محمد تركي الربيعو - الطعام والزواج.. لماذا تطبخ النساء عبر التاريخ؟

في سياق دراسته لثقافة العصر الوسيط المديد، كان توماس باور المستشرق الألماني، قد وصل من خلال عدد من مؤلفاته، إلى نتيجة تقول بأنّ العالم الإسلامي في تلك الحقبة لم يكن عالما مفكّكا، أو يعيش مرحلة انحدار بعد الغزو المغولي لبغداد (وأعني المرحلة الممتدة من 1000 للميلاد إلى بدايات القرن الثامن عشر) بل هي فترة عرف فيها الفضاء الإسلامي بثقافة تعدّد المعنى، على مستوى قراءة النصوص الدينية والفقه والجنس والحب، خلافا لثقافة الحداثة الإسلامية، التي ساهمت كما يعتقد في هدم «مملكة التعدّد»، التي عرفها هذا العالم؛ ولعلّ ما يسجّل على كتابه الأخير «لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟» الذي حاول في أجزاء منه مقارنة واقع المدن الإسلامية مع مثيلاتها الأوروبية في العصر الوسيط (أو الحديث المديد وفق تعبيره)، من خلال اختيار ستة وعشرين مثالا تتعلّق بالحياة اليومية (الدين، النظافة، الفردانية، الأعمال الساخرة والنكت وغيرها)، إنّه وفي سياق تجوّاله في أسواق القاهرة ودمشق المملوكية، وقبلها بغداد العباسية، تجاهل أو نسي معطى أنثروبولوجيا مهما، يتمثّل في تنوّع وتعدّد الأطعمة التي كنّا نعثر عليها في هذه المدن، والتي ستعبّر عن هذا التنوّع، من خلال صناعة وتأليف عشرات الكتب والرسائل التي تتحدّث عن الطعام، وطرق إعداده ووصفاته، وهي مؤلفات فريدة من نوعها، كما يرى عدد من المحقّقين والباحثين، الذين اشتغلوا على هذا الأمر، بل ربما نميل هنا إلى التقسيم ذاته، الذي قدّمه باور في كتابه سالف الذكر، في سياق الحديث عن أدب الطعام الذي برز في تلك الفترة، والذي قد يختلف كثيرا عما عرفته المدن الإسلامية في القرون الهجريّة الأربعة الأولى، التي امتازت ثقافتها كونها امتدادا لثقافة الشرق العتيق المتأخر (بيزنطة، فارس)، بينما يلاحظ في هذه الرسائل اللاحقة دخول وصفات ونكهات أخرى، وظهور مطابخ جديدة مثل، المطابخ الفاطمية، والمغولية، والصينية، والمملوكية ولاحقا العثمانية.
وفي حال أعرضنا قليلا عن هذه المقارنة، التي تحتاج بلا شك، إلى بحث أوسع ومقارنة بين عوالم الطبخ في المخطوطات الإسلامية، فإنّ ما يلفت النظر في حقبة العصر الوسيط المديد (1000/1800) أنّ العديد من هذه المؤلفات قد عجنت إمّا بأيدي أشخاص لا تراجم معروفة لهم، أو بقيت أسماؤهم مجهولة؛ فمثلا، وجد المحقّق العراقي داؤود جلبي في سياق تحقيقه لمخطوطة «كتاب الطبيخ»، التي عثر عليها في مكتبة آيا صوفيا، أنّ مؤلّفها (محمد بن الحسن البغدادي) كتبه في العشر الأواخر من ذي الحجة سنة 623 هـ/ 1226م، بيد أنّه لم يعثر على أيّ تراجم عن البغدادي، وكل ما رجّحه هنا، من خلال لغته الركيكة، وكثرة الأخطاء النحوية، أنّ المؤلّف قد يكون من العامة؛ ولعل حالة غياب معلومات دقيقة عن المؤلف، هو ما نعثر عليه أيضا في كتاب آخر بعنوان «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب» الذي عثر على أحد نسخه الأولى المستشرق الفرنسي الراحل مكسيم رودنسون، في فترة الخمسينيات، قبل أن يعيد المؤرخ تشارلز بيري (مختص بتاريخ الطبخ في القرون الوسطى الإسلامية) تحقيق نسخة أخرى، إذ سيلاحظ أننا لسنا أمام نسخة واحدة من هذا الكتاب، بل عدد من النسخ المختلفة، وقد نشأ عن ذلك ظهور تقليدين يطلق عليهما اسم «المخطوطة أ» و«المخطوطة بـ«. كما يعتقد بيرين من خلال مقارنته بين هذه النسخ، أنّ النساخ لم يكتبوه، من مخطوطة موضوعة أمام أعينهم، بل كانت الوصفات تقرأ لهم. ومما يلاحظ في هذه المخطوطة هو غياب اسم المؤلف، وهو ما يلاحظ أيضا في مخطوطة أخرى بعنوان «كنز الفوائد في تنويع الموائد» التي ألّفها رجل مملوكي مجهول في القرن الرابع عشر الميلادي.

وإذ يطرح وجود هذه الكتب لرجال إمّا مجهولين، أو لا تراجم كافية عنهم، عددا من الأسئلة حول هؤلاء الأشخاص بداية، وما هي خلفياتهم الاجتماعية، فإنّه ربما يدفعنا أيضا لنسرح قليلا في خيالنا لنتساءل، إن كان وجود مؤلفات لرجال عن الطبخ، يعني أنّ المدن الإسلامية لم تكن في تلك الفترة مدنا ذكورية (كما يحاول بعض الباحثين القول عبر ربطهم بين الجندر والطعام)، بل قام كل من الرجال والنساء بممارسة فنون الطبخ، ولنفرض أنّ الأمر كان كذلك، لما لا نعثر في المقابل على مخطوطات لنساء كتبن أو عرفن بوصفاتهن عن الطعام؛ وعلى الرغم من أنّ المقريزي (مؤرّخ الفترة المملوكية) تحدّث عن وجود جوار برعن في الطبخ في قصور الفاطميين، إلا أنّنا لا نعثر على أيّ كتاب أو مخطوطة لهنّ، كما يبدو أنّ وجودهن، لم يلغ دور الرجال في الطبخ داخل بيوت السلاطين والحكم، وهذا ربما ما يكشفه دور «الطباخ / الرجل» الذي بقي أمينا على مفتاح مطابخ وبطون السلاطين العثمانيين.
كما تطرح هذه الكتب الذكورية حول الطعام أسئلة أخرى مثل: هل كان هؤلاء الرجال هم من يطبخون في منازلهم، أم تكفّلت النساء بهذا الأمر؟ أو لعلهم ألّفوا هذه الكتب لتدريب الطبّاخين القادمين إلى بيوتات الحكم، وربما هذا ما يبرر وجود أكثر من نسخة، وغياب أسماء أو تراجم كافية عن المؤلفين، وهو ما قد يذكّرنا بملاحظات فوكو حول فكرة المؤلّف، بوصفه اختراعا ظهر في القرن السابع عشر؛ وبالتالي فالعثور على نصوص كتّابها مجهولون، أو غير معروفين، ناجم عن كونها نصوصا كتبت على أكثر من مرحلة؛ وجرت إضافات عليها من قبل طبّاخين آخرين أو نساخ، فمثلا يلاحظ في إحدى نسخ كتاب البغدادي (الذي ربما يكون شخصية غير موجودة أصلا)، التي نشرتها مؤسسة هنداوي بعنوان «كتاب الطبيخ ومعجم الأكلات الشامية» وجود فصل أخير يعني بالأكلات الشامية، كتبه الراحل فخري البارودي، الذي يذكر أنّه فكر بتأليفه بعد إعلام صلاح الدين المنجد بنيته إعادة نشر كتاب الطبيخ، فما كان من الأخير إلا أن طلب منه تذييله بنص عن «مأكولات دمشق، وكيفية طبخها لنبين الفرق بين الأطعمة العربية بعد مضي ألف عام، وبذلك خدمت مدينتنا دمشق»، ومن بين الوصفات الجديدة التي تحدّث عنها، والتي لم نعثر عليها في كتاب الطبيخ الأصلي وصفات مثل (أبو شلهوب، شيخ المغشي، شاورما، صاجية وغيرها).
والإجابة على هذه الأسئلة جديرة بالمغامرة وشيقة، بيد أنّها تبقى رحلة صعبة في ظل غياب يوميات وتراجم عن هؤلاء الأشخاص، لكن يمكننا أن نلاحظ، بالاعتماد على بعض الأبحاث الأنثروبولوجية، التي طبّقت على بعض المجتمعات التقليدية، أنّ عملية الطبخ داخلها غالبا ما تنقسم لنوعين: طبخ من أجل العائلة تقوم به النساء، وطبخ من أجل الجماعة يقوم به الرجال، وفي حالة تاريخ مدنّنا الإسلامية، يبدو أنّ الرجال بقي دورهم في الطبخ يقتصر على الأماكن العامة، أو بيوت الجماعة (السلطنة)، أو داخل بعض الزوايا الصوفية، أو خلال الاحتفاليات العامة، وهذا ما نلاحظه ربما حتّى في أيامنا هذه، ففي كثير من القرى والمدن السورية، ما تزال وظيفة إعداد بعض وجبات طقوس العبور (العزاء/الزواج) توكل للرجال عادة، وليس للنساء. لكن هل تعني هذه النتيجة أنّ المدن الإسلامية، أو شرق الأوسطية هي المدن الوحيدة التي كانت فيها النساء هنّ من يطبخن في المنزل؟ ربما نعثر على إجابة مفاجئة حول هذا الموضوع، من خلال عمل جمع عالمي الأنثروبولوجيا جورج موردوك وكاتارينا بروفوست عام 1973 حول نموذج الفروق بين الجنسين في خمسين نشاطا منتجا من 185 ثقافة؛ فقد تبيّن لهما أنّ الطبخ إجمالا كان أكثر الأنشطة اقترانا بصورة المرأة (97٪)، وهذا ما ينفي الفكرة التي تقول، إنّ النساء يطبخن للرجال كقاعدة ثقافية، بسبب النظام الأبوي.

ولكن طالما أنّ الموضوع لا يتعلق بالنظام الأبوي، إذن فما الذي دفع النساء إلى تولّي هذه الوظيفة عبر التاريخ، بينما بقي الرجال يطبخون في المجال العام؟ هذا السؤال، هو ما سيحاول الأنثروبولوجي البريطاني ريتشارد رانغهام الإجابة عنه من خلال مؤلّفه «قدحة النار، دور الطبخ في تطوّر الإنسان». ورانغهام هو أستاذ في الأنثروبولوجيا الحياتية، التي تقوم بدراسة تطوّر الإنسان بيولوجيا، ومن خلال الأحفوريات الأثرية؛ وفي هذا الكتاب سيقدّم قراءة طريفة حقيقة، إذ يرى أنّه رغم تأكيد داروين على أنّ اكتشاف النار قد يكون أعظم اكتشاف (عدا اللغة) حقّقه الإنسان، مع ذلك فقد أخطأ لكونه لم يول أيّ أهميّة تذكر للطبخ في تطورنا البيولوجي، وهو الأمر ذاته الذي وقع فيه كلود ليفي شتراوس، الذي حاول تقديم طرح ثوري للثقافات الإنسانية، ولذلك ذكر في مؤلّفه «النيء والمطبوخ» بأنّ طبخ الطعام هو الشيء الوحيد الذي يؤسّس للفرق بين الإنسان والحيوان، وبالتالي بقي ينظر للطبخ بوصفه عملا رمزيا، بدون أن يتنبه لدور الطبّاخين في تأسيس وتطوير النظام الاجتماعي (خلق فكرة الزواج).
ولشرح أهمية الطبخ في تكوين مؤسسة الزواج، ينطلق راينغهام من مجتمعات الصيد الأولى. ففي مناطق الغابات، كان منظر الدخان ورائحته يكشفان وقع الطباخ من مسافات بعيدة، مما يسهّل على الجياع ممن يفتقدون الطعام اكتشاف مكان الطبخ. ولأنّ النساء كنّ أصغر حجما، وأضعف جسما، فقد كنّ معرضات لتهديد الذكور المتسلّطين الراغبين في الطعام. ولذلك حاولت كل أنثى الحصول على الحماية من محاولات الذكور الآخرين التقرّب منها وسرقتها، بتطوير صداقة خاصة مع ذكر منهم، مقابل أن يقدّم لها بالمقابل ما يجمعه في رحلاته اليومية من لحوم، وكانت لهذه الروابط أهمية حاسمة في نجاح حصول الجنسين على الطعام، بحيث أنّها ولّدت نوعا معينا من السيكولوجيا التطورية، كما خلقت نظام زواج بسيطا. أمّا الجوانب المفيدة المتعدّدة للحياة العائلية مثل، توفير الذكور للمؤن، والزيادة في كفاءة العمل، وخلق شبكة اجتماعية لتنشئة الأطفال، فكانت كلها إضافات ترتّبت على حلّ المشكلة. لا تتوافق وجهة النظر التطورية هذه مع الرؤية الدينية، التي عادة ما تؤسّس للزواج وفكرة وجوده في قصص الخلق الأولى، كما أنها باتت بلا شك على اختلاف مع قواعد الطبخ في فترة العولمة، التي غدا فيها الرجال يميلون لتجريب الطبخ في منازلهم لتذوق نكهات جديدة، إضافة إلى اختلاف طعم ومكونات الطبخ؛ فبينما بدأ البغداديّ غالبية وصفاته بعبارة «أن يقطع اللحم»، أدّى ظهور الوجبات السريعة، وعدم استهجان المجتمع لفكرة الأكل خارج المنزل، وظهور الطعام النباتي، إلى تغيير شكل الطعام ومذاقه؛ في المقابل، لا يمكن تجاهل أنّنا إلى يومنا هذا نعثر على آثار ربما للنظرية التي طرحها لانغهام، والذي يتنبّه مثلا إلى أنّ لفظة سيدة بالإنكليزية مشتق من كلمة إنكليزية قديمة وتعني»عاجنة الخبز»، بينما كلمة سيد اشتقّت من كلمة إنكليزية قديمة وتعني «حامي الخبز»، كما يمكن أن نضيف هنا، أنّ الرجال كثيرا ما يعتمدون على فكرة العمل وتوفير الدخل لتبرير أيّ استهجان من الشريك الآخر (النساء) حول غيابهم الطويل عن المنزل، لا بل نجدهم يلجأون مثلا لاعتماد مقولات عامية مثل «قاعد ألقط برزقي/أي أقوم بجمع رزقي» لدعم حجتهم، وهي عبارة قد تذكّرنا بالإنسان الذي عرفه مجتمع الغزو والصيد، والذي يقوم دوره على جمع الطعام بينما يقوم دور النساء على الطبخ. كما يلاحظ في يومياتنا مع كورونا، اضطرار الكثير من الرجال للتوقف عن العمل (تلقيط رزقهم)، ما دفع بعضهم إلى المساهمة في أعمال المنزل والطبخ؛ وعادة ما يجري قراءة أو تأويل هذا السلوكيات بوصفها تعكس حالة من الفراغ والممل، بيد أنّ اللافت هنا أنّ بعض النساء حاولن الاستفادة قليلا بشكل عفوي من هذه الظروف لإعادة كتابة «مسرحية الطبخ» (وأستعير هنا مفهوم المسرحية من أرفنغ غوفمان)، عبر الطلب من الرجال المساعدة بإعداد بعض المقبلات، أو مشاركتها رمزيا في إعداد الطعام، فطالما أنه لا يلتقط رزقه، إذن فلا بأس من إجراء تعديل في الأدوار قليلا، ولو مؤقتا، وليس قلبها كاملا، كما يحدث في بعض الطقوس، وبالتالي عادت الطبيعة مرة ثانية لتفرض قواعدها في الطبخ والعلاقة الزوجية، كما فعلت مع آبائنا الصيادين.

*المصدر: القدس العربي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...