13- الإملاء المختصر في شرح غريب السير:
هناك في تاريخ الثقافة الإسلامية موضوع و كتب غريب القرآن.
و هناك موضوع و كتب غريب الحديث.
و هناك موضوع و كتب غريب السيرة.
و لكل من هذه الموضوعات حيز أخذ باهتمام المؤلفين و الدارسين في الأقطار الإسلامية منذ القرون... !و له مصادر معروفة... !
و الحديث الآن منصرف إلى ما جد من مطبوعات في عاصمة عمان، و هو كتاب يحمل هذا العنوان:
"الإملاء المختصر في شرح غريب السير" و هو من تأليف عالم أندلسي شهير يعرف بأبي ذر مصعب بن أبي بكر الخشني الجياني، دفين مدينة فاس، على عهد دولة الموحدين سنة 604 هـ بعد رحلات في الأندلس و تلمسان و بجاية.
و موضوع الكتاب هو شرح الغريب اللغوي الذي جاء في النصوص المسجلة للسيرة النبوية، فقد سجل ابن إسحاق و ابن هشام نصوصا كثيرة من الشعر و النثر، و أسماء الأعلام البشرية و القبلية و الجغرافية وما إلى ذلك. و فيها أشياء تحتاج إلى شرح و إيضاح و إضافة و تنبيه، على المؤتلف و المختلف، و التصحيح و الضبط...
و قد كان – في عصر الموحدين و عصر الخشني – عالم جليل، أندلسي الدار، مراكشي القرار، هو أبو زيد و أبو القاسم السهيلي المتوفى بمراكش سنة 581 هـ، قد اهتم بهذا الموضوع، و ألف فيه كتابه الموسوعي المسمى "الروضُ الأنـُفُ".
و معلوم أن عصر الموحدين في كل من الأندلس و المغرب عصر اهتمام كبير بالقرآن و تفسيره، و الحديث و السيرة، و كل ما يتعلق بذلك.
و الخشني عالم أديب لغوي شاعر، احترف التدريس و التأليف في الأندلس و المغرب عدة سنوات... و له أشياخ و تلاميذ و مؤلفات. و اهتم بترجمته عدد كبير من المؤرخين و كتاب الطبقات.
و كتاب "الإملاء المختصر" كتاب لغوي قبل كل شيء، لأن منهاج مؤلفه قام على أساس إملاء تفسير لغوي، لما جاء في أخبار السيرة النبوية من أشعار و أعلام و مفردات، تدخل في نطاق غريب اللغة، و لها دلالات لابد من إيضاحها.
و قد ابتدأ كتابه بتفسير طريق لأسماء أجداد الرسول عليه السلام، من البداية إلى معد بن عدنان، و ذلك من الناحية اللغوية:
* لؤي: تصغير لأي، و هو الثور الوحشي.
* فهر: حجر على مقدار ملء الكف.
* النضر: الذهب الأحمر.
* مضر: الأبيض
* نزار: من النزارة و هي القلة.
ثم أخذ يفسر ما جاء داخل الأخبار الواردة في السيرة من أشعار و جمل و أمثال و أعلام.
- تفسير غريب أبيات الأعشى.
- تفسير غريب أبيات خالد بن عبد العـُزّى.
- تفسير غريب أبيات سبيعة بنت الأحب.
- تفسير غريب أبيات ابن الذئبة الثقفي.
و قد قام محقق الكتاب و هو: د. عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني في هامش الكتاب بذكر النصوص التي يشرح غريبها الخشني، مع ذكر مصادرها في كتب السيرة المختلفة، و كتب الحديث و طبقات الصحابة، و كتب الأدب، و كتب التاريخ، و ما إلى ذلك.
و بذلك أصبح قارئ الكتاب على بينة من النصوص و الشروح يتابع إملاءات الخشني، كما يتابع النصوص التي تدور تفسيرات الخشني حولها.
و عمل المحقق واضح المنهجية و الإفادة في ضبط النصوص، و تصحيح ما لحقها من تصحيف و تحريف... و في ضبط الشروح و توضيح مقاصدها، و ترتيب فقراتها، و بيان ما في مخطوطات الكتاب من اختلافات، و التنبيه على أصحها و أفيدها.
و من مجموع نصوص كتب السيرة، و نصوص شروح الخشني، و تحقيقات د. عبد الكريم خليفة، نستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب يكون معجما لغويا من نوع خاص، و هو غريب كتب السيرة النبوية.
و الكتاب يشتمل على ثلاثة أجزاء متوسطة في طبع أنيق جيد مفيد... و كل جزء قدم فيه محقق الكتاب فهارس متنوعة تشمل الأعلام البشرية، و الأعلام الجغرافية، و الكلمات اللغوية المشروحة. و بذلك أصبحت مادة الكتاب مفهرسة في هذه الفهارس، و التي تقرب القارئ من جميع المعلومات الواردة في هذا الكتاب الذي يبحث غريب كتب السيرة، و يتتبع النصوص التي ورد فيها هذا الغريب... !
و الفرق واضح بين عمل الخشني شكلا و مضمونا في هذا الكتاب... و عمل أبي القاسم السهيلي في كتابه الشهير: "الروض الأنف".
فإن السهيلي توسع في القواعد النحوية، كما توسع في قراءة بعض النصوص، و ما تحتمله من إشارات و دلالات مع اعتراضات و انتقادات و أسئلة و أجوبة و مناقشات متنوعة.
بخلاف الخشني الذي أراد أن يشرح النصوص الواردة في كتب السيرة من الناحية اللغوية فقط، و طبق منهاجه بدقة و اختصار... !
و بالإطلاع على كتابي:
- "الروض الأنف" للسهيلي،
- و "الإملاء المختصر".
تكون نصوص ابن إسحاق و ابن هشام و غيرهما فيما يرجع للسيرة النبوية قد نالت حظا كبيرا من الإيضاح و التفسير و البيان على يد عالمين أندلسيين شاءت القدرة الإلهية أن يكون أحدهما دفين مدينة فاس... !
14- ابن عربشاه:
من الشخصيات كما تعودنا كتب التاريخ و الطبقات من تكون قيمتها في عصرها أعظم و أكبر من الآثار التي خلفتها للأجيال اللاحقة... !
و ابن عربشاه المؤرخ الرحالة الأديب السياسي من هذا القبيل، فإن كتبه التي بين أيدينا الآن، رغم فائدتها، فإنها لا تعكس على صفحاتها أبعاد الرجل و أغواره، و ما كان يملك من مواهب، و ما يختزن في ذاكرته من معلومات و أسرار... !
مسقط رأسه دمشق الشام سنة 791هـ/1389م، شاهد في صباه غزوة تيمورلنك بجيوشه الجرارة المخربة هذه المدينة، و هزيمة السلطان المملوكي فرج بن برقوق أمام هذا الطاغية... و اضطرار أهل هذه المدينة التاريخية إلى مفاوضته لتسلم من الدمار... ! و تولى ذلك المؤرخ ابن خلدون، الذي كان من الحاشية المرافقة للسلطان فرج بن برقوق... فاتصل بتيمورلنك و فاوضه، كما هو معلوم... و ليس من المستبعد أن يكون الفتى ابن عربشاه قد شاهد ابن خلدون فعلا في دمشق، أو سمع أخباره مع تيمورلنك هناك... و سنه لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
سافر الفتى مع إخوته، و ضرب في أقطار المشرق طلبا للعلم و المعرفة و الاتصال بالأعلام المشهورين في عصره حتى وصل إلى "سمرقند"، و كانت هذه المدينة عاصمة تيمورلنك... ثم تابع رحلته العلمية إلى مدن أخرى حتى وصل إلى "خوارزم"، و تعلم في رحلته هذه عدة لغات شرقية كانت شائعة في عصره، منها الفارسية و التركية، و المغولية إلى جانب لغته العربية. و انعطف إلى بلاد القرم مخترقا أقاليم القوقاز و شواطئ البحر الأسود. و كانت الظروف إذ ذاك تتمخض عن قوة و عظمة الدولة التركية فاتصل بسلاطينها و استعملوه في الترجمة من اللغات: العربية و الفارسية و التركية. و إليها... و كانت الترجمة تشمل: الرسائل، و الكتب، و الأنظمة.
و بعد رحلات شاقة و مفيدة دامت ما يقرب من اثنتين و عشرين سنة رجع ابن عربشاه إلى الشام، فزار حلب ثم دمشق، و مكث في دمشق يفيد و يستفيد، و يؤلف و يدرس و يربط صلات وثيقة بأعلام هذه المدينة.
و نجده بعد ذلك يرحل إلى القاهرة و هي إذ ذاك حافلة بأعلام القرن التاسع أمثال:
• بدر الدين العيني.
• ابن حجر العسقلاني.
• و السخاوي.
• و المقريزي.
• و ابن تغري بردي.
و كانت هذه الرحلة الأخيرة إلى القاهرة سببا في شهرة واسعة، حصل عليها ابن عربشاه في كتب التاريخ و الطبقات، لأن هؤلاء الأعلام الذين اتصل بهم قدروا علمه و تجربته و مكانته الثقافية الإسلامية في ذلك العصر.
ومع ما كتب عنه هؤلاء و غيرهم، فإن هناك عدة نقط و ظروف في حياة هذا الرجل لا نكاد نعرف عنها إلا سطحيات لا تشفي غليلا.
توفي ابن عربشاه بالقاهرة سنة 854هـ/ 1450م، و ترك بعض المؤلفات منها:
- عجائب المقدور.
- و فاكهة الخلفاء.
كما ترك بعض الأصداء هنا و هناك لا تفي بما كان له في عصره من وزن و شهرة كما نظن... !
و قد عرف الاستشراق الأوروبي مبكرا بن عربشاه، و اهتم بترجمة مؤلفاته و طبعها،و البحث عن رحلاته التي قام بها، و المناطق التي حل بها و أشار إليها في بعض آثاره.
15 – حول "أعلمه الرماية... !"
من أبيات الاستشهاد التي يستشهد بها في مناسبات عدة في مقام نكران الجميل و العقوق، و الإساءة الموجهة من إنسان إلى إنسان آخر كان معلمه و مفيده يقول الشاعر العربي، و قد صار بيته مثلا:
أعلمـه الـرمـايـة كل يـوم فلما استـد سـاعـده رمـاني
و الحديث الآن منصرف إلى كلمة: "استد" أو "اشتد".
فهناك رواة و مؤلفون و نقاد يدافعون عن رواية "السين". فيقولون: "استد ساعده".
- و هناك آخرون يدافعون عن رواية "الشين" فيقولون: "اشتد ساعده".
و لكل وجهة يرتضيها و رواية يرويها و رأي لغوي يدافع عنه منذ القديم.
غير أن اللغوي السبتي: ابن هشام اللخمي المتوفى سنة 577 هـ / 1181م في كتابه: "المدخل إلى تقويم اللسان و تعليم البيان" يذكر هذا الشاهد، و يستصوب رواية "استدً" بالسين... و يحتج لذلك بحجة لغوية قائلا:
"و الرمي لا يوصف بالشدة.. ! و إنما يوصف بالسداد، و هو الإصابة... يقال: رام مسدّد و مسدَّد... و هذا البيت من أبيات لمعن بن أوس قالها في ابن أخت له يقال له: "حبيب".
انتهى كلام ابن هشام بنصه في كتابه المذكور ص: 422. ط مدريد.
و الميداني مؤلف كتاب: "مجمع الأمثال" يذكر عبارة: "لما استد ساعده رماني" ضمن الأمثال المشهورة على الألسنة، و يذكر القطعة الشعرية التي ورد فيها هذا المثل... و لا ينسبها... ! و يذكر كلمة "استد" بالسين المهملة، و تذكر المعاجم كلمة: "استد"، الأمر بمعنى استقام و انتظم... فالطفل إذا كبر و قويت عضلاته قيل فيه: "استد" و الرأي إذا استقام و كان صوابا قيل فيه: "استد".
و رغم هذا كله، فإن هناك من يصرون على رواية: "اشتد" في البيت الآنف الذكر بالشين... !
و لهم رأيهم الخاص، و روايتهم الخاصة كما يشاؤون... !
دعوة الحق
العدد 304 صفر-ربيع 1 1415/ غشت-شتنبر 1994
هناك في تاريخ الثقافة الإسلامية موضوع و كتب غريب القرآن.
و هناك موضوع و كتب غريب الحديث.
و هناك موضوع و كتب غريب السيرة.
و لكل من هذه الموضوعات حيز أخذ باهتمام المؤلفين و الدارسين في الأقطار الإسلامية منذ القرون... !و له مصادر معروفة... !
و الحديث الآن منصرف إلى ما جد من مطبوعات في عاصمة عمان، و هو كتاب يحمل هذا العنوان:
"الإملاء المختصر في شرح غريب السير" و هو من تأليف عالم أندلسي شهير يعرف بأبي ذر مصعب بن أبي بكر الخشني الجياني، دفين مدينة فاس، على عهد دولة الموحدين سنة 604 هـ بعد رحلات في الأندلس و تلمسان و بجاية.
و موضوع الكتاب هو شرح الغريب اللغوي الذي جاء في النصوص المسجلة للسيرة النبوية، فقد سجل ابن إسحاق و ابن هشام نصوصا كثيرة من الشعر و النثر، و أسماء الأعلام البشرية و القبلية و الجغرافية وما إلى ذلك. و فيها أشياء تحتاج إلى شرح و إيضاح و إضافة و تنبيه، على المؤتلف و المختلف، و التصحيح و الضبط...
و قد كان – في عصر الموحدين و عصر الخشني – عالم جليل، أندلسي الدار، مراكشي القرار، هو أبو زيد و أبو القاسم السهيلي المتوفى بمراكش سنة 581 هـ، قد اهتم بهذا الموضوع، و ألف فيه كتابه الموسوعي المسمى "الروضُ الأنـُفُ".
و معلوم أن عصر الموحدين في كل من الأندلس و المغرب عصر اهتمام كبير بالقرآن و تفسيره، و الحديث و السيرة، و كل ما يتعلق بذلك.
و الخشني عالم أديب لغوي شاعر، احترف التدريس و التأليف في الأندلس و المغرب عدة سنوات... و له أشياخ و تلاميذ و مؤلفات. و اهتم بترجمته عدد كبير من المؤرخين و كتاب الطبقات.
و كتاب "الإملاء المختصر" كتاب لغوي قبل كل شيء، لأن منهاج مؤلفه قام على أساس إملاء تفسير لغوي، لما جاء في أخبار السيرة النبوية من أشعار و أعلام و مفردات، تدخل في نطاق غريب اللغة، و لها دلالات لابد من إيضاحها.
و قد ابتدأ كتابه بتفسير طريق لأسماء أجداد الرسول عليه السلام، من البداية إلى معد بن عدنان، و ذلك من الناحية اللغوية:
* لؤي: تصغير لأي، و هو الثور الوحشي.
* فهر: حجر على مقدار ملء الكف.
* النضر: الذهب الأحمر.
* مضر: الأبيض
* نزار: من النزارة و هي القلة.
ثم أخذ يفسر ما جاء داخل الأخبار الواردة في السيرة من أشعار و جمل و أمثال و أعلام.
- تفسير غريب أبيات الأعشى.
- تفسير غريب أبيات خالد بن عبد العـُزّى.
- تفسير غريب أبيات سبيعة بنت الأحب.
- تفسير غريب أبيات ابن الذئبة الثقفي.
و قد قام محقق الكتاب و هو: د. عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني في هامش الكتاب بذكر النصوص التي يشرح غريبها الخشني، مع ذكر مصادرها في كتب السيرة المختلفة، و كتب الحديث و طبقات الصحابة، و كتب الأدب، و كتب التاريخ، و ما إلى ذلك.
و بذلك أصبح قارئ الكتاب على بينة من النصوص و الشروح يتابع إملاءات الخشني، كما يتابع النصوص التي تدور تفسيرات الخشني حولها.
و عمل المحقق واضح المنهجية و الإفادة في ضبط النصوص، و تصحيح ما لحقها من تصحيف و تحريف... و في ضبط الشروح و توضيح مقاصدها، و ترتيب فقراتها، و بيان ما في مخطوطات الكتاب من اختلافات، و التنبيه على أصحها و أفيدها.
و من مجموع نصوص كتب السيرة، و نصوص شروح الخشني، و تحقيقات د. عبد الكريم خليفة، نستطيع أن نقول: إن هذا الكتاب يكون معجما لغويا من نوع خاص، و هو غريب كتب السيرة النبوية.
و الكتاب يشتمل على ثلاثة أجزاء متوسطة في طبع أنيق جيد مفيد... و كل جزء قدم فيه محقق الكتاب فهارس متنوعة تشمل الأعلام البشرية، و الأعلام الجغرافية، و الكلمات اللغوية المشروحة. و بذلك أصبحت مادة الكتاب مفهرسة في هذه الفهارس، و التي تقرب القارئ من جميع المعلومات الواردة في هذا الكتاب الذي يبحث غريب كتب السيرة، و يتتبع النصوص التي ورد فيها هذا الغريب... !
و الفرق واضح بين عمل الخشني شكلا و مضمونا في هذا الكتاب... و عمل أبي القاسم السهيلي في كتابه الشهير: "الروض الأنف".
فإن السهيلي توسع في القواعد النحوية، كما توسع في قراءة بعض النصوص، و ما تحتمله من إشارات و دلالات مع اعتراضات و انتقادات و أسئلة و أجوبة و مناقشات متنوعة.
بخلاف الخشني الذي أراد أن يشرح النصوص الواردة في كتب السيرة من الناحية اللغوية فقط، و طبق منهاجه بدقة و اختصار... !
و بالإطلاع على كتابي:
- "الروض الأنف" للسهيلي،
- و "الإملاء المختصر".
تكون نصوص ابن إسحاق و ابن هشام و غيرهما فيما يرجع للسيرة النبوية قد نالت حظا كبيرا من الإيضاح و التفسير و البيان على يد عالمين أندلسيين شاءت القدرة الإلهية أن يكون أحدهما دفين مدينة فاس... !
14- ابن عربشاه:
من الشخصيات كما تعودنا كتب التاريخ و الطبقات من تكون قيمتها في عصرها أعظم و أكبر من الآثار التي خلفتها للأجيال اللاحقة... !
و ابن عربشاه المؤرخ الرحالة الأديب السياسي من هذا القبيل، فإن كتبه التي بين أيدينا الآن، رغم فائدتها، فإنها لا تعكس على صفحاتها أبعاد الرجل و أغواره، و ما كان يملك من مواهب، و ما يختزن في ذاكرته من معلومات و أسرار... !
مسقط رأسه دمشق الشام سنة 791هـ/1389م، شاهد في صباه غزوة تيمورلنك بجيوشه الجرارة المخربة هذه المدينة، و هزيمة السلطان المملوكي فرج بن برقوق أمام هذا الطاغية... و اضطرار أهل هذه المدينة التاريخية إلى مفاوضته لتسلم من الدمار... ! و تولى ذلك المؤرخ ابن خلدون، الذي كان من الحاشية المرافقة للسلطان فرج بن برقوق... فاتصل بتيمورلنك و فاوضه، كما هو معلوم... و ليس من المستبعد أن يكون الفتى ابن عربشاه قد شاهد ابن خلدون فعلا في دمشق، أو سمع أخباره مع تيمورلنك هناك... و سنه لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
سافر الفتى مع إخوته، و ضرب في أقطار المشرق طلبا للعلم و المعرفة و الاتصال بالأعلام المشهورين في عصره حتى وصل إلى "سمرقند"، و كانت هذه المدينة عاصمة تيمورلنك... ثم تابع رحلته العلمية إلى مدن أخرى حتى وصل إلى "خوارزم"، و تعلم في رحلته هذه عدة لغات شرقية كانت شائعة في عصره، منها الفارسية و التركية، و المغولية إلى جانب لغته العربية. و انعطف إلى بلاد القرم مخترقا أقاليم القوقاز و شواطئ البحر الأسود. و كانت الظروف إذ ذاك تتمخض عن قوة و عظمة الدولة التركية فاتصل بسلاطينها و استعملوه في الترجمة من اللغات: العربية و الفارسية و التركية. و إليها... و كانت الترجمة تشمل: الرسائل، و الكتب، و الأنظمة.
و بعد رحلات شاقة و مفيدة دامت ما يقرب من اثنتين و عشرين سنة رجع ابن عربشاه إلى الشام، فزار حلب ثم دمشق، و مكث في دمشق يفيد و يستفيد، و يؤلف و يدرس و يربط صلات وثيقة بأعلام هذه المدينة.
و نجده بعد ذلك يرحل إلى القاهرة و هي إذ ذاك حافلة بأعلام القرن التاسع أمثال:
• بدر الدين العيني.
• ابن حجر العسقلاني.
• و السخاوي.
• و المقريزي.
• و ابن تغري بردي.
و كانت هذه الرحلة الأخيرة إلى القاهرة سببا في شهرة واسعة، حصل عليها ابن عربشاه في كتب التاريخ و الطبقات، لأن هؤلاء الأعلام الذين اتصل بهم قدروا علمه و تجربته و مكانته الثقافية الإسلامية في ذلك العصر.
ومع ما كتب عنه هؤلاء و غيرهم، فإن هناك عدة نقط و ظروف في حياة هذا الرجل لا نكاد نعرف عنها إلا سطحيات لا تشفي غليلا.
توفي ابن عربشاه بالقاهرة سنة 854هـ/ 1450م، و ترك بعض المؤلفات منها:
- عجائب المقدور.
- و فاكهة الخلفاء.
كما ترك بعض الأصداء هنا و هناك لا تفي بما كان له في عصره من وزن و شهرة كما نظن... !
و قد عرف الاستشراق الأوروبي مبكرا بن عربشاه، و اهتم بترجمة مؤلفاته و طبعها،و البحث عن رحلاته التي قام بها، و المناطق التي حل بها و أشار إليها في بعض آثاره.
15 – حول "أعلمه الرماية... !"
من أبيات الاستشهاد التي يستشهد بها في مناسبات عدة في مقام نكران الجميل و العقوق، و الإساءة الموجهة من إنسان إلى إنسان آخر كان معلمه و مفيده يقول الشاعر العربي، و قد صار بيته مثلا:
أعلمـه الـرمـايـة كل يـوم فلما استـد سـاعـده رمـاني
و الحديث الآن منصرف إلى كلمة: "استد" أو "اشتد".
فهناك رواة و مؤلفون و نقاد يدافعون عن رواية "السين". فيقولون: "استد ساعده".
- و هناك آخرون يدافعون عن رواية "الشين" فيقولون: "اشتد ساعده".
و لكل وجهة يرتضيها و رواية يرويها و رأي لغوي يدافع عنه منذ القديم.
غير أن اللغوي السبتي: ابن هشام اللخمي المتوفى سنة 577 هـ / 1181م في كتابه: "المدخل إلى تقويم اللسان و تعليم البيان" يذكر هذا الشاهد، و يستصوب رواية "استدً" بالسين... و يحتج لذلك بحجة لغوية قائلا:
"و الرمي لا يوصف بالشدة.. ! و إنما يوصف بالسداد، و هو الإصابة... يقال: رام مسدّد و مسدَّد... و هذا البيت من أبيات لمعن بن أوس قالها في ابن أخت له يقال له: "حبيب".
انتهى كلام ابن هشام بنصه في كتابه المذكور ص: 422. ط مدريد.
و الميداني مؤلف كتاب: "مجمع الأمثال" يذكر عبارة: "لما استد ساعده رماني" ضمن الأمثال المشهورة على الألسنة، و يذكر القطعة الشعرية التي ورد فيها هذا المثل... و لا ينسبها... ! و يذكر كلمة "استد" بالسين المهملة، و تذكر المعاجم كلمة: "استد"، الأمر بمعنى استقام و انتظم... فالطفل إذا كبر و قويت عضلاته قيل فيه: "استد" و الرأي إذا استقام و كان صوابا قيل فيه: "استد".
و رغم هذا كله، فإن هناك من يصرون على رواية: "اشتد" في البيت الآنف الذكر بالشين... !
و لهم رأيهم الخاص، و روايتهم الخاصة كما يشاؤون... !
دعوة الحق
العدد 304 صفر-ربيع 1 1415/ غشت-شتنبر 1994