أريد اليوم أن أتحدث عن كتابين من كتب شبابنا القصاص، هما: «يوم الثلاثاء» و«أرض الخطايا» للأستاذ أمين يوسف غراب.
وأحب قبل كل شيء أن أسجِّل اغتباطي بأني أستكشف في آثار الشباب أدبًا خليقًا بالعناية والرعاية حقًّا، لست أدري: أأهمَلَه غيري من الشيوخ كما أهملْتُه أنا، أم انفردت أنا بهذا الإهمال المعيب؟ فقد صُرِفت عن هذا الأدب الخصب الرائع إلى الأعمال العامة أحيانًا، وإلى الأدب القديم أحيانًا أخرى، وإلى الأدب الأوروبي والأمريكي طورًا ثالثًا، ثم إلى أدب الأتراب والنظراء مرةً أخرى، وأهملتُ ما كان الحق يقضي بأن أمنحه من الوقت والجهد ما هو أهل له.
وأكاد أعترف لهؤلاء الشباب بأن من حقهم أن يغضبوا وأن يعتبوا، بل أن يلوموا ويثقلوا في اللوم، فهم يكدُّون ويجدُّون وينتجون فيحسنون الإنتاج، ثم لا يجدون صدى لجهدهم وكدِّهم وإنتاجهم، إلا ما يكون من هذا الصدى الخفي الذي يتردَّد في نفوس القرَّاء حين يقرءون فيرضون أو يسخطون، ثم لا يعربون عمَّا يجدون من الرضى والسخط؛ لأنهم ليسوا نقَّادًا ولا كتَّابًا، وإنما هم قرَّاء يأخذون ما يُقدَّم إليهم، فإذا فرغوا منه انصرفوا إلى غيره، وانصرفوا إلى أعمالهم، ونسَوا ما قرءوا كما ينسون ما يأكلون ويشربون.
وأحب بعد ذلك أن أهدي إلى الأستاذ أمين يوسف غراب أصدق الشكر وأخلصه وأجمله؛ لأني قرأت كتابَيْه فلم ترهقني قراءتهما من أمري عسرًا، ولم أتكلَّف فيهما ما أتكلَّفه من قراءة غيرهما من الكتب التي يكثر فيها التخفف من إجادة اللفظ، وإتقان التعبير، وتخيُّر الأسلوب والمحافظة على منزلة متوسطة بين الغريب الذي لا يساغ والمبتذل الذي لا يطاق.
فالأستاذ أمين يوسف غراب كاتب يعرف لغته حق المعرفة، ويحسن التصرف فيها غير متكلِّف ولا متصنِّع، لا يخرج عن ذلك إلا حين يضطره الفن إلى هذا الخروج حين يروي نكتة عامية، أو يدير الحوار بين رجلين أو امرأتين، أو رجل وامرأة من أهل الريف، فأما حين يعرب عن ذات نفسه فهو يؤدي ما يريد في لغة نقية وأسلوب صفو، ولفظ يتخيَّره فيحسن تخيُّره، وهو يرتفع في كثير من الأحيان إلى ألوان من التشبيه الرقيق الدقيق الذي يبعد في غرابته حتى يفاجِئَ القارئ فُجاءة حلوة، ويقع من نفسه أحسن موقع، ويترك فيه أحسن الآثار، والكاتب على ذلك لم يتخرج في الجامعة ولا في الأزهر، ولم يختلف إلى المدارس ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدِّبين، وإنما علَّم نفسه فأحسن تعليمها، وأخذها بفنون من العنف حتى انقادت له فأحسنت الانقياد، وقرأ ما أرادها على أن تقرأه، فعرفت كيف تقرأ وكيف تفهم، وكيف تسيغ ما تقرأ وما تفهم، وكيف تتمثله ثم ترده بعد ذلك أدبًا طريفًا فيه كثير من روعة، وفيه كثير من جمال؛ لأنها أضافت إليه من خلاصة طبعها ما أسبغ عليه سذاجة حلوة، وأجرى فيه روحًا مصريًّا عذبة.
وهو قد قرأ أدب المعاصرين من بني وطنه، ثم قرأ أدب القدماء فأكثر قراءته، ثم هو لم يتعلم لغةً أجنبيةً، ولكنه رغم ذلك قد تأثَّر بما قرأ وبما نقل عن اللغات الأجنبية، لم يَكَدْ يترك منه شيئًا، وأتيح له من هذه القراءة المختلفة المتنوعة فنٌّ من الأدب لا شك في أصالته، وفي طابعه المصري الخالص، ولا شك مع ذلك في أنه متصل بالحياة العامة التي يحياها الناس على اختلاف أجناسهم ولغاتهم في هذا العصر الحديث.
ولست أزعم أن الأستاذ أمين يوسف غراب قد وصل إلى أرفع منزلة من الأدب، فبينه وبين هذه المنزلة أمد لا يزال بعيدًا، وأي الناس يصل إلى هذه المنزلة حتى حين يتاح له ما لم تتح لهذا الكاتب الأديب من وسائل الإجادة والإتقان، وإنما أزعم أنه دليل أي دليل على أن في النفس المصرية من الخصب، وجودة الطبع، وصفاء الذوق، واعتدال المزاج، ما يتيح لها أن تشارك في الأدب الرفيع فتحسن المشاركة.
والأستاذ أمين يوسف غراب قاصٌّ مقصر إلى الآن، لم يحاول أن يطيل القصص فيما أعلم، وأكبر الظن أن الوقت لم يتح له كما لم يتح له فراغ البال، وأنه إنما يكتب هذا القصص القصير مستجلبًا لفنه من ناحية، ولضرورات الإنتاج السريع المنتظم من ناحية أخرى.
وأحسب أنه لو فرغ لفنِّه وقُدِّر له أن يجنب ما تفرضه الحياة اليومية من العسر، لأُتِيحَ له إنتاجٌ أكثر إمتاعًا وأغزر مادةً وأقدر على طول البقاء. وهو يشتق أحاديثه هذه القصار من حياتنا المصرية اليومية فيحسن اشتقاقها، ويرفعها من طور الواقع المبتذل إلى حيث يجعلها أدبًا فيه عبرة وعظة، وفيه إثارة لعواطف الرضى والسخط والسرور والحزن والأمل واليأس، وفيه ميل شديد إلى التشاؤم، فهو يجيد أكثر ما يجيد تصوير الآمال الخائبة والظنون الكاذبة والأوهام التي تدفع أصحابها إلى التورُّطِ في الخطأ الذي لا سبيل إلى إصلاحه، واقترافِ الإثم الذي لا أمل في استدراكه، فهذا الفتى يضطرب بين البؤس البائس والأمل المختلط النزق حتى يقترف جريمة القتل والسرقة، ثم لا يلبث أن يستكشف أنه لم يسرق إلا وهمًا؛ لأن النقد الذي سرقه وقتل في سبيله نقد أجنبي لا يغني عنه شيئًا إلا أنه يسلِّمه إلى السلطان ليقتصَّ منه، وهو مع ذلك قد اضطر إلى الإثم اضطرارًا، وقاوم الإثم ما استطاع أن يقاومه. وهذا الرجل الذي يقرأ كُتُبًا فيرى فيها حبًّا آثِمًا قد تورَّطت فيه امرأته، فيُخرِجه الغضب عن طوره وتسيطر الحفيظة على أمره كله، ويستيقن أن امرأته تلك التي تلد في المستشفى إنما تلد نتيجة الإثم والفجور، فلا يكاد يردها ويرد معها الصبي إلى داره حتى تنتهي الغيرة إلى خنق هذا الصبي البريء، ثم لا يلبث أن يتبيَّن أنه لم يقتل إلا ابنه؛ لأن تلك الكتب الآثِمة لم تكن موجَّهة إلى امرأته، وإنما كانت موجَّهة إلى الخادم التي طُرِدت من الدار حين استكشفت سيدتها هذا الإثم.
وهذا الرجل الساذج من أهل الريف كان يرعى الغنم على عمدة القرية، فزوَّجه العمدة من ابنة خادم تعمل في داره، وهو محب لزوجه محسود على أنه قد تزوَّجها، ولكنه يسمع تعريضًا بأن امرأته أثيرة عند العمدة فيقتلها، ثم يستكشف بعد دقائق بأنها لم تكن أثيرة العمدة إلا لأنها كانت ابنته من خادمه.
والكاتب لا ينتهي بقصصه دائمًا إلى الإثم المقطع المبهظ الذي تسيل فيه الدماء وتزهق فيه النفوس، ولكنه ينتهي في كثير من الأحيان إلى خيبة من الآمال ليست أقل شنعًا وبشاعةً من ذلك الإثم، وأسلوبه في تصوير خيبة الأمل هذه يشبه كثيرًا ما تألفه عند الكاتب الفرنسي موباسان، فأكبر الظن أنه قرأ ما تُرجِم إلى العربية من هذا الكتاب، وقرأ كاتبنا العظيم محمود تيمور فأحسن الانتفاع بما قرأ.
وهو من أبرع الناس في تصوير البؤس والشقاء والحرمان، سواء أكان مصدر هذه الخصال هو سوء النظام الاجتماعي، أم هو الانحراف عن جادة الفضيلة وطريق الخُلُق القويم. على أن من الإسراف أن يقال إن كاتبنا يجيد دائمًا، ويُوفَّق دائمًا إلى ما يحب؛ فما أكثر ما يخطئه التوفيق فينتهي إلى غير غاية، وما أكثر ما يضطر أحيانًا إلى التزيد والإغراق في الوصف، ولا سيما حين يصف الترف والمترفين! وما أكثر ما يتورَّط في عيب آخَر يشارك فيه كثيرًا من أترابه الكتَّاب الشباب، هو الإسراف في وصف جسم المرأة وجماله وفتنته المغرية! وأحسبه وأحسب أمثاله من الكتَّاب يتملقون بهذا الإغراق استجابةَ الناس للغرائز، وإيثارَهم لكل ما من شأنه أن يثير فيهم هذه الاستجابة، وينسَون أن الأدباء إنما يكتبون لتأديب الشعب وتهذيبه لا لتملُّقه وإغرائه.
وكاتبنا من أقل الكتَّاب كلفًا بالابتذال في اللفظ، ولكني مع ذلك أحب له ألَّا يغلو في وصف الطعام على هذا النحو المتهالك الفج، الذي يجب أن يشير إليه الأدب دون أن يمعن فيه.
أما بعدُ، فإني أهنِّئ كاتبنا بأدبه هذا الخصب الرائق، وما أشك في أنه إذا أمعن في القراءة وأحسن اختيار ما يقرأ، وراقب نفسه حين يكتب، واشتَدَّ في مراقبتها؛ سينتهي بأدبه إلى غاية بعيدة من الإجادة والإحسان والارتفاع.
وأحب قبل كل شيء أن أسجِّل اغتباطي بأني أستكشف في آثار الشباب أدبًا خليقًا بالعناية والرعاية حقًّا، لست أدري: أأهمَلَه غيري من الشيوخ كما أهملْتُه أنا، أم انفردت أنا بهذا الإهمال المعيب؟ فقد صُرِفت عن هذا الأدب الخصب الرائع إلى الأعمال العامة أحيانًا، وإلى الأدب القديم أحيانًا أخرى، وإلى الأدب الأوروبي والأمريكي طورًا ثالثًا، ثم إلى أدب الأتراب والنظراء مرةً أخرى، وأهملتُ ما كان الحق يقضي بأن أمنحه من الوقت والجهد ما هو أهل له.
وأكاد أعترف لهؤلاء الشباب بأن من حقهم أن يغضبوا وأن يعتبوا، بل أن يلوموا ويثقلوا في اللوم، فهم يكدُّون ويجدُّون وينتجون فيحسنون الإنتاج، ثم لا يجدون صدى لجهدهم وكدِّهم وإنتاجهم، إلا ما يكون من هذا الصدى الخفي الذي يتردَّد في نفوس القرَّاء حين يقرءون فيرضون أو يسخطون، ثم لا يعربون عمَّا يجدون من الرضى والسخط؛ لأنهم ليسوا نقَّادًا ولا كتَّابًا، وإنما هم قرَّاء يأخذون ما يُقدَّم إليهم، فإذا فرغوا منه انصرفوا إلى غيره، وانصرفوا إلى أعمالهم، ونسَوا ما قرءوا كما ينسون ما يأكلون ويشربون.
وأحب بعد ذلك أن أهدي إلى الأستاذ أمين يوسف غراب أصدق الشكر وأخلصه وأجمله؛ لأني قرأت كتابَيْه فلم ترهقني قراءتهما من أمري عسرًا، ولم أتكلَّف فيهما ما أتكلَّفه من قراءة غيرهما من الكتب التي يكثر فيها التخفف من إجادة اللفظ، وإتقان التعبير، وتخيُّر الأسلوب والمحافظة على منزلة متوسطة بين الغريب الذي لا يساغ والمبتذل الذي لا يطاق.
فالأستاذ أمين يوسف غراب كاتب يعرف لغته حق المعرفة، ويحسن التصرف فيها غير متكلِّف ولا متصنِّع، لا يخرج عن ذلك إلا حين يضطره الفن إلى هذا الخروج حين يروي نكتة عامية، أو يدير الحوار بين رجلين أو امرأتين، أو رجل وامرأة من أهل الريف، فأما حين يعرب عن ذات نفسه فهو يؤدي ما يريد في لغة نقية وأسلوب صفو، ولفظ يتخيَّره فيحسن تخيُّره، وهو يرتفع في كثير من الأحيان إلى ألوان من التشبيه الرقيق الدقيق الذي يبعد في غرابته حتى يفاجِئَ القارئ فُجاءة حلوة، ويقع من نفسه أحسن موقع، ويترك فيه أحسن الآثار، والكاتب على ذلك لم يتخرج في الجامعة ولا في الأزهر، ولم يختلف إلى المدارس ولم يجلس إلى الأساتذة والمؤدِّبين، وإنما علَّم نفسه فأحسن تعليمها، وأخذها بفنون من العنف حتى انقادت له فأحسنت الانقياد، وقرأ ما أرادها على أن تقرأه، فعرفت كيف تقرأ وكيف تفهم، وكيف تسيغ ما تقرأ وما تفهم، وكيف تتمثله ثم ترده بعد ذلك أدبًا طريفًا فيه كثير من روعة، وفيه كثير من جمال؛ لأنها أضافت إليه من خلاصة طبعها ما أسبغ عليه سذاجة حلوة، وأجرى فيه روحًا مصريًّا عذبة.
وهو قد قرأ أدب المعاصرين من بني وطنه، ثم قرأ أدب القدماء فأكثر قراءته، ثم هو لم يتعلم لغةً أجنبيةً، ولكنه رغم ذلك قد تأثَّر بما قرأ وبما نقل عن اللغات الأجنبية، لم يَكَدْ يترك منه شيئًا، وأتيح له من هذه القراءة المختلفة المتنوعة فنٌّ من الأدب لا شك في أصالته، وفي طابعه المصري الخالص، ولا شك مع ذلك في أنه متصل بالحياة العامة التي يحياها الناس على اختلاف أجناسهم ولغاتهم في هذا العصر الحديث.
ولست أزعم أن الأستاذ أمين يوسف غراب قد وصل إلى أرفع منزلة من الأدب، فبينه وبين هذه المنزلة أمد لا يزال بعيدًا، وأي الناس يصل إلى هذه المنزلة حتى حين يتاح له ما لم تتح لهذا الكاتب الأديب من وسائل الإجادة والإتقان، وإنما أزعم أنه دليل أي دليل على أن في النفس المصرية من الخصب، وجودة الطبع، وصفاء الذوق، واعتدال المزاج، ما يتيح لها أن تشارك في الأدب الرفيع فتحسن المشاركة.
والأستاذ أمين يوسف غراب قاصٌّ مقصر إلى الآن، لم يحاول أن يطيل القصص فيما أعلم، وأكبر الظن أن الوقت لم يتح له كما لم يتح له فراغ البال، وأنه إنما يكتب هذا القصص القصير مستجلبًا لفنه من ناحية، ولضرورات الإنتاج السريع المنتظم من ناحية أخرى.
وأحسب أنه لو فرغ لفنِّه وقُدِّر له أن يجنب ما تفرضه الحياة اليومية من العسر، لأُتِيحَ له إنتاجٌ أكثر إمتاعًا وأغزر مادةً وأقدر على طول البقاء. وهو يشتق أحاديثه هذه القصار من حياتنا المصرية اليومية فيحسن اشتقاقها، ويرفعها من طور الواقع المبتذل إلى حيث يجعلها أدبًا فيه عبرة وعظة، وفيه إثارة لعواطف الرضى والسخط والسرور والحزن والأمل واليأس، وفيه ميل شديد إلى التشاؤم، فهو يجيد أكثر ما يجيد تصوير الآمال الخائبة والظنون الكاذبة والأوهام التي تدفع أصحابها إلى التورُّطِ في الخطأ الذي لا سبيل إلى إصلاحه، واقترافِ الإثم الذي لا أمل في استدراكه، فهذا الفتى يضطرب بين البؤس البائس والأمل المختلط النزق حتى يقترف جريمة القتل والسرقة، ثم لا يلبث أن يستكشف أنه لم يسرق إلا وهمًا؛ لأن النقد الذي سرقه وقتل في سبيله نقد أجنبي لا يغني عنه شيئًا إلا أنه يسلِّمه إلى السلطان ليقتصَّ منه، وهو مع ذلك قد اضطر إلى الإثم اضطرارًا، وقاوم الإثم ما استطاع أن يقاومه. وهذا الرجل الذي يقرأ كُتُبًا فيرى فيها حبًّا آثِمًا قد تورَّطت فيه امرأته، فيُخرِجه الغضب عن طوره وتسيطر الحفيظة على أمره كله، ويستيقن أن امرأته تلك التي تلد في المستشفى إنما تلد نتيجة الإثم والفجور، فلا يكاد يردها ويرد معها الصبي إلى داره حتى تنتهي الغيرة إلى خنق هذا الصبي البريء، ثم لا يلبث أن يتبيَّن أنه لم يقتل إلا ابنه؛ لأن تلك الكتب الآثِمة لم تكن موجَّهة إلى امرأته، وإنما كانت موجَّهة إلى الخادم التي طُرِدت من الدار حين استكشفت سيدتها هذا الإثم.
وهذا الرجل الساذج من أهل الريف كان يرعى الغنم على عمدة القرية، فزوَّجه العمدة من ابنة خادم تعمل في داره، وهو محب لزوجه محسود على أنه قد تزوَّجها، ولكنه يسمع تعريضًا بأن امرأته أثيرة عند العمدة فيقتلها، ثم يستكشف بعد دقائق بأنها لم تكن أثيرة العمدة إلا لأنها كانت ابنته من خادمه.
والكاتب لا ينتهي بقصصه دائمًا إلى الإثم المقطع المبهظ الذي تسيل فيه الدماء وتزهق فيه النفوس، ولكنه ينتهي في كثير من الأحيان إلى خيبة من الآمال ليست أقل شنعًا وبشاعةً من ذلك الإثم، وأسلوبه في تصوير خيبة الأمل هذه يشبه كثيرًا ما تألفه عند الكاتب الفرنسي موباسان، فأكبر الظن أنه قرأ ما تُرجِم إلى العربية من هذا الكتاب، وقرأ كاتبنا العظيم محمود تيمور فأحسن الانتفاع بما قرأ.
وهو من أبرع الناس في تصوير البؤس والشقاء والحرمان، سواء أكان مصدر هذه الخصال هو سوء النظام الاجتماعي، أم هو الانحراف عن جادة الفضيلة وطريق الخُلُق القويم. على أن من الإسراف أن يقال إن كاتبنا يجيد دائمًا، ويُوفَّق دائمًا إلى ما يحب؛ فما أكثر ما يخطئه التوفيق فينتهي إلى غير غاية، وما أكثر ما يضطر أحيانًا إلى التزيد والإغراق في الوصف، ولا سيما حين يصف الترف والمترفين! وما أكثر ما يتورَّط في عيب آخَر يشارك فيه كثيرًا من أترابه الكتَّاب الشباب، هو الإسراف في وصف جسم المرأة وجماله وفتنته المغرية! وأحسبه وأحسب أمثاله من الكتَّاب يتملقون بهذا الإغراق استجابةَ الناس للغرائز، وإيثارَهم لكل ما من شأنه أن يثير فيهم هذه الاستجابة، وينسَون أن الأدباء إنما يكتبون لتأديب الشعب وتهذيبه لا لتملُّقه وإغرائه.
وكاتبنا من أقل الكتَّاب كلفًا بالابتذال في اللفظ، ولكني مع ذلك أحب له ألَّا يغلو في وصف الطعام على هذا النحو المتهالك الفج، الذي يجب أن يشير إليه الأدب دون أن يمعن فيه.
أما بعدُ، فإني أهنِّئ كاتبنا بأدبه هذا الخصب الرائق، وما أشك في أنه إذا أمعن في القراءة وأحسن اختيار ما يقرأ، وراقب نفسه حين يكتب، واشتَدَّ في مراقبتها؛ سينتهي بأدبه إلى غاية بعيدة من الإجادة والإحسان والارتفاع.