أيكو ماتِسودا – عزيزٌ على القلب.. ترجمة: مريم الدوسري

بحلول الخريف، يتوقف المشاة على الرصيف، أو عند الزاوية، وبلطف يعلقون على الرائحة التي تملأ المكان. “آه! ما أحلى رائحة العَبِقة!”
لا أعرف رائحة العَبِقة، وهذا أمر يفاجئ الآخرين دائماً. أعاني من التهاب الأنف منذ صغري، فأجد نفسي مضطرة لأن أشرح زياراتي المتعددة إلى مشفى الأذن والأنف والحنجرة، وما يفعله الجهاز حاد الرأس الذي يُحشر في أنفي، طنينه الغريب، اهتزازه المتواصل، والإحساس الغريب الذي يخلفه شفط المخاط من أنفي. مللت من شرح هذا في كل مرة، كما سئمت المواعيد الطبية التي لا تنتهي، حتى توقفت عن الذهاب إلى المستشفى في نهاية المطاف. من ذلك الحين، أُصَرِّف أموري بدون وصفة طبية بأي أدوية أجدها في الصيدلية.
رواج هذه الرائحة يثير عجبي. لذا حين يكثر الحديث عن رائحة العَبِقة، أتظاهر بالفهم، والتأييد أيضاً، بالرغم من أني لا أملك أدنى فكرة عما يميزها. أما في المرات النادرة التي اعترفت فيها بجهلي، كان رد فعل الآخرين كما لو أنني جلفة متحجرة القلب. لا بد أن رائحة العَبِقة مميزة، فزهور أخرى لا تثير نفس رد الفعل. ويبدو أنها مميزة لدرجة أن هناك من يتمنى لو أن يَجد عطوراً بنفس الرائحة. في حين لم أشتر زجاجة عطر قط. جربت، مرة أو اثنتين، عطورات أهداني إياها آخرون، ولكني شعرت بالغباء لتعطري برائحة لا يمكنني شمها. لم أفعل ذلكَ مجدداً.
من الواضح أن الروائح والعطورات ليست من مواضع قوتي، فبفقداني لحاسة الشم استغنيت عن كل ما يشم. مثلاً، ليس لدي أي اهتمام بالعلاج بالروائح أو بالبخور، وكلاهما رائج الآن. تشير المجلات والإعلانات إلى أن إضافة مثل هذه الأشياء إلى روتين المرء، يمكنها أن تؤثر على تعافيه وأن تساهم في خلق أسلوب حياة أكثر طمـأنينة، مما يجعلني أظن أن فرصي للتعافي ولّت. ولكن ما الذي يعنيه هذا- أن يتعافى المرء بهذه الطريقة؟
ولكنني أدركتُ حسن حظي حين قرأت صدفة عن تأثير الروائح على القطط على الإنترنت. لا أعتمد على الإنترنت في مثل هذه الأمور، ولكنه مفيد أحيانا. وجدت من خلال بحثي أن للعلاج بالروائح أثرا على القطط، فرائحة النعناع قد تؤذيها. لو لم يكن أنفي معطوباً، لاستعملت زيوتاً ونباتات عطرية، ولكني لم أفعل قط حين كانت تورتي هنا.
هذا لا يعني أن حظي جيد دوماً. بالطبع لا. مؤخراً أصبت بزكام في غير موسمه، وبينما أحاول التعافي بالبقاء في السرير، نفد البخور الذي استخدمه على طاولة القرابين. لم أكن لأخرج لشراء المزيد منه وأنا مزكومة. للمرة الأولى منذ وقت طويل، دخلت غرفة أبي التي ما تزال كما هي منذ وفاته، وعثرت على علبة بخور قديمة في أحد الأدراج. البخور معطر، ليس مما يستخدم للقرابين. أعرف أن البعض يتزمت حيال بخور القرابين. ولكن لا فرق عندي، فدون رائحة لا فرق بين بخور القرابين والبخور العادي. كلها، على أي حال، خطوط دخانية نحيلة صغيرة تطلق في الهواء خطوطاً دخانية نحيلة صغيرة أخرى. لطالما بدا لي دخان البخور كما لو أنه روح ضعيفة تغادر الجسد. أمد يدي أحيانا وأحاول أن أربت على تلك الأرواح المسكينة، ولكنها تتملص من بين أصابعي، وتواصل صعودها قبل أن تختفي. أين تذهب الأرواح حين تختفي؟ أيّا يكن، لم أجد مشكلة فعلا في إعادة استخدام البخور الذي وجدته في درج خزانة والدي. لم تكن عندي أي فكرة كم من الوقت مر عليه حين وجدته، إلا أن نصف الكمية بالكاد استخدم. سمّني مهملة إن شئت، ولكني واصلت استخدامه.
سرعان ما تعافيت من نزلة البرد، وعدت إلى زيارتي اليومية إلى المجمع التجاري. ولما كان عندي الآن ما يكفي من البخور، لم أتوقف قط لشراء بخور القرابين، وإن مررت بمحل البخور. بثمانية وثمانين ينّاً للصرّة، يجذبني سعر الهليون المخفض أكثر من البخور.
وعلى عادتي، أشعلت عود بخور على طاولة القرابين، في أحد الأيام، وشرعت أطوي الملابس. باغتني صوت واثق يستسمح عذراً “ممم، المعذرة. أعتذر لإزعاجك، أعرف أنك مشغولة.” نظرت نحو النافذة معتقدة بأن الصوت، الذي لابدّ وأن وصلني عبر الحديقة الأمامية، صوت شخص يجمع التبرعات أو يطلب حاجة ما، إلا أنني لم أجد عند النافذة أحدا. “أوه، أنا آسف. أنا هنا فوق طاولة القرابين”. التفت لأجد رجلا يرتدي بدلة رسمية ونظارات سوداء الإطار، يطفو عند طاولة القرابين. وفّر عليّ جلوسي على سجادة التاتامي السقوط رعباً، وأنا أحدق عجباً في الرجل الطافي.
“أرجو ألا تخافي، سيدتي. لست شبحاً. أنا هنا بصفة رسمية ممثلا عن شركة البخور”. لمحت بطاقة الاسم المثبتة على صدره – عليها رمز واحد غريب. “السيد، ممم، ميغيوا؟” سألت مترددة، لم يكن هذا اسماً صادفته من قبل.
“أوه، كلا. اسمي تاي”. هذا اسم صيني ويفسر لكنته.
“آه، سيد تاي. لغتك اليابانية جيدة جداً.”
“نعم، حسن.” قال ببرود قبل أن يضيف “في ظروف أكثر اعتيادية كنت سأقدم لك بطاقتي الشخصية. ولكن نظراً لظروف لقائنا الحالية لا يمكنني ذلك. أرجو أن تعذري قلة تهذيبي”. لا أعتقد أن هناك ما هو أكثر غرابة من رجل يتراءى لي طافيًا فوق طاولة القرابين يخاطبني بكل هذا الاحترام.
“أود أن أحدثك عن إحدى منتجاتنا التي تستخدمينها. يبدو أنك لم تشعري بتأثيره بعد.”
“تأثير؟”
“نعم. أحياناً لا يعمل المنتج كما يراد له، ولكن يتوقع مستخدمو منتجاتنا أن يروا أحباءهم، كما لو كانوا أحياء، بعد أسبوع أو اثنين من بدء الاستخدام.”
“هه؟ أهذا ما يستعمل البخور من أجله؟” سألته وأنا بالكاد أصدق ما يقول.
“نعم، بالتأكيد. لا أظن أن المنتج الذي بحوزتك فاسد، لذا قررت زيارتك وتفقد ما قد يؤثر على فعاليته. لنقوم بدورنا بالتعديلات اللازمة، أود أيضا أن أسألك عن اسم شخص عزيز على قلبك. بالطبع، هذه الأيام، نتيجة لردود فعل المستخدمين على الإنترنت، نحاول ما بوسعنا لإرضاء كل طلبات زبائننا.” بدا السيد تاي جاداً فيما يقوله.
شخص عزيز على قلبي. قلبت كلماته في ذهني. أفترض أن علي أن اسمي أحد والدي في هذه الحال، ولكنني لا أعرف ما أقوله لهما لو عادا الآن. بعد وفاة والدتي وأنا صبية، أصبح والدي صموتاً، وعشت معه كما لو كان لا ينطق. الآن أيضا، وحتى بعد وفاته، لا أشعر بالوحدة، فوجوده الصامت ما يزال في المنزل. واعدت عددا من الأشخاص، عندما كنت أصغر سنا، دون أن أكن لأيهم مشاعر قوية، كما أنني لم أتزوج قط. ثم تذكرت المخلوق الصامت الآخر الذي عشت معه ذات مرة.
“تورتي”، قلت له.
“تورتي؟” ظل وجه السيد تاي كما هو، وإن بدا صوته مستغربا. صوت السيد تاي هادئ مريح، ووجه خال من التعابير.
“نعم، قطتي، تورتي. تبنيتها عندما كنت في العشرينات، وعاشت معي حتى بلغت هي التاسعة عشرة. كانت معي بعدما توفي والدي.”
كوني غير قادرة على الشم، لم أعرف قط الشعور بالراحة من خلال رائحة معينة. لكنني أعتقد بأنه خلال الأعوام التسعة عشر التي كانت تورتي فيها معي، كانت تورتي مصدر راحتي. مرة تلو الأخرى، أراحتني نعومة شعرها، والطريقة التي تقفز فيها على كتفي أو في حضني، طمأنني مواؤها الذي لا يمكن أن يكون أكثر قططية، تطلعها عبر النافذة، وكيف تبدو حين تستيقظ: كلما ما فيها كان يريحني. لم تزل تريحني حتى بعد أن شاخت وتدهورت صحتها، فتكررت زيارتنا إلى البيطري وكثرت أدويتها.
تورتي كانت مخلوقاً رائعاً. ربما كل القطط كذلك.
بدا أن ما قلته أدهش هذا السيد تاي، فبدأ يتحدث بشيء من العجلة. “يا إلهي. أنت محقة. فعلا، ما من سبب يدفعنا لحصر الأحباء في البشر. من المحرج فعلا أننا أغفلنا هذا الأمر طيلة هذا الوقت. أرجو أن تقبلي خالص اعتذاري عن هذا الخلل في نظامنا. سأخطر الفريق التقني بهذا على الفور. أيمكنني أن أطلب منك الانتظار أسبوعا آخر؟ أعدك بأن تري تورتي بعد ذلك. “
“أوه نعم، بالتأكيد.”
كل ما كان يجري كان غير متوقع، إلا أنني لم أكن لأطيل التفكير في الأمر. لا يهم إن لم أستطع لمسها، مجرد رؤيتها تكفيني، التفكير في الالتقاء بها مجددا أسعدني.
نظر إليّ السيد تاي من موضعه المرتفع بعد أن أنهى تدوين ملاحظاته بكل جدية.
“في الشركة نهتم أيضاً برائحة منتجاتنا. يجب أن يصدر البخور رائحتك المفضلة، إلا أنه لسبب ما لم يلتقط تلك المعلومة. أخبريني، من فضلك، أي رائحة تفضلين؟”
” أوه، لست جيدة في التعامل مع الروائح. عندي مشاكل أنفية”.
“أهذا صحيح؟” بدا السيد تاي منزعجاً.
“بجد. لا أعرف حتى رائحة العَبِقة.”
“العَبِقة. حسن. أعتقد أن رائحة العَبِقة لا تختلف كثيرا عن طعم الأكِدُنيا. رائحتها حلوة، ليست مفرطة الحلاوة. منعشة نوعاً ما وفيها ما يبعث على الحنين.” أضاف جادا دون أدنى ابتسامة.
فكرت بطعم الأكِدُنيا، ولوهلة شعرت بدغدغة حول منخري، وما يشبه الرائحة. أهذه رائحة العَبِقة؟ كانت هذه المرة الأولى التي يصف فيها أحدهم لي رائحة بالكلمات. لم أكن أعتقد أن ذلك ممكن. حدقت في السيد تاي بلا خجل، بينما عاد التعبير المفرغ المعتاد إلى وجهه.
“حسن. أيمكنك إذا أن تجعلها برائحة العَبِقة؟”
“أمتأكدة؟”
“نعم. من فضلك.”
“طيب. سأكون ممتناً لو انتظرت أسبوعاً آخر. إلى اللقاء.” انحنى السيد تاي بأدب ثم اختفى.
واصلت استخدام البخور في الأيام التالية. بحثت عنه على الإنترنت. وكما قال السيد تاي، منتج عادي يمكنني شراء المزيد منه إن نفد. عثوري على البخور في غرفة والدي قد يعني أنه استخدمه ليرى والدتي بين فترة وأخرى دون علمي. يرق قلبي كلما تصورته يفعل ذلك.
بعد يومين ينقضي أسبوع منذ زيارة السيد تاي.

*نص: أيكو ماتِسودا
*ترجمة: مريم الدوسري
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...