبراءة التي عُدت وشماًوعلامة مجازية لايمكن إزالتها وستظل تلاحقه حتى بعد أن يغادر مدينته هربا من الشعور بالذنب ،
ولعل ذكر الوشم على جسد العاهرة من قبل الروائي كان محاولة لجعل المتلقي في منطقة البحث عن دلالة مضمرة في العلامة الايقونية وصولاً إلى دلالته المجازية وكما ورد في أكثر من موضع في الرواية ، لذا فإن العنوان وفق ما أشرنا إليه ٱنفا قد أنتج بنية ركوز الذنب الذي اقترفه حسب العناصر المكونة لها والتي تضمنتها حواريته مع صديقه حسون السلمان وسيظل هذا الوشم يلاحقه أو مرتبط بحياته حيثما وجد .
توزع سرد الذاكرة في الرواية على مكانين الاول شكّل الذاكرة طويلة الأمد وقد اختص بالوقائع والأحداث التي حصلت في المعتقل في مدينة الناصرية ، فيما شكلت مدينة بغداد المكان الثاني الذي يشكّل الذاكرة قصيرة الأمد ، إذ كانت مجمل الوقائع والأحداث وسلوك بطل الرواية (كريم الناصري) نتيجة لما حصل من وقائع شكلتها الذاكرة الاولى في معتقل الناصرية ، فالعلاقة بين الذاكرتين هي علاقة سببية ، فالذاكرة الاولىٰ / المعتقل كانت سببا في تشكّل مكونات الذاكرة الثانية التي شهدها المكان الذي احتضنها وهو بغداد ، فقد مثّلت تجربة المعتقل المكون/ المتن الحكائي لسرديات الذاكرة التي شكّلت المفصل الحيوي في حياة وشخصية البطل (كريم الناصري) ، ( سبعة شهور جائرة طوقته بدقاىقها ورعبها ، وهرست منه اللحم والعظم والأعصاب )7 ، فقد انتقىٰ من تفاصيل تجربة المعتقل مايمكن أن يسلط الضوء وبشكل واعٍ علىٰ مكونات شخصيته الفكرية والعاطفية والاجتماعية ، مما جعل تلك التجربة وتلك الذاكرة ممتلكة صفة الذاكرة الجمعية ، فالمعتقل كان عالماً كوّنته شخصيات ومواقف فسحت المجال لتبلور ذاكرة جمعية لعدد من المعتقلين اشتركوا بمصير واحد وإن اختلفت مواقفهم أثناء تقدم وتوالي الأحداث لاحقاً ، فقد توزعت الذاكرة الجمعية في سرد وقائع المعتقل على عدد من الشخصيات ، فهناك معه علوان الحلاق ومجيد عمران والمُسنّ المتقاعد حامد الشعلان وصديقه الحميم ومسؤوله في التنظيم الحزبي حسون السلمان الذي ظلت علاقته قائمة حتى بعد خروجهما من المعتقل ، وهناك أيضا أسيل عمران التي كوّنت جزءاً مهما في حياته العاطفية والاجتماعية والحزبية ، وكل هؤلاء تجمعهم مدينة الناصرية التي كان وضع أهلها الطبقي سبباً في انتمائهم إلى التنظيم الحزبي الذي تبنّىٰ قضية تخليصهم من الوضع الطبقي السيء خاصة طبقة الفلاحين الذين كانوا يعانون من استغلال طبقة الإقطاع (لو اخذت كل سكان مدينتنا لوجدتهم فلاحين حفاة قطنوا الناصرية بعد أن خانتهم الأرض ، ولم يكن بينهم من يطيق تناول وجبة طعام واحدة في اليوم ، لذا أعتقد أن اندفاعنا بدأ من هنا ، من وعينا الطبقي بالمسألة) 8 ويتضح المنحىٰ الٱيدلوجي للتنظيم الذي ينتمي إليه كريم الناصري ورفاقه من خلال التصريح الأنف الذكر ، كما أن هذا الوعي الطبقي كان أيضا محاولة من كريم الناصري في تأكيد ذاته عبر هذا الانتماء للتنظيم اليساري ، إلّا أن الإحباط السياسي لهؤلاء المعتقلين قد جعلهم يبحثون عن بديل ٱخر ، كما حصل في تحوّل حامد الشعلان وحسون السلمان الىٰ الصلاة والتدين كحالة تعويض عن الخسارة النفسية التي وسمت حياتهم أثناء وبعد الاعتقال ، فيما تزوجت أسيل عمران من شخص ٱخر غير كريم الناصري ، فقد كانت سرديات الذاكرة الطويلة الأمد ممثلة لحياة مدينة الناصرية ومكوناتها الاجتماعية والطبقية والحزبية وبشكل متداخل لتوكيد صلة الاتجاه الٱيدلوجي اليساري لكريم الناصري ورفاقه في المعتقل وخارجه ، فكل ماجرىٰ في المعتقل وفي مدينة الناصرية خلال التصدي للتنظيم الحزبي الذي كان كريم الناصري ينتمي إليه ، كان مسبّباً لما سيتم سرده في المكان الثاني من ذاكرة الوقائع والأحداث واعني به ذاكرة بغداد بعد تجربة الاعتقال وإطلاق سراح البطل منهزما مكسوراً من الداخل ، فحالة عدم الرضىٰ عن ما أقدم عليه من تنفيذ شروط إطلاق سراحه وعدم قدرته على مواجهة الآخرين في مدينته نتيجة فعلته التي تحولت إلى علامة وسمت شخصيته اللاحقة كانت سبباً في التحول المكاني الجديد/ بغداد الذي سينتج ذاكرة ثانية تؤسس على ما ٱلت إليه مكونات شخصيته بعد إطلاق سراحه وشعوره بالانهزامية التي ستقوده الىٰ ممارسات تقترب من شخصيات الروايات الوجودية والعبث الفرنسية خاصة عبر تلاقي وجهة نظر الفلسفة الوجودية وحالة الانهزامية التي مُني بها كريم الناصري ليصل الىٰ ظهور حالة (اللاجدوىٰ) التي دفعته إلى معاقرة الخمرة ومعاشرة النساء التي اتصفت بالعلاقة الافلاطونية التي حاول تجريدها من النفعية الجسدية ، كما حصل في تحييد علاقته بزميلته في الشركة مريم عبد الله المتزوجة والتي تمارس الخيانة الزوجية مع عشيقها قحطان ، فقد كان هذا التحييد وابقاء العلاقة معها عاطفية دون جنسية هو البديل الموضوعي لإحساسه بالخيانة لتنظيمه الحزبي وهو ما يرفضه في داخله ، وكذلك فهو لم يرتضِ خيانة مريم لزوجها معه أو مع غيره على الرغم من محاولاتها الخائبة و المتكررة لتحقيق علاقة جنسية معه ، ففي حوار مع مريم عبد الله يشير إلى ( أنني اكره أن اجرّب مواهبي فيك ، وابني رفاتي المتهاوي على انقاضك ، صدقيني ) 9 ويحاول أن يجعلها قريبة جدا من معاناته ومشاعره الانهزامية فهو يصرح لها ( لقد أردت أن انتشل روحي المسحوقة التي لاتعرف السلام ، لست نبياً ولكنني انسان اعتيادي لطخته الصفوف بشعاراتها وتهريجها وقادته إلى عهرها ، فهدرت صحتي وشبابي ، واليوم احاول أن أجد الأمان ، هذا كل شيء، ولكن كيف ؟ ) 10 ويتكرر هذا الموقف لكريم الناصري مع الطالبة الجامعية ( يسرى توفيق) التي تعرف عليها في موقف الباص اذ وجد فيها أرضا بكراً لاحتواء هزيمته بحثا عن فضاء نقي وبريء تعويضا عن حالة انكساره ، إلّا أنه يفشل في تحقيق هذه الصلة لاعتقاده بأنه غير جدير بها فيشير في حوار معها بعد أن أخبرته بإمكانية طلب يدها للخطبة من أهلها ( انت إنسانة رائعة وعظيمة ، وبقدر ما أحبك اخاف عليك من هذا الحب ، ولا اريدك ان تربطي حياتك بشريد مثلي مرمي على السواحل كالخشبة التي تقذفها الأمواج من بقايا السفن الفارغة .
-- لماذا جعلتني احبك إذن ؟
-- لست ادري يايسرى ، لست ادري ،ان المسألة اكبر من تصوري ) 11
لقد أخفق كريم الناصري في جعل المرأة ملاذه الأمن ، فهو انهزامي أيضا في تجربته مع مريم عبد الله ويسرى توفيق ، ومن قبلهما اسيل عمران التي طوىٰ صفحتها مع مدينته الناصرية ، لتكون هذه التجارب الفاشلة جوابا على سؤاله الذي تضمنه حواره مع حسون السلمان في بداية انتقاله إلى بغداد ( أن أهم مايشغلني الان هو : هل بالامكان أن تكون المرأة تعويضاً كاملاً عن الخيبة السياسية ؟ وهل تكفي لأن تكون ضماداً لكل الجراح؟)12 فقد جرّب كل أشكال العلاقة مع المرأة العاطفية المجردة من النفع الجنسي والحب الافلاطوني وحتى الجنس المبتذل مع العواهر كشهرزاد راقصة الملهى وامرأة دار الدعارة ، وخلص إلى نتيجة مفادها أن المرأة لم تكن تعويضاً عن خيبته السياسية ، بل وابعد من ذلك فقد كرّس حالة الانهزامية والتردد في هذه العلاقات تفادياً للوقوع في خطأ وذنب اكبر كالذي اقترفه في المعتقل حفاظاً على وجوده البشري، ومن الممكن عدّ موقفه من المرأة حالةً أراد منها أن يكون طاهراً ونقياً قدر ما استطاع ليخلق وضعاً مناقضاً لحالة خيانته للتنظيم الحزبي الذي ينتمي إليه وشعوره بالخيبة السياسية ، وبذلك فقد اوجد حالةً تعويضية بخسارته السياسية .
لقد تمكنت الوقائع والأحداث ومواقف الشخصيات التي شكّلت ذاكرة بطل الرواية (كريم الناصري) بعدّها المكون والمتن الحكائي لتلك السرديات التي امتدّت على مكانين وبزمنين / زمن السرد المتضمن زمن الحكاية وزمن الخطاب ، كل ذلك أنتج مجموعة من البنىٰ تضافرت وفق العناصر المكونة لها من طرح رؤية النص الروائي للعالم ، إذ سادت بنية الخيبة والانهزامية السياسية على مجمل الفعالية الروائية التي احتكمت الى سرديات الذاكرة عبر استعادة واعية لأهم ماتضمنته ذاكرة (الناصري) الذي رفض هذا الموقف وما ٱلت إليه أفعاله فيما بعد خاصة في المكان الثاني / بغداد ، ومحاولته الهروب من الوشم/ العار الذي ظلّ لصيقاً به ومطاردا له في كل حين وفي كل فعل قام به ، فلم يتخلص منه عند انتقاله من مدينته الناصرية التي عرفته إلى مكان ٱخر / بغداد الذي شهد انعكاس فعلته المستهجنة وخيبته وخيانته على مجمل تفاصيل حياته الاجتماعية والعاطفية وحتىٰ على صعيد الانجاز الأدبي والفكري فإنه كان يشعر بالعجز على الكتابة وإنتاج الأفكار في عمله صحفياً في إحدى صحف العاصمة ، فيصفه الراوي العليم بضمير الغائب (ويدور بين الكلمات باحثاً عن مبتغاه بينها فيجدها جميعها مخصيّة عاجزة عن الإنجاب )13 ومامبتغاه هذا إلّا محاولته جعل الكتابة حالة تعويضية وهوية يجد نفسه عبرها إلّا أنها لم تمكنه من تحقيق ذلك المبتغىٰ فيعجز حتى من إكماله المقال الذي بدأه ، وراح يبحث عن مكان ٱخر يواري به فعلته عن أعين الناس ، إلّا أن كل الأمكنة تضيق به مادام الوشم يلاحقه ولامهرب منه ، فقد شاء النص الروائي إلى التعامل مع زمن السرد بعدّه زمناً شمولياً ابتعد فيه عن الإشارة الىٰ الزمن الفيزيقي المحدد بالأيام والشهور والسنين تفادياً لموضعة وحصر المجريات والوقائع التي كوّنت سرد الذاكرة في زمن مُشار إليه ليمتدّ الىٰ شمولية الموقف الإنساني المتجاوز محلية الوقائع إلى عالميتها ، ولعل ذلك ماتمكنت منه الرواية من طرح رؤيا العالم .
أما زمن الخطاب فقد ارتبط بٱليات سرد متقدمة ومتجاوزة لتقنيات السرد الموضوعي ، إذ اتصفت تقنيات السرد المستخدمة في الرواية بالتجريبية خاصة إذا ما عرفنا بأن الرواية أنتجت في أواخر ستينيات القرن الماضي ، وكما هو معروف فإن هذا العقد /الستيني قد شهد مأسسة الاتجاه التجريبي في السرد العراقي ، ولعل الاشتغال التقني المُلفت والمثير في سرد تلك الذاكرة هو تقنية الروي ، إذ نعثر على وجود أكثر من راوٍ ، فهناك الراوي العليم /هو الذي تولّىٰ سرد الوقائع الخارجية وفق ما تسمح به المساحة المخصصة له في السرد ، وهناك الراوي كلي العلم / كريم الناصري ، وهناك راوٍ ٱخر ينشطر من الراوي كلي العلم وهو بمثابة الراوي الداخلي الذي خضع إلى زمن نفسي ويشكل محاورة أو خطاب موجه إلى شخصية الناصري ذاته وإن اتخذ صفة التراسل بين الناصري وصديقه حسون السلمان ، وقد تميز خطاب هذا الراوي الثالث بالحروف الغامقة ، ومن الممكن عدّ مايرويه هذا الراوي المنشطر من الراوي كلي العلم هو ماكوّن الرؤية الخالصة والموقف المسكوت عنه في شخصية كريم الناصري الداخلية .
لقد كان للتداخل في عملية الروي بين الرواة الثلاث أثراً في وضع المتلقي في حالة تشظّ وانتقالات سريعة ومكثّفة تعكس الوضع الداخلي لشخصية كريم الناصري غير المستقرّة والمرتبكة ، حتى بدت تلك الانتقالات وكأنها تتداخل زمنياً لتكون زمناً درامياً واحدا ، فلم تكن هنالك فواصل كثيرة بين راو واخر ، إذ ما أن ينتهي راوٍ حتى يدخل راو ٱخر عبر حرف العطف الواو ، علىٰ أن هذا التداخل في الروي قد أدّى إلى خرق التتابع الكرونولوجي لما تم تذكّره ، الأمر الذي جعل زمن الخطاب يقترب من الزمن النفسي الذي لاحظنا سيادته على مجريات سرد الذاكرة التي بدت غير مستقرّة ، إذ أن الزمن النفسي قد تبدّى على نحو واضح ، فهو عنصر هام في الرواية ويرتبط كثيرا بعنصر الشخصية التي تعيشه في حالة تأملها للحاضر أو في تذكرها للماضي أو في استشرافها للمستقبل ، ويعتمد هذا الزمن / النفسي في الرواية على التذكر والسهو والهذيان والمونولوج ويصور معاناة الإنسان في العالم ، وكل ذلك كان حاضرة في رواية (الوشم) التي لجأت إلى تكريس الزمن النفسي الذي عاشه (كريم الناصري) الذي كان واعياً في تذكره للماضي وفي تأمله لحاضره وحتى رسمه لمعالم ماسيجري لاحقا ارتباطاً بخطاب الذاكرة التي شكل بنية مركزية مارست تأثيرها الواضح والمكشوف على مجمل البنىٰ التي انتجتها الذاكرة التي حرصت علىٰ أن تبقىٰ في منطقة الخيبة والانهزامية حتىٰ في بناء الشخصيات وفي كلا المكانين ، ففي المعتقل كانت جميع الشخصيات تحت طائلة الخيبة والإستلاب والخسارة النفسية والإحباط والبحث عن بدائل تعويضية لتلك الخيبة ، وفي الوقت الذي وجد فيه حاتم الشعلان وحسون السلمان في التدين والعودة إلى المنبع الإيمانية بديلا فإن الٱخرين بما فيهم كريم الناصري لم يتمكنوا من ردم الهوّة النفسية بين سقوطهم السياسي والعودة إلى الحياة بشكل طبيعي بعد إطلاق سراحهم المشروط ومنهم أيضا من لقىٰ حتفه تحت طائلة التعذيب ، أما في بغداد مكان الذاكرة الثانية فإن طائلة الخيبة والقنوط الاجتماعي كانت وسماً للشخصيات التي تعالق معها الناصري ، فهناك الخائنة لزوجها وهناك الراقصة العاهرة وشخصيات بيت الدعارة وزملاء العمل في الجريدة الذين وجدوا في معاقرة الخمر ومعاشرة النساء حلا لمشاكلهم .
الخاتمة
من خلال ماتمّ بحثه في التقديم والمبحث والتطبيق الإجرائي حول رواية (الوشم) ، يتضح لنا ماللذاكرة من أهمية في علم السرديات المعاصرة بعدّها مصدراً مهماً من مصادر الابداع لكاتب الرواية ، حيث تبدّىٰ الفعل الذاكراتي لتبني ثيمة الإستلاب التي شملت جوانب عدّة في شخصية الفرد العراقي كالاستلاب الفكري والاستلاب الديني والطائفي الذي مارسته السلطات المتعاقبة لإقصاء اي طرف يتقاطع مع تلك السلطات ، كما كشف البحث عن إمكانية عدّ مكونات الذاكرة كمادة خام للمتن الحكائي للرواية وفق ٱليات وتقنيات معاصرة كخرق التتابع الكرونولوجي وتعدد الرواة والاهتمام بالزمن النفسي الذي اولى الكاتب أهمية على مستوىٰ الحوار الداخلي للشخصية ، وكذلك الاهتمام بالفعل الذاكراتي الجمعي المحايثة للذاكرة الفردية ، .
___________________
هوامش البحث :-
(1) التاريخ والحقيقة لدى بول ريكور /عبد الله سيد ولد الله / مقال على شبكة الانترنيت/موقع مؤمنون بلا حدود .
(2) الذاكرة التأريخ الإنسان/ بول ريكور / تر. د جورج زيناتي / دار الكتب .
(3) الكلام والخبر/ مقدمة السرد العربي/ . سعيد يقطين / المركز الثقافي بيروت ط1 1997 ص19.
(4) رواية الوشم / عبد الرحمن مجيد الربيعي / طبعة مغربية / منشورات الزمن/ الرباط / طبعة 2002
(5) الرواية ص 31
(6) الرواية ص 31
(7) الرواية ص 30
( الرواية ص. 48
(9) الرواية ص 67
(10) الرواية ص 68
(11) الرواية ص 110
(12) الرواية ص 69
(13) الرواية ص 75
يشكّلُ الماضي لحظة زمنية مفارقة يكفل لنا التأريخ خزنها لتحضرَ كلّ الوقائع والأحداث والمواقف المكوّنة لذلك الماضي بعدّها نصوصاً غائبة قابلةً للحضور عند وجود حاجة لإستدعاءها، لتكونَ ذاكرةً فرديةً أو جمعية ، ولعلّ حضور هذا الغائب من الماضي بكونه ذاكرة ، إنما بدافع التفاعل والتأثير في الراهن والقادم من حياة المجتمعات والأفراد ، وبهذا المعنىُ فإن الذاكرة تأخذُ وضعاً متعالياً علىٰ الزمن ، أي لاتبقىٰ حبيسة الماضي ، وانما تمتلك القدرة على المحايثة الزمنية مع الراهن والمستقبل ، لذا فإن تحويل هذا الماضي/ الذاكرة الىٰ فعل سردي عبر الرواية يتخذ توصيف فن استعادة المنسي المختزن في الذاكرة التأريخية سواء كانت هذه الذاكرة قريبة الأمد أو بعيدة الأمد ، إذ لايمكن تحويلها إلى زمن بشري إلّا عبر السرد حسب بول ريكور الذي يَعدّ الفعل السردي للذاكرة الفاعلة (نمط من الفعل الإرادي ضدّ النسيان ) 1 ومن هنا كان سبب اختيارنا لموضوع سرد الذاكرة ، فهو من الانماط السردية المتعددة التي اهتمت بها سرديات مابعد الكلاسيكية / مابعد البنيوية ، انطلاقاً من تعدّدية المراكز في الفكر ال (مابعد حداثي) ، حيث جرىٰ الاهتمام بالمحيط والهامش والماضي والسيَري واليوميات والاعترافات
وسواها من الانماط التي استغلقتها السرديات الكلاسيكية ذات المركز الواحد / البنيوي ، إذ صار بالإمكان الانتقال من الوصف إلى التحليل والتفسير والتأويل ، فالذاكرة من المفاهيم التي تفتح المجال واسعاً أمام السرديات البنيوية لتطوير مفاهيمها واستخدامها في السياق التأويلي ، لأنها ( ظاهرة ثقافية وترتبط بظواهر أخرى كالسلطة والهوية والتأريخ ، وهي في الرواية تحيل إلى بنيات دالّة ذاتية وثقافية وتأريخية ) 2 وبالامكان عدّها أحد العناصر المكوّنة للهوية فردية كانت أم جمعية .
* السرد / الذاكرة / الإستلاب
تعرّض مصطلح (السرد) الىٰ وفرة في التعاريف منذ ظهوره وحتىٰ الٱن ، ولعل صيرورة الأنماط السردية وتطورها كان من دوافع وضع تعريفات متوازنة ومناسبة لإتجاهات تلك الأنماط علىٰ مرّ الأزمان التي استدعت صيرورة الحياة فيها ظهور تلك الأنماط والتجديد والتطور الحاصل فيها ، لكننا سنختار تعريفاً يتناسب واختيارنا موضوع الذاكرة مثابة للبحث مبتعدين عن المعنى اللغوي والاصطللاحي الذي اهتم به وثبته. الدرس السردي من أنه خطاب يُعنىٰ بنقل الوقائع والأحداث ، يشير الناقد المغربي د. سعيد يقطين الىٰ أن السرد هو (فعل لا حدود له يتَّسعُ ليشمل الخطابات سواء كانت أدبية أو غير أدبية ، يردعه الإنسان أينما وجد ، وحيثما كان ، ويصرّحُ (رولان بارت) قائلاً :- يمكن أن يؤدّىٰ الحكي بواسطة اللغة المستعملة شفاهية كانت أو كتابية ، أنه -السرد- حاضر في الأسطورة والخرافة والإمثولة والحكاية والقص )3 , وازاء ذلك فإن السرد يحتلّ مكانة مهمة في الثقافات الإنسانية المختلفة حسب تودوروف، وحسب بارت فإن هذا العلم متطور من التأريخ والثقافة مثل الحياة ، ومن خلال هذين المفهومين للسرد نجترح المعطىٰ الٱتي : وهو أن الأنماط السردية المتعددة ومنها مكونات الذاكرة تُشكّلُ مادّة حكائية للرواية بعدّها جنساً وفنّا أدبياً يعيد إنتاج مكونات الذاكرة تخييلاً أو تمثّلا ، ليس بعيداً عن سيرة الروائي الذاتية أو السيرة الموضوعية لمجتمع من المجتمعات ، وهي --الذاكرة-- ستكون مصدرا من مصادر ابداع الكاتب ، إذ هي في أبسط تعريفاتها : مجموع مانتذكر ، وهي القدرة على تذكر الخبرات الماضية وعملية استدعاء الحقائق والتجارب والانطباعات والمهارات والعادات السابق للعقل ، ولعل من بين مكونات الذاكرة الفردية والجمعية هي الوقائع والأحداث التي تشكّل مفاصلاً مهمة في حياة الأفراد والجماعات ، مثل حالة الإستلاب بكل أنواعه الفكري والثقافي والديني ومما يكوّن هوية الأفراد. والجماعة ، وإذا ماعلمنا أن (الاستلاب) يعني خضوع واستعباد بفعل ظروف اجتماعية ، اقتصادية أو فكرية أو سياسية خارجة عن إرادة الفرد ، فإن هذه الظاهرة قد عانت منها الشخصية العراقية على مرّ الحقب والأجيال ولاتزال ، وتختزن الذاكرة التأريخية العراقية الكثير من الوقائع والأحداث التي تشير إلى وقوع الشخصية العراقية تحت طائلة هذه الظاهرة التي دفعت الروائيين العراقيين منذ ظهور الرواية العراقية في النسيج الثقافي ولحد الٱن ، إذ مارست السلطات السياسية المتعاقبة الإستلاب بكل مستوياته وأشكاله لإخضاع الشخصية العراقية لمواجهات تلك السلطات ، ومن الممكن وضع اليد على العديد من الروايات العراقية التي عالجت هذه الظاهرة عبر الذاكرة السردية أو سرد الذاكرة التي تحتفظ بالكثير من مظاهر الإستلاب منذ ستينيات القرن الماضي مرورا لحقبة النظام الديكتاتوري وحقبة الاحتلال الامريكي وممارسات التنظيمات الإرهابية مثل داعش في القسم الشمالي من الوطن خاصة ماتعرّضت له الطوائف والإثنيات الدينية والقومية كالمسيحيين والايزيديين وسواهم ، فقد شكّلت وقائع تلك الانتهاكات الإستلابية مادة خام للعديد من الروايات العراقية ، على سبيل المثال :- ( الوشم) للروائي عبد الرحمن مجيد د الربيعي و (الهجرة نحو الأمس) لعبد الستار ناصر و(ليل البلاد) لحنان جاسم حلاوي و (اصغي إلى رمادي) لحميدد العقابي و(ذاكرة ارنجا) لمحمد علوان جبر و( الإرسي) لسلام ابراهيم و.... (في سوق السبايا) لدنيا ميخائيل و ( عذراء سنجار) لوارد بدر السالم و(بهار) لعامر حميو وسواها الكثير ، إذ كانت المادة الحكائية لهذه الروايات هي ما اختزنته الذاكرة من أحداث ووقائع وشخصيات ووثائق تتمثل ظاهرة الإستلاب بكافة مستوياته ، ولضيق مجال النشر في هذا المقام فقد اختار البحث رواية. ( الوشم) للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي عينة له .
* سرد الذاكرة المستلبة وانشطار الراوي
في رواية (الوشم)
ووفق ماتم الإشارة إليه ٱنفاً بخصوص العلاقة بين السرد والذاكرة ستكون مقاربتنا النقدية لرواية (الوشم)4 وهي الرواية الأولى للروائي العراقي عبد الرحمن مجيد الربيعي الصادرة عام 1972/ دار العودة / بيروت ،د.
يحتفظ العنوان(الوشم) كنص موازي بقدرة دلالية تمثّل المدخل الى المتن الروائي ، فالوشم علامة راكزة في الذاكرة الجمعية باعتباره وحسب التوصيف المعجمي , شكل من أشكال التعديل الجسدي ويتم بوضع علامة في الجسم وذلك بغرز الجلد بالإبرة ثم وضع الصبغ عن طريق هذه الفتحات والجروح ليبقى داخل الجلد ولايزول ، وقد ورد ذكره في الرواية عند دخول بطل الرواية الىٰ بيت العاهرات وملاحظة الوشم الذي وشمت به العاهرة البدينة فخذها ، وتكثر عادة وشم الجسد في الريف العراقي خاصة الجنوبي منه كإجراء تزييني لجسد المرأة ، وتعكس هذه العادة مدى الفقر وعدم القدرة على اقتناء المعادن الثمينة كالذهب والفضة لتتزين به المرأة، على أننا وبعد الانتهاء من قراءة الرواية وجدنا بأن ال(وشم) قد امتلك دلالة مجازية تجاوزت المعنى الايقوني للمفردة كما ورد في المعجم ، فلم يكن الوشم إلّا تلك العلامة المعنوية التي وسمت بها شخصية بطل الرواية بعد تأييد اعترافاته والاعتراف على رفاقه في التنظيم الحزبي الذي ينتمي إليه والبراءة منه كشرط لإطلاق سراحه من المعتقل ، والأمر ينسحب علىٰ البقية من رفاقه الذين ذهبوا إلى مافعله ، فيشير في الصفحة الأولى من الرواية موجهاً كلامه الى صديقه حسون السلمان ( ولماذا أعود؟ كيف نطيق اظهار وجوهنا للناس ؟
-- انت تتكلم وكأنك المذنب الوحيد )5
إذ أن مافعله بطل الرواية والاخرون هو الوشم/ العلامة الذي لايزول وسيظل يلاحقه حتىٰ يقرر مغادرة العراق الى الكويت باعتباره حلّا لتفادي مواجهة الآخرين كما يعدّه هروبا من تأنيب الضمير ، ومايؤكد ذلك هو قراره بمغادرة مدينته الناصرية إلى بغداد بعد يوم من إطلاق سراحه لعدم قدرته على مواجهة الناس والمعارف في مدينته والذين يعرفون ثمن إطلاق سراح المعتقل السياسي ، فقد كان قرار الابتعاد عن الناصرية هو تجنب الشعور بالعار والخيانة ، وعلى الرغم من افتعال حالة الفرح والسرور لمقابلته لاهل مدينته وأصدقائه وأهله بعد إطلاق سراحه الّا أنه كان يشعر بأن شيئاً قد انكسر في داخله وهو ما أخبرنا به الراوي العليم في الصفحة الاولىٰ ( خرج كريم الناصري سالماً ومبتسماً ، يتفقد الاصدقاء ويرد التحية على الآخرين ويستقبل تهنىتهم بمناسبة إطلاق السراح ، ولكن في داخله كان هناك شيء قد نُسف ) 6 إذ أن هذا الإحباط والإنكسار الداخلي كان بسبب ماقدمه من اعترافات والبراءة التي عُدت وشماًوعلامة مجازية لايمكن إزالتها وستظل تلاحقه حتى بعد أن يغادر مدينته هربا من الشعور بالذنب ،
ولعل ذكر الوشم على جسد العاهرة من قبل الروائي كان محاولة لجعل المتلقي في منطقة البحث عن دلالة مضمرة في العلامة الايقونية وصولاً إلى دلالته المجازية وكما ورد في أكثر من موضع في الرواية ، لذا فإن العنوان وفق ما أشرنا إليه ٱنفا قد أنتج بنية ركوز الذنب الذي اقترفه حسب العناصر المكونة لها والتي تضمنتها حواريته مع صديقه حسون السلمان وسيظل هذا الوشم يلاحقه أو مرتبط بحياته حيثما وجد .
توزع سرد الذاكرة في الرواية على مكانين الاول شكّل الذاكرة طويلة الأمد وقد اختص بالوقائع والأحداث التي حصلت في المعتقل في مدينة الناصرية ، فيما شكلت مدينة بغداد المكان الثاني الذي يشكّل الذاكرة قصيرة الأمد ، إذ كانت مجمل الوقائع والأحداث وسلوك بطل الرواية (كريم الناصري) نتيجة لما حصل من وقائع شكلتها الذاكرة الاولى في معتقل الناصرية ، فالعلاقة بين الذاكرتين هي علاقة سببية ، فالذاكرة الاولىٰ / المعتقل كانت سببا في تشكّل مكونات الذاكرة الثانية التي شهدها المكان الذي احتضنها وهو بغداد ، فقد مثّلت تجربة المعتقل المكون/ المتن الحكائي لسرديات الذاكرة التي شكّلت المفصل الحيوي في حياة وشخصية البطل (كريم الناصري) ، ( سبعة شهور جائرة طوقته بدقاىقها ورعبها ، وهرست منه اللحم والعظم والأعصاب )7 ، فقد انتقىٰ من تفاصيل تجربة المعتقل مايمكن أن يسلط الضوء وبشكل واعٍ علىٰ مكونات شخصيته الفكرية والعاطفية والاجتماعية ، مما جعل تلك التجربة وتلك الذاكرة ممتلكة صفة الذاكرة الجمعية ، فالمعتقل كان عالماً كوّنته شخصيات ومواقف فسحت المجال لتبلور ذاكرة جمعية لعدد من المعتقلين اشتركوا بمصير واحد وإن اختلفت مواقفهم أثناء تقدم وتوالي الأحداث لاحقاً ، فقد توزعت الذاكرة الجمعية في سرد وقائع المعتقل على عدد من الشخصيات ، فهناك معه علوان الحلاق ومجيد عمران والمُسنّ المتقاعد حامد الشعلان وصديقه الحميم ومسؤوله في التنظيم الحزبي حسون السلمان الذي ظلت علاقته قائمة حتى بعد خروجهما من المعتقل ، وهناك أيضا أسيل عمران التي كوّنت جزءاً مهما في حياته العاطفية والاجتماعية والحزبية ، وكل هؤلاء تجمعهم مدينة الناصرية التي كان وضع أهلها الطبقي سبباً في انتمائهم إلى التنظيم الحزبي الذي تبنّىٰ قضية تخليصهم من الوضع الطبقي السيء خاصة طبقة الفلاحين الذين كانوا يعانون من استغلال طبقة الإقطاع (لو اخذت كل سكان مدينتنا لوجدتهم فلاحين حفاة قطنوا الناصرية بعد أن خانتهم الأرض ، ولم يكن بينهم من يطيق تناول وجبة طعام واحدة في اليوم ، لذا أعتقد أن اندفاعنا بدأ من هنا ، من وعينا الطبقي بالمسألة) 8 ويتضح المنحىٰ الٱيدلوجي للتنظيم الذي ينتمي إليه كريم الناصري ورفاقه من خلال التصريح الأنف الذكر ، كما أن هذا الوعي الطبقي كان أيضا محاولة من كريم الناصري في تأكيد ذاته عبر هذا الانتماء للتنظيم اليساري ، إلّا أن الإحباط السياسي لهؤلاء المعتقلين قد جعلهم يبحثون عن بديل ٱخر ، كما حصل في تحوّل حامد الشعلان وحسون السلمان الىٰ الصلاة والتدين كحالة تعويض عن الخسارة النفسية التي وسمت حياتهم أثناء وبعد الاعتقال ، فيما تزوجت أسيل عمران من شخص ٱخر غير كريم الناصري ، فقد كانت سرديات الذاكرة الطويلة الأمد ممثلة لحياة مدينة الناصرية ومكوناتها الاجتماعية والطبقية والحزبية وبشكل متداخل لتوكيد صلة الاتجاه الٱيدلوجي اليساري لكريم الناصري ورفاقه في المعتقل وخارجه ، فكل ماجرىٰ في المعتقل وفي مدينة الناصرية خلال التصدي للتنظيم الحزبي الذي كان كريم الناصري ينتمي إليه ، كان مسبّباً لما سيتم سرده في المكان الثاني من ذاكرة الوقائع والأحداث واعني به ذاكرة بغداد بعد تجربة الاعتقال وإطلاق سراح البطل منهزما مكسوراً من الداخل ، فحالة عدم الرضىٰ عن ما أقدم عليه من تنفيذ شروط إطلاق سراحه وعدم قدرته على مواجهة الآخرين في مدينته نتيجة فعلته التي تحولت إلى علامة وسمت شخصيته اللاحقة كانت سبباً في التحول المكاني الجديد/ بغداد الذي سينتج ذاكرة ثانية تؤسس على ما ٱلت إليه مكونات شخصيته بعد إطلاق سراحه وشعوره بالانهزامية التي ستقوده الىٰ ممارسات تقترب من شخصيات الروايات الوجودية والعبث الفرنسية خاصة عبر تلاقي وجهة نظر الفلسفة الوجودية وحالة الانهزامية التي مُني بها كريم الناصري ليصل الىٰ ظهور حالة (اللاجدوىٰ) التي دفعته إلى معاقرة الخمرة ومعاشرة النساء التي اتصفت بالعلاقة الافلاطونية التي حاول تجريدها من النفعية الجسدية ، كما حصل في تحييد علاقته بزميلته في الشركة مريم عبد الله المتزوجة والتي تمارس الخيانة الزوجية مع عشيقها قحطان ، فقد كان هذا التحييد وابقاء العلاقة معها عاطفية دون جنسية هو البديل الموضوعي لإحساسه بالخيانة لتنظيمه الحزبي وهو ما يرفضه في داخله ، وكذلك فهو لم يرتضِ خيانة مريم لزوجها معه أو مع غيره على الرغم من محاولاتها الخائبة و المتكررة لتحقيق علاقة جنسية معه ، ففي حوار مع مريم عبد الله يشير إلى ( أنني اكره أن اجرّب مواهبي فيك ، وابني رفاتي المتهاوي على انقاضك ، صدقيني ) 9 ويحاول أن يجعلها قريبة جدا من معاناته ومشاعره الانهزامية فهو يصرح لها ( لقد أردت أن انتشل روحي المسحوقة التي لاتعرف السلام ، لست نبياً ولكنني انسان اعتيادي لطخته الصفوف بشعاراتها وتهريجها وقادته إلى عهرها ، فهدرت صحتي وشبابي ، واليوم احاول أن أجد الأمان ، هذا كل شيء، ولكن كيف ؟ ) 10 ويتكرر هذا الموقف لكريم الناصري مع الطالبة الجامعية ( يسرى توفيق) التي تعرف عليها في موقف الباص اذ وجد فيها أرضا بكراً لاحتواء هزيمته بحثا عن فضاء نقي وبريء تعويضا عن حالة انكساره ، إلّا أنه يفشل في تحقيق هذه الصلة لاعتقاده بأنه غير جدير بها فيشير في حوار معها بعد أن أخبرته بإمكانية طلب يدها للخطبة من أهلها ( انت إنسانة رائعة وعظيمة ، وبقدر ما أحبك اخاف عليك من هذا الحب ، ولا اريدك ان تربطي حياتك بشريد مثلي مرمي على السواحل كالخشبة التي تقذفها الأمواج من بقايا السفن الفارغة .
-- لماذا جعلتني احبك إذن ؟
-- لست ادري يايسرى ، لست ادري ،ان المسألة اكبر من تصوري ) 11
لقد أخفق كريم الناصري في جعل المرأة ملاذه الأمن ، فهو انهزامي أيضا في تجربته مع مريم عبد الله ويسرى توفيق ، ومن قبلهما اسيل عمران التي طوىٰ صفحتها مع مدينته الناصرية ، لتكون هذه التجارب الفاشلة جوابا على سؤاله الذي تضمنه حواره مع حسون السلمان في بداية انتقاله إلى بغداد ( أن أهم مايشغلني الان هو : هل بالامكان أن تكون المرأة تعويضاً كاملاً عن الخيبة السياسية ؟ وهل تكفي لأن تكون ضماداً لكل الجراح؟)12 فقد جرّب كل أشكال العلاقة مع المرأة العاطفية المجردة من النفع الجنسي والحب الافلاطوني وحتى الجنس المبتذل مع العواهر كشهرزاد راقصة الملهى وامرأة دار الدعارة ، وخلص إلى نتيجة مفادها أن المرأة لم تكن تعويضاً عن خيبته السياسية ، بل وابعد من ذلك فقد كرّس حالة الانهزامية والتردد في هذه العلاقات تفادياً للوقوع في خطأ وذنب اكبر كالذي اقترفه في المعتقل حفاظاً على وجوده البشري، ومن الممكن عدّ موقفه من المرأة حالةً أراد منها أن يكون طاهراً ونقياً قدر ما استطاع ليخلق وضعاً مناقضاً لحالة خيانته للتنظيم الحزبي الذي ينتمي إليه وشعوره بالخيبة السياسية ، وبذلك فقد اوجد حالةً تعويضية بخسارته السياسية .
لقد تمكنت الوقائع والأحداث ومواقف الشخصيات التي شكّلت ذاكرة بطل الرواية (كريم الناصري) بعدّها المكون والمتن الحكائي لتلك السرديات التي امتدّت على مكانين وبزمنين / زمن السرد المتضمن زمن الحكاية وزمن الخطاب ، كل ذلك أنتج مجموعة من البنىٰ تضافرت وفق العناصر المكونة لها من طرح رؤية النص الروائي للعالم ، إذ سادت بنية الخيبة والانهزامية السياسية على مجمل الفعالية الروائية التي احتكمت الى سرديات الذاكرة عبر استعادة واعية لأهم ماتضمنته ذاكرة (الناصري) الذي رفض هذا الموقف وما ٱلت إليه أفعاله فيما بعد خاصة في المكان الثاني / بغداد ، ومحاولته الهروب من الوشم/ العار الذي ظلّ لصيقاً به ومطاردا له في كل حين وفي كل فعل قام به ، فلم يتخلص منه عند انتقاله من مدينته الناصرية التي عرفته إلى مكان ٱخر / بغداد الذي شهد انعكاس فعلته المستهجنة وخيبته وخيانته على مجمل تفاصيل حياته الاجتماعية والعاطفية وحتىٰ على صعيد الانجاز الأدبي والفكري فإنه كان يشعر بالعجز على الكتابة وإنتاج الأفكار في عمله صحفياً في إحدى صحف العاصمة ، فيصفه الراوي العليم بضمير الغائب (ويدور بين الكلمات باحثاً عن مبتغاه بينها فيجدها جميعها مخصيّة عاجزة عن الإنجاب )13 ومامبتغاه هذا إلّا محاولته جعل الكتابة حالة تعويضية وهوية يجد نفسه عبرها إلّا أنها لم تمكنه من تحقيق ذلك المبتغىٰ فيعجز حتى من إكماله المقال الذي بدأه ، وراح يبحث عن مكان ٱخر يواري به فعلته عن أعين الناس ، إلّا أن كل الأمكنة تضيق به مادام الوشم يلاحقه ولامهرب منه ، فقد شاء النص الروائي إلى التعامل مع زمن السرد بعدّه زمناً شمولياً ابتعد فيه عن الإشارة الىٰ الزمن الفيزيقي المحدد بالأيام والشهور والسنين تفادياً لموضعة وحصر المجريات والوقائع التي كوّنت سرد الذاكرة في زمن مُشار إليه ليمتدّ الىٰ شمولية الموقف الإنساني المتجاوز محلية الوقائع إلى عالميتها ، ولعل ذلك ماتمكنت منه الرواية من طرح رؤيا العالم .
أما زمن الخطاب فقد ارتبط بٱليات سرد متقدمة ومتجاوزة لتقنيات السرد الموضوعي ، إذ اتصفت تقنيات السرد المستخدمة في الرواية بالتجريبية خاصة إذا ما عرفنا بأن الرواية أنتجت في أواخر ستينيات القرن الماضي ، وكما هو معروف فإن هذا العقد /الستيني قد شهد مأسسة الاتجاه التجريبي في السرد العراقي ، ولعل الاشتغال التقني المُلفت والمثير في سرد تلك الذاكرة هو تقنية الروي ، إذ نعثر على وجود أكثر من راوٍ ، فهناك الراوي العليم /هو الذي تولّىٰ سرد الوقائع الخارجية وفق ما تسمح به المساحة المخصصة له في السرد ، وهناك الراوي كلي العلم / كريم الناصري ، وهناك راوٍ ٱخر ينشطر من الراوي كلي العلم وهو بمثابة الراوي الداخلي الذي خضع إلى زمن نفسي ويشكل محاورة أو خطاب موجه إلى شخصية الناصري ذاته وإن اتخذ صفة التراسل بين الناصري وصديقه حسون السلمان ، وقد تميز خطاب هذا الراوي الثالث بالحروف الغامقة ، ومن الممكن عدّ مايرويه هذا الراوي المنشطر من الراوي كلي العلم هو ماكوّن الرؤية الخالصة والموقف المسكوت عنه في شخصية كريم الناصري الداخلية .
لقد كان للتداخل في عملية الروي بين الرواة الثلاث أثراً في وضع المتلقي في حالة تشظّ وانتقالات سريعة ومكثّفة تعكس الوضع الداخلي لشخصية كريم الناصري غير المستقرّة والمرتبكة ، حتى بدت تلك الانتقالات وكأنها تتداخل زمنياً لتكون زمناً درامياً واحدا ، فلم تكن هنالك فواصل كثيرة بين راو واخر ، إذ ما أن ينتهي راوٍ حتى يدخل راو ٱخر عبر حرف العطف الواو ، علىٰ أن هذا التداخل في الروي قد أدّى إلى خرق التتابع الكرونولوجي لما تم تذكّره ، الأمر الذي جعل زمن الخطاب يقترب من الزمن النفسي الذي لاحظنا سيادته على مجريات سرد الذاكرة التي بدت غير مستقرّة ، إذ أن الزمن النفسي قد تبدّى على نحو واضح ، فهو عنصر هام في الرواية ويرتبط كثيرا بعنصر الشخصية التي تعيشه في حالة تأملها للحاضر أو في تذكرها للماضي أو في استشرافها للمستقبل ، ويعتمد هذا الزمن / النفسي في الرواية على التذكر والسهو والهذيان والمونولوج ويصور معاناة الإنسان في العالم ، وكل ذلك كان حاضرة في رواية (الوشم) التي لجأت إلى تكريس الزمن النفسي الذي عاشه (كريم الناصري) الذي كان واعياً في تذكره للماضي وفي تأمله لحاضره وحتى رسمه لمعالم ماسيجري لاحقا ارتباطاً بخطاب الذاكرة التي شكل بنية مركزية مارست تأثيرها الواضح والمكشوف على مجمل البنىٰ التي انتجتها الذاكرة التي حرصت علىٰ أن تبقىٰ في منطقة الخيبة والانهزامية حتىٰ في بناء الشخصيات وفي كلا المكانين ، ففي المعتقل كانت جميع الشخصيات تحت طائلة الخيبة والإستلاب والخسارة النفسية والإحباط والبحث عن بدائل تعويضية لتلك الخيبة ، وفي الوقت الذي وجد فيه حاتم الشعلان وحسون السلمان في التدين والعودة إلى المنبع الإيمانية بديلا فإن الٱخرين بما فيهم كريم الناصري لم يتمكنوا من ردم الهوّة النفسية بين سقوطهم السياسي والعودة إلى الحياة بشكل طبيعي بعد إطلاق سراحهم المشروط ومنهم أيضا من لقىٰ حتفه تحت طائلة التعذيب ، أما في بغداد مكان الذاكرة الثانية فإن طائلة الخيبة والقنوط الاجتماعي كانت وسماً للشخصيات التي تعالق معها الناصري ، فهناك الخائنة لزوجها وهناك الراقصة العاهرة وشخصيات بيت الدعارة وزملاء العمل في الجريدة الذين وجدوا في معاقرة الخمر ومعاشرة النساء حلا لمشاكلهم .
الخاتمة
من خلال ماتمّ بحثه في التقديم والمبحث والتطبيق الإجرائي حول رواية (الوشم) ، يتضح لنا ماللذاكرة من أهمية في علم السرديات المعاصرة بعدّها مصدراً مهماً من مصادر الابداع لكاتب الرواية ، حيث تبدّىٰ الفعل الذاكراتي لتبني ثيمة الإستلاب التي شملت جوانب عدّة في شخصية الفرد العراقي كالاستلاب الفكري والاستلاب الديني والطائفي الذي مارسته السلطات المتعاقبة لإقصاء اي طرف يتقاطع مع تلك السلطات ، كما كشف البحث عن إمكانية عدّ مكونات الذاكرة كمادة خام للمتن الحكائي للرواية وفق ٱليات وتقنيات معاصرة كخرق التتابع الكرونولوجي وتعدد الرواة والاهتمام بالزمن النفسي الذي اولى الكاتب أهمية على مستوىٰ الحوار الداخلي للشخصية ، وكذلك الاهتمام بالفعل الذاكراتي الجمعي المحايثة للذاكرة الفردية ، .
___________________
هوامش البحث :-
(1) التاريخ والحقيقة لدى بول ريكور /عبد الله سيد ولد الله / مقال على شبكة الانترنيت/موقع مؤمنون بلا حدود .
(2) الذاكرة التأريخ الإنسان/ بول ريكور / تر. د جورج زيناتي / دار الكتب .
(3) الكلام والخبر/ مقدمة السرد العربي/ . سعيد يقطين / المركز الثقافي بيروت ط1 1997 ص19.
(4) رواية الوشم / عبد الرحمن مجيد الربيعي / طبعة مغربية / منشورات الزمن/ الرباط / طبعة 2002
(5) الرواية ص 31
(6) الرواية ص 31
(7) الرواية ص 30
(
(9) الرواية ص 67
(10) الرواية ص 68
(11) الرواية ص 110
(12) الرواية ص 69
(13) الرواية ص 75