في مجلة «الجمهور الجديد» ببيروت قال الكاتب والمترجم اللبناني ميخائيل نعيمة لمحاوِره عام 1963 «متى أصبحت المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ؛ عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قومًا متحضرين» (نُشِر الحوار في كتاب أحاديث مع الصحافة، 1989، ص152).
عندما نتتبع تاريخ مبدعينا في مختلف المجالات، نجد أن المكتبة كانت جزءًا مهمًا من تكوينهم، سواء منزلية، أو مدرسية، أو مكتبة عامة يذهبون للقراءة داخلها أو الاستعارة منها. وعندما ننظر إلى الحاضر يتجلى أمامنا نموذجان في المجتمع بينهما تباين شديد، أحدهما يحرص على تكوين مكتبة ويؤمن بأهمية القراءة، بمختلف مصادرها؛ إلكترونية أو ورقية، والنموذج الآخر لا يعير الكتاب اهتمامًا، وإن حدث وتواجد في منزله مكتبة أو «ديكور مكتبة» تكون محتوياتها في إطار «التُحف» والمقتنيات التجميلية.
ربما ما وصلنا إليه اليوم يبدو ظاهريًا تحضرًا كالذي أشار إليه نعيمة، أن تكون المكتبة من مكونات البيت، لكنه فعليًا ليس كما وصفه «ضرورة»، فالضرورة لا تعني فقط وجودها، وإنما التعامل معها وإدراك أهميتها.
في السطور التالية؛ نستقصي مدى أهمية وجود المكتبة في المنزل، من خلال تجارب عدد كبير من مثقفينا وأدبائنا في الوطن العربي، في ماضيهم وحاضرهم، ومنهم من يسترسل ويقص علينا حكايته معها منذ وعى على الحياة إلى أن وصل لما عليه الآن.
header_image_modern-library-in-house-main-image-fustany
ماذا تُحدِث المكتبة في المنزل؟
أجرى أحد مراكز البحوث المتخصصة في العلوم الاجتماعية، دراسة بعنوان «التنشئة الاجتماعية الموجهة للكتاب»، للتعرف على مدى تأثير التعرض للمكتبات المنزلية على كفاءة الأفراد، شملت فحص بيانات أكثر من 160 ألف شخص من 31 بلدا، وقد خلصت فى النهاية إلى أن قراءة الكتب تساعد في تحسين وظائف المخ، والحد من التوتر وزيادة درجة تعاطف الشخص مع الآخرين. وأوضحت الدراسة المستفيضة أن المنازل ذات المكتبات الواسعة يمكن أن تسلِّح الأطفال بالمهارات الفكرية والذهنية اللازمة والتي تستمر معهم حتى سن البلوغ، وأن النشأة في منزل به كتب عددها أقل من المتوسط قد يكون أحد أسباب تدني المستوى التعليمي.
حاولنا أن نحاكي تلك الدراسة بصورة مصغرة، وعلى مجتمع أصغر بالطبع، فكانت قوامها ما يقرب من 160 مثقفًا وافقوا على المشاركة في الاستبيان، كتَّاب ونقاد وقرّاء، وأظهرت النتيجة أن 13% من بينهم لم يمتلكوا مكتبة منزلية في صغرهم، مقابل 87% توفرت لديهم مكتبة منذ سنواتهم الأولى في الحياة، وداخل تلك النسبة الأخيرة، تباينت أحجام المكتبات ما بين كبيرة بنسبة 46,7% ومتوسطة 20% وصغيرة 33,3%.
النقش في الصغر
بغض النظر عن امتلاك المكتبة في الصغر من عدمه واختلاف أحجامها؛ جميعهم اتفقوا بنسبة مائة في المائة فيما يخص حرصهم على توفير مكتبة في منازلهم، لهم ولأبنائهم، خاصة من لم يمتلكوها في طفولتهم، الذين حملت نبرتهم شيئًا من التشديد على الأمر، فتقول الكاتبة التونسية سوسن العجمي: «لم أكن أملك مكتبة في منزلي، منذ الطفولة كنت أذهب إلى مكتبة عمومية في مدينتي، أثرت في كل شيء في حياتي لدرجة أني لا أجد نفسي إلا هناك، كانت اللبنة الأولى التي علمتني أن أبحث عن الكتاب في كل مكان وأن أقلد الكتاب الكبار وأطمح إلى أن أصبح مثلهم، لذلك حرصت على توفير مكتبة في بيتي لي ولأطفالي، وزرعت في عقولهم حب الكتاب».
ومثلها الشاعر محمد سادات التوني، الذي يملك في بيته الحالي غرفة كبيرة مستقلة للمكتبة، تحوي فروعًا مختلفة للمعرفة، يقول: «لم تتواجد في منزلي مكتبة أثناء الطفولة، لكني عرفت طريقي مبكرًا لمجلات الأطفال وبعض روايات الخيال العلمي والمغامرات، وفي نهاية التعليم الثانوي وبدايات الجامعي بدأت في تكوين النواة الأولى لمكتبتي المنزلية، والتي بدأت صغيرة حتى تطورت مع الأيام، أُضيف إليها الكثير وحُذف منها الكثير أيضًا».
هذا الحرص على توفير مكتبة للأبناء بالمنزل، تؤكد د.سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، على أهميته، من منطلق أن الطفل عمومًا «كائن مقلد» يحاكي ما يراه في البداية من باب الاكتشاف ثم يصبح ذلك جزءًا من فكره وتكوينه، تقول: «تلعب المكتبة في المنزل دورًا عظيمًا جدًا، خاصة إذا كان الأب أو الأم لديه هواية القراءة، فوجود علاقة حميمية بين الأسرة والكُتب يُحدِث تأثيرًا كبيرًا على الأبناء ويكوِّن لديهم وجدانية مفعمة بفكر، سواء كان الفكر دينيًا أو أدبيًا أو علميًا».
وهو الأمر الذي توصلت إليه دراسات علم نفس الطفل بشكل آخر، يوضحه د.جمال شفيق، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بكلية الدراسات العليا للطفولة جامعة عين شمس وأمين لجنة قطاع الطفولة بالمجلس الأعلى للجامعات واستشاري العلاج النفسي بوزارة الصحة، قائلًا: «وجدنا في البحوث أن التحاق الطفل بالمستويين الأول والثاني في مرحلة رياض الأطفال يوسع مداركه من جميع جوانب الشخصية، العقلية والانفعالية والاجتماعية والثقافية والنفسية، ويكسبه سلوكيات جديدة لم تكن موجودة، وهو ما انتبه إليه المشرِّع المصري فجعلها مرحلة إلزامية لا اختيارية للأب والأم، مثل التطعيم تمامًا».
واستطرد شفيق: «من شب على شيء شاب عليه، وعندما يتعلم الطفل منذ صغره قيمة القراءة ويرى والديه نموذجًا يُحتذى به داخل الأسرة ويهتمان بالقراءة ويواظبان عليها، سيكتسب منهما هذه الخبرة والمهارة، وتدريجيًا ستصبح تلك عادة وجزءًا من سلوكياته وشخصيته الأساسية. لكن لابد للآباء مراعاة أن تكون المقتنيات الموجودة في المكتبة مناسبة لمرحلتهم العمرية وقدراتهم ومستوى وعيهم وإدراكهم، لأن ذلك غذاء العقل، ونوعية الغذاء وجرعاته تختلف من سن لآخر».
Home-library-ideas-River-Front-Residence-Library-
ومن واقع تجربته يقول الشاعر محمد حسني عليوة، إن القراءة بصفة عامة، منذ الصغر، تعمل على تشكيل الوعي، وخاصة إن كانت المكتبة صغيرة تتنوع فيها الكتب، ويحرص الأبوان على تقديم جرعة يومية من التحفيز والمساعدة لتبدأ لحظتها العلاقة الوطيدة بين عقلية طفل يسعى لفهم وإدراك الأشياء، وبين الشعور بخصوصية الذات.
وبشيء أكثر تفصيلًا، يتحدث الشاعر والناقد المغربي أحمد بهيشاوي عن تجربته مع المكتبة قائلًا: «أثرت في بشكل من حب الفضول، خاصة وأن والدي كان يحرص على أن نلتف حوله؛ أنا الابن البكر الأوحد آنذاك وأمي، ليحدثنا ويشرح لنا ويحلق بنا في عوالم الكتاب الذي كان بين يديه وهو في الأغلب الأعم قد يكون دينيًا أو سردًا كالسير الدينية، سيرة ابن هشام أو غيرها من السير الأخرى حول الانبياء والرسل؛ بالإضافة إلى قصص القرآن الكريم. وبذلك كان للمحيط الأسري، الأبوي خاصة، تأثير كبير في تحفيزي على حب الكتاب وتحريضي على التجول بين مكتبات المدينة للبحث عن مجلات وكتب لمطالعتها. وقد ظهرت انعكاسات ذلك في حياتي أيام الدراسة الجامعية حيث تولدت لديَّ محبة المكتبة الجامعية والرغبة في تصفح فهارسها مما مكنني من حفظ الفهارس في ذاكرتي لأكتشف فيما بعد أن مخزوني من الفهارس أصبح لي مرجعًا ولأصدقائي الطلبة الذين أشير عليهم بما يناسب بحوثهم الجامعية من فهارس تخدم استراتيجية أعمالهم ومشاريعهم الثقافية؛ وأخيرًا انتقل حب القراءة إلى حب الكتابة».
يخالف الكاتب والناشر الأردني إلياس فركوح هذه الآراء مؤكدًا أن التأثير الحقيقي معه جاء في مرحلة ما بعد الطفولة، عندما صار طالبًا في الإعدادية والثانوية، وهو ما يحيلنا إلى دور المكتبة المدرسية أو العامة أيضًا، ويدلل على ذلك الشاعر الفلسطيني نمر سعدي، الذي قرأ الكثير من الكتب في المكتبة الكبيرة بمدرسته، وتعرف من خلالها على السياب والبياتي ونزار قباني، كما احتوت على مؤلفات لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز المترجمة مثل لامارتين وهوجو وبروست وكامو وبايرون وشلي وشكسبير وغيرهم. وفي مكتبة أخرى كان يطالع كتب الأدب والتاريخ في أوقات الفراغ، يقول: «فيما بعد تعرفت على بعض أعمال الروائيين المصريين كيحيى الطاهر عبدالله وطه حسين والعقاد والمازني، إضافةً إلى أحمد شوقي وخليل مطران. أتذكر أن كتاب «تاريخ الأدب العربي» وهو من أهم مؤلفات الأديب اللبناني الكبير حنا الفاخوري كان واسطة العقد في هذه المكتبة».
التفكُّر والتكوين
تقول د.سوسن فايد، أستاذ علم النفس السياسي بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، إن وجود مكتبة سيثير تساؤلا حول أهميتها وسببها، وستكون أحد المصادر التي تعمل على استفزاز الأبناء ومنها سيدركون قيمة الاطلاع والمعرفة، ومن ثم صقل شخصيتهم.
سمة التساؤل والتفكُّر تلك لازمت الشاعر والكاتب العراقي عباس ثائر إلى ما بعد فكرة وجود المكتبة ككيان، يقول: «تلك الكتب المتناثرة، والتي هي على هيئة مكتبة، أثرت في أن أعرف معنى الأشياء، ولماذا، وما السبب، وما الذي يريده الإنسان من كونه إنسانًا؟!». كما أثرت المكتبة بشكل لافت في النمو الفكري للقاص العراقي علي السباعي «جعلت مني إنسانًا مختلفًا بحسي العالي وهمي الإنساني الكبير. كنت أتعذب لأنني كنت أقرأ. كنت أحترق من فرط الألم».
وساهمت بشكل كبير في التكوين المعرفي للكاتب وأستاذ الفلسفة المغربي د.محمد مستقيم، وكذلك في تشكيل شخصية وأفكار الشاعر محمد موسى: «بالرغم من صغرها إلا أنها كانت مليئة بالكتب الشيّقة الزاخرة بالأفكار والقيم، وساعدت في تنمية موهبتي بالكتابة وتفتح إدراكي وخيالي». والكاتبة والروائية انتصار عبدالمنعم: «أذكر كل كتاب فيها، ومن أعطاه لي، وكيف حصلت عليه، وكل حرف ساهم في تشكيل عقلي وفكري إلى أن حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب». بينما تعلمت منها، الكاتبة والصيدلانية بسنت حسين، التنوع.
في كتابه «رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر»، ذكر عبد الوهاب المسيري أن صاحب المكتبة كان رجلًا مثقفًا يساعده على اختيار الكتب، على عكس بائعي الكتب هذه الأيام الذين يتسمون بالجهل المطبق، فاهتمامهم بالكتاب ينتهي عند سعره ولونه. لكن تجربة الكاتب السيد شليل مع البائع كانت مختلفة، يقول: «كنت أعقد اتفاقًا مع أحد الباعة، أخذ منه كتبًا لقرائتها وأردها بعد يومين مقابل سعر زهيد، وأتبادل معه كتبي القديمة بأخرى جديدة، مما جعلني أنفتح على عوالم ثقافية متعددة، من الشعر والسرد وعلم النفس والاجتماع، فرسخت القراءة وعيًا مبكرًا ساعدني كثيرًا بعد ذلك».
يمتد تأثير المكتبة في رأي د.محمود أبو العزايم، استشاري الطب النفسي، إلى ما هو أعمق من التكوين، وهو الصحة النفسية، قائلًا: «وجود الكتب المتنوعة في مكتبة متاحة دائمًا يعطي الإنسان فرصة في أي وقت لأن يتغلب على التوترات عن طريق قراءة كتاب يستمتع به ويهدئ من الضغوطات النفسية التي يتعامل معها في الحياة، فإذا رغب في قراءة كتاب ولم يجده في ذلك الوقت قد يغيِّر هذا فكره».
والأقرب لتلك الرؤية هو الكاتب والأكاديمي الجزائري د.بومدين بلكبير، الأستاذ بكلية الاقتصاد والتجارة، إذ يقول: «أن تنشأ بصحبة الكتب، فالأمر له أثر عميق على تنمية المخيلة والإدراك، والجنوح نحو الإبداع والتجديد، وهو ما يؤثر على مسار وخيارات الحياة، العلمية، والمهنية… إلخ. بل للأمر تأثير حتى على نظرتنا للحياة وللآخرين من حولنا».
فى القراءة حياة
عندما سُئل عباس محمود العقاد عن سبب هوايته للقراءة قال إنها، وحدها، هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. ولذلك ترى د.سوسن فايد أن مصدر تلقي المعرفة والثقافة، سواء مكتبة أو إنترنت أو غيرهما، ليس مهمًا بقدر فكرة القراءة نفسها، تقول: «لابد أن تكون لدى المجتمعات ثقافة وإيمان بالاطلاع، وأن يكون بين برامج حياتهم وقتًا مخصصًا للاستزادة من المعارف. للأسف الشديد هناك اضمحلال ثقافي وعدم إدراك لأهمية هذه المسألة، إلا أنه في حالة المواظبة والاهتمام والاطلاع المستمر، سواء بواسطة مكتبة خاصة أو من خلال الانترنت والموسوعات، هذا في حد ذاته يُحدِث نوعًا من النشاط الذهني الذي يوفِّر إدراكًا واسعًا وصحة عقلية تحمي في المستقبل من أمراض كثيرة من أهمها الزهايمر، فضلًا عن إعمال العقل والعصف الذهني الذي ينعكس على وظائف الجسم والحالة النفسية».
وقد كانت المكتبة سبيلًا للكثيرين لمعرفة الطريق إلى القراءة وهواها، ثم الولوج إلى عالم الكتابة، مثل الكاتب والطبيب أحمد عبد المنعم رمضان «أثرت في تذوقي للفنون وفي نظرتي للحياة، كما أنها دفعتني للكتابة رغم أن الأمر لم يكن في خطط حياتي ولا ضمن دراستي»، والشاعر سفيان صلاح «تعلمتُ أن القراءة للتفكير وتوليد أفكار جديدة، وما جعلني أدخل مجال الكتابة هو محاولة مشاركتي أهل الكلمة في التفكير معهم»، والقاصة والمترجمة ابتهال الشايب «دفعتني إلى حب القراءة، خاصة عندما وجدت في الكتب عالما مختلفا عن عالمي البسيط، ثم أصبح وجود كتاب به قصة أو رواية ضروري في حياتي، ساعدني ذلك على اكتشاف موهبتي في الكتابة»، والأكاديمي السوري د.محمد ياسين صبيح «هي من جعلني أدمن القراءة، ونمت موهبة الكتابة بكل أشكالها».
بالإضافة إلى د.محمد عبد الدايم هندام، مدرس الأدب العبري الحديث بجامعة المنصورة «أثرت إيجابيًا في حبي للقراءة والإطلاع، ورغبتي في المزيد، ومؤخرًا اكتشفت دورها في تحديد مسار حياتي واختياراتي، حتى أصبحت أعشق القراءة والكتابة»، والكاتب والشاعر المغربي بوشعيب عطران «أغنت طفولتي بمصادقة الكتاب بالنهل من معارف شتى، كما أصبحتُ أملك رصيدًا لغويًا أعانني كثيرًا في دراستي، وقد نمَّت اهتمامي وشغفي بالكتابة في مناحي الأدب»، والمحرر الإعلامي إسلام عاطف «بفضل رعاية أبي لي وبتوفيره القصص والمجلات التي تناسب عمري حينها، شبيت على حب القراءة والأدب حتى تطور ذلك إلى حب الكتابة والتدوين كوسيلة للتعبير عن الذات وانعكاس للروح. وبسببها اخترت مجالي الأكاديمي والمهني»، والطبيب والروائي محمد إبراهيم قنديل «المكتبة علمتني القراءة وحببتني فيها وفتحت عيني على الحواديت التي استقرت في ذاكرتي حتى صرت كاتبًا».
وكانت السبيل إلى حب المعرفة والبحث عنها عند آخرين، مثل د.نهلة راحيل، مدرس الأدب الحديث والمقارن، والناقد والباحث الأكاديمي د.محمد صلاح زيد «جعلتني أعرف القراءة وأحبها، وأحصل من خلالها على قدر كبير من المعرفة»، والكاتبة عبير درويش «وفرت لي التسلية والمتعة، والقدرة على التخيل والإبداع، وتكوين حصيلة لغوية كبيرة، والتحدث بطلاقة وبثقة، ورفع مستوى الفهم، ومنحتني القدرة على حل كثير من المشكلات».
ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى مساهمة القراءة في تحديد المسار، يقول الشاعر د.محمد حلمي الريشة، رئيس بيت الشعر الفلسطيني «كان لها الأثر الكبير والثري في حياتي الشخصية والأدبية منذ المرحلة الابتدائية، بصفتي صرت شاعرًا وباحثًا ومترجمًا، وبلغت إصداراتي المتنوعة في الشعر والترجمة والأنطولوجيات وغيرها 34 كتابًا»، والكاتب الليبي الشريف بوغزيل «أعطتني الرغبة في اكتشاف نفسي ومحيطي، وقادتني إلى أن أختار نهج حياتي وبالفعل تم ذلك»، ومثلهما دارين عماد فرانسيس «أثرت المكتبة كثيرًا في كتاباتي ومستوى اللغة المحكية والمكتوبة، حتى إنها ساعدتني في امتهان الترجمة»، والشاعرة رضا أحمد «الحق أن كل قصاصة وجدتها في الشارع أيضًا ساهمت بشكل كبير في توسيع حواسي على العالم، جعلتني أكتشف نفسي وأنا أطلع على تجارب الآخرين بتعقد مساراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، أردت أن يكون لخيالي إرادة ولحياتي هدفًا أكبر من الاستلقاء مرتاحة البال بعد أداء واجباتي، أردت أن أترك خلفي كتابًا يلهم طفلًا آخر».
«المكتبة تترك تأثيرًا، ليس شرطًا أن يصبح الشخص كاتبًا لكي يعتاد أن يستعين بها، فهي مفيدة في أي مجال». هذا ما قالته د.سامية خضر، وما دللت عليه الوقائع، فمن بين القراء من أصبحت طبيبة بشرية، وأخرى صارت ناشرة، وثالث جعلته المكتبة طبيبًا نفسيًا، ورابعة تجنبت الوقوع في المشاكل التي يسببها الفراغ، وآخرون صارت المكتبة لهم الملجأ والملاذ.
من القراء، إسراء أحمد جاد، الطالبة في الفرقة السادسة بكلية الطب، تقول «كانت المكتبة معظمها كتب دينية للأطفال مثل قصص الأنبياء وكتب كامل كيلاني للأطفال وبعض روايات الجيب والقصص المصورة والقليل من الروايات والمسرحيات العالمية. في البداية كنت أميل إلى القصص المصورة مثل ميكي وبطوط ولكن مع الوقت قرأت الكتب الدينية وكتب كامل ونجيب الكيلاني وفي المرحلة الإعدادية بدأت قراءة الروايات والمسرحيات والسير الذاتية».
وحنين حاتم مازالت قارئة، لكنها في طور تكوين مشروع كاتبة مستقلة «أصبحتُ بفضل المكتبة مدمنة قراءة وأكثر نضجًا وأكبر من عمري في التفكير»، ومثلها حسني فاروق أحمد، معلم اللغة العربية للمرحلة الابتدائية «ساهمت القراءة في صقل ما أدعي أنه موهبة، وللأسف ربما تكون الظروف عقبة كبيرة في الاستفادة منها خاصة في حقل الكتابة»، أما خديجة محمد فقد أنقذتها القراءة من الوحدة، تقول «جعلتني أتقبل نفسي والاختلاف وأنظر لكل شيء من زاوية مختلفة، وأنتبه لتفاصيل ما كنت لأراها لولا القراءة. وأخيرًا علمتني الحب».
رفيقة درب
بالنسبة للبعض؛ لم تكن المكتبة فقط منهلا للمعرفة أو وسيلة للارتقاء، وإنما كانت ولا تزال رفيق درب في كل مراحل الحياة، تقول الكاتبة نوره بركة: «صرتُ أستنشق رائحة الكتب وأرتاح عندما يوضع كتاب بجانبي، أحببت القراءة والكتابة والترجمة والبحث الأكاديمي بفضلها».
وتضيف الأديبة إيمان أحمد يوسف: «بدأت من مكتبة أبي لأنه كان من عشاق القراءة، لم تكن كبيرة، لكن عندما كبرت أنا كبرت معي باختياراتي، وصارت صاحبة فضل كبير، شكلت وعيي وقدراتي وكانت صديقة مراهقتي وشبابي وعمري بأكمله، منحتني مساحات واسعة من التعرف على الوجه الآخر للجمال وللحياة وإجابات الأسئلة فكان الكتاب بمثابة شمس النهار وقمر الليل، يمنحني الحلم والحقيقة الغائبة والخيال العلمي وفرسان المعرفة والرحلات بين سطور البلاد وعاداتها المختلفة وكأنني أسافر مع كتابي وأنا جالسة على المقعد. الكتاب مدينتي الساحرة التي جعلت مني شاعرة وقاصة وكاتبة أطفال وزوجة وأم وامرأة عاملة أدير الوقت وأضع خريطة عالمي وقراراتي بنجاح».
أما الأكاديمي العراقي د.ناظم عودة، المتخصص في الفكر النظري الحديث، فيقول: «منذ أنْ كنتُ طفلًا في المرحلة الابتدائية، بدأتُ باقتطاع جزء من مصروفي وأقوم بادّخاره لأشتري به الكتب الزهيدة الثمن، فتكونت عندي مكتبة من عشرات الكتب. معظمها كانت أدبية شعرًا ونثرًا. لكن للأسف، تسللت إليها حشرة الأرض والتهمت أنصاف معظم الكتب في فترة غيابي لاشتراكي في معسكر خاص بالطلبة لعدة أسابيع. لكنني عوضتها لاحقًا، وكانت نواة مكتبة كبيرة فيما بعد. رافقتني في جميع مراحل دراستي منذ الابتدائية حتى الدكتوراه، وماتزال ترافقني في رحلة البحث والدراسة. وهي جزء أساسي في كلّ بيت سكنتُه في بغداد وليبيا وعمان ودمشق ثم في السويد لاحقًا، هي مكان للقراءة والبحث وجزء من جماليات البيت».
ديكور عصري
مثل ناظم عودة؛ كانت المكتبة جزءًا كذلك من جماليات بيت عمرو الشامي، مقدم البرامج بإذاعة البرنامج الثقافي، إذ يقول: «والداي رحمهما الله كانا يمتلكان مكتبة كبيرة، ثم حرصت أمي على توفير قصص الأطفال لي من سن مبكرة جدًا. كان تأثير المكتبة كبيرًا، ومنها أجدتُ القراءة بشكل كبير. لذا حرصتُ على شراء الكتب لأبنائي فيما بعد وتشجعيهم على القراءة».
لكن الشامي يرى أن أكثر المنتمين لجيل الشباب غير حريصين على اقتناء مكتبة عند استقلالهم، أو بمعنى أدق «لا تعتبر المكتبة جزءًا من جهاز العروسين». وهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى يسهل ملاحظتها، وهي أن بعض البيوت يتضمن ديكورًا لمكتبة، لكن وجود الكتب فيها ليس ضروريًا، قد يتم استبدالها بتمثال أو مزهرية، أو توضع فيها كتب تراثية أو كتب مميزة حجمًا وغلافًا لتمنحها شكلًا جماليًا، دون الاقتراب منها أو محاولة مساسها.
في هذه الحالة لن يكن للمكتبة تأثير يُذكر، لكن الخطورة أنها قد تؤدي إلى نتيجة عكسية، يوضحها د.جمال شفيق ود.سوسن فايد: «وجود المكتبة كديكور فقط يعطي انطباعًا للطفل بأن الكتب من الأمور غير المهمة ويستقر في ذهنه ووجدانه أنها ليست ذات قيمة لفتحها أو الاستزادة منها».
يختلف معهما د.محمود أبو العزايم بعض الشيء، مؤكدًا الفكرة التي أشار لها قبل قليل: «التعامل مع المكتبة كديكور سيجعلها أقل تأثيرًا بالتأكيد، لكن وجودها كعامل تحت الطلب في أي لحظة أفضل من عدم وجودها تمامًا».
ويختتم قائلًا: «الأمر في النهاية لا يتوقف على المكتبة وحدها وإنما تتداخل فيه عدة عوامل، كالبيئة المثقفة والأسرة المطلعة، والشخصية التي ينميها الأب والأم لدى الطفل، كل ذلك يحفز الأطفال على أن يكون لديهم رغبة متجددة في الاطلاع، خاصة إن كانت الكتب مناسبة لأعمارهم».
كانت المكتبة المدرسية هي الدافع الذي ولَّد داخل الكاتب اللبناني جبور الدويهي رغبة في تكوين مكتبة بمنزله، ذات رفوف خشبية ومجلدات قيّمة، لتتسم بالأصالة قلبًا وقالبًا. ومن ثم رافقته الكتب في رحلته الدراسية والعملية والحزبية، ومنحته التفرد بين أقرانه على الدوام، ومازالت تفعل، حتى بعدما تطايرت الأحلام وتعاظمت المسافة بينها وبين الأحوال.
جبور الدويهي: كُتُبي جعلتني رجلًا من حبر وورق
صادقت الكتب منذ البداية وكانت المدرسة هي من قادني إلى المطالعة والوقوع في دوامتها اللامتناهية إلى اليوم. لا أدري لماذا قادتني أنا وتركت العدد الأكبر من زملائي في لامبالاة صريحة تجاه الكتب المزدحمة فوق الرفوف في المكتبة المدرسية الغارقة في إضاءة خفيفة يلتمع خشب خزائنها مع دخول ضوء النهار من النوافذ فيمنح المكان هيبة وأصالة جعلني من حينه أجمع بين الخشب «النبيل» والكتب فلا أعير انتباهًا لما هو مرصوف من مجلدات فوق رفوف معدنية أو بلاستيكية ولا أستخدم خزانة أجمع فيها كتبي إلاّ وتكون من خشب السنديان أو من الجوز. ومن نزواتي الميل إلى اقتناء خزائن معدّة لأغراض أخرى كتعليق الثياب أو عرض أواني المائدة وتحويلها إلى حاضنة للكتب. وانسحبت «أصالة» الحاوية على نوعية المحتوى فسعيت ضمن إمكاناتي المادية إلى شراء الإصدارات بطبعاتها الأولى المجلّدة أو المزيّنة بلوحة غلاف إذا أمكن والابتعاد عن كتب الجيب الرخيصة والتي يضرب الاصفرار صفحاتها بعد عامين أو ثلاثة فتصبح جاهزة للرمي بعيدًا.
ولعل امتناع رفاقي عن المطالعة ووقوفهم عاجزين أمام الكم الكبير من الكتب وشعورهم بأنهم أمام مهمة مستحيلة لا يعرفون من أين تبدأ ولا كيف تنتهي فيختارون كرة السلّة أو التسكّع إضافة إلى تساؤلات أكثر عملانية مثل الفائدة من المطالعة في تحسين أدائهم المدرسي وكان نظام الدروس لا يسمح لهم بالإدراك بأن الثقافة التي قد يجنونها من الاطلاع على هذه الكتب سيكون لها الفعل الأكيد في استيعاب دروسهم على تنوعها، من الرياضيات إلى التاريخ، والنجاح فيها. وهكذا رسموا لأنفسهم بابتعادهم عن المطالعة (البعض منهم يقرّ بأنه قرأ في حياته كتابين أو ثلاثة لا أكثر) مسيرة حياة نفعية مهنية ناجحة. والمساحة الشاسعة من الكتب التي نفّرت هؤلاء هي بالذات ما أغراني من أول الطريق. وأعني بذلك هذا الشعور الذي كان ينتابني عندما أنتهي من كتاب ممتع أو مثير للأحلام المتنقّلة بين شوارع باريس والقاهرة والريف الإنجليزي أو العوالم الروسية الغامضة أن هنالك غيره وغيره الكثير ينتظرني وكانت هذه المشاعر تسكنني باستمرار كوني رشحت نفسي (من دون منافس) لأكون «مسؤول» المكتبة في الصفّ، أي التلميذ الذي يسجل طلبات زملائه من الكتب ويجلبها لهم وكانت طلبات شبه معدومة، ما سمح لي بزيارة يومية إلى المكتبة حيث كنت أبقى وحدي لأوقات طويلة أحيانًا حتى أعطاني المدير مفتاح المكان قائلًا إنه لن يجد أحرص مني عليه. وكان يحدث لي أن أحمل كتابًا وأخرج به إلى ملعب المدرسة، أتكئ إلى جذع شجرة حور وأقرأ فيرميني البعض بنظرات مستنكرة والبعض الآخر يتهكّم على إصراري باستعمال الاستراحة للاستمرار في معاشرة الكتب التي أعدّت هذه الاستراحات للهرب منها تحديدًا وتجرأ مرة أحدهم عليَّ فانتزع الكتاب من بين يدي ورماه عاليًا فعلق بين أغصان شجرة الحور وتجمهر الحشريون وحضر الناظر الذي بدى أقرب إلى إلقاء اللوم عليَّ للتسبب بهذه «الحادثة».
ومقابل عجز بعض أقراني عن الشروع في المطالعة كان هناك خوفي من استهلاك كل ما يُقرأ وهو شعور لاإرادي ما زال يرافقني ويجعلني أخشى ألا أجد ما أقرأه في أيامي الأخيرة فأعمد إلى التوقف في منتصف كتاب سحرني تاركًا النصف الثاني إلى يوم متوهم قد تنضب فيه الكتب من حولي.
مع انتقالي إلى الجامعة انخرطت في العمل اليساري وبدلًا من أن تبقى الروايات وسيلة للتحليق بعيدًا ودواوين الشعر الرمزي وحتى السوريالي منها مخزنًا للمشاعر الوجودية، تحولت الكتب وقد غلب عليها التاريخ ونقد الأفكار و«الجدلية» إلى مصدر لفهم الواقع المادي الملموس ولم يكن مرحبًا في تفاصيل السلوك النموذجي المطلوب من العناصر الحزبية المنضبطة قراءة كتب أدبية «بحتة» باعتبارها أنواعًا من المطالعات «البورجوازية الصغيرة» وقد وُجّه إليَّ ذات يوم تأنيبًا خلال اجتماع «الخليّة» الحزبية بعد أن وجدوني متلبسًا بمطالعة كتاب يعتبر من أمهات الروايات، لا بل مؤسس النوع في الغرب الأوروبي. وقد ضعف شعور الملكية التي كان إلغاؤها ضمن برامجنا الصارمة فصرنا نمرر الكتب لبعضنا وقلّة كانت تردّ الكتاب إلى صاحبه الأصلي، نسخر من الذين يكتبون أسماءهم على الصفحات الأولى من الكتب فهي تقريبًا ملكًا عامًا نخطّ ملاحظات في هوامشها، نمزق بعض صفحاتها أو نضع خطوطًا بالحبر تحت المقاطع الملفتة منها في مناخ تثقيفي لا يعير شكل الكتاب أو طريقة عرضه أدنى أهمية بل كانت غرفة «المناضل» المثالي تتميز بوجود ركام من المؤلفات فوق سرير النوم وحوله لآباء الفكر الماركسي وصغار المبشّرين به.
وسرت بيننا في تلك المرحلة قناعة بأن سرقة الكتب من المكتبات التجارية في المدينة عمل حلال خصوصًا تلك المؤلفات التي سوف تساعدنا في تغيير الواقع فتخصص نفر منّا بتلك الممارسات وكانت السرقة تحصل تحت الطلب ويتقاضى السارق الماهر بدلًا لا يوازي العشرة بالمائة من السعر الحقيقي للكتاب.
كانت تلك سنوات قليلة انهار بعدها الهيكل فوق رؤوسنا فاندلعت الحرب الأهلية التي أضاف إليها الوجود الفلسطيني المسلح والتدخل العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي عناصر تفجير لا تنتهي فتطايرت قناعاتنا وتداعت المنظومة الأيديولوجية التي قامت عليها حماستنا النضالية وأسست لها مؤلفاتنا ذات الأغلفة الحمراء فذبلت فجأة كتب النضال هذه وهي لم تكن مقاومة للزمن بنوعية ورقها وأغلفتها «الخفيفة» فبقى منها قسم قليل في الرفوف السفلي من مكتبتي، سينتهي بي الأمر يومًا إلى العودة إليه لقياس المسافة المتعاظمة بين أحلامنا وأحوالنا.
مع انكفائي عن النشاط السياسي وجدت كتبي الأولى تنتظرني غير عابئة بخيانتي التي لم تدم طويلًا فعدت كالابن الضال إلى خطّ دفاعي الخلفي أتصالح مع شاعر رذلته وأعتذر من روائي أهملته، أستعيد الكتاب كغرض ثمين فاستأنفت المطالعة بوتيرة حاولت معها تعويض ما فاتني خلال السنوات العجاف ودفعني إعجابي بأحد الكتّاب إلى اقتناء روايته بلغته الأم التي لا أفقه منها شيئًا قبل ترجمتها إلى العربية أو إلى لغة أخرى يمكنني قراءتها بها، فقط كي يكون بين يدي والنسخة لا تزال عندي حتى اليوم لم «يفكّ» حروفها أحد.
لا بدّ أن القراءة دفعتني صوب الكتابة وها أنا ذا اليوم رجل من حبر وورق كما يقال.
كوّن الكاتب والناقد ممدوح فرّاج النابي، مكتبته بنفسه، أثناء مراحل الدراسة المختلفة، بدأها بكتب المغامرات، وروايات الجيب، ثم اتسعت لتشمل كتب رموز الفكر، واستحوذت كتب عميد الأدب العربي طه حسين على أكثرها. كان لمكتبته الدور الأكبر في توجيهه العلمي أثناء الجامعة، وعلى المستوى الشخصي تركت له ذكرى لا تُنسى مع والده.
ممدوح فراج النابي
ممدوح فرّاج النابي: أبي ومقبرة الكتب.. عن حُلم غرفة تخص المرء وحده
طلبتْ مني صديقة صحفيّة – ذات مرّة – أنْ أكتبَ عن مكتبتي ودورها في تكويني الثقافي. بصراحة اندهشت، وأنا أَقرأُ رسالتها الإلكترونية التي أشعرتني – ربما – بقيمة لا أراها في نفسي. وبصراحة أكثر لأنني لم أكن «منذ صغري بين الكتب» كما افتخرَ تودوروف ذات مرّة، وكرّرها الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في شهادة له مؤخّرًا، وتطرّق فيها للنشأة والتكوين الثقافيّ والفكريّ، وكانت المكتبة من أهم العوامل المؤثرة في تكوينه، أو حتى «شكّلت مكتبة أبي نواة مكتبتي الخاصة» على نحو ما افتخر أورهان باموق. والأهم أنه لم يكن لديّ مكتبة بالمعنى المادي؛ تلك التي ارتسمت في خيال خليل صويلح، وهو ينتبه إلى مقاييس حجم المكتبة التي انتوى تفصيلها من خشب الزان هكذا «مكتبة بسبعة رفوف وارتفاعات مختلفة تتقاطع بأشكال هندسيّة، وَفْقًا لأحجام الكتب المقترحة». كتبي جميعها مجموعة في عدد من الصناديق (الكراتين)؛ فالصعايدة وأبناء المزارعين لا يختلفون عمّا ردّده محمد آيت حنا عن الفلاحين بأنهم «لا يضعون الكتب في المكتبات».
كانت تتغيّر هذه الصناديق بين الحين والآخر، فأُبَدِّل هذه الكراتين القديمة التي بُليت بفعل التخزين وماء غسيل الأرضيات بأخرى جديدة، من فوارغ البقالة التي كنتُ أوصي عليها أصدقائي من أصحاب البقالات الكبرى، على أمل أن يحتويها مكان ذات يومٍ، وإن كنتُ في نفس الوقت، لا أُفْرط في الخيال، وأقول إني أتمناها كمثل تلك التي ظهرت وأمبرتو إيكو الروائي الإيطالي يتجوّل في أروقتها، وقد كانت تحوي (50000) كتاب.
مقبرة الكتب المنسية
كانت هذه الكراتين (نواة مكتبة المستقبل) موجودة قبل سفري في غرفة ينام فيها أخي الأصغر، ولمّا سافرتُ جمعهم أبي ووضعهم في مخزن أشبه بمقبرة لها؛ ليؤسّس المكان بأثاث جديدٍ، كما أُخبرت فيما بعد. عندما نزلتُ إجازة بعد غيبة ليست طويلة، رحت أطمئن على ميراثي المتواضع. وجدتُ الغرفة قد تبدّل حالُها، فقد أُعيد طلاء جدرانها بألوان شبابية من جديد، وتمّ تأسيسها بأثاث جديد، ووُضِعَ على جانبيها سريران وفي الجانب المقابل للباب وضع دولاب، وبين السريرين كان مكتب صغير عليه جهاز كمبيوتر يشغل هذه المساحة، وهو ما كان علامة (أو دالًا بمفهوم سوسير) على ثورة قد حلّت على المكان، تؤكّد الرفض المستتر لوجودها من ذي قبل، إلى أن جاءت الفرصة! ما لفت انتباهي أكثر أنه لا ملامح لكراتيني (صناديق الكتب) أو مكتبة المستقبل التي كان يتخيّل خورخي لويس بورخيس دومًا بأنّها «الجنة على شكل مكتبة». فلا أثر لها في أي جانب. قبل أن أسأل! جاءني أبي وعلامات الحبور تكسو ملامح وجهه، وكأنّه يحمل بشارة لي. دون أن يتحدث قادني من يدي، ثم قال: تعال أنا نقلتهم من هذا المكان، ووضعتهم لك في مكان أمين (يقصد المقبرة!). مشيت خلفه وأنا أشعرُ بتوجّس من مجهول قادم رغم ملامح البِشْر البادية عليه.
في تلك اللحظة لاحَ إلى ذهني مشهد استهلال رواية «ظل الريح» للروائي الأسباني كارلوس زافون «لن أنسى أبدًا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى «مقبرة الكتب المنسيّة»، كلما سِرْتُ خلفه كان المشهد يتجسّد بتفاصيله ومخاوفه، فالأب – في الرواية – قاد ابنه دانيال سيمبري «في متاهة كتب». الفارق أنّ أبي تخلّى عن تحذير الأب لدانيال «إياك أن تخبر أحدًا بما ستراه اليوم يا دانيال»، دخلنا الغرفة المقابلة ومنها إلى مخزن جانبي غير مضاء، ثم قال وهو يلتفت إليّ محافظًا على بشاشته التي تنمُّ عن رضاه عمّا فعل، وكان ينتظر أثره عليّ، فخذلته!: «أنا جمعتهم بنفسي» ووضعتهم هنا. نظرتُ من بعيد دون أن أدخل. فقد أيقنتُ الكارثة التي حلّتْ على مكتبتي (أقصد كراتين الكتب!). خرجتُ دون تعليق أو تعقيب. سار كلانا صامتًا، وإن كان هو راح يتعجبُ من ردّة فعلي السّلبية.
شعرتُ بأنّ أبي طعنني في ظهري، وأن الأحلام العريضة لتكوين مكتبة أو أنْ يكون لي «غرفة تخص المرء وحده» كما رغبتْ فرجينا وولف كتأكيد على أهمية العُزلة في ازدهار الكتابة، قد ضاعت هي الأخرى بل وتبخرت إلى غير رجعة، فالأحلام كما يقول نيتشه «ليست سوى فضلات عشوائية يطرحها العقل في الليل». فصَمَتُ ولم أتحدثْ معه مطلقًا، لم أدنه وفي نفس الوقت لم أبارك فعله، خرجتُ ألوك حسرتي! مرّ زمن وأنا كاتم لوعتي وحسرتي على كتبي التي وفرّتُها من مصروفي أيّام الجامعة، ثمّ من رَفاهيتي بعد العمل، وها هو أبي قد أَلْقَاها بِحُسن نيّة في مخزن أو مقبرة منسيّة، ولا أدري ماذا حلّ بها!
قتل الأب
في كلّ إجازة كان يقول لي «مش ناوي تبص على الكتب»، كنت أتغاضى عن الاستمرار في الحديث عنها، وأتهرّب بكافة السُّبل. فهو لم يكن يدري أنه في كل مرّة يَذْكُرُ سيرة الكتب يجدِّد الطعنة لي. في آخر إجازة كنتُ انتهيتُ من تخصيص غرفة، كانت نواة لمكتبة صغيرة لاحقًّا. ولسبب أجهله حدث صدام بيننا على شيء لا أتذكّره، ومرة واحدة انفجرتُ فيه أمام الجميع، وقلتُ له ما كنتُ أكتمه طيلة خمس سنوات، متهمًّا إيّاه بأنه دمّر كتبي، على الرغم من أنني لم أفحص الكراتين، لأتحقّق مِن صدق هذا الاتّهام الذي وَجّهْتُه لهُ! متقمِّسًا شخصية أورهان باموق وهو يقول «مكتبتي هي حياتي».
كل مَن كان يجلس لم يتوقع منّي هذه الثورة التي قمتُ بها، لأنها ليست من طبعي ولا يستدعي الأمر كلّ هذا الانفعال، أمّا أبي فلم يتأثّر بثورتي، الشيء الوحيد الذي راح يردّده أنه كان «بيحافظ على كتبي» وفق روايته. أخذ يدافع عن نفسه بطريقة يدحض فيها اتهامي له، بل يؤكّد أن ما فعله كان لصالحي. راحَ يلتفتُ للجماعة (أي مَن يجلسون معنا)، وهو يصيح (مع ارتجافة قليلة كانت تنتابه إذا توتّر وانفعل، أو كلّمَا شعَرَ بالضيق): «كنتُ بحافظ عليها، وبنفسي كنت أدخل أشوف إن كان هناك فار في المكان أم لا، ولم أسمح لحد من العيال (أخوتي)». كان حديثه للموجودين، أشبه بدفاع أمام هيئة مُحلِّفين دون أنْ يتعاطف أحد مع قوله لأن الجالسين لم يكونوا على معرفة بأصل القصة، وإن كانوا تأثّروا بحالته التي ظهر عليها وهو يُفسِّر لي ما أعرضتْ أذني عن سماعه. ومرّة واحدة تذكّر أنّني المعنيّ بالأمر، فنظر إليّ في غيظ وقال :
-«يعني اِنْتَ بطنك وجعاك من يومها وكاتم ومش عاوز تقول» !
لا أعرف فيما كنتُ أفكّرُ لحظتها، الشيء الذي أتذكره أنني كنتُ مثل «ميرسو» بطل غريب ألبير كامو، عندما تحدّث وكيل النائب العام عنه، واتّهمه بأنّه «مذنب باقتراف جريمة»، كنت لا مباليًّا حتى أنني خلت جملة «إنه تفاجأ مما أبداه من برود» التي قالها مدير المأوى ورئيس المحكمة يستشهده، تنطبق عليّ تمامًا.
لم يُدرك أنني لم أهدأ بعد، وأنَّ ثورتي لم تنطفئ جذوتها بما قلته. فكان قوله تحريضًا لأن أستكملَ اتهامي، فما إن انتهى من دفاعه الذي لم أبالِ به، حيث كانت الصورة الوهميّة للكتب المتخيّلة كما رسمتها بعد تخيّل المقبرة ومذبحة الكتب، ما زالت هي المسيطرة على عقلي ولساني.
– قلت له في غضب: «لن أسامحك لقد دمرتني!».
لا أعرف كيف نطقتُ بها، ولكني شعرتُ براحة كبيرة وأنا أتَّهِمُه، وسط ملامح فزع سيطرت على كلّ مَن كان يجلس. حلّتْ فترة صمت رانت على الجميع وعلى المكان، ثمّ بدأوا ينصرفون واحدًا تلو الآخر وبقيتُ وحدي. جلست قليلاً ثم سحبتُ جلبابًا قديمًا ألبسه أثناء العمل، ومددتُ جسدي في استسلام تام للرطوبة التي سرتْ إلى جسدي. كان وجهي ناظرًا للسماء، كنتُ أسترجع ما فعلتُ، وبقدر ما شعرتُ بأنني تخلّصْتُ ممّا في جوفي كله، منذ زمن وأنا أكتمه داخلي – كما قال لي من قبل – كان ثمة كَدَرٌ داخلي، لا أعرف سببه! كانت صورته وهو يدافع عن نفسه، ويَلْتَمِس بنظراته الحائرة تارةً والمستعطفة تارةً أخرى – بلا جدوى – كالغريق الذي فشل في العثور على قشّةٍ تَقِيه الغرق، نظرةَ صدقٍ أو حتى إيماءة تصديق منّي لما يقوله، هي ما أرَّقَتْ مضجعي وأفسدت ما أحسستُ بأنّه نصرٌ قد حققته! تحولتُ في لحظة مِن منتصر إلى مجرمٍ أو وَغد مُتصلّف بعناده! كما كان حال صفية بطلة «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، كانت متبلدة المشاعر وهي ترى البيك يجلد حربي عشيقها. شهوة الانتقام كانت هي الحاكم، لكن جذوة الحب الداخلي أفسدت نشوة الانتصار.
لم تأتِ فرصة للشرح أو التوضيح، لكن بقيتِ المكتبة وسيرتها أشبه بحكاية مُلْغزة بيننا. لا يفهم سرّها أحد سوانا. مرّت سنوات على طلب صديقتي. ومع الأسف إلى الآن لم أجبها عن مكتبتي. وكان ذوقًا منها أنها لم تلحّ في استعجالي على طلبها. لكن ما أزعجنى هو ما يراودني عن فكرة قتل الأب بمفهوم فرويد؟!
***
في الحقيقة كان مُحقًّا عندما قال إنّه كان يُحافظ عليها، فبعدما أسّستُ مكانًا للمكتبة، قام هو – بنفسه – بنقل كراتين الكتب إلى المكان الجديد، متحمّلاً الغبار الذي تراكم فوقها بمرور الوقت، ومع الأسف كانت الحقيقة التي سعيت لإنكارها بحثًا عن وسيلة لإدانته وفقط، أن الكتب لم يصبها أي ضرر، باستثناء الرطوبة التي أفسدت بعض أطراف الكتب، وكان هذا خارجًا عن إرادته. الشيء الآخر الذي كان بمثابة الانتقام الناعم لثورتي له، أنّه أشرفَ على عملية تجهيز الهيكل الخشبي للمكتبة عند النجار، فكان يتردّد عليه أكثر من مرّة منبِّهًا إيّاه بضرورة الانتهاء منه قبل موعد إجازتي السنوية، كان يودّ أن تكون لي مفاجأة! الغريب في هذه الحكاية أنه بعد أن اصطفت الكتب في أرففها، كان سمحًا لأقصى درجة.
والد ممدوح النابى مع مكتبته
فكلّما زارني، يقول لي في مرح: «والنبي أبص على المكتبة، التي نصبت لنا مشانق إعدام من أجلها»، وتارة أخرى كان يباغتني، وأنا أقرأ أمام البيت، ومعي حاسوبي الذي أختزل المكتبة داخله، وإلى جواري بعض الكتب، فهي عادة لم تمحها جلسات المكاتب، أو وجود مكتبة مُستقلة داخل البيت، يقول في دعابة: «مش ناوي تبطل العادة اللي زي الزفت دي، وتجلس على مكتب، زي الناس».
كان حديثه يطمئنني أنه غفر لي ثورتي وتمردي… وإنْ كنتُ مازلتُ لم أغفر لنفسي، وربما لهذا السبب، لا أجلس فيها عند القراءة أو الكتابة. وإنما أنتحي مكانًا آخر بعيدًا عنها، حتى لا أتذكّر يومًا ما فعلتُ!
حمّال الكتب
حكى إداورد سعيد في مذكراته «خارج المكان» أنه كان يصطحبُ معه في رحلاته، جميع ممتلكاته، في حقائب ضخمة ثقيلة، من ضمنها الكتب، وكان سبب هذا الاعتياد الغريب (إن شئنا الدقة) هو هاجس «خوفه من عدم العودة». كُتِبَ على السفر والتنقل إلى أماكن كثيرة، فصرتُ في كل انتقالاتي أشبه بحمّال على غرار السندباد الحمَّال، صاحب السندباد البحري في حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن ليس في أسواق بغداد، أو حتى في حمل أثقال الناس، وإنما في حمل الكتب، أي صرتُ بسبب السّفر حمّالًا للكتب. أشدُّ ما يؤلم ليس خشيتي من أن أصير أحدبَ. وإنما من الأسئلة الفضوليّة في نقاط التفتيش في الطرق الداخليّة، وفي المطارات وغيرها. فأوّلُ ما يواجهني به موظف الأمن بعد فتح حقائبي عندما يرى رصات الكتب ذات الأغلفة والعناوين المثيرة داخل الحقيبة، هو سؤال الدهشة والسخرية في آنٍ: ما هذه؟
لم يكن السؤال هدفه البحث عن إجابة، بقدر ما هو سخرية مما أحملُ. يُقلب الكتب كثيرًا وإذا لفت انتباهه عنوان كتاب يسأل في جدية عما يعنيه! ثم يتركني أعبر، وهو يمصص شفتيه، لا أعرف إن كان إشفاقًا أم تعجُّبًا!
وبسبب السفر المتعدّد، كوّنْتُ مكتبات وبالأحرى شبه مكتبات صغيرة في أماكن متفرقة، شقق وأماكن عمل. أتحسّرُ كلما أراها كَبُرتْ أمام عيني؛ لأني أعلم يقينًا، أنني سأتركها عند تركي المكان إلى آخر، هكذا كنتُ أكوِّنَ مكتبات لأفقدها، على عكس باموق الذي كان يتخلّص من بعض كتبه، خشية الارتباطات. ومع هذا فما إن أنتقلُ إلى مكان جديدٍ حتى أشرع في تأسيس مكتبة جديدة، كي تكون لي بمثابة الونس عن أشياء كثيرة أفتقدها.
كثيرًا ما تراودني هذه الصُّورة المخيفة، التي رسمها ابن عربي في الفتوحات المكيّة، لابن رشد في موته، فقد نُقل جسمانه من مراكش إلى قرطبة على ظهر دابة، يقول ابن عربي «ولما جُعِل التابوت الذي فيه جسدُه [ابن رشد] جُعِلت تواليفه [كتبه] تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي […] ابن جُبير، وصاحبي أبو الحكم […]، فالتفتَ أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى مَن يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله؟». السؤال الذي جال في خاطري عند قراءة الحكاية: كيف فطن مشيعو ابن رشد إلى هذه الفكرة؟ ألم يجدوا سوى كتبه كي تصحبه في رحلة العودة إلى مقامه الآخير، وتكون معادلاً لحفظ اتزان جسده من السقوط ؟ تغيرت وظيفة الكتب من مهلكة كما في حكاية موت الجاحظ الذي سقطت عليه رفوف الكتب، إلى حارسة وحافظة للتوازن من السقوط في حكاية ابن رشد، ومبدّدة للوحشة باستعادة الذكريات كما في كتاب إدوارد سعيد «خارج المكان». وفي جميع الحالات كانت الكتب هي الوَنَس لصاحبها، حتى في رحلة الممات!
دين كبير
مكتبتي بصورتها القديمة وما آلت إليه الآن، «دين كبير» عليّ لأبي أوّلاً، حتى أنني خلتُ نفسي كما قال المعري في سياق الاعتراف بفضل والدته عليه؛ أنّي «رضيعٌ ما بَلغتُ مَدى الفطِام»؛ ولما لا؟! فكما يقولون «الأبوة لا محالة تخلق دَيْنًا في عنق الابن». وثانيًّا؛ هي مَدِينَةٌ في جزءٍ كبيرٍ منها لبعض الأصدقاء الذين تولُّوا مهمّة جمع الكثير من الكتب والإصدارات في فترة غيابي خارج البلاد، خاصّة مشروع مكتبة الأسرة ومشروع كتاب في جريدة، وغيرها من كتب السلاسل التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكانت تأتي عند بائعي الصحف، بأعداد قليلة. فلولا وجود هؤلاء الأشخاص في حياتي ما كان لهذه المكتبة أن تتكوّن، ومن هؤلاء الذين تدين لهم المكتبة بالفضل في تكوينها، المرحوم بركات بائع الصحف عند كبرى المرور بقفط، وصديقه أحمد حسن، مات صديقي بركات فجأة وأنا في الغربة، دون أن يعطي لي فرصة حتى أسدّدَ جزءًا من دينه بالخروج خلف نعشه. وقد صارت نصبة الصحف من بعده تفتقر للكتب والمجلات، فهو الذي كان متعاقدًا مع وكالة الأهرام، فصار المكان مُقفرًا لا تشغله سوى الصُّحف اليوميّة.
***
وفي قنا كان عمّ منصورعبد الخير أشهر بائع صحف في قنا، الغريب أن عمّ منصور كنت دائمًا أناديه بهذا اللقب مع أنني اكتشفتُ أنه من سني! كانوا جميعًا يحتفظون لي بالكثير من الكتب القليلة والنادرة، التي تأتي إلى محافظة بأكملها، لكن لا تتجاوز النسخ من الكتاب الواحد أصابع اليد الواحدة. وكان عمّ منصور على وجه الخصوص يُقدِّر أنني قادم إليه من مدينة قفط (جنوب قنا) لذا كان يحتفظ لي بما وصل إليه أحيانًا أسفل البنك الذي يجلس عليه دومًا، أو تحت الفَرْشَة، حتى لا يُسبِّب ظهورها أمام الملأ حرجًا. أمّا الدَّيْنُ الذي لا يُقدّر بثمن، ولا يضاهيه أي فعل لسداده مهما حاولت، فهو للصديقيْن الأستاذ محمد عبادي صويني، والدكتور محمد عبد الحميد سلامة، فلقد وفرّا لي الكثير من الكتب، في صفة نادرة واستثنائية يقلّ وجودها بل ينعدم البتة لو تحرينا الدقة في هذه الأيام. كانا كريميْن حتى أنهما كان يُؤْثراني بما يرغبان فيه من كتب نادرة، فعندما تأتي بعض الكتب من نسخة واحدة، فكان مَن وجدها يحتفظ بها لي دون أن يستأثر بها لذاته، أو حتى يدفعه الفضول لفضّ غلافها ليقرأها، وهذا ما عرفته فيما بعد.
***
أما الشخص المدين له بتحبيبي في القراءة، وإن كان في نفس الوقت مَدين لي بالكثير من الكتب، التي كان يأخذها في كل زيارة خاطفة، فهو صديقي أشرف البدري الناقد الفطري الذي عاب يومًا على صديقنا الشاعر سيد خضير هَجره الشّعر وانصرافه إلى الصوفية، فلحقه بعد فترة، وصار قطبًا هو الآخر. كان كلّما أتى زائرًا بعد غيباته الطويلة، يُزحزح فَرْشَ الكَنَبَةِ ويُخرج الكراتين، ويفجّ بطونها حتى يحصل على بغيته، ثمّ يعدني بأنه سيردها، وهو ما لم يحدث إلى الآن. وبسببه ضاعت رباعية الإسكندرية للورانس داريل بطبعتها الفخمة التي أصدرتها دار سعاد الصباح. ومع تحوله إلى الصوفية فما زال على عادته، يدفعه الفضول للبحث عن بغيته، لكن ليس بنفس أو قدر شغف الماضي. فإذا أعجبه كتاب، ينظر فيه، ثمّ يتركه، ويستكمل أوراده، حيث صارت السِّبْحَة لا تُفارق يده.
***
شكرًا لكِ أستاذة عائشة المراغي، فلقد أحييتِ ما كنت أظنه قد غدا، وكأنه «ماض بعيد… ماض ميت» لكنه مُحببّ إليّ! والشكر موصول – أيضًا – لصديقتي الصحفيّة مايا الحاج التي أثارت السؤال والذكريات من قبل، فلها مني جزيل الشكر والامتنان.
اكتسب الروائي العراقي عمار الثويني حب القراءة ومطالعة الكتب من الصحف والمجلات ثم من مكتبة والده، التى كان يشار إليها بالبنان في منطقته، لما تحفل به من أمهات الكتب الأدبية والتاريخية والتراثية، فاجتذبه عالم السرد لينهل منه قارئًا قبل أن يضيف إليه كاتبًا، ومتمنيًا أن تزدان كل مدينة وقرية في العالم بمكتبة أنيقة تكون كالمحراب المقدس.
عمار الثويني (2)
عمار الثويني: القارئ الدائم ناسك يستحق التبجيل
القراءة بالنسبة لي أكسير الحياة وترياق الجمال وجرعة الأمل التي تنبعث وسط زحمة العيش ومشقاتها وحالات الإحباط التي قد نتعرض لها. اليوم الذي لا أقرأ فيه عدة صفحات من كتاب يكون أشق أيام حياتي، بل إنني أحس كأنني فقدت شيئًا ثمينًا في تلكم الساعات. القراءة بالنسبة لي سفر إلى عوالم أُخرى أبلغها من دون مشقة الترحال وساعات الانتظار الطويلة، فهي تحملك بكل أمارات الراحة إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وسط أناس بوسعك أن تتخيلهم وتعيش بينهم عبر تلك الصفحات الجميلة وأحيانًا لا تغادرهم حتى بعدما تفرغ من قراءة ذلك الكتاب أو تلك القصة أو الرواية.
كانت انطلاقتي نحو عالم القراءة وعشق الكتاب منذ الصغر، عندما تفتحت عيناي على هذا العالم العجيب وبدأت أشعر بما حولي. كانت الصحف والمجلات الرياضية هي من شدتني إلى عالم القراءة، حيث كنت أطالع العديد منها ولم أكتف بمجرد النظر إلى الصور الجميلة، وإنما اقتنيت العديد من الإصدارات مثل مجلة الصقر والوطن الرياضي ونجوم الرياضة إضافة إلى مجلات الوطن العربي والموعد، حيث صقلت لديّ الخزين اللغوى وتعرفت منذ عمر مبكر على التلاعب بالألفاظ لصناعة العناوين، خاصة الرياضية.
إضافة إلى ذلك، كان والدي رحمه الله، معلم اللغة العربية، يملك مكتبة جيدة في منطقتنا، وكان يشار إليها بالبنان، إذ كانت تحفل بأمهات الكتب الأدبية والتاريخية والتراثية مثل الأغاني، والعقد الفريد، وشرح نهج البلاغة (20 جزءًا) ديوان المتنبي وأبي العلاء والبحتري والشريف الرضي والجواهري. شجعنا أبي على القراءة والمطالعة، وكان يقيم الجلسات الأدبية والثقافية في المنزل مع زملائه وضيوفه، فكنت أنهل من تلك النقاشات والمواضيع المطروحة الكثير من المعرفة والعلم.
ومع أنني من محبي قراءة الأدب السردي أكثر من الشعر، فإنني استفدت من كتب التاريخ التي حفلت بها مكتبة والدي، وأخص بالذكر كتاب الإمام على لمؤلفه المصري عبد الفتاح عبد المقصود بتسعة أجزاء والذي كان مكتوبًا بطريقة سرد رائعة مزدانة بالمشاهد التصويرية والخيالية (التي لا تتجاوز حقائق التاريخ وما حصل في حياة الإمام من أحداث) إضافة إلى اللغة الأدبية الرصينة وعالية المستوى. جذبني هذا الكتاب، إضافة إلى رائعة الدكتور طه حسين، الأيام، إلى عالم السرد فنهلت من هذين السفرين الكثير من المعرفة في مجال النثر الأدبي، ما أفادتني كثيرًا عندما شرعت بكتابة أعمالي الروائية خلال السنوات الأخيرة.
عندما دخلت الحياة الجامعية في الموصل السنة الأولى وبعدها في بغداد، كنت أحرص على زيارة شارع المتنبي باستمرار حيث تعرض الكتب النادرة والمفقودة، خاصة أيام الجمع، وأشتري ما أقدر من توفير ميزانيتي المتواضعة. اقتنيت مؤلفات كازنتزاكس وكولن ولسون وجابريل جارسيا ماركيز وفرجينيا وولف وتوماس هاردي وروايات حنا مينا وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهم، إضافة إلى كتب الفلسفة مثل سقوط الحضارة لأوزوالد اشبنجلر ونقد العقل المجرد والمحض لكانت. تواصل معي حب الكتاب وشغف القراءة حتى الآن على الرغم من طبيعة عملي في السنوات الأخيرة تستهلك معظم ساعات اليوم، وقد أثرت بشكل كبير في حيز الوقت المتاح للقراءة، ومع ذلك، أحرص على استثمار كافة أوقات الفراغ للقراءة والمطالعة وأشتري الكتب باستمرار. ليست لديّ طقوس خاصة في القراءة، ولكن عندما أقرأ، فإنها من أجل الفائدة والتحليل وليس لمجرد المتعة. القراءة بالنسبة لي شغف أبدي وعشق لا حد له، والمكتبة محراب مقدس والقارئ الدائم ناسك يستحق التبجيل.
كل أمنياتي أن تزدان كل مدينة وقرية في العالم بمكتبة أنيقة وجميلة تحفل بأنواع الكتب والمؤلفات وأن يكون لهذه المكتبة قدسية خاصة لدى أبناء تلك المدينة حيث يتردد عليها الكثيرون في أوقات الفراغ وتقام فيها الجلسات النقاشية الأدبية والفكرية وتستضيف المبدعين للتعريف بهم.
بواسطة عائشة المراغى
كاتبة صحفية بجريدة أخبار الأدب، وباحثة ماجستير في قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة عرض كل المقالات حسبعائشة المراغى
عندما نتتبع تاريخ مبدعينا في مختلف المجالات، نجد أن المكتبة كانت جزءًا مهمًا من تكوينهم، سواء منزلية، أو مدرسية، أو مكتبة عامة يذهبون للقراءة داخلها أو الاستعارة منها. وعندما ننظر إلى الحاضر يتجلى أمامنا نموذجان في المجتمع بينهما تباين شديد، أحدهما يحرص على تكوين مكتبة ويؤمن بأهمية القراءة، بمختلف مصادرها؛ إلكترونية أو ورقية، والنموذج الآخر لا يعير الكتاب اهتمامًا، وإن حدث وتواجد في منزله مكتبة أو «ديكور مكتبة» تكون محتوياتها في إطار «التُحف» والمقتنيات التجميلية.
ربما ما وصلنا إليه اليوم يبدو ظاهريًا تحضرًا كالذي أشار إليه نعيمة، أن تكون المكتبة من مكونات البيت، لكنه فعليًا ليس كما وصفه «ضرورة»، فالضرورة لا تعني فقط وجودها، وإنما التعامل معها وإدراك أهميتها.
في السطور التالية؛ نستقصي مدى أهمية وجود المكتبة في المنزل، من خلال تجارب عدد كبير من مثقفينا وأدبائنا في الوطن العربي، في ماضيهم وحاضرهم، ومنهم من يسترسل ويقص علينا حكايته معها منذ وعى على الحياة إلى أن وصل لما عليه الآن.
header_image_modern-library-in-house-main-image-fustany
ماذا تُحدِث المكتبة في المنزل؟
أجرى أحد مراكز البحوث المتخصصة في العلوم الاجتماعية، دراسة بعنوان «التنشئة الاجتماعية الموجهة للكتاب»، للتعرف على مدى تأثير التعرض للمكتبات المنزلية على كفاءة الأفراد، شملت فحص بيانات أكثر من 160 ألف شخص من 31 بلدا، وقد خلصت فى النهاية إلى أن قراءة الكتب تساعد في تحسين وظائف المخ، والحد من التوتر وزيادة درجة تعاطف الشخص مع الآخرين. وأوضحت الدراسة المستفيضة أن المنازل ذات المكتبات الواسعة يمكن أن تسلِّح الأطفال بالمهارات الفكرية والذهنية اللازمة والتي تستمر معهم حتى سن البلوغ، وأن النشأة في منزل به كتب عددها أقل من المتوسط قد يكون أحد أسباب تدني المستوى التعليمي.
حاولنا أن نحاكي تلك الدراسة بصورة مصغرة، وعلى مجتمع أصغر بالطبع، فكانت قوامها ما يقرب من 160 مثقفًا وافقوا على المشاركة في الاستبيان، كتَّاب ونقاد وقرّاء، وأظهرت النتيجة أن 13% من بينهم لم يمتلكوا مكتبة منزلية في صغرهم، مقابل 87% توفرت لديهم مكتبة منذ سنواتهم الأولى في الحياة، وداخل تلك النسبة الأخيرة، تباينت أحجام المكتبات ما بين كبيرة بنسبة 46,7% ومتوسطة 20% وصغيرة 33,3%.
النقش في الصغر
بغض النظر عن امتلاك المكتبة في الصغر من عدمه واختلاف أحجامها؛ جميعهم اتفقوا بنسبة مائة في المائة فيما يخص حرصهم على توفير مكتبة في منازلهم، لهم ولأبنائهم، خاصة من لم يمتلكوها في طفولتهم، الذين حملت نبرتهم شيئًا من التشديد على الأمر، فتقول الكاتبة التونسية سوسن العجمي: «لم أكن أملك مكتبة في منزلي، منذ الطفولة كنت أذهب إلى مكتبة عمومية في مدينتي، أثرت في كل شيء في حياتي لدرجة أني لا أجد نفسي إلا هناك، كانت اللبنة الأولى التي علمتني أن أبحث عن الكتاب في كل مكان وأن أقلد الكتاب الكبار وأطمح إلى أن أصبح مثلهم، لذلك حرصت على توفير مكتبة في بيتي لي ولأطفالي، وزرعت في عقولهم حب الكتاب».
ومثلها الشاعر محمد سادات التوني، الذي يملك في بيته الحالي غرفة كبيرة مستقلة للمكتبة، تحوي فروعًا مختلفة للمعرفة، يقول: «لم تتواجد في منزلي مكتبة أثناء الطفولة، لكني عرفت طريقي مبكرًا لمجلات الأطفال وبعض روايات الخيال العلمي والمغامرات، وفي نهاية التعليم الثانوي وبدايات الجامعي بدأت في تكوين النواة الأولى لمكتبتي المنزلية، والتي بدأت صغيرة حتى تطورت مع الأيام، أُضيف إليها الكثير وحُذف منها الكثير أيضًا».
هذا الحرص على توفير مكتبة للأبناء بالمنزل، تؤكد د.سامية خضر، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، على أهميته، من منطلق أن الطفل عمومًا «كائن مقلد» يحاكي ما يراه في البداية من باب الاكتشاف ثم يصبح ذلك جزءًا من فكره وتكوينه، تقول: «تلعب المكتبة في المنزل دورًا عظيمًا جدًا، خاصة إذا كان الأب أو الأم لديه هواية القراءة، فوجود علاقة حميمية بين الأسرة والكُتب يُحدِث تأثيرًا كبيرًا على الأبناء ويكوِّن لديهم وجدانية مفعمة بفكر، سواء كان الفكر دينيًا أو أدبيًا أو علميًا».
وهو الأمر الذي توصلت إليه دراسات علم نفس الطفل بشكل آخر، يوضحه د.جمال شفيق، أستاذ علم النفس الإكلينيكي بكلية الدراسات العليا للطفولة جامعة عين شمس وأمين لجنة قطاع الطفولة بالمجلس الأعلى للجامعات واستشاري العلاج النفسي بوزارة الصحة، قائلًا: «وجدنا في البحوث أن التحاق الطفل بالمستويين الأول والثاني في مرحلة رياض الأطفال يوسع مداركه من جميع جوانب الشخصية، العقلية والانفعالية والاجتماعية والثقافية والنفسية، ويكسبه سلوكيات جديدة لم تكن موجودة، وهو ما انتبه إليه المشرِّع المصري فجعلها مرحلة إلزامية لا اختيارية للأب والأم، مثل التطعيم تمامًا».
واستطرد شفيق: «من شب على شيء شاب عليه، وعندما يتعلم الطفل منذ صغره قيمة القراءة ويرى والديه نموذجًا يُحتذى به داخل الأسرة ويهتمان بالقراءة ويواظبان عليها، سيكتسب منهما هذه الخبرة والمهارة، وتدريجيًا ستصبح تلك عادة وجزءًا من سلوكياته وشخصيته الأساسية. لكن لابد للآباء مراعاة أن تكون المقتنيات الموجودة في المكتبة مناسبة لمرحلتهم العمرية وقدراتهم ومستوى وعيهم وإدراكهم، لأن ذلك غذاء العقل، ونوعية الغذاء وجرعاته تختلف من سن لآخر».
Home-library-ideas-River-Front-Residence-Library-
ومن واقع تجربته يقول الشاعر محمد حسني عليوة، إن القراءة بصفة عامة، منذ الصغر، تعمل على تشكيل الوعي، وخاصة إن كانت المكتبة صغيرة تتنوع فيها الكتب، ويحرص الأبوان على تقديم جرعة يومية من التحفيز والمساعدة لتبدأ لحظتها العلاقة الوطيدة بين عقلية طفل يسعى لفهم وإدراك الأشياء، وبين الشعور بخصوصية الذات.
وبشيء أكثر تفصيلًا، يتحدث الشاعر والناقد المغربي أحمد بهيشاوي عن تجربته مع المكتبة قائلًا: «أثرت في بشكل من حب الفضول، خاصة وأن والدي كان يحرص على أن نلتف حوله؛ أنا الابن البكر الأوحد آنذاك وأمي، ليحدثنا ويشرح لنا ويحلق بنا في عوالم الكتاب الذي كان بين يديه وهو في الأغلب الأعم قد يكون دينيًا أو سردًا كالسير الدينية، سيرة ابن هشام أو غيرها من السير الأخرى حول الانبياء والرسل؛ بالإضافة إلى قصص القرآن الكريم. وبذلك كان للمحيط الأسري، الأبوي خاصة، تأثير كبير في تحفيزي على حب الكتاب وتحريضي على التجول بين مكتبات المدينة للبحث عن مجلات وكتب لمطالعتها. وقد ظهرت انعكاسات ذلك في حياتي أيام الدراسة الجامعية حيث تولدت لديَّ محبة المكتبة الجامعية والرغبة في تصفح فهارسها مما مكنني من حفظ الفهارس في ذاكرتي لأكتشف فيما بعد أن مخزوني من الفهارس أصبح لي مرجعًا ولأصدقائي الطلبة الذين أشير عليهم بما يناسب بحوثهم الجامعية من فهارس تخدم استراتيجية أعمالهم ومشاريعهم الثقافية؛ وأخيرًا انتقل حب القراءة إلى حب الكتابة».
يخالف الكاتب والناشر الأردني إلياس فركوح هذه الآراء مؤكدًا أن التأثير الحقيقي معه جاء في مرحلة ما بعد الطفولة، عندما صار طالبًا في الإعدادية والثانوية، وهو ما يحيلنا إلى دور المكتبة المدرسية أو العامة أيضًا، ويدلل على ذلك الشاعر الفلسطيني نمر سعدي، الذي قرأ الكثير من الكتب في المكتبة الكبيرة بمدرسته، وتعرف من خلالها على السياب والبياتي ونزار قباني، كما احتوت على مؤلفات لبعض الكتاب الفرنسيين والإنجليز المترجمة مثل لامارتين وهوجو وبروست وكامو وبايرون وشلي وشكسبير وغيرهم. وفي مكتبة أخرى كان يطالع كتب الأدب والتاريخ في أوقات الفراغ، يقول: «فيما بعد تعرفت على بعض أعمال الروائيين المصريين كيحيى الطاهر عبدالله وطه حسين والعقاد والمازني، إضافةً إلى أحمد شوقي وخليل مطران. أتذكر أن كتاب «تاريخ الأدب العربي» وهو من أهم مؤلفات الأديب اللبناني الكبير حنا الفاخوري كان واسطة العقد في هذه المكتبة».
التفكُّر والتكوين
تقول د.سوسن فايد، أستاذ علم النفس السياسي بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، إن وجود مكتبة سيثير تساؤلا حول أهميتها وسببها، وستكون أحد المصادر التي تعمل على استفزاز الأبناء ومنها سيدركون قيمة الاطلاع والمعرفة، ومن ثم صقل شخصيتهم.
سمة التساؤل والتفكُّر تلك لازمت الشاعر والكاتب العراقي عباس ثائر إلى ما بعد فكرة وجود المكتبة ككيان، يقول: «تلك الكتب المتناثرة، والتي هي على هيئة مكتبة، أثرت في أن أعرف معنى الأشياء، ولماذا، وما السبب، وما الذي يريده الإنسان من كونه إنسانًا؟!». كما أثرت المكتبة بشكل لافت في النمو الفكري للقاص العراقي علي السباعي «جعلت مني إنسانًا مختلفًا بحسي العالي وهمي الإنساني الكبير. كنت أتعذب لأنني كنت أقرأ. كنت أحترق من فرط الألم».
وساهمت بشكل كبير في التكوين المعرفي للكاتب وأستاذ الفلسفة المغربي د.محمد مستقيم، وكذلك في تشكيل شخصية وأفكار الشاعر محمد موسى: «بالرغم من صغرها إلا أنها كانت مليئة بالكتب الشيّقة الزاخرة بالأفكار والقيم، وساعدت في تنمية موهبتي بالكتابة وتفتح إدراكي وخيالي». والكاتبة والروائية انتصار عبدالمنعم: «أذكر كل كتاب فيها، ومن أعطاه لي، وكيف حصلت عليه، وكل حرف ساهم في تشكيل عقلي وفكري إلى أن حصلت على جائزة الدولة التشجيعية في الآداب». بينما تعلمت منها، الكاتبة والصيدلانية بسنت حسين، التنوع.
في كتابه «رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمر»، ذكر عبد الوهاب المسيري أن صاحب المكتبة كان رجلًا مثقفًا يساعده على اختيار الكتب، على عكس بائعي الكتب هذه الأيام الذين يتسمون بالجهل المطبق، فاهتمامهم بالكتاب ينتهي عند سعره ولونه. لكن تجربة الكاتب السيد شليل مع البائع كانت مختلفة، يقول: «كنت أعقد اتفاقًا مع أحد الباعة، أخذ منه كتبًا لقرائتها وأردها بعد يومين مقابل سعر زهيد، وأتبادل معه كتبي القديمة بأخرى جديدة، مما جعلني أنفتح على عوالم ثقافية متعددة، من الشعر والسرد وعلم النفس والاجتماع، فرسخت القراءة وعيًا مبكرًا ساعدني كثيرًا بعد ذلك».
يمتد تأثير المكتبة في رأي د.محمود أبو العزايم، استشاري الطب النفسي، إلى ما هو أعمق من التكوين، وهو الصحة النفسية، قائلًا: «وجود الكتب المتنوعة في مكتبة متاحة دائمًا يعطي الإنسان فرصة في أي وقت لأن يتغلب على التوترات عن طريق قراءة كتاب يستمتع به ويهدئ من الضغوطات النفسية التي يتعامل معها في الحياة، فإذا رغب في قراءة كتاب ولم يجده في ذلك الوقت قد يغيِّر هذا فكره».
والأقرب لتلك الرؤية هو الكاتب والأكاديمي الجزائري د.بومدين بلكبير، الأستاذ بكلية الاقتصاد والتجارة، إذ يقول: «أن تنشأ بصحبة الكتب، فالأمر له أثر عميق على تنمية المخيلة والإدراك، والجنوح نحو الإبداع والتجديد، وهو ما يؤثر على مسار وخيارات الحياة، العلمية، والمهنية… إلخ. بل للأمر تأثير حتى على نظرتنا للحياة وللآخرين من حولنا».
فى القراءة حياة
عندما سُئل عباس محمود العقاد عن سبب هوايته للقراءة قال إنها، وحدها، هي التي تُعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة؛ لأنها تزيد هذه الحياة عمقًا، وإن كانت لا تطيلها بمقدار الحساب. ولذلك ترى د.سوسن فايد أن مصدر تلقي المعرفة والثقافة، سواء مكتبة أو إنترنت أو غيرهما، ليس مهمًا بقدر فكرة القراءة نفسها، تقول: «لابد أن تكون لدى المجتمعات ثقافة وإيمان بالاطلاع، وأن يكون بين برامج حياتهم وقتًا مخصصًا للاستزادة من المعارف. للأسف الشديد هناك اضمحلال ثقافي وعدم إدراك لأهمية هذه المسألة، إلا أنه في حالة المواظبة والاهتمام والاطلاع المستمر، سواء بواسطة مكتبة خاصة أو من خلال الانترنت والموسوعات، هذا في حد ذاته يُحدِث نوعًا من النشاط الذهني الذي يوفِّر إدراكًا واسعًا وصحة عقلية تحمي في المستقبل من أمراض كثيرة من أهمها الزهايمر، فضلًا عن إعمال العقل والعصف الذهني الذي ينعكس على وظائف الجسم والحالة النفسية».
وقد كانت المكتبة سبيلًا للكثيرين لمعرفة الطريق إلى القراءة وهواها، ثم الولوج إلى عالم الكتابة، مثل الكاتب والطبيب أحمد عبد المنعم رمضان «أثرت في تذوقي للفنون وفي نظرتي للحياة، كما أنها دفعتني للكتابة رغم أن الأمر لم يكن في خطط حياتي ولا ضمن دراستي»، والشاعر سفيان صلاح «تعلمتُ أن القراءة للتفكير وتوليد أفكار جديدة، وما جعلني أدخل مجال الكتابة هو محاولة مشاركتي أهل الكلمة في التفكير معهم»، والقاصة والمترجمة ابتهال الشايب «دفعتني إلى حب القراءة، خاصة عندما وجدت في الكتب عالما مختلفا عن عالمي البسيط، ثم أصبح وجود كتاب به قصة أو رواية ضروري في حياتي، ساعدني ذلك على اكتشاف موهبتي في الكتابة»، والأكاديمي السوري د.محمد ياسين صبيح «هي من جعلني أدمن القراءة، ونمت موهبة الكتابة بكل أشكالها».
بالإضافة إلى د.محمد عبد الدايم هندام، مدرس الأدب العبري الحديث بجامعة المنصورة «أثرت إيجابيًا في حبي للقراءة والإطلاع، ورغبتي في المزيد، ومؤخرًا اكتشفت دورها في تحديد مسار حياتي واختياراتي، حتى أصبحت أعشق القراءة والكتابة»، والكاتب والشاعر المغربي بوشعيب عطران «أغنت طفولتي بمصادقة الكتاب بالنهل من معارف شتى، كما أصبحتُ أملك رصيدًا لغويًا أعانني كثيرًا في دراستي، وقد نمَّت اهتمامي وشغفي بالكتابة في مناحي الأدب»، والمحرر الإعلامي إسلام عاطف «بفضل رعاية أبي لي وبتوفيره القصص والمجلات التي تناسب عمري حينها، شبيت على حب القراءة والأدب حتى تطور ذلك إلى حب الكتابة والتدوين كوسيلة للتعبير عن الذات وانعكاس للروح. وبسببها اخترت مجالي الأكاديمي والمهني»، والطبيب والروائي محمد إبراهيم قنديل «المكتبة علمتني القراءة وحببتني فيها وفتحت عيني على الحواديت التي استقرت في ذاكرتي حتى صرت كاتبًا».
وكانت السبيل إلى حب المعرفة والبحث عنها عند آخرين، مثل د.نهلة راحيل، مدرس الأدب الحديث والمقارن، والناقد والباحث الأكاديمي د.محمد صلاح زيد «جعلتني أعرف القراءة وأحبها، وأحصل من خلالها على قدر كبير من المعرفة»، والكاتبة عبير درويش «وفرت لي التسلية والمتعة، والقدرة على التخيل والإبداع، وتكوين حصيلة لغوية كبيرة، والتحدث بطلاقة وبثقة، ورفع مستوى الفهم، ومنحتني القدرة على حل كثير من المشكلات».
ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى مساهمة القراءة في تحديد المسار، يقول الشاعر د.محمد حلمي الريشة، رئيس بيت الشعر الفلسطيني «كان لها الأثر الكبير والثري في حياتي الشخصية والأدبية منذ المرحلة الابتدائية، بصفتي صرت شاعرًا وباحثًا ومترجمًا، وبلغت إصداراتي المتنوعة في الشعر والترجمة والأنطولوجيات وغيرها 34 كتابًا»، والكاتب الليبي الشريف بوغزيل «أعطتني الرغبة في اكتشاف نفسي ومحيطي، وقادتني إلى أن أختار نهج حياتي وبالفعل تم ذلك»، ومثلهما دارين عماد فرانسيس «أثرت المكتبة كثيرًا في كتاباتي ومستوى اللغة المحكية والمكتوبة، حتى إنها ساعدتني في امتهان الترجمة»، والشاعرة رضا أحمد «الحق أن كل قصاصة وجدتها في الشارع أيضًا ساهمت بشكل كبير في توسيع حواسي على العالم، جعلتني أكتشف نفسي وأنا أطلع على تجارب الآخرين بتعقد مساراتها ونجاحاتها وإخفاقاتها، أردت أن يكون لخيالي إرادة ولحياتي هدفًا أكبر من الاستلقاء مرتاحة البال بعد أداء واجباتي، أردت أن أترك خلفي كتابًا يلهم طفلًا آخر».
«المكتبة تترك تأثيرًا، ليس شرطًا أن يصبح الشخص كاتبًا لكي يعتاد أن يستعين بها، فهي مفيدة في أي مجال». هذا ما قالته د.سامية خضر، وما دللت عليه الوقائع، فمن بين القراء من أصبحت طبيبة بشرية، وأخرى صارت ناشرة، وثالث جعلته المكتبة طبيبًا نفسيًا، ورابعة تجنبت الوقوع في المشاكل التي يسببها الفراغ، وآخرون صارت المكتبة لهم الملجأ والملاذ.
من القراء، إسراء أحمد جاد، الطالبة في الفرقة السادسة بكلية الطب، تقول «كانت المكتبة معظمها كتب دينية للأطفال مثل قصص الأنبياء وكتب كامل كيلاني للأطفال وبعض روايات الجيب والقصص المصورة والقليل من الروايات والمسرحيات العالمية. في البداية كنت أميل إلى القصص المصورة مثل ميكي وبطوط ولكن مع الوقت قرأت الكتب الدينية وكتب كامل ونجيب الكيلاني وفي المرحلة الإعدادية بدأت قراءة الروايات والمسرحيات والسير الذاتية».
وحنين حاتم مازالت قارئة، لكنها في طور تكوين مشروع كاتبة مستقلة «أصبحتُ بفضل المكتبة مدمنة قراءة وأكثر نضجًا وأكبر من عمري في التفكير»، ومثلها حسني فاروق أحمد، معلم اللغة العربية للمرحلة الابتدائية «ساهمت القراءة في صقل ما أدعي أنه موهبة، وللأسف ربما تكون الظروف عقبة كبيرة في الاستفادة منها خاصة في حقل الكتابة»، أما خديجة محمد فقد أنقذتها القراءة من الوحدة، تقول «جعلتني أتقبل نفسي والاختلاف وأنظر لكل شيء من زاوية مختلفة، وأنتبه لتفاصيل ما كنت لأراها لولا القراءة. وأخيرًا علمتني الحب».
رفيقة درب
بالنسبة للبعض؛ لم تكن المكتبة فقط منهلا للمعرفة أو وسيلة للارتقاء، وإنما كانت ولا تزال رفيق درب في كل مراحل الحياة، تقول الكاتبة نوره بركة: «صرتُ أستنشق رائحة الكتب وأرتاح عندما يوضع كتاب بجانبي، أحببت القراءة والكتابة والترجمة والبحث الأكاديمي بفضلها».
وتضيف الأديبة إيمان أحمد يوسف: «بدأت من مكتبة أبي لأنه كان من عشاق القراءة، لم تكن كبيرة، لكن عندما كبرت أنا كبرت معي باختياراتي، وصارت صاحبة فضل كبير، شكلت وعيي وقدراتي وكانت صديقة مراهقتي وشبابي وعمري بأكمله، منحتني مساحات واسعة من التعرف على الوجه الآخر للجمال وللحياة وإجابات الأسئلة فكان الكتاب بمثابة شمس النهار وقمر الليل، يمنحني الحلم والحقيقة الغائبة والخيال العلمي وفرسان المعرفة والرحلات بين سطور البلاد وعاداتها المختلفة وكأنني أسافر مع كتابي وأنا جالسة على المقعد. الكتاب مدينتي الساحرة التي جعلت مني شاعرة وقاصة وكاتبة أطفال وزوجة وأم وامرأة عاملة أدير الوقت وأضع خريطة عالمي وقراراتي بنجاح».
أما الأكاديمي العراقي د.ناظم عودة، المتخصص في الفكر النظري الحديث، فيقول: «منذ أنْ كنتُ طفلًا في المرحلة الابتدائية، بدأتُ باقتطاع جزء من مصروفي وأقوم بادّخاره لأشتري به الكتب الزهيدة الثمن، فتكونت عندي مكتبة من عشرات الكتب. معظمها كانت أدبية شعرًا ونثرًا. لكن للأسف، تسللت إليها حشرة الأرض والتهمت أنصاف معظم الكتب في فترة غيابي لاشتراكي في معسكر خاص بالطلبة لعدة أسابيع. لكنني عوضتها لاحقًا، وكانت نواة مكتبة كبيرة فيما بعد. رافقتني في جميع مراحل دراستي منذ الابتدائية حتى الدكتوراه، وماتزال ترافقني في رحلة البحث والدراسة. وهي جزء أساسي في كلّ بيت سكنتُه في بغداد وليبيا وعمان ودمشق ثم في السويد لاحقًا، هي مكان للقراءة والبحث وجزء من جماليات البيت».
ديكور عصري
مثل ناظم عودة؛ كانت المكتبة جزءًا كذلك من جماليات بيت عمرو الشامي، مقدم البرامج بإذاعة البرنامج الثقافي، إذ يقول: «والداي رحمهما الله كانا يمتلكان مكتبة كبيرة، ثم حرصت أمي على توفير قصص الأطفال لي من سن مبكرة جدًا. كان تأثير المكتبة كبيرًا، ومنها أجدتُ القراءة بشكل كبير. لذا حرصتُ على شراء الكتب لأبنائي فيما بعد وتشجعيهم على القراءة».
لكن الشامي يرى أن أكثر المنتمين لجيل الشباب غير حريصين على اقتناء مكتبة عند استقلالهم، أو بمعنى أدق «لا تعتبر المكتبة جزءًا من جهاز العروسين». وهذا يضعنا أمام حقيقة أخرى يسهل ملاحظتها، وهي أن بعض البيوت يتضمن ديكورًا لمكتبة، لكن وجود الكتب فيها ليس ضروريًا، قد يتم استبدالها بتمثال أو مزهرية، أو توضع فيها كتب تراثية أو كتب مميزة حجمًا وغلافًا لتمنحها شكلًا جماليًا، دون الاقتراب منها أو محاولة مساسها.
في هذه الحالة لن يكن للمكتبة تأثير يُذكر، لكن الخطورة أنها قد تؤدي إلى نتيجة عكسية، يوضحها د.جمال شفيق ود.سوسن فايد: «وجود المكتبة كديكور فقط يعطي انطباعًا للطفل بأن الكتب من الأمور غير المهمة ويستقر في ذهنه ووجدانه أنها ليست ذات قيمة لفتحها أو الاستزادة منها».
يختلف معهما د.محمود أبو العزايم بعض الشيء، مؤكدًا الفكرة التي أشار لها قبل قليل: «التعامل مع المكتبة كديكور سيجعلها أقل تأثيرًا بالتأكيد، لكن وجودها كعامل تحت الطلب في أي لحظة أفضل من عدم وجودها تمامًا».
ويختتم قائلًا: «الأمر في النهاية لا يتوقف على المكتبة وحدها وإنما تتداخل فيه عدة عوامل، كالبيئة المثقفة والأسرة المطلعة، والشخصية التي ينميها الأب والأم لدى الطفل، كل ذلك يحفز الأطفال على أن يكون لديهم رغبة متجددة في الاطلاع، خاصة إن كانت الكتب مناسبة لأعمارهم».
كانت المكتبة المدرسية هي الدافع الذي ولَّد داخل الكاتب اللبناني جبور الدويهي رغبة في تكوين مكتبة بمنزله، ذات رفوف خشبية ومجلدات قيّمة، لتتسم بالأصالة قلبًا وقالبًا. ومن ثم رافقته الكتب في رحلته الدراسية والعملية والحزبية، ومنحته التفرد بين أقرانه على الدوام، ومازالت تفعل، حتى بعدما تطايرت الأحلام وتعاظمت المسافة بينها وبين الأحوال.
جبور الدويهي: كُتُبي جعلتني رجلًا من حبر وورق
صادقت الكتب منذ البداية وكانت المدرسة هي من قادني إلى المطالعة والوقوع في دوامتها اللامتناهية إلى اليوم. لا أدري لماذا قادتني أنا وتركت العدد الأكبر من زملائي في لامبالاة صريحة تجاه الكتب المزدحمة فوق الرفوف في المكتبة المدرسية الغارقة في إضاءة خفيفة يلتمع خشب خزائنها مع دخول ضوء النهار من النوافذ فيمنح المكان هيبة وأصالة جعلني من حينه أجمع بين الخشب «النبيل» والكتب فلا أعير انتباهًا لما هو مرصوف من مجلدات فوق رفوف معدنية أو بلاستيكية ولا أستخدم خزانة أجمع فيها كتبي إلاّ وتكون من خشب السنديان أو من الجوز. ومن نزواتي الميل إلى اقتناء خزائن معدّة لأغراض أخرى كتعليق الثياب أو عرض أواني المائدة وتحويلها إلى حاضنة للكتب. وانسحبت «أصالة» الحاوية على نوعية المحتوى فسعيت ضمن إمكاناتي المادية إلى شراء الإصدارات بطبعاتها الأولى المجلّدة أو المزيّنة بلوحة غلاف إذا أمكن والابتعاد عن كتب الجيب الرخيصة والتي يضرب الاصفرار صفحاتها بعد عامين أو ثلاثة فتصبح جاهزة للرمي بعيدًا.
ولعل امتناع رفاقي عن المطالعة ووقوفهم عاجزين أمام الكم الكبير من الكتب وشعورهم بأنهم أمام مهمة مستحيلة لا يعرفون من أين تبدأ ولا كيف تنتهي فيختارون كرة السلّة أو التسكّع إضافة إلى تساؤلات أكثر عملانية مثل الفائدة من المطالعة في تحسين أدائهم المدرسي وكان نظام الدروس لا يسمح لهم بالإدراك بأن الثقافة التي قد يجنونها من الاطلاع على هذه الكتب سيكون لها الفعل الأكيد في استيعاب دروسهم على تنوعها، من الرياضيات إلى التاريخ، والنجاح فيها. وهكذا رسموا لأنفسهم بابتعادهم عن المطالعة (البعض منهم يقرّ بأنه قرأ في حياته كتابين أو ثلاثة لا أكثر) مسيرة حياة نفعية مهنية ناجحة. والمساحة الشاسعة من الكتب التي نفّرت هؤلاء هي بالذات ما أغراني من أول الطريق. وأعني بذلك هذا الشعور الذي كان ينتابني عندما أنتهي من كتاب ممتع أو مثير للأحلام المتنقّلة بين شوارع باريس والقاهرة والريف الإنجليزي أو العوالم الروسية الغامضة أن هنالك غيره وغيره الكثير ينتظرني وكانت هذه المشاعر تسكنني باستمرار كوني رشحت نفسي (من دون منافس) لأكون «مسؤول» المكتبة في الصفّ، أي التلميذ الذي يسجل طلبات زملائه من الكتب ويجلبها لهم وكانت طلبات شبه معدومة، ما سمح لي بزيارة يومية إلى المكتبة حيث كنت أبقى وحدي لأوقات طويلة أحيانًا حتى أعطاني المدير مفتاح المكان قائلًا إنه لن يجد أحرص مني عليه. وكان يحدث لي أن أحمل كتابًا وأخرج به إلى ملعب المدرسة، أتكئ إلى جذع شجرة حور وأقرأ فيرميني البعض بنظرات مستنكرة والبعض الآخر يتهكّم على إصراري باستعمال الاستراحة للاستمرار في معاشرة الكتب التي أعدّت هذه الاستراحات للهرب منها تحديدًا وتجرأ مرة أحدهم عليَّ فانتزع الكتاب من بين يدي ورماه عاليًا فعلق بين أغصان شجرة الحور وتجمهر الحشريون وحضر الناظر الذي بدى أقرب إلى إلقاء اللوم عليَّ للتسبب بهذه «الحادثة».
ومقابل عجز بعض أقراني عن الشروع في المطالعة كان هناك خوفي من استهلاك كل ما يُقرأ وهو شعور لاإرادي ما زال يرافقني ويجعلني أخشى ألا أجد ما أقرأه في أيامي الأخيرة فأعمد إلى التوقف في منتصف كتاب سحرني تاركًا النصف الثاني إلى يوم متوهم قد تنضب فيه الكتب من حولي.
مع انتقالي إلى الجامعة انخرطت في العمل اليساري وبدلًا من أن تبقى الروايات وسيلة للتحليق بعيدًا ودواوين الشعر الرمزي وحتى السوريالي منها مخزنًا للمشاعر الوجودية، تحولت الكتب وقد غلب عليها التاريخ ونقد الأفكار و«الجدلية» إلى مصدر لفهم الواقع المادي الملموس ولم يكن مرحبًا في تفاصيل السلوك النموذجي المطلوب من العناصر الحزبية المنضبطة قراءة كتب أدبية «بحتة» باعتبارها أنواعًا من المطالعات «البورجوازية الصغيرة» وقد وُجّه إليَّ ذات يوم تأنيبًا خلال اجتماع «الخليّة» الحزبية بعد أن وجدوني متلبسًا بمطالعة كتاب يعتبر من أمهات الروايات، لا بل مؤسس النوع في الغرب الأوروبي. وقد ضعف شعور الملكية التي كان إلغاؤها ضمن برامجنا الصارمة فصرنا نمرر الكتب لبعضنا وقلّة كانت تردّ الكتاب إلى صاحبه الأصلي، نسخر من الذين يكتبون أسماءهم على الصفحات الأولى من الكتب فهي تقريبًا ملكًا عامًا نخطّ ملاحظات في هوامشها، نمزق بعض صفحاتها أو نضع خطوطًا بالحبر تحت المقاطع الملفتة منها في مناخ تثقيفي لا يعير شكل الكتاب أو طريقة عرضه أدنى أهمية بل كانت غرفة «المناضل» المثالي تتميز بوجود ركام من المؤلفات فوق سرير النوم وحوله لآباء الفكر الماركسي وصغار المبشّرين به.
وسرت بيننا في تلك المرحلة قناعة بأن سرقة الكتب من المكتبات التجارية في المدينة عمل حلال خصوصًا تلك المؤلفات التي سوف تساعدنا في تغيير الواقع فتخصص نفر منّا بتلك الممارسات وكانت السرقة تحصل تحت الطلب ويتقاضى السارق الماهر بدلًا لا يوازي العشرة بالمائة من السعر الحقيقي للكتاب.
كانت تلك سنوات قليلة انهار بعدها الهيكل فوق رؤوسنا فاندلعت الحرب الأهلية التي أضاف إليها الوجود الفلسطيني المسلح والتدخل العسكري السوري والاجتياح الإسرائيلي عناصر تفجير لا تنتهي فتطايرت قناعاتنا وتداعت المنظومة الأيديولوجية التي قامت عليها حماستنا النضالية وأسست لها مؤلفاتنا ذات الأغلفة الحمراء فذبلت فجأة كتب النضال هذه وهي لم تكن مقاومة للزمن بنوعية ورقها وأغلفتها «الخفيفة» فبقى منها قسم قليل في الرفوف السفلي من مكتبتي، سينتهي بي الأمر يومًا إلى العودة إليه لقياس المسافة المتعاظمة بين أحلامنا وأحوالنا.
مع انكفائي عن النشاط السياسي وجدت كتبي الأولى تنتظرني غير عابئة بخيانتي التي لم تدم طويلًا فعدت كالابن الضال إلى خطّ دفاعي الخلفي أتصالح مع شاعر رذلته وأعتذر من روائي أهملته، أستعيد الكتاب كغرض ثمين فاستأنفت المطالعة بوتيرة حاولت معها تعويض ما فاتني خلال السنوات العجاف ودفعني إعجابي بأحد الكتّاب إلى اقتناء روايته بلغته الأم التي لا أفقه منها شيئًا قبل ترجمتها إلى العربية أو إلى لغة أخرى يمكنني قراءتها بها، فقط كي يكون بين يدي والنسخة لا تزال عندي حتى اليوم لم «يفكّ» حروفها أحد.
لا بدّ أن القراءة دفعتني صوب الكتابة وها أنا ذا اليوم رجل من حبر وورق كما يقال.
كوّن الكاتب والناقد ممدوح فرّاج النابي، مكتبته بنفسه، أثناء مراحل الدراسة المختلفة، بدأها بكتب المغامرات، وروايات الجيب، ثم اتسعت لتشمل كتب رموز الفكر، واستحوذت كتب عميد الأدب العربي طه حسين على أكثرها. كان لمكتبته الدور الأكبر في توجيهه العلمي أثناء الجامعة، وعلى المستوى الشخصي تركت له ذكرى لا تُنسى مع والده.
ممدوح فراج النابي
ممدوح فرّاج النابي: أبي ومقبرة الكتب.. عن حُلم غرفة تخص المرء وحده
طلبتْ مني صديقة صحفيّة – ذات مرّة – أنْ أكتبَ عن مكتبتي ودورها في تكويني الثقافي. بصراحة اندهشت، وأنا أَقرأُ رسالتها الإلكترونية التي أشعرتني – ربما – بقيمة لا أراها في نفسي. وبصراحة أكثر لأنني لم أكن «منذ صغري بين الكتب» كما افتخرَ تودوروف ذات مرّة، وكرّرها الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو في شهادة له مؤخّرًا، وتطرّق فيها للنشأة والتكوين الثقافيّ والفكريّ، وكانت المكتبة من أهم العوامل المؤثرة في تكوينه، أو حتى «شكّلت مكتبة أبي نواة مكتبتي الخاصة» على نحو ما افتخر أورهان باموق. والأهم أنه لم يكن لديّ مكتبة بالمعنى المادي؛ تلك التي ارتسمت في خيال خليل صويلح، وهو ينتبه إلى مقاييس حجم المكتبة التي انتوى تفصيلها من خشب الزان هكذا «مكتبة بسبعة رفوف وارتفاعات مختلفة تتقاطع بأشكال هندسيّة، وَفْقًا لأحجام الكتب المقترحة». كتبي جميعها مجموعة في عدد من الصناديق (الكراتين)؛ فالصعايدة وأبناء المزارعين لا يختلفون عمّا ردّده محمد آيت حنا عن الفلاحين بأنهم «لا يضعون الكتب في المكتبات».
كانت تتغيّر هذه الصناديق بين الحين والآخر، فأُبَدِّل هذه الكراتين القديمة التي بُليت بفعل التخزين وماء غسيل الأرضيات بأخرى جديدة، من فوارغ البقالة التي كنتُ أوصي عليها أصدقائي من أصحاب البقالات الكبرى، على أمل أن يحتويها مكان ذات يومٍ، وإن كنتُ في نفس الوقت، لا أُفْرط في الخيال، وأقول إني أتمناها كمثل تلك التي ظهرت وأمبرتو إيكو الروائي الإيطالي يتجوّل في أروقتها، وقد كانت تحوي (50000) كتاب.
مقبرة الكتب المنسية
كانت هذه الكراتين (نواة مكتبة المستقبل) موجودة قبل سفري في غرفة ينام فيها أخي الأصغر، ولمّا سافرتُ جمعهم أبي ووضعهم في مخزن أشبه بمقبرة لها؛ ليؤسّس المكان بأثاث جديدٍ، كما أُخبرت فيما بعد. عندما نزلتُ إجازة بعد غيبة ليست طويلة، رحت أطمئن على ميراثي المتواضع. وجدتُ الغرفة قد تبدّل حالُها، فقد أُعيد طلاء جدرانها بألوان شبابية من جديد، وتمّ تأسيسها بأثاث جديد، ووُضِعَ على جانبيها سريران وفي الجانب المقابل للباب وضع دولاب، وبين السريرين كان مكتب صغير عليه جهاز كمبيوتر يشغل هذه المساحة، وهو ما كان علامة (أو دالًا بمفهوم سوسير) على ثورة قد حلّت على المكان، تؤكّد الرفض المستتر لوجودها من ذي قبل، إلى أن جاءت الفرصة! ما لفت انتباهي أكثر أنه لا ملامح لكراتيني (صناديق الكتب) أو مكتبة المستقبل التي كان يتخيّل خورخي لويس بورخيس دومًا بأنّها «الجنة على شكل مكتبة». فلا أثر لها في أي جانب. قبل أن أسأل! جاءني أبي وعلامات الحبور تكسو ملامح وجهه، وكأنّه يحمل بشارة لي. دون أن يتحدث قادني من يدي، ثم قال: تعال أنا نقلتهم من هذا المكان، ووضعتهم لك في مكان أمين (يقصد المقبرة!). مشيت خلفه وأنا أشعرُ بتوجّس من مجهول قادم رغم ملامح البِشْر البادية عليه.
في تلك اللحظة لاحَ إلى ذهني مشهد استهلال رواية «ظل الريح» للروائي الأسباني كارلوس زافون «لن أنسى أبدًا ذلك الصباح الذي اقتادني فيه والدي إلى «مقبرة الكتب المنسيّة»، كلما سِرْتُ خلفه كان المشهد يتجسّد بتفاصيله ومخاوفه، فالأب – في الرواية – قاد ابنه دانيال سيمبري «في متاهة كتب». الفارق أنّ أبي تخلّى عن تحذير الأب لدانيال «إياك أن تخبر أحدًا بما ستراه اليوم يا دانيال»، دخلنا الغرفة المقابلة ومنها إلى مخزن جانبي غير مضاء، ثم قال وهو يلتفت إليّ محافظًا على بشاشته التي تنمُّ عن رضاه عمّا فعل، وكان ينتظر أثره عليّ، فخذلته!: «أنا جمعتهم بنفسي» ووضعتهم هنا. نظرتُ من بعيد دون أن أدخل. فقد أيقنتُ الكارثة التي حلّتْ على مكتبتي (أقصد كراتين الكتب!). خرجتُ دون تعليق أو تعقيب. سار كلانا صامتًا، وإن كان هو راح يتعجبُ من ردّة فعلي السّلبية.
شعرتُ بأنّ أبي طعنني في ظهري، وأن الأحلام العريضة لتكوين مكتبة أو أنْ يكون لي «غرفة تخص المرء وحده» كما رغبتْ فرجينا وولف كتأكيد على أهمية العُزلة في ازدهار الكتابة، قد ضاعت هي الأخرى بل وتبخرت إلى غير رجعة، فالأحلام كما يقول نيتشه «ليست سوى فضلات عشوائية يطرحها العقل في الليل». فصَمَتُ ولم أتحدثْ معه مطلقًا، لم أدنه وفي نفس الوقت لم أبارك فعله، خرجتُ ألوك حسرتي! مرّ زمن وأنا كاتم لوعتي وحسرتي على كتبي التي وفرّتُها من مصروفي أيّام الجامعة، ثمّ من رَفاهيتي بعد العمل، وها هو أبي قد أَلْقَاها بِحُسن نيّة في مخزن أو مقبرة منسيّة، ولا أدري ماذا حلّ بها!
قتل الأب
في كلّ إجازة كان يقول لي «مش ناوي تبص على الكتب»، كنت أتغاضى عن الاستمرار في الحديث عنها، وأتهرّب بكافة السُّبل. فهو لم يكن يدري أنه في كل مرّة يَذْكُرُ سيرة الكتب يجدِّد الطعنة لي. في آخر إجازة كنتُ انتهيتُ من تخصيص غرفة، كانت نواة لمكتبة صغيرة لاحقًّا. ولسبب أجهله حدث صدام بيننا على شيء لا أتذكّره، ومرة واحدة انفجرتُ فيه أمام الجميع، وقلتُ له ما كنتُ أكتمه طيلة خمس سنوات، متهمًّا إيّاه بأنه دمّر كتبي، على الرغم من أنني لم أفحص الكراتين، لأتحقّق مِن صدق هذا الاتّهام الذي وَجّهْتُه لهُ! متقمِّسًا شخصية أورهان باموق وهو يقول «مكتبتي هي حياتي».
كل مَن كان يجلس لم يتوقع منّي هذه الثورة التي قمتُ بها، لأنها ليست من طبعي ولا يستدعي الأمر كلّ هذا الانفعال، أمّا أبي فلم يتأثّر بثورتي، الشيء الوحيد الذي راح يردّده أنه كان «بيحافظ على كتبي» وفق روايته. أخذ يدافع عن نفسه بطريقة يدحض فيها اتهامي له، بل يؤكّد أن ما فعله كان لصالحي. راحَ يلتفتُ للجماعة (أي مَن يجلسون معنا)، وهو يصيح (مع ارتجافة قليلة كانت تنتابه إذا توتّر وانفعل، أو كلّمَا شعَرَ بالضيق): «كنتُ بحافظ عليها، وبنفسي كنت أدخل أشوف إن كان هناك فار في المكان أم لا، ولم أسمح لحد من العيال (أخوتي)». كان حديثه للموجودين، أشبه بدفاع أمام هيئة مُحلِّفين دون أنْ يتعاطف أحد مع قوله لأن الجالسين لم يكونوا على معرفة بأصل القصة، وإن كانوا تأثّروا بحالته التي ظهر عليها وهو يُفسِّر لي ما أعرضتْ أذني عن سماعه. ومرّة واحدة تذكّر أنّني المعنيّ بالأمر، فنظر إليّ في غيظ وقال :
-«يعني اِنْتَ بطنك وجعاك من يومها وكاتم ومش عاوز تقول» !
لا أعرف فيما كنتُ أفكّرُ لحظتها، الشيء الذي أتذكره أنني كنتُ مثل «ميرسو» بطل غريب ألبير كامو، عندما تحدّث وكيل النائب العام عنه، واتّهمه بأنّه «مذنب باقتراف جريمة»، كنت لا مباليًّا حتى أنني خلت جملة «إنه تفاجأ مما أبداه من برود» التي قالها مدير المأوى ورئيس المحكمة يستشهده، تنطبق عليّ تمامًا.
لم يُدرك أنني لم أهدأ بعد، وأنَّ ثورتي لم تنطفئ جذوتها بما قلته. فكان قوله تحريضًا لأن أستكملَ اتهامي، فما إن انتهى من دفاعه الذي لم أبالِ به، حيث كانت الصورة الوهميّة للكتب المتخيّلة كما رسمتها بعد تخيّل المقبرة ومذبحة الكتب، ما زالت هي المسيطرة على عقلي ولساني.
– قلت له في غضب: «لن أسامحك لقد دمرتني!».
لا أعرف كيف نطقتُ بها، ولكني شعرتُ براحة كبيرة وأنا أتَّهِمُه، وسط ملامح فزع سيطرت على كلّ مَن كان يجلس. حلّتْ فترة صمت رانت على الجميع وعلى المكان، ثمّ بدأوا ينصرفون واحدًا تلو الآخر وبقيتُ وحدي. جلست قليلاً ثم سحبتُ جلبابًا قديمًا ألبسه أثناء العمل، ومددتُ جسدي في استسلام تام للرطوبة التي سرتْ إلى جسدي. كان وجهي ناظرًا للسماء، كنتُ أسترجع ما فعلتُ، وبقدر ما شعرتُ بأنني تخلّصْتُ ممّا في جوفي كله، منذ زمن وأنا أكتمه داخلي – كما قال لي من قبل – كان ثمة كَدَرٌ داخلي، لا أعرف سببه! كانت صورته وهو يدافع عن نفسه، ويَلْتَمِس بنظراته الحائرة تارةً والمستعطفة تارةً أخرى – بلا جدوى – كالغريق الذي فشل في العثور على قشّةٍ تَقِيه الغرق، نظرةَ صدقٍ أو حتى إيماءة تصديق منّي لما يقوله، هي ما أرَّقَتْ مضجعي وأفسدت ما أحسستُ بأنّه نصرٌ قد حققته! تحولتُ في لحظة مِن منتصر إلى مجرمٍ أو وَغد مُتصلّف بعناده! كما كان حال صفية بطلة «خالتي صفية والدير» لبهاء طاهر، كانت متبلدة المشاعر وهي ترى البيك يجلد حربي عشيقها. شهوة الانتقام كانت هي الحاكم، لكن جذوة الحب الداخلي أفسدت نشوة الانتصار.
لم تأتِ فرصة للشرح أو التوضيح، لكن بقيتِ المكتبة وسيرتها أشبه بحكاية مُلْغزة بيننا. لا يفهم سرّها أحد سوانا. مرّت سنوات على طلب صديقتي. ومع الأسف إلى الآن لم أجبها عن مكتبتي. وكان ذوقًا منها أنها لم تلحّ في استعجالي على طلبها. لكن ما أزعجنى هو ما يراودني عن فكرة قتل الأب بمفهوم فرويد؟!
***
في الحقيقة كان مُحقًّا عندما قال إنّه كان يُحافظ عليها، فبعدما أسّستُ مكانًا للمكتبة، قام هو – بنفسه – بنقل كراتين الكتب إلى المكان الجديد، متحمّلاً الغبار الذي تراكم فوقها بمرور الوقت، ومع الأسف كانت الحقيقة التي سعيت لإنكارها بحثًا عن وسيلة لإدانته وفقط، أن الكتب لم يصبها أي ضرر، باستثناء الرطوبة التي أفسدت بعض أطراف الكتب، وكان هذا خارجًا عن إرادته. الشيء الآخر الذي كان بمثابة الانتقام الناعم لثورتي له، أنّه أشرفَ على عملية تجهيز الهيكل الخشبي للمكتبة عند النجار، فكان يتردّد عليه أكثر من مرّة منبِّهًا إيّاه بضرورة الانتهاء منه قبل موعد إجازتي السنوية، كان يودّ أن تكون لي مفاجأة! الغريب في هذه الحكاية أنه بعد أن اصطفت الكتب في أرففها، كان سمحًا لأقصى درجة.
والد ممدوح النابى مع مكتبته
فكلّما زارني، يقول لي في مرح: «والنبي أبص على المكتبة، التي نصبت لنا مشانق إعدام من أجلها»، وتارة أخرى كان يباغتني، وأنا أقرأ أمام البيت، ومعي حاسوبي الذي أختزل المكتبة داخله، وإلى جواري بعض الكتب، فهي عادة لم تمحها جلسات المكاتب، أو وجود مكتبة مُستقلة داخل البيت، يقول في دعابة: «مش ناوي تبطل العادة اللي زي الزفت دي، وتجلس على مكتب، زي الناس».
كان حديثه يطمئنني أنه غفر لي ثورتي وتمردي… وإنْ كنتُ مازلتُ لم أغفر لنفسي، وربما لهذا السبب، لا أجلس فيها عند القراءة أو الكتابة. وإنما أنتحي مكانًا آخر بعيدًا عنها، حتى لا أتذكّر يومًا ما فعلتُ!
حمّال الكتب
حكى إداورد سعيد في مذكراته «خارج المكان» أنه كان يصطحبُ معه في رحلاته، جميع ممتلكاته، في حقائب ضخمة ثقيلة، من ضمنها الكتب، وكان سبب هذا الاعتياد الغريب (إن شئنا الدقة) هو هاجس «خوفه من عدم العودة». كُتِبَ على السفر والتنقل إلى أماكن كثيرة، فصرتُ في كل انتقالاتي أشبه بحمّال على غرار السندباد الحمَّال، صاحب السندباد البحري في حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن ليس في أسواق بغداد، أو حتى في حمل أثقال الناس، وإنما في حمل الكتب، أي صرتُ بسبب السّفر حمّالًا للكتب. أشدُّ ما يؤلم ليس خشيتي من أن أصير أحدبَ. وإنما من الأسئلة الفضوليّة في نقاط التفتيش في الطرق الداخليّة، وفي المطارات وغيرها. فأوّلُ ما يواجهني به موظف الأمن بعد فتح حقائبي عندما يرى رصات الكتب ذات الأغلفة والعناوين المثيرة داخل الحقيبة، هو سؤال الدهشة والسخرية في آنٍ: ما هذه؟
لم يكن السؤال هدفه البحث عن إجابة، بقدر ما هو سخرية مما أحملُ. يُقلب الكتب كثيرًا وإذا لفت انتباهه عنوان كتاب يسأل في جدية عما يعنيه! ثم يتركني أعبر، وهو يمصص شفتيه، لا أعرف إن كان إشفاقًا أم تعجُّبًا!
وبسبب السفر المتعدّد، كوّنْتُ مكتبات وبالأحرى شبه مكتبات صغيرة في أماكن متفرقة، شقق وأماكن عمل. أتحسّرُ كلما أراها كَبُرتْ أمام عيني؛ لأني أعلم يقينًا، أنني سأتركها عند تركي المكان إلى آخر، هكذا كنتُ أكوِّنَ مكتبات لأفقدها، على عكس باموق الذي كان يتخلّص من بعض كتبه، خشية الارتباطات. ومع هذا فما إن أنتقلُ إلى مكان جديدٍ حتى أشرع في تأسيس مكتبة جديدة، كي تكون لي بمثابة الونس عن أشياء كثيرة أفتقدها.
كثيرًا ما تراودني هذه الصُّورة المخيفة، التي رسمها ابن عربي في الفتوحات المكيّة، لابن رشد في موته، فقد نُقل جسمانه من مراكش إلى قرطبة على ظهر دابة، يقول ابن عربي «ولما جُعِل التابوت الذي فيه جسدُه [ابن رشد] جُعِلت تواليفه [كتبه] تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي […] ابن جُبير، وصاحبي أبو الحكم […]، فالتفتَ أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى مَن يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله؟». السؤال الذي جال في خاطري عند قراءة الحكاية: كيف فطن مشيعو ابن رشد إلى هذه الفكرة؟ ألم يجدوا سوى كتبه كي تصحبه في رحلة العودة إلى مقامه الآخير، وتكون معادلاً لحفظ اتزان جسده من السقوط ؟ تغيرت وظيفة الكتب من مهلكة كما في حكاية موت الجاحظ الذي سقطت عليه رفوف الكتب، إلى حارسة وحافظة للتوازن من السقوط في حكاية ابن رشد، ومبدّدة للوحشة باستعادة الذكريات كما في كتاب إدوارد سعيد «خارج المكان». وفي جميع الحالات كانت الكتب هي الوَنَس لصاحبها، حتى في رحلة الممات!
دين كبير
مكتبتي بصورتها القديمة وما آلت إليه الآن، «دين كبير» عليّ لأبي أوّلاً، حتى أنني خلتُ نفسي كما قال المعري في سياق الاعتراف بفضل والدته عليه؛ أنّي «رضيعٌ ما بَلغتُ مَدى الفطِام»؛ ولما لا؟! فكما يقولون «الأبوة لا محالة تخلق دَيْنًا في عنق الابن». وثانيًّا؛ هي مَدِينَةٌ في جزءٍ كبيرٍ منها لبعض الأصدقاء الذين تولُّوا مهمّة جمع الكثير من الكتب والإصدارات في فترة غيابي خارج البلاد، خاصّة مشروع مكتبة الأسرة ومشروع كتاب في جريدة، وغيرها من كتب السلاسل التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وكانت تأتي عند بائعي الصحف، بأعداد قليلة. فلولا وجود هؤلاء الأشخاص في حياتي ما كان لهذه المكتبة أن تتكوّن، ومن هؤلاء الذين تدين لهم المكتبة بالفضل في تكوينها، المرحوم بركات بائع الصحف عند كبرى المرور بقفط، وصديقه أحمد حسن، مات صديقي بركات فجأة وأنا في الغربة، دون أن يعطي لي فرصة حتى أسدّدَ جزءًا من دينه بالخروج خلف نعشه. وقد صارت نصبة الصحف من بعده تفتقر للكتب والمجلات، فهو الذي كان متعاقدًا مع وكالة الأهرام، فصار المكان مُقفرًا لا تشغله سوى الصُّحف اليوميّة.
***
وفي قنا كان عمّ منصورعبد الخير أشهر بائع صحف في قنا، الغريب أن عمّ منصور كنت دائمًا أناديه بهذا اللقب مع أنني اكتشفتُ أنه من سني! كانوا جميعًا يحتفظون لي بالكثير من الكتب القليلة والنادرة، التي تأتي إلى محافظة بأكملها، لكن لا تتجاوز النسخ من الكتاب الواحد أصابع اليد الواحدة. وكان عمّ منصور على وجه الخصوص يُقدِّر أنني قادم إليه من مدينة قفط (جنوب قنا) لذا كان يحتفظ لي بما وصل إليه أحيانًا أسفل البنك الذي يجلس عليه دومًا، أو تحت الفَرْشَة، حتى لا يُسبِّب ظهورها أمام الملأ حرجًا. أمّا الدَّيْنُ الذي لا يُقدّر بثمن، ولا يضاهيه أي فعل لسداده مهما حاولت، فهو للصديقيْن الأستاذ محمد عبادي صويني، والدكتور محمد عبد الحميد سلامة، فلقد وفرّا لي الكثير من الكتب، في صفة نادرة واستثنائية يقلّ وجودها بل ينعدم البتة لو تحرينا الدقة في هذه الأيام. كانا كريميْن حتى أنهما كان يُؤْثراني بما يرغبان فيه من كتب نادرة، فعندما تأتي بعض الكتب من نسخة واحدة، فكان مَن وجدها يحتفظ بها لي دون أن يستأثر بها لذاته، أو حتى يدفعه الفضول لفضّ غلافها ليقرأها، وهذا ما عرفته فيما بعد.
***
أما الشخص المدين له بتحبيبي في القراءة، وإن كان في نفس الوقت مَدين لي بالكثير من الكتب، التي كان يأخذها في كل زيارة خاطفة، فهو صديقي أشرف البدري الناقد الفطري الذي عاب يومًا على صديقنا الشاعر سيد خضير هَجره الشّعر وانصرافه إلى الصوفية، فلحقه بعد فترة، وصار قطبًا هو الآخر. كان كلّما أتى زائرًا بعد غيباته الطويلة، يُزحزح فَرْشَ الكَنَبَةِ ويُخرج الكراتين، ويفجّ بطونها حتى يحصل على بغيته، ثمّ يعدني بأنه سيردها، وهو ما لم يحدث إلى الآن. وبسببه ضاعت رباعية الإسكندرية للورانس داريل بطبعتها الفخمة التي أصدرتها دار سعاد الصباح. ومع تحوله إلى الصوفية فما زال على عادته، يدفعه الفضول للبحث عن بغيته، لكن ليس بنفس أو قدر شغف الماضي. فإذا أعجبه كتاب، ينظر فيه، ثمّ يتركه، ويستكمل أوراده، حيث صارت السِّبْحَة لا تُفارق يده.
***
شكرًا لكِ أستاذة عائشة المراغي، فلقد أحييتِ ما كنت أظنه قد غدا، وكأنه «ماض بعيد… ماض ميت» لكنه مُحببّ إليّ! والشكر موصول – أيضًا – لصديقتي الصحفيّة مايا الحاج التي أثارت السؤال والذكريات من قبل، فلها مني جزيل الشكر والامتنان.
اكتسب الروائي العراقي عمار الثويني حب القراءة ومطالعة الكتب من الصحف والمجلات ثم من مكتبة والده، التى كان يشار إليها بالبنان في منطقته، لما تحفل به من أمهات الكتب الأدبية والتاريخية والتراثية، فاجتذبه عالم السرد لينهل منه قارئًا قبل أن يضيف إليه كاتبًا، ومتمنيًا أن تزدان كل مدينة وقرية في العالم بمكتبة أنيقة تكون كالمحراب المقدس.
عمار الثويني (2)
عمار الثويني: القارئ الدائم ناسك يستحق التبجيل
القراءة بالنسبة لي أكسير الحياة وترياق الجمال وجرعة الأمل التي تنبعث وسط زحمة العيش ومشقاتها وحالات الإحباط التي قد نتعرض لها. اليوم الذي لا أقرأ فيه عدة صفحات من كتاب يكون أشق أيام حياتي، بل إنني أحس كأنني فقدت شيئًا ثمينًا في تلكم الساعات. القراءة بالنسبة لي سفر إلى عوالم أُخرى أبلغها من دون مشقة الترحال وساعات الانتظار الطويلة، فهي تحملك بكل أمارات الراحة إلى الماضي والحاضر والمستقبل، وسط أناس بوسعك أن تتخيلهم وتعيش بينهم عبر تلك الصفحات الجميلة وأحيانًا لا تغادرهم حتى بعدما تفرغ من قراءة ذلك الكتاب أو تلك القصة أو الرواية.
كانت انطلاقتي نحو عالم القراءة وعشق الكتاب منذ الصغر، عندما تفتحت عيناي على هذا العالم العجيب وبدأت أشعر بما حولي. كانت الصحف والمجلات الرياضية هي من شدتني إلى عالم القراءة، حيث كنت أطالع العديد منها ولم أكتف بمجرد النظر إلى الصور الجميلة، وإنما اقتنيت العديد من الإصدارات مثل مجلة الصقر والوطن الرياضي ونجوم الرياضة إضافة إلى مجلات الوطن العربي والموعد، حيث صقلت لديّ الخزين اللغوى وتعرفت منذ عمر مبكر على التلاعب بالألفاظ لصناعة العناوين، خاصة الرياضية.
إضافة إلى ذلك، كان والدي رحمه الله، معلم اللغة العربية، يملك مكتبة جيدة في منطقتنا، وكان يشار إليها بالبنان، إذ كانت تحفل بأمهات الكتب الأدبية والتاريخية والتراثية مثل الأغاني، والعقد الفريد، وشرح نهج البلاغة (20 جزءًا) ديوان المتنبي وأبي العلاء والبحتري والشريف الرضي والجواهري. شجعنا أبي على القراءة والمطالعة، وكان يقيم الجلسات الأدبية والثقافية في المنزل مع زملائه وضيوفه، فكنت أنهل من تلك النقاشات والمواضيع المطروحة الكثير من المعرفة والعلم.
ومع أنني من محبي قراءة الأدب السردي أكثر من الشعر، فإنني استفدت من كتب التاريخ التي حفلت بها مكتبة والدي، وأخص بالذكر كتاب الإمام على لمؤلفه المصري عبد الفتاح عبد المقصود بتسعة أجزاء والذي كان مكتوبًا بطريقة سرد رائعة مزدانة بالمشاهد التصويرية والخيالية (التي لا تتجاوز حقائق التاريخ وما حصل في حياة الإمام من أحداث) إضافة إلى اللغة الأدبية الرصينة وعالية المستوى. جذبني هذا الكتاب، إضافة إلى رائعة الدكتور طه حسين، الأيام، إلى عالم السرد فنهلت من هذين السفرين الكثير من المعرفة في مجال النثر الأدبي، ما أفادتني كثيرًا عندما شرعت بكتابة أعمالي الروائية خلال السنوات الأخيرة.
عندما دخلت الحياة الجامعية في الموصل السنة الأولى وبعدها في بغداد، كنت أحرص على زيارة شارع المتنبي باستمرار حيث تعرض الكتب النادرة والمفقودة، خاصة أيام الجمع، وأشتري ما أقدر من توفير ميزانيتي المتواضعة. اقتنيت مؤلفات كازنتزاكس وكولن ولسون وجابريل جارسيا ماركيز وفرجينيا وولف وتوماس هاردي وروايات حنا مينا وعبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهم، إضافة إلى كتب الفلسفة مثل سقوط الحضارة لأوزوالد اشبنجلر ونقد العقل المجرد والمحض لكانت. تواصل معي حب الكتاب وشغف القراءة حتى الآن على الرغم من طبيعة عملي في السنوات الأخيرة تستهلك معظم ساعات اليوم، وقد أثرت بشكل كبير في حيز الوقت المتاح للقراءة، ومع ذلك، أحرص على استثمار كافة أوقات الفراغ للقراءة والمطالعة وأشتري الكتب باستمرار. ليست لديّ طقوس خاصة في القراءة، ولكن عندما أقرأ، فإنها من أجل الفائدة والتحليل وليس لمجرد المتعة. القراءة بالنسبة لي شغف أبدي وعشق لا حد له، والمكتبة محراب مقدس والقارئ الدائم ناسك يستحق التبجيل.
كل أمنياتي أن تزدان كل مدينة وقرية في العالم بمكتبة أنيقة وجميلة تحفل بأنواع الكتب والمؤلفات وأن يكون لهذه المكتبة قدسية خاصة لدى أبناء تلك المدينة حيث يتردد عليها الكثيرون في أوقات الفراغ وتقام فيها الجلسات النقاشية الأدبية والفكرية وتستضيف المبدعين للتعريف بهم.
بواسطة عائشة المراغى
كاتبة صحفية بجريدة أخبار الأدب، وباحثة ماجستير في قسم الإذاعة والتليفزيون بكلية الإعلام جامعة القاهرة عرض كل المقالات حسبعائشة المراغى