بدت في آخر ليلة رأيتها فيها كثمرة ناضجة تغري بالقطاف، ابتعدت عن مكاني القصي، ووقفت بجوارها ثم أخذني الشغف فركعت على ركبتي، ووضعت الطبلة أمامي فيما أواصل النقر، كنت أذوب واندمج مع سحر صوتها الذي أسمعه متفردا بعيدا عن الضجيج، تعاطف الجمهور مع رجل يتحرر من بؤسه بمهارته في العزف، رجل غَنِىٌ بنغمه ومتمازج مع الموسيقى، ودود ومأنوس بالشجن، اتحلى بالصمت واكتفي بثرثرة أصابعي، بداخلي أغان وأهازيج مكبلة بألف سؤال فيما انسجم بهدوء تام مع الفرقة، ارجع للوراء قليلا يعزف الجالس بجواري على نايه، انقر بأمومة على طبلتي يشعر الجمهور بحميمية لا تنتهي حين يلتحم النغم بحركات الجسد في ثنائية لا تتكرر كثيرا، فيهللون وتستفيق عقولهم لثوان وهم يرددون "الله".
Sponsored Links
ارتفع صوت النبطجى عبر سماعات كبيرة موضوعة عن يمين ويسار المسرح الخشبي، بعد دخول رئيس الحي أو "رئيس جمهورية المنطقة" على حد قوله - النبطجى- تعجبت حين سمعت نفس الألسن التي كانت تسبه منذ أيام -بعد غرق طفل في بالوعة للصرف الصحي- تلهج بالدعاء له، فيما انزلقت من النبطجى عبارات تمجيد وشكر لصاحب العرس الذي منحه شرف التواجد في هذا اليوم الهام، كان يردد أسماء الجميع بنفس الحماس للزج بهم في منافسة قوية بغرض تحفيزهم على دفع المزيد من "النقوط*" ، ولم يكن يحط من قدر أحد حتى وإن كان على خلاف معه، حينما دخل "عبده الحلاق" الذي اشتكى لي منه بالأمس، صدح صوته بالمدح والثناء في حق الرجل، ضحكت بصوت عال ولم استطع منع نفسي من التعليق بأنه يمثل نموذجا للتملق والنفاق، قال ببساطة:
- "أكل عيشي وبعدين دي فهلوه ملهاش علاقة بالنفاق!".
شعرت بارتعاشة صوته بعد تهديد مجموعة من السكارى بضربه إن لم يعلن بدء العرض، أحسست أن الموسيقى والرقص صارا مكملات مزاجية لما يتعاطونه من مخدرات، سمعته يقول بصوت خفيض :
- " يا حودة قول للست "سماهر" تخلص خلي الليلة دي تعدي على خير".
"سماهر"! أعرف جيدا هذا الاسم، صاحبته كانت يوما أنا، ترى هل ستعرفني حين تراني؟، لازلت أذكر المرة الأولى التي جمعتنا، كنت في حفلة عرس "عمر الكاتب" صديقي في كلية الآداب، والذي قضى سبع سنوات من عمره فيها، والكاتب اسم أطلقناه عليه بعد فوزه بجائزة الجامعة في مجال الكتابة لأربعة أعوام متتالية، كان يبتهج بمكافآت بسيطة يهديها له عميد الكلية بعد كل مركز أول يحصل عليه، وتسعده قروش قليلة تدفعها له الجامعة كإعانة اجتماعية بعد أن فقد والده، لا أنسى كيف بكى يوم تخرُجِنا قبل أن يطلب مني إخباره بأي فرصة عمل قد تمر أمامي وإن لم تناسبه، لكنه وبين عشية وضحاها صار من أغنياء مدينتنا، لدرجة أنه أقام عرسه في قاعة أجرها في بضع ساعات يعدل أجري في أشهرٍ ستٍ، يومها كانت سماهر تتلوى أمام العروسين، استئذنت الطبال وبدأت في بالدق على الطبلة بدلا منه، تفجرت عبقرية جسدها واقتنع الجميع بأنها ولدت لتكون نجمة فوق هذا المسرح، تماما كاقتناعي بعبقرية كلمات السياسي المعروف الذي ألقى خطابه على مسامعنا منذ شهور، يبدو أنه كان يصدق كل ما كُتِبَ أمامه حتى أننا صدقناه. الخطاب كتبه مبدع كان يحلم بوضع اسمه فوق غلاف كتاب، لكنهم يسرقون الأحلام، حين عاتبته بعدها بشهور قال لي بلغة ساخرة تحمل كل ألم ومرارة:
- "لا تتعجب نحن متشابهين حد التوحد، الطبلة عنصر أساسي في الفرقة، مع كل لمسة فوق سطحها الرقيق تجد ما يطعمك وأبناؤك، وأجد أنا ما آكله مع كل كذبة يطلقها لسان السياسي!، أنت تضبط إيقاع اللحن فتتجاوب معك الراقصة وأنا أضبط إيقاع الخطاب لأقنع جمهورا من السكارى بالتصفيق".
صمت قليلا قبل أن يتابع: "سياسيونا يعشقون التطبيل ونحن شعوب مولعة بالرقص في كل الأوساط يا صديقي".
كانت حقا نجمة عالية جدا حتى أن أحدا لم يستطع لمسها، أحببتها وأحبتني، طلبتها للزواج، أخبرتها أنني أرغب أن يكون هذا الجمال لي وحدي، همست لي يومها أن اتبعها إلى غرفتها، أجلستني على كرسي أمامها، قالت أنها تحبني كما أنا، بكل عيوبي ومساوئي تحب ذلك الشخص المثقف القابع داخلي، ثم تابعت بصوت يشي بعتاب واضح ويوشك على البكاء "كلكم ترغبون في الجمال لكن أحدا لم ينظر إلىّ من الداخل، حتى أنت"
مدت يدها إلى رأسها رفعت عنه الشعر المستعار الذي كان يتهدل فوق كتفيها، ثم أمسكت منديلا أزالت به طبقات سميكة من الطلاء فوق وجهها وصرخت: " أنا قبيحة، هل ترى أنا قبيحة جدا" كانت هذه هي الصورة الأخيرة التي انطبعت في ذاكرتي، خَرَجتُ من غرفتها تائها، لم أدرِ لماذا لم أخبرها أنني أحببتها أيضا بكل عيوبها، بقلبها المهشم وبعقلها الصديء، وربما كانت ستتهمني بالجنون إن أخبرتها أنني أحببت طهرا لم يره فيها أحد سواى، كنت أرغب في العودة إليها لكن سيارة مسرعة فاجأتني عرفت بعدها أن قائدها هو ابن السياسي المعروف وأن....
- "سيد يا طبال اشتغل ... سماهر وصلت" ،
أرجع بالكرسي للوراء، أمسك بطبلتي، أعدل وضع النضارة السوداء على عيني وأبدأ العزف
Sponsored Links
ارتفع صوت النبطجى عبر سماعات كبيرة موضوعة عن يمين ويسار المسرح الخشبي، بعد دخول رئيس الحي أو "رئيس جمهورية المنطقة" على حد قوله - النبطجى- تعجبت حين سمعت نفس الألسن التي كانت تسبه منذ أيام -بعد غرق طفل في بالوعة للصرف الصحي- تلهج بالدعاء له، فيما انزلقت من النبطجى عبارات تمجيد وشكر لصاحب العرس الذي منحه شرف التواجد في هذا اليوم الهام، كان يردد أسماء الجميع بنفس الحماس للزج بهم في منافسة قوية بغرض تحفيزهم على دفع المزيد من "النقوط*" ، ولم يكن يحط من قدر أحد حتى وإن كان على خلاف معه، حينما دخل "عبده الحلاق" الذي اشتكى لي منه بالأمس، صدح صوته بالمدح والثناء في حق الرجل، ضحكت بصوت عال ولم استطع منع نفسي من التعليق بأنه يمثل نموذجا للتملق والنفاق، قال ببساطة:
- "أكل عيشي وبعدين دي فهلوه ملهاش علاقة بالنفاق!".
شعرت بارتعاشة صوته بعد تهديد مجموعة من السكارى بضربه إن لم يعلن بدء العرض، أحسست أن الموسيقى والرقص صارا مكملات مزاجية لما يتعاطونه من مخدرات، سمعته يقول بصوت خفيض :
- " يا حودة قول للست "سماهر" تخلص خلي الليلة دي تعدي على خير".
"سماهر"! أعرف جيدا هذا الاسم، صاحبته كانت يوما أنا، ترى هل ستعرفني حين تراني؟، لازلت أذكر المرة الأولى التي جمعتنا، كنت في حفلة عرس "عمر الكاتب" صديقي في كلية الآداب، والذي قضى سبع سنوات من عمره فيها، والكاتب اسم أطلقناه عليه بعد فوزه بجائزة الجامعة في مجال الكتابة لأربعة أعوام متتالية، كان يبتهج بمكافآت بسيطة يهديها له عميد الكلية بعد كل مركز أول يحصل عليه، وتسعده قروش قليلة تدفعها له الجامعة كإعانة اجتماعية بعد أن فقد والده، لا أنسى كيف بكى يوم تخرُجِنا قبل أن يطلب مني إخباره بأي فرصة عمل قد تمر أمامي وإن لم تناسبه، لكنه وبين عشية وضحاها صار من أغنياء مدينتنا، لدرجة أنه أقام عرسه في قاعة أجرها في بضع ساعات يعدل أجري في أشهرٍ ستٍ، يومها كانت سماهر تتلوى أمام العروسين، استئذنت الطبال وبدأت في بالدق على الطبلة بدلا منه، تفجرت عبقرية جسدها واقتنع الجميع بأنها ولدت لتكون نجمة فوق هذا المسرح، تماما كاقتناعي بعبقرية كلمات السياسي المعروف الذي ألقى خطابه على مسامعنا منذ شهور، يبدو أنه كان يصدق كل ما كُتِبَ أمامه حتى أننا صدقناه. الخطاب كتبه مبدع كان يحلم بوضع اسمه فوق غلاف كتاب، لكنهم يسرقون الأحلام، حين عاتبته بعدها بشهور قال لي بلغة ساخرة تحمل كل ألم ومرارة:
- "لا تتعجب نحن متشابهين حد التوحد، الطبلة عنصر أساسي في الفرقة، مع كل لمسة فوق سطحها الرقيق تجد ما يطعمك وأبناؤك، وأجد أنا ما آكله مع كل كذبة يطلقها لسان السياسي!، أنت تضبط إيقاع اللحن فتتجاوب معك الراقصة وأنا أضبط إيقاع الخطاب لأقنع جمهورا من السكارى بالتصفيق".
صمت قليلا قبل أن يتابع: "سياسيونا يعشقون التطبيل ونحن شعوب مولعة بالرقص في كل الأوساط يا صديقي".
كانت حقا نجمة عالية جدا حتى أن أحدا لم يستطع لمسها، أحببتها وأحبتني، طلبتها للزواج، أخبرتها أنني أرغب أن يكون هذا الجمال لي وحدي، همست لي يومها أن اتبعها إلى غرفتها، أجلستني على كرسي أمامها، قالت أنها تحبني كما أنا، بكل عيوبي ومساوئي تحب ذلك الشخص المثقف القابع داخلي، ثم تابعت بصوت يشي بعتاب واضح ويوشك على البكاء "كلكم ترغبون في الجمال لكن أحدا لم ينظر إلىّ من الداخل، حتى أنت"
مدت يدها إلى رأسها رفعت عنه الشعر المستعار الذي كان يتهدل فوق كتفيها، ثم أمسكت منديلا أزالت به طبقات سميكة من الطلاء فوق وجهها وصرخت: " أنا قبيحة، هل ترى أنا قبيحة جدا" كانت هذه هي الصورة الأخيرة التي انطبعت في ذاكرتي، خَرَجتُ من غرفتها تائها، لم أدرِ لماذا لم أخبرها أنني أحببتها أيضا بكل عيوبها، بقلبها المهشم وبعقلها الصديء، وربما كانت ستتهمني بالجنون إن أخبرتها أنني أحببت طهرا لم يره فيها أحد سواى، كنت أرغب في العودة إليها لكن سيارة مسرعة فاجأتني عرفت بعدها أن قائدها هو ابن السياسي المعروف وأن....
- "سيد يا طبال اشتغل ... سماهر وصلت" ،
أرجع بالكرسي للوراء، أمسك بطبلتي، أعدل وضع النضارة السوداء على عيني وأبدأ العزف