عبدالجليل بدزي - الفكاهة في الشعرـ الملحون نموذجا

الحديث عن حظ الفكاهة في شعر الملحون حديث شيق وذو شجون، ويتطلب قبلا التفريق بين السخرية والفكاهة في التداول داخل المجتمع، فالسخرية هي التهكم على شخص في موقف التنافر والهجاء، وهو ما يسمى في لغة العصر ب (التنمر)، وقد حرمه الإسلام تحريما قطعيا جعل من الذين يقومون به في موقع المجرمين المرتكبين للكبائر، ومن ذلك ما كان يقوم به الشاعر العباسي ابن الرومي عندما يسخر من خصومه، كقوله في مغنية:

غَنّتْ فمسَّ القلبَ كل كرْبِ ** واسْتوْجَبَتْ مِنا ألِيمَ الضرْبِ
لهَا فـَــمٌ مثل بَابِ الـــدرْبِ


أو كقوله يصف أحدبا ويسخر منه:


قَصُرَتْ أخَادِعُهُ وغَارَ قذاله ** فَكأنما هُوَ مُتربِّـصٌ أنْ يُصْفَعَا
وكأنما صُفِعـَــتْ قفـَاهُ مَـــرَّة ** فأحـَـــسَّ ثانِيَة لهـَـــا فتجَمَّــعا


أما على مستوى الشعر الملحون، فالنماذج في هذا اللون الشعري كثيرة منها ما ورد في (زرب) القصائد كسخرية وهجاء مذقع للخصوم الحقيقيين أو المفترضين، كقول الشيخ إدريس ابن علي السناني في زرب قصيدته "افضيلة":


ارْقِيتْ أوُ رَتْقِيتْ عَنْ جْحُودِي وَجْلسْتْ نْجَاوْبْ اللغَا فِي يدِي سِيفْ اصْقِيلْ
نَطـْعَـنْ بِـهْ أهْــلْ المْجَــادْلـَـة * نَكـْسَـرْ الجْحُــودْ لـُو إيكـُونُـوا اقْـبِيلة
الـْعَــذَّالْ امْـسَــاخَـطْ وَالـْـدِيهـُـمْ البَــاخْـسِــينْ لـَكـْـشُــوطْ أوُجُــوهْ الـْـوِيــــلْ
اكـْـرِيحَـتْ الـَجْـحُـودْ بَاسْـلـَة * دِيمَــة مَـنْ عَـنْـدْ جَـمْـعْ العْبَـادْ اثْقِيلة
وِإلـَى جَا وَقْـتْ العْـرَاسْ تَـلـْقَاهًمْ للزَّرْدَة إِيشَمْشْمُـوا فِـي اغْـرَاضْ الزَّنّـبِـيلْ
بَــرْبَاعَــتْ تَمْثِـيــلْ كـَافْـلـَــة * وَبْــلَا عَــرْضَـاتْ كـَيْبَاتُـوا فَاللِّيـلـَــة
ألـُـو كـَــانْ البَــرْدْ وَالشّْـتَـا تَـلـْقَـاهُــمْ هَــاشِي فْشِي امْشَبَّـرْ وَالدَّرْبْ اطـْوِيلْ
كـَـعَــمْـيَــانْ لـْـتَـمّْ دَاخْــلـَـــة * وِيــدُقـُّـوا فَالـدّْيَــارْ بَالـْقَـالْ وَالـْقِـيلـَـة
وَاكـْــذَاكْ الـْمَـبْــــرَاصْ مْــنْ يَـدِّيـهْ وُرَجْـلِــيهْ فَالـْكـْـرِيحَـة بَـاسَـلْ وَاثْـقِـيلْ
قُـولـُه بِـيـنْ النَّـاسْ مَا احْلـَى * وَلَا ازْهَــى اخْــلِـيـلْ مَا بِـينْ اخْلِـيلـَة
امْـكـَبَّــرْ الـَعْـــدِيـــمْ رَزّْتُـــه نَـحْـكِـيهَـا فَـالنَّـعْـتْ عَــشّْ بَــلّارَجْ فَالتَّمْثِـيـــلْ
عَـنْ رَاسُــه دِيـمَــة امْـخَـبّْلة * وَاثـْيَـابْ الـْوَغْــدْ بَالوْسَخْ فِي تَكـْعِيلـَة
وِإلـَى جَـاتْ الصِّـيــفْ كـَتْــصِيبُـه رِيحَـتْ الحْمَــاضْ فَايْحَة مَنُّه كـَنّْ اهْبِيلْ
وَالـْبَـلـْغَـة كـَحْلـَة امْشَـرْبْـلـَة * مْـتِـيــرْنَـا اتْـقُــولْ وَرْثـْـهَـا صِـيـلـَــة
وِإلـَى شَافْ المَاكـْلـَة اتْـصِيـبُـه مَـسْـلـُوبْ عْلـَى الطـّْعَامْ يَاكـُلْ مَا يَاكـُلْ فِيلْ
وِيعُــودْ ابْكـًـرْشـُه امْـطـَبّْلـَـة * حَـتَّـى تَـبْـدَا النَّـفْـسْ تَخْـرَجْ بَالحِيلـَـة
هَــذَا وَصْــفْ أولَادْ الــزّْنَـا مَــنْ حَـفْـظـُـوا الكـْـلَامْ دُونْ طـُرْقَة وَبْلَا تَاوِيلْ
بَـجْـبُـوهْ اصْلِيبَـة امْصَـنْصْلة * وَكـْـذَاكْ إٍيــمَـانْـهُـمْ بَالجَّـحْـدْ اقْـلِيلـَـة


وأحيانا تكون هناك قصائد بأكملها تنظم في هذا الغرض، على غرار ما نجد عند الشيخ محمد بن الطاهر المراكشي في قصيدته "السنسلة"، والتي تقول حربتها:


لِينْ تَهْرَبْ قُومْ الضّبْعَة وْشَاقْ لمْرَاحْ * صَادْهُمْ بَازْ اغْنَمْهُمْ تَحْتْ مَنْ اجْنَاحه


وفي بعض الأحيان نجد جانبا من القصيدة يتناول هذه القضية كما فعل الشيخ المدني التركماني في قصيدته "اجواب الداعي بالداعي" والتي وجه فيها خطابا فيه صور كاريكاتورية لا تخلو من سخرية وتنمر، والمقصود بها خصمه "الحاج أحمد الغرابلي" الذي يخاطبه في هذا النص قائلا:


والنصحك ما ريت ما يكفر ذنبك إلا اتجي البهجت لمتون امبهدل وحقير**
ونجزرك وامثالك ينجزر** حتى تحتال عن اخلاصك وفضاله
ونطلق البراح فالمدين الحمرة وفحـوزها ويمشي حتـى للغــرب بالنفيــر**
فالبَّادي ومـدون والوعـر** يعلم بــك لســلام ويجـي في حالـُـه
ونا نفـــرح بك أنديــك الحمام الذيــب ببياضي تغســـل وتعُـــوم فالنقيـــر**
ونخرجك بهندقــة وطــر** يديــك امكـتـفـة وعنـقــك فغــلالـُـه
وندخلك لفندق البطانة ونفرغ عليك واحد الكسوة مكمولة على الشهيــر**
ما قيمتهـا مــال فالعصــر** تعجــب من شافهــا ويفهـى بنجالـُه
من لبطاين والجلود والبدعية وتشميـر من المعــزي بكمام امدلية اتشيــر**
والســروال معـاك يتجــر** من عـتــروس يشبــه قلبك فكحالـُه

..................................
وعلى هذا المنوال من السخرية يضع الشيخ التركماني صورة كاريكاتورية لخصمه ويشهر به.
أما الفكاهة، فتتعلق بالكلمة الترفيهية المضحكة الهادفة، والتي لا يقصد بها الشاعر شخصا، بقدر ما يرمز لقضية أو ظاهرة اجتماعية يسعى إلى تغييرها بواسطة الفكاهة والتفكه والنكتة التي تكون مؤثرة في الجمهور المتلقي، ويكون الخطاب في الفكاهة مثخنا بالرمز، مما يفرض على المتلقي أن يكون نبيها ذكيا قادرا على التقاط الإشارات وفهمها حتى يصل للمقصود من ورائها، وأمثلتها في الشعر العربي كثيرة نذكر منها قصيدة الشاعر ابن هاني في "وصف أكول" والتي يقول في مطلعها:

يا ليت شعري إذ أومى إلى فمه ** أ حـلـقــه لهـــوات أم ميــاديــن
...................................
أما في مجال الشعر الملحون، فنذرة النصوص الفكاهية وصعوبة العثور عليها بين بقية الأغراض الأخرى، دفعت بالبعض إلى الاعتقاد أن شاعر الملحون لم يهتم بهذا الجانب ولم يكتب فيه، وهذا لعمري مجانب للصواب، ذلك أن شيخ الملحون نظم الشيء الكثير في هذا الغرض، وجاءت نصوصه غاية في الروعة والشاعرية والجمال، وقد دارت حول قصائد مسخت وأفرغت من مضمونها الجاد، لتصبح قصائد فكاهية بامتياز، كما فعل الشيخ محمد ابن عمر الملحوني المراكشي بقصيدة "التائية" لسيدي عبد القادر العلمي، والتي تقول حربتها:


العب من غير اشطارة فوق روس حربات ** هكــذا متلــث بنادم في اعشرتـُـه

حيث قلبها الشيخ محمد بن عمر إلى مجال الفكاهة في قصيدة يقول في افراش حربتها:

لحبيــب ألا ينــفــعــنـي بـــزوج خـبـــزات ** ما انعول عن طاجينو ولا امرقته


كما نظمت قصائد خاصة في الفكاهة أسوق بعض أسمائها على سبيل المثال لا الحصر، كقصائد: "الزردة / حمان الخربيطي/اخصام السبع وبوفسيو/الفرانة/ قصائد حول الفار والمش والكلب وغيرها، إلا أن شيوخ الملحون أحرقوا غالبية إنتاجهم هذا نظرا لأنهم كانوا يتضايقون خاصة عندما يُعَرِّض بهم البعض وهم في مجالس الإنشاد، فيقولون للمنشد على سبيل الدعابة: "قل لينا ذاك الكلب ديال الشيخ فلان أو الفار ديال الشيخ افلان أو ما شابه ذلك"، فكان هذا السبب كافيا لإغضاب شيوخ السجية الذين بادروا إلى إحراق الكثير من إبداعاتهم في هذا المجال، ولم يسلم منها إلا القليل الذي بقي عالقا بذاكرة الحفاظة أو في بعض كنانيش الملحون.
وسنطلع من خلال هذا العدد من مجلة الورشان على نماذج من النظم في هذا الباب، إلى جانب تحليل أساتذة وباحثين لبعض النصوص الخاصة بالفكاهة في الملحون.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...