عبدالجليل بدزي - قصيدة الساقي وخمريات الملحون

إن قصيدة "الساقي" لامتيرد تجرنا للحديث عن القصائد التي توصف فيها الخمرة وصفا حسيا ماديا.حين ندرس هذه القصائد نجدها تتمحورحول مجموعة من المكونات/المفاهيم نوجزها في الآتي:
* الزمان: ارتبط احتساء الخمرة بالليل، وقد استفاض الشعراء في و صف الليل، يسميونه تارة الديجوروتارة البهيم واحيانا اخرى الظليم وهناك اسماء عديدة لليل .يأتي الليل في قصائد الملحون في عدة أوصاف فهو سلطان سوداني أسود يحتل المكان ويستولي على الفضاء راخيا سحره وسلطته على الكل ، يخضع له الجميع إلى أن ينسحب مرغما تاركا الفضاء لضوء النهار.غير ان شعراء الملحون افردوا عدة قصائد لشرب الخمر في أوقات أخرى غير الليل،كبداية الصباح والعشية واوقات اخرى.
*الساقي: يقوم الساقي بدور كبير في مجلس الشرب؛ وقد خصه شاعر الملحون بوصف دقيق ومستفيض. وفي غالب الأحيان يكون الساقي غلاما، وقد يكون جارية/قينة. وهي عادة قديمة في الشعر العربي القديم، في العصر العباسي كانت القيان تتشبه بالغلمان لكثرة الطلب على هولاء في مجالس الشرب واللهو،فيقلدن الغلمان وذلك بقص شعرهن وارتداء زي الغلمان.
*الطبيعة: يكتسي مفهوم او مكون الطبيعة اهمية كبرى في قصائد الخمريات، لايحلومجلس الشرب الا اذا كان في الجنان والحدائق الغناء، فترى الشاعر يبدع في وصف الجمال الذي يحيط به فيأتي على ذكركل أنواع الأشجاروالزهور والطيور.يبقى فصل الربيع هو أحب الأوقات للتمتع بجمال الطبيعة.فبعد فصل الشتاء، فصل الأمطار والرعد والسيل تاتي بشائر الربيع، سلطان الفصول فيه تتفجر العطور وتتضوع النسائم وتزهى الالوان على أنقاض الشتاء فتلبس الطبيعة حلة قشيبة يطيب خلالها العيش والإمتاع والمؤانسة.
*الغناء والموسيقى: لايكتمل مجلس الشرب واللهوإلا إذا انبعثت منه الالحان وصدحت الأصوات مغنية منتشية بطيب العيش مستغلة للحظات المتاحة .
*الخمرة: هي حجر الزاوية ومحور المحاورفي المجلس؛ هي التي يتجمع حولها الندامى. وقد أفرد لها شاعر الملحون أوصافا دقيقة بحيث يذكر كل أسمائها فهي المدام ، الصهبا ، الصرخدي ، الجريال ، السلسال ، الكميت ، التمول ، العجوز ، العاتق ، المشعشعة......
كما ذكر الوان هذه الخمر فهي صفراء بهية وحمراء صافية كالياقوت وبيضاء وزرقاء وزعفرانية .ومن اجمل اوصاف لون الخمرارتباطها بالنور، فتارة يشبهها بالكواكب وتارة بالنهاراو الصباح او الشمس او البرق او المصباح او القبس او الضياء وهي كلها مصطلحات تحيلنا مباشرة على مفهوم النور.

*قصيدة "الساقي" للشاعر ادريس بن علي:
كنمودج لما ذكرناه عن شعر الخمر في الملحون نسوق هنا قصيدة الساقي للشاعر الاديب ادريس بن علي الحنش، وهي قصيدة جميلة تتكون من تسعة اقسام ودريدكة.
يستهل الشاعر قصيدته بوصف الليل كسلطان سوداني اسود حط خيامه وجنوده ناويا استيطان الارض والفضاء، طاردا ضوء النهار ومبشرا بليل كله سروروحبور، ويصف الليل كأنه غراب دون أجنحة سقط من السماء على حين غرة. منذ البداية هناك تصريح بجو الخمر والندامة: ( تقول فالمثل سكران...صريع بالخمر نزفان)؛بعد هزمه لضوء النهار، استولى الظلام / الليل على المكان وظهرت النجوم بهية منيرة ( صورة بالغة الجمال للهلال: جاء التشبيه في أربع أو خمس صوربهية: الهلال كناب الفيل، كالخنجر ، كقوس فضي ، كنصف المقياس.
في القسم الثالث يصف الشاعر مجلس الشرب واللهوومايحويه من فراش فاخر بديع ورياش واثات قيم نفيس وزرابي مختلفة الالوان ، كل هذا معد لقضاء ليلة الانس والمتعة.
في القسم الموالي يوجه الخطاب مباشرة إلى الساقي وهو عنصر أساسي في المجلس سبق ان تحدثنا عليه، يقوم بسقي الندامى ويقوم بدور المغني والمطرب ، يداوي نفوس الجلساء العليلة بمصل الخمرة.كما يوجه الكلام لندمائه قصد قرع طاسات الخمرواغتنام الفرصة للزهو والانشراح في جو خال من الجفاء.
في القسم الخامس يأتي على ذكر أسماء الخمر وهي عديدة متعددة: المدام ، الصهبا ، الصرخدي ، الجريال ، هدي كميت ، السلسال ، التمول ، العجوز ، المشعشعة ، العاتق... كما يصف قدم وأزلية الخمرة ( ليها ميات جيل وجيل ) وأثر ومفعول الخمرة في النفس البشرية بحيث تجعل الخمرة النديم كريما نديا كأنه حاتم الطائي. ويشبه الخمرة في صفاوتها ونقاوتها كشمس الضحى وهي إحالة إلي تيمة النور كما سبق وان ذكرناه.
في القسم السادس يستمر الشاعر في وصف مجلس الخمرة ووصف كؤوس الخمر، كأن الأأكس سحاب والخمر تتخللها كأنها بروق وامضة؛ ياله من وصف أخاذ، هذا هو شاعر الملحون ؛الشاعر الشعبي "الأمي" . هنا تحضر ثنائية الليل والصباح /الظلام والنور: في البدء هزم الليل النهار واحتل مكانه طاردا إياه. وتنقلب الأدوار ويلعب نور الشمعة دور الغازي هاء ليطرد سواس الليلوإضفاء هو من الضياء والنورانية على مجلس الندماء وكأن الشمعة شمس تنتصر لضوء النهار من غزو ظلام الليل للمكان.
في القسمين الموالين السابع والثامن يسترسل شاعرنا في وصف جو السمر والشرب ولهو الندمان وقرع طاسات الشتية ذاكرا أواني الشرب "الإبريق" يصفه كأنه طائربهي، منقاره من الياقوت الصافي المتلألئ، وفي صورة أخرى يشبه الإبريق بعابد راكع ساجد طول الليل.
ويستمر جو اللهو والإستمتاع، الندمان يتبادلون الأقداح في جو من الدلال والجمال منتشيين بأنغام الموسيقي والشعر.
في القسم الموالي تعود ثنائية النور والظلام / الصباح والليل. مع تسلل أولى نسمات الصباح، يبدأ الليل في الإستعداد للرحيل وقد فاجأه ضوء الصباح وروعه، إنها معركة انتهت بهروب الليل قاصدا الغرب لان نور الصباح اتى من الشرق حاملا معه خيامه كأنه ملك يستعد للشروع في "حركة" وراءه جنوده وخيوله وممتطيا صهوة جواده الأشهب.
مع بزوغ فجر صباح جديد يستمتع الشاعر رفقة خلانه بشرب خمرة الصباح: الخندريس والعراقي ( محلى الشرب بين الفجر وبين الشروق) "الصبوحي" ويصف النجوم والكواكب كأنه عالم فلك متبحر( الجوزاء ، الزهراء ، بنات نعش والثريا...)
ومع الصباح يظهر جمال الطبيعة: د موع الندى على الأزهار ، شدو الطيور ، وكلها علامات على انتهاء ظلام الليل والعودة إلى حياة النور والصباح ؟ حياة تحتفي بالطبيعة في مختلف تجلياتها: الاشجار ، النسيم ، الزهور ، رحيق الأزهار مياه "الخصات" .وينتهي المجلس بالاستماع للموسيقى (نغمة العشاق) وهي إحالة إلى نوبات الموسيقى الاندلسية المغربية ( 24 نوبة: 24 ساعة على امتداد ساعات اليوم) وقد تكون نوبة العشاق هي المخصصة للصباح.
وفي الأخير يعتد الشاعر بنفسه وبفنه وبشعره ( نزاهة خلاقي نهم فالزمان دركت السباق لو وخرني عصري مطيتي لاحقة).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...