علي جعفر العلاق - أزِحْ قليلاً عَـتْمةَ النهـار

إلى جبرا إبراهيم جبرا


لم يأتِ أعزلَ ..
بل كانت تحفُّ به اللغاتُ
والمطرُ الصافي ، له حلُـمُ
المعذبين الحيارى تارةً ،
ويرى السرابَ محضَ اخضرارٍ
والمدىً مدناً من المجازاتِ
تترى ،
أو من الصخبِ ..
هل جاء من جهة النسيان ؟
كان له أمسٌ ، وثم غدٌ يدعوه،
محتشداً بالممكنات، وفي أقصاهُ سـيّدةٌ
على يديها يرى غُصْنينِ من ذهبِ
بل مركباً يعبر الطوفانَ منتشياً
من فتنة اللـون أو من خمرة الكتبِ ..
**
جلستْ قبالته الحضارةُ ..
غبطةُ الأنثى تعابثُ عزلة الرسّـامِ ،
ماجت نشـوةُ الفـرشــاةِ
وأكتملَ البهـاءُ على الأريكةْ ..
الليلُ يشرق من أصابعها ويعلو
هابطاً، حتى يلامس وردة النهرينِ
بل حتى يصيرَ الضوءُ تفّاحاً
وأنبذةً لمائدة المليكةْ ..
**
وهناك، في أدغال واسطَ ،
بعد قرنٍ، ربما، ىشمسٌ تدورُ لتستديرَ،
وثم حلْمٌ للصبيّ كوردة العاقولِ
ينمو ، أو يغيبُ ،
يفُضّ عن غده البعيدِ علامةً :
دراجةٌ مجروحةٌ ودمٌ على القدمينِ ،
يقرأ طالعاً : سيجيءُ من أقصى الحقولِ
لموعدٍ عالٍ مع الرجل السحابةْ ..
جئنا معاً ، أنا والخريفُ ..
وذلك الجسرُ النديُّ يغيم تحت البردِ ..
والتمعَ اسـمُهُ ، فطرقتُ هوْناً،
مثلما في النومِ، بابَـهْ
ودنوتُ ، أيةُ نبرةٍ هـذي ..
حميماً كان مثل كنيسةٍ ،
ومعتقاً كشذى الحنين الى الكتابةْ .
**
ما أقسى حطب البدايات ..
كان الصبيُّ يطأ اللهب بقدمين باكيتين
غير هيّابٍ ولا وجل ..
فأدرك جبرا ببداهةٍ صافيةٍ
أن لدى هذا الصبيّ
من العذاب ما يكفي ليكون
شجرةً أو رغيفًاً ..
**
-هل يتعب الشارعُ
إذ يعبره الليل الطريُّ والأميراتْ ؟
بغداد، في بهائها المسكرِ، تمشى بينهنّ ،
لا يملّ الليل من طوافه الليليِّ،
لا الشـاعر من خمرتِهِ ..
جبرا يرى النرجسَ في دفء مراياه حزيناً
فينادي الضوءَ والأخيلةَ العذراءَ والأسرارَ
في أواخر الليل فُـرادى وجماعاتْ
ماذا سيختارُ، إذاً، من هذه الممالك المُحيّرةْ
فراشـةً أم نَمِـرَةْ ؟
وكل شيءٍ يانعٌ طوع ذراعيهِ ؟
اللغاتُ والنساءُ ، وقدةُ اللون البهيِّ ..
ما الذي يختاره الراوي ، وذي أزمنةٌ تنهدُّ أو تنهضْ
الموتَ أم هذا المدى الأبيضْ ؟
وفجأةً يطيشُ عن مداره الإيقاعْ ..
**
لقِيتُهُ بعد هلاكٍ أو هلاكينِ ..
الأنيقُ المترفُ الكسيرْ
كان يغنّي باكياً عند شظايا حلمِهِ الكبيرْ
وثَـمّ ظِلُّ امرأة لم يرها من قبل، في سفينةٍ لم يرها ،
في شارعٍ ضاقَ بصيّاديهِ . مَن تلك التي
تنامُ مثل قـارةٍ مطفـأةٍ : بغـدادُ أم لميعةْ ؟
جبرا تضيقُ أرضُهُ الوسيعةْ
عوالمٌ تجفُّ مثل خرقةٍ
وتنحني في يـدِهِ الفرشـاةْ ..
**
محمد السكرانُ ..
يا محمّـد السكرانْ ..
يا حارس المقبرة النائيةْ :
أزحْ قليلاً عتمة النهارِ، كي نرى
ضريحَهُ الوسـيمْ
وكي نرى
بغـداد في حدادِها ِ،
صاعدةً من مجـدها القـديـم ْ ..
2023
___________________________________________________________________
نشرت في
جريدة القدس ، عددها الصادر بتاريخ 6- 12- 2023
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...