البراني هي عبارة اشتقت من البرية والبراري وتعني الصحراء لتصبح وصفا للغربة أو للغريب عن مكان ما أو عن منطقة ما بالنسبة لأهلها ،غالبا ما تستعمل في اللهجة التونسية الدارجة .
فقد بات من الضروري من وجهة نظري الشخصية، الاستفادة من تطور بعض العبارات في اللهجات العربية المتكلمة لدورها في تطوير دلالة بعض الكلمات.
فلم يسمى الغريب بالبراني في اللهجة التونسية ؟
لأنه لا ينتمي إلى أرض تحمل ذاكرة ، بل إلى صحراء أي إلى مكان خارج كل سردية وكل تاريخ لذلك فهو براني أي خارج البر أي أية رقعة من الأرض .
وهل يوجد بينها وبين عبارة الغريب من تقاطع معنوي ودلالي؟
لا شك أن الجواب إيجابي ، لان الغرب هو الجهة التي تغرب فيها الشمس ويعم الظلام ليخيم على المكان حتى يفقد معالمه .
أن تكون برانيا أو غريبا يعني أن لا يجمعك بالمكان الذي تعيش فيه أية رابطة أو تاريخ أو ذاكرة ومعنى ذلك أنك ستواجه معضلة وجودية جوهرية تتمثل في القطيعة بين ماضيك كما كنت تدركه وتعيشه وحاضرك كما تحياه في مكان ليس لك فيه أي تاريخ أو أثر .
فللبراني إدراك للعالم الذي يحيط به غير إدراك أهالي منطقة ما ،لان زمانه غير زمانهم ، لتشتت ذاكرته بين الأمكنة باختلافاتها وخصائصها بما تقوله وما لا تقوله .
فما يعرّف المكان ليس الجغرافيا فحسب أي موقعها على الكرة الأرضية، بل التاريخ أي ما وقع من أحداث على امتداد العصور، لذلك يعرف المكان بتسميته و رمزيته باعتباره يحمل طابع من عمره وسكنه واستقر به .
أما ذاك الذي لم يعمره أحد قط، فشبيه بالبرية أي بالصحراء، لا ينطق بشيء لأنه ليس بموقع انتماء لأي كان لا لتاريخه ولا لذاكرته .
وفي نهاية المطاف، فحياتنا ليست سوى ذلك الانتظار والتفاعل مع سلسلة من الأحداث التي وقعت لنا في مكان ما فأصبح لها موطن حامل لآثارها .
واحتلال الأرض أو استعمارها من طرف دولة أو مجموعة إنسانية لمجموعة أخرى كانت تعمرها منذ قرون هو ليس احتلالا ماديا فحسب بل تاريخيا أيضا بمحو ما كان وخاصة العلاقة الحميمة التي نشأت بين الانسان والمكان الذي استقر به .
تجريد الانسان من ذاكرته مما عاشه وتركه في مكان ما، يعني تجريده من كينونته أي مما أنجزه،والمسألة تتجاوز الجانب السياسي الاجتماعي بكل معانيه وتداعياته لتتحول إلى مسألة أنطولوجية فلسفية إنسانية بامتياز يمكن تلخيصها في السؤال التالي :
هل للانسان من وجود خارج الزمان والمكان معا ؟
لذلك اخترنا عبارة البراني لأنها تعني علاقة الإنسان بالبر وإمكانية تواجده خارجه على وجه الاستعارة .
وفي الحقيقة، فالمكان ليس ذلك الشاهد على ما يحدث للإنسان بل هو أيضا مساحة تربطه بغيره من الناس أي أنه المؤسس للبعد الاجتماعي السياسي.
لذلك يفترض مفهوم البراني صنفين من الأشخاص من هو مندمج داخل مكان ما و من هو خارج عنه باعتباره لا ينتمي إليه تاريخيا.
ولقد كان المكان محل صراع منذ قديم الزمان بين الشعوب لأنه عنصر من عناصر وجودها وكينونتها كما بيننا سابقا .
فالأرض هي مورد رزق الإنسان لأنها تمنحه كل ما يحتاجه ويستحقه من أكل وشرب وهواء ومسكن وملبس وكلما استقر بها ،زاد تعلقه بها بان يصبح جزءا منها وتصبح هي جزء منه .
والانتماء إلى مكان قبل أن يكون تاريخيا وسياسيا ولغويا واجتماعيا وثقافيا فهو شخصي .
فعلاقة الإنسان بالمكان هي التي تشكل وعيه و إدراكه بالعالم لأننا غالبا ما نضفي على الكائنات والموجودات التي تحيط بنا نظرة ذاتية نابعة من تراكم تجاربنا المختلفة، فنحن لا نرى البحر ولا الشجر والسماء ولا الشمس بنفس النظرة بل من خلال حالاتنا الوجدانية النفسية والأهواء والأفكار التي تراودنا ،لذلك لا وجود لمكان مجرد من كل ذاتية أي خال من الرمزية ،فالبراني هو ذلك الشخص الذي سيلتجأ إلى البحث عن معان جديدة للمكان الذي سيحل به ورمزية أخرى وعلاقة جديدة تختلف عن تلك التي عرفها سابقا في موطنه.
من ثمة، لا يمكن فهم معنى الغربة والانتماء إلا بالرجوع إلى ما يمكن تسميته بالأجواء أي جميع المميزات التي يختص بها مكان ما والنابعة من رؤى شعرية أو أدبية أو شعبية أو تاريخية أو حياتية والتي قد توصف بأجواء لما تتركه في النفس من مشاعر مثل الفرح أو الحزن أو الحداد أو الحب أو الفراق أو الانتصار ليتسم بها مكان ما .
فأجواء المدينة وأجواء القرية وأجواء الشوارع والمقاهي والملاهي ليست إلا تلك اللحظة الخاصة جدا التي تجمع الانسان أو مجموعة من الأشخاص بمكان ما .
لكل فترة أجواؤها وكذلك الشأن لكل مرحلة وكل عصر وكل مكان وكل أرض وكل فضاء والتي يمكن تعريفها بأن تلك الخيوط الرقيقة التي لا ترى والتي تجمع الإنسان برقعة من الأرض في زمن ما فتضفي عليها شيئا من آلامه وأحلامه وانتظاراته وأهوائه وتصوراته وأحاسيسه .
ومن يبعث الإحساس بالحنين هي الأجواء التي تنبعث في مكان وزمان ما دون أن تعود .
فأجواء باريس عاصمة الأنوار ليس أجواء مدريد ولا أجواء ميلانو ولا أجواء القاهرة ولا أجواء تونس ولا أجواء أمكنة أخرى بما يسكنها من ذكريات وتقاليد وعادات وطرق في العيش ولغات و احتفالات وأسرار .
البراني هو من لم يستأنس بالمكان بمعنى الأنس والاستئناس والأجواء والذاكرة والتاريخ والسردية والرمزية وكل المرجعيات التي تجعل الإنسان يشعر بالألفة وبالانسجام مع العالم الخارجي الذي يحيط به .
والحياة التي يقضيها شخص ما في مكان ما ليس الحياة التي يعيشها متنقلا بين البلدان .
إلا إنني اعتقد أن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الذات أي ذلك الإحساس الذي قد نشعر به من أننا لا ندرك ما الذي يجري داخلنا .
كاهنة عباس
فقد بات من الضروري من وجهة نظري الشخصية، الاستفادة من تطور بعض العبارات في اللهجات العربية المتكلمة لدورها في تطوير دلالة بعض الكلمات.
فلم يسمى الغريب بالبراني في اللهجة التونسية ؟
لأنه لا ينتمي إلى أرض تحمل ذاكرة ، بل إلى صحراء أي إلى مكان خارج كل سردية وكل تاريخ لذلك فهو براني أي خارج البر أي أية رقعة من الأرض .
وهل يوجد بينها وبين عبارة الغريب من تقاطع معنوي ودلالي؟
لا شك أن الجواب إيجابي ، لان الغرب هو الجهة التي تغرب فيها الشمس ويعم الظلام ليخيم على المكان حتى يفقد معالمه .
أن تكون برانيا أو غريبا يعني أن لا يجمعك بالمكان الذي تعيش فيه أية رابطة أو تاريخ أو ذاكرة ومعنى ذلك أنك ستواجه معضلة وجودية جوهرية تتمثل في القطيعة بين ماضيك كما كنت تدركه وتعيشه وحاضرك كما تحياه في مكان ليس لك فيه أي تاريخ أو أثر .
فللبراني إدراك للعالم الذي يحيط به غير إدراك أهالي منطقة ما ،لان زمانه غير زمانهم ، لتشتت ذاكرته بين الأمكنة باختلافاتها وخصائصها بما تقوله وما لا تقوله .
فما يعرّف المكان ليس الجغرافيا فحسب أي موقعها على الكرة الأرضية، بل التاريخ أي ما وقع من أحداث على امتداد العصور، لذلك يعرف المكان بتسميته و رمزيته باعتباره يحمل طابع من عمره وسكنه واستقر به .
أما ذاك الذي لم يعمره أحد قط، فشبيه بالبرية أي بالصحراء، لا ينطق بشيء لأنه ليس بموقع انتماء لأي كان لا لتاريخه ولا لذاكرته .
وفي نهاية المطاف، فحياتنا ليست سوى ذلك الانتظار والتفاعل مع سلسلة من الأحداث التي وقعت لنا في مكان ما فأصبح لها موطن حامل لآثارها .
واحتلال الأرض أو استعمارها من طرف دولة أو مجموعة إنسانية لمجموعة أخرى كانت تعمرها منذ قرون هو ليس احتلالا ماديا فحسب بل تاريخيا أيضا بمحو ما كان وخاصة العلاقة الحميمة التي نشأت بين الانسان والمكان الذي استقر به .
تجريد الانسان من ذاكرته مما عاشه وتركه في مكان ما، يعني تجريده من كينونته أي مما أنجزه،والمسألة تتجاوز الجانب السياسي الاجتماعي بكل معانيه وتداعياته لتتحول إلى مسألة أنطولوجية فلسفية إنسانية بامتياز يمكن تلخيصها في السؤال التالي :
هل للانسان من وجود خارج الزمان والمكان معا ؟
لذلك اخترنا عبارة البراني لأنها تعني علاقة الإنسان بالبر وإمكانية تواجده خارجه على وجه الاستعارة .
وفي الحقيقة، فالمكان ليس ذلك الشاهد على ما يحدث للإنسان بل هو أيضا مساحة تربطه بغيره من الناس أي أنه المؤسس للبعد الاجتماعي السياسي.
لذلك يفترض مفهوم البراني صنفين من الأشخاص من هو مندمج داخل مكان ما و من هو خارج عنه باعتباره لا ينتمي إليه تاريخيا.
ولقد كان المكان محل صراع منذ قديم الزمان بين الشعوب لأنه عنصر من عناصر وجودها وكينونتها كما بيننا سابقا .
فالأرض هي مورد رزق الإنسان لأنها تمنحه كل ما يحتاجه ويستحقه من أكل وشرب وهواء ومسكن وملبس وكلما استقر بها ،زاد تعلقه بها بان يصبح جزءا منها وتصبح هي جزء منه .
والانتماء إلى مكان قبل أن يكون تاريخيا وسياسيا ولغويا واجتماعيا وثقافيا فهو شخصي .
فعلاقة الإنسان بالمكان هي التي تشكل وعيه و إدراكه بالعالم لأننا غالبا ما نضفي على الكائنات والموجودات التي تحيط بنا نظرة ذاتية نابعة من تراكم تجاربنا المختلفة، فنحن لا نرى البحر ولا الشجر والسماء ولا الشمس بنفس النظرة بل من خلال حالاتنا الوجدانية النفسية والأهواء والأفكار التي تراودنا ،لذلك لا وجود لمكان مجرد من كل ذاتية أي خال من الرمزية ،فالبراني هو ذلك الشخص الذي سيلتجأ إلى البحث عن معان جديدة للمكان الذي سيحل به ورمزية أخرى وعلاقة جديدة تختلف عن تلك التي عرفها سابقا في موطنه.
من ثمة، لا يمكن فهم معنى الغربة والانتماء إلا بالرجوع إلى ما يمكن تسميته بالأجواء أي جميع المميزات التي يختص بها مكان ما والنابعة من رؤى شعرية أو أدبية أو شعبية أو تاريخية أو حياتية والتي قد توصف بأجواء لما تتركه في النفس من مشاعر مثل الفرح أو الحزن أو الحداد أو الحب أو الفراق أو الانتصار ليتسم بها مكان ما .
فأجواء المدينة وأجواء القرية وأجواء الشوارع والمقاهي والملاهي ليست إلا تلك اللحظة الخاصة جدا التي تجمع الانسان أو مجموعة من الأشخاص بمكان ما .
لكل فترة أجواؤها وكذلك الشأن لكل مرحلة وكل عصر وكل مكان وكل أرض وكل فضاء والتي يمكن تعريفها بأن تلك الخيوط الرقيقة التي لا ترى والتي تجمع الإنسان برقعة من الأرض في زمن ما فتضفي عليها شيئا من آلامه وأحلامه وانتظاراته وأهوائه وتصوراته وأحاسيسه .
ومن يبعث الإحساس بالحنين هي الأجواء التي تنبعث في مكان وزمان ما دون أن تعود .
فأجواء باريس عاصمة الأنوار ليس أجواء مدريد ولا أجواء ميلانو ولا أجواء القاهرة ولا أجواء تونس ولا أجواء أمكنة أخرى بما يسكنها من ذكريات وتقاليد وعادات وطرق في العيش ولغات و احتفالات وأسرار .
البراني هو من لم يستأنس بالمكان بمعنى الأنس والاستئناس والأجواء والذاكرة والتاريخ والسردية والرمزية وكل المرجعيات التي تجعل الإنسان يشعر بالألفة وبالانسجام مع العالم الخارجي الذي يحيط به .
والحياة التي يقضيها شخص ما في مكان ما ليس الحياة التي يعيشها متنقلا بين البلدان .
إلا إنني اعتقد أن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الذات أي ذلك الإحساس الذي قد نشعر به من أننا لا ندرك ما الذي يجري داخلنا .
كاهنة عباس