أُدير محرك السيارة لتنطلق بي إلى هناك .. إلى تلك الجنة التي فقدتها ذات يوم .. أضع ذاك الشريط الذي يثير فيّ الشجن كلما دار في جهاز التسجيل .. وينفرد بي الحزن .. يسقطني في أخاديد الذكرى العميقة .. ذكرى مؤلمة تعود منها النفس مهشمة على تلك الصخور الجارحة في تلك الأخاديد . تتزاحم الذكريات وتدور الكلمات :
سأرحل .
وا أسفي .. أصبح الرحيل عن الوطن هو الحلم .
لا تتأسفي .. إذا تحول الوطن إلى منفى !
أيعقل ؟!
ربما .. وها قد حصل !
كان يتكلم بصوتٍ حزين .. وآثار التعب تبدو على وجههِ بصورة واضحة .. لذتُ بالصمت .. فهول المفاجأة ذبح صوتي . أنا أُدرك .. بأن لكلٍ منا فلسفته في الحياة وطريقة تفكيره الخاصة .. لم أعترض .. فماذا يفيد الكلام وقد قرر هو وانتهى الأمر ! ابتسم .. كالتماعة آخر شعاع ساعة الغروب .. بسمة فرح ذائب ، مغادر .. وافترقنا ! كل منا مضى على طريق نهايته .. وغابت الصورة التي التقطها قلبي له في آخر لقاء .
منذ الأزل الحب والعذاب توأمان .. هل أستطيع أن أُغير قانون الطبيعة ؟! وتمطر الأحزان عبر صوت فيروز ، وتبحر بي في عباب الذاكرة . غادرناها بعد أن كبرنا .. وبعد أن استوجبَ علينا أن نتركها .. لم يكن بخاطرنا ، فهكذا حكمت الظروف في حينها .. والإنسان يرضخ للظروف في أغلب الأحيان . حينَ ابتعدنا شعرتُ بأني اقتربتُ أكثر .. فليست كل الأشياء يستطيع أن يقضي عليها الزمن بالنسيان .. ولم أجد سوى الذكريات أتدثر بها في ليل الغربة البارد .. كل هذا راودني وأنا أسوق سيارتي على طول الطريق .
وتظهر العمادية من بعيد ( إمارة بهدينان ) كما تُسمى في كتب التاريخ .. المدينة العريقة ، الجميلة التي أشتاق إليها دائماً .. حينَ التقينا آخر مرة .. بادرتهُ بالسؤال عنها :
حدثني عنها .. قُل أي شيء ؟ بلل ريقي بكلمات عنها .. حدثني عن هوائها وأهلها ودروبها وشارعها الأوحد .
لم يتغير أي شيء في معالمها .. مع هذا فهي ليست هي .
دوامة الجواب أذهلتني وأحزنتني في الوقت نفسه .
على الجانبين تلمع الحقول الخضر تحت وهج الشمس .. وتقترب كلما اقتربت أكثر .. مدينة معلقة على رأس جبل .. خصها الله بطبيعةٍ رائعة .. وأصل إليها .. توقفني بوابتيها ( باب الموصل ، وباب الزيبار ) بابان حجريان لا يعلم سوى الزمان في أي تاريخٍ قد شُيدا .. منحوت عليهما عقبان وأفاعٍ _ رموزاً للقوة والحكمة _ أتجول في طرقاتها وحيدة .. هل أبكي ؟ .. فالوجه الذي أعطى كياني المعنى الكامل لا يسكن هذهِ الديار !
وتأخذني الدروب نحو البيت القديم .. بيت واسع يغفو في حضن الجبل .. أطرق الباب وأنا أعلم .. ليسَ فيه أحد .. أفتحهُ .. تواجهني روائح الطفولة .. ما أعذبها .. البيت الذي ولدتُ فيه .. أول مكان أدخلهُ غرفة جدي .. أنظر من خلال النافذة .. البيت ساكن بكل شيء .. أهله وناسه والعالم حوله والسماء أيضاً .. شجرة التين هادئة تغرقها أشعة الشمس الذهبية .. فهي في الحديقة منذ وعيت الحياة .. للمكان عبق سحري في قلبي ونفسي .. كم من الأشياء استيقظت في داخلي ؟! .. الكل غادر البيت .. لم يبقَ فيه غير الأشجار .. شجرة التوت التي زرعها جدي يوم ولدت .. كلانا كبر .. تشع ببريقها .. أصغي إلى أصوات الطيور والعصافير التي عششت فيها .. يمتلئ المكان بغنائها .. أسترق السمع وأتلذذ .. شعرتُ بالفخر .. فشجرتي غدت وطناً !
أخرج إلى الفناء .. أنظر من خلال السياج إلى بيت الجيران .. ليسوا هم ! .. فهناك آخرون يسكنون الدار ، لا أعرفهم .. رمقتُ كل ما هو موجود بنظرة شرود .. وتوقفت عند الشجرة التي جلسنا تحت ظلها .. هناك على تلك الأرجوحة تحت شجرة الخوخ صادفني أول حب .. ورغم أن هذا المشهد أمسى بعيداً إلاّ أني ما زلتُ أتذكرهُ بوضوح .. وكأنهُ حصل الآن .. تذكرتُ في تلك اللحظة كل الأشياء .. تجمعت فيها بدفعة واحدة كالبؤرة : لقاء ، طموح ، أمل .. ونهاية ! هل تجدي الاعترافات في الحب ؟ ..لا أظن ! .. فما كنا فيه يؤكد ما هو أعمق من أن نعترف به .
ما لهذا الزمن يركض بنا وتلك اللحظات هربت منا وكأنها لم تكن في قبضتنا .. أينَ كلماته ووعوده .. في أي بئرٍ غاصت ؟؟ الزمان قد التهم تلك الأيام الرائعة .. لكن شذاها مازال يحيا في ذاكرتي .
خرجتُ من البيت .. سألت عن كل مَن كان معنا حينها .. الكل قد غادر .. والمدينة يسكنها الغرباء .. بعضهم غادر إلى السويد وبعضهم إلى ألمانيا وبعضهم إلى هولندا .. و .. .. ..
و .. .. .. و .. .. .. القائمة تطول .. تركوا الأرض والوطن ، وغادروا .. حتى دون كلمات وداع !
ركبتُ السيارة مغادرةً العمادية قاصدةً ( الريبار ) الغوطة التي تحيط بتلك القمة .. طريق ملتو محاط من الطرفين بالأشجار .. غابة كثيفة وافرة بثمارها .. ولكن مَن يجني خيراتها ؟ .. مجرد أُجراء !
الأفياء الوارفة تظلل المكان كله .. أرفع نظري نحو السماء .. القمم تخترق مسيرة السحب الممتدة .. تحيط بي صور بانورامية مدهشة .. أسمع همس الطبيعة .. تراتيل منغمة كدعاء أُم .. أستنشق الهواء بتلذذ .. نما في داخلي خشوع عميق .. خشوع نبع من أعماق ذاتي .. تآلف بسرعة مع سمو الطبيعة وجلال الذكرى .. وأسأل نفسي :
كيفَ تركنا هذهِ الجنة ؟!
يوقفني الجدول الآتي من جبال سولاف .. أجلس على ضفافه الهادئة .. أسمع خريره الخافت .. أنظر إلى المياه الصافية وهي تنساب فوق الحصى برفق .. تياره الجاري يأخذ الفكر نحو البعيد .. كم من الزوارق الورقية صنعناها من دفاترنا المدرسية .. وكم حملناها بالآمال ؟؟ وفي إحدى المرات صنع زورقهُ من دفتر الرسم .. سألته :
لِمَ صنعتهُ كبيراً ؟
كي يسعنا نحن الاثنين .
ألم يقل سنُبحر معاً .. إذاً كيفَ ترك البلاد ؟! تمنينا كثيراً .. وماتت الأمنيات مع الأيام !
السكون تكامل تماماً .. والظلام بدأ يتكاثف بسرعة .. لم تعد عيناي ترى غير أقرب الأشياء .. دائماً نزور الذكرى ، نحج إليها .. كمن يبحث عن الحب في ماضٍ لن يعود ! .. ننبش في رماد الذكريات عن بعض الجمر لينبض الحياة فينا من جديد .
سأرحل .
وا أسفي .. أصبح الرحيل عن الوطن هو الحلم .
لا تتأسفي .. إذا تحول الوطن إلى منفى !
أيعقل ؟!
ربما .. وها قد حصل !
كان يتكلم بصوتٍ حزين .. وآثار التعب تبدو على وجههِ بصورة واضحة .. لذتُ بالصمت .. فهول المفاجأة ذبح صوتي . أنا أُدرك .. بأن لكلٍ منا فلسفته في الحياة وطريقة تفكيره الخاصة .. لم أعترض .. فماذا يفيد الكلام وقد قرر هو وانتهى الأمر ! ابتسم .. كالتماعة آخر شعاع ساعة الغروب .. بسمة فرح ذائب ، مغادر .. وافترقنا ! كل منا مضى على طريق نهايته .. وغابت الصورة التي التقطها قلبي له في آخر لقاء .
منذ الأزل الحب والعذاب توأمان .. هل أستطيع أن أُغير قانون الطبيعة ؟! وتمطر الأحزان عبر صوت فيروز ، وتبحر بي في عباب الذاكرة . غادرناها بعد أن كبرنا .. وبعد أن استوجبَ علينا أن نتركها .. لم يكن بخاطرنا ، فهكذا حكمت الظروف في حينها .. والإنسان يرضخ للظروف في أغلب الأحيان . حينَ ابتعدنا شعرتُ بأني اقتربتُ أكثر .. فليست كل الأشياء يستطيع أن يقضي عليها الزمن بالنسيان .. ولم أجد سوى الذكريات أتدثر بها في ليل الغربة البارد .. كل هذا راودني وأنا أسوق سيارتي على طول الطريق .
وتظهر العمادية من بعيد ( إمارة بهدينان ) كما تُسمى في كتب التاريخ .. المدينة العريقة ، الجميلة التي أشتاق إليها دائماً .. حينَ التقينا آخر مرة .. بادرتهُ بالسؤال عنها :
حدثني عنها .. قُل أي شيء ؟ بلل ريقي بكلمات عنها .. حدثني عن هوائها وأهلها ودروبها وشارعها الأوحد .
لم يتغير أي شيء في معالمها .. مع هذا فهي ليست هي .
دوامة الجواب أذهلتني وأحزنتني في الوقت نفسه .
على الجانبين تلمع الحقول الخضر تحت وهج الشمس .. وتقترب كلما اقتربت أكثر .. مدينة معلقة على رأس جبل .. خصها الله بطبيعةٍ رائعة .. وأصل إليها .. توقفني بوابتيها ( باب الموصل ، وباب الزيبار ) بابان حجريان لا يعلم سوى الزمان في أي تاريخٍ قد شُيدا .. منحوت عليهما عقبان وأفاعٍ _ رموزاً للقوة والحكمة _ أتجول في طرقاتها وحيدة .. هل أبكي ؟ .. فالوجه الذي أعطى كياني المعنى الكامل لا يسكن هذهِ الديار !
وتأخذني الدروب نحو البيت القديم .. بيت واسع يغفو في حضن الجبل .. أطرق الباب وأنا أعلم .. ليسَ فيه أحد .. أفتحهُ .. تواجهني روائح الطفولة .. ما أعذبها .. البيت الذي ولدتُ فيه .. أول مكان أدخلهُ غرفة جدي .. أنظر من خلال النافذة .. البيت ساكن بكل شيء .. أهله وناسه والعالم حوله والسماء أيضاً .. شجرة التين هادئة تغرقها أشعة الشمس الذهبية .. فهي في الحديقة منذ وعيت الحياة .. للمكان عبق سحري في قلبي ونفسي .. كم من الأشياء استيقظت في داخلي ؟! .. الكل غادر البيت .. لم يبقَ فيه غير الأشجار .. شجرة التوت التي زرعها جدي يوم ولدت .. كلانا كبر .. تشع ببريقها .. أصغي إلى أصوات الطيور والعصافير التي عششت فيها .. يمتلئ المكان بغنائها .. أسترق السمع وأتلذذ .. شعرتُ بالفخر .. فشجرتي غدت وطناً !
أخرج إلى الفناء .. أنظر من خلال السياج إلى بيت الجيران .. ليسوا هم ! .. فهناك آخرون يسكنون الدار ، لا أعرفهم .. رمقتُ كل ما هو موجود بنظرة شرود .. وتوقفت عند الشجرة التي جلسنا تحت ظلها .. هناك على تلك الأرجوحة تحت شجرة الخوخ صادفني أول حب .. ورغم أن هذا المشهد أمسى بعيداً إلاّ أني ما زلتُ أتذكرهُ بوضوح .. وكأنهُ حصل الآن .. تذكرتُ في تلك اللحظة كل الأشياء .. تجمعت فيها بدفعة واحدة كالبؤرة : لقاء ، طموح ، أمل .. ونهاية ! هل تجدي الاعترافات في الحب ؟ ..لا أظن ! .. فما كنا فيه يؤكد ما هو أعمق من أن نعترف به .
ما لهذا الزمن يركض بنا وتلك اللحظات هربت منا وكأنها لم تكن في قبضتنا .. أينَ كلماته ووعوده .. في أي بئرٍ غاصت ؟؟ الزمان قد التهم تلك الأيام الرائعة .. لكن شذاها مازال يحيا في ذاكرتي .
خرجتُ من البيت .. سألت عن كل مَن كان معنا حينها .. الكل قد غادر .. والمدينة يسكنها الغرباء .. بعضهم غادر إلى السويد وبعضهم إلى ألمانيا وبعضهم إلى هولندا .. و .. .. ..
و .. .. .. و .. .. .. القائمة تطول .. تركوا الأرض والوطن ، وغادروا .. حتى دون كلمات وداع !
ركبتُ السيارة مغادرةً العمادية قاصدةً ( الريبار ) الغوطة التي تحيط بتلك القمة .. طريق ملتو محاط من الطرفين بالأشجار .. غابة كثيفة وافرة بثمارها .. ولكن مَن يجني خيراتها ؟ .. مجرد أُجراء !
الأفياء الوارفة تظلل المكان كله .. أرفع نظري نحو السماء .. القمم تخترق مسيرة السحب الممتدة .. تحيط بي صور بانورامية مدهشة .. أسمع همس الطبيعة .. تراتيل منغمة كدعاء أُم .. أستنشق الهواء بتلذذ .. نما في داخلي خشوع عميق .. خشوع نبع من أعماق ذاتي .. تآلف بسرعة مع سمو الطبيعة وجلال الذكرى .. وأسأل نفسي :
كيفَ تركنا هذهِ الجنة ؟!
يوقفني الجدول الآتي من جبال سولاف .. أجلس على ضفافه الهادئة .. أسمع خريره الخافت .. أنظر إلى المياه الصافية وهي تنساب فوق الحصى برفق .. تياره الجاري يأخذ الفكر نحو البعيد .. كم من الزوارق الورقية صنعناها من دفاترنا المدرسية .. وكم حملناها بالآمال ؟؟ وفي إحدى المرات صنع زورقهُ من دفتر الرسم .. سألته :
لِمَ صنعتهُ كبيراً ؟
كي يسعنا نحن الاثنين .
ألم يقل سنُبحر معاً .. إذاً كيفَ ترك البلاد ؟! تمنينا كثيراً .. وماتت الأمنيات مع الأيام !
السكون تكامل تماماً .. والظلام بدأ يتكاثف بسرعة .. لم تعد عيناي ترى غير أقرب الأشياء .. دائماً نزور الذكرى ، نحج إليها .. كمن يبحث عن الحب في ماضٍ لن يعود ! .. ننبش في رماد الذكريات عن بعض الجمر لينبض الحياة فينا من جديد .