في ذكرى الشاعر مهدي طه
"إذا ابتكر النهر ثانية ً لعبة ً للغرق
سيضمخ كفي دمي
وسأصرخ من غرقي: إبتعدْ."
مهدي طه 1975
"هنالك إحساسان يتناوبانني عند فقد صديق: الأوّل أن كل صديقٍ يموت يدنيني من القبر خطوة ، كإصابةٍ جديدة ، قد لا تكون مميتة ، لكنها تسهم في التبكير بموتي. فالناس الذين يفهمونني بلا عناء يتناقصون ، ويسحبون معهم البسـاط من تحتي. الموت يجردني من أصدقائي واحداً بعد واحد. أتـلـفـّت فأجد نفسـي اليوم أضعف مني أمس. وقد أجد نفسي غداً أضعف مني اليوم. ويوماً بعد يوم أجد شهوداً أقلّ على عذابي ، وأناسـاً أقلّ تغفـر لي وتفسـّر أخطائي. وهذا ما يلجئني الى البحث عن أصدقائي القدامى المنبثـّين في الأرض ، كتاباً وشعراء وفنانين وحالمين عظاماً ، لأطمئن على أنهم ، حين يموتون ، سيموتون في منتصف الطريق الى مغامرة إبداعية جديدة. وهذا ما يلجئني أيضاً الى البحث عن أصدقاء جدد ، قد يصغرونني سـناً ، لكنهم أكفاء لي في العذاب ، أطيل بهم عمر أصدقائي الموتى ، وأتسـلح بهم ضد اليأس ، وأحارب بهم النسـيان.
الإحساس الآخر هو الإحساس بدَيْن باهظٍ جديد يضاف الى ديوني الباهظة القديمة ، كفريق العمل يتقاسم الحاضرون فيه عمل الغائبين. إلا أن الغائبين لا يعودون أبداً ، ولا يحلّ محلهم أحد. وهكذا يشـتدّ العمل يوماً بعد يوم ، ويسـتمر الغياب ويتكرر ، فتـُـسْــتـنـزف القوى ، ويُسْــتـَقـطر العرق ، حتى يأتي يوم يتهاوى فيه العمال ، وقد بقيتْ منهم قلة قليلة ، صرعى الإرهاق واليأس ، بين فوضى البضائع ونثار الأدوات. وهكذا تتراكم الديون يوماً بعد يوم ، حتى يأتي يوم أعجز فيه عن السـداد ، وأسلم نفسـي فيه لدائنيـن يتحينون الفرص لينهشوا لحمي حياً. عندها سـأقول لنفسي: ليكن. فقد اسـْـتـُـهلكَ لحمي في الطريق ، فلن يجدوا ما يأكلون. لقد عشْـتُ حياتي كما أردتُ ، لا كما أريدَ لي ، قدر ما سـمح لي بذلك زمني البخيل. لقد كنتُ نافعاً لأصدقائي. لقد وفـّـيتـُهم حقهم. لقد احترمتـُهم وأحيَيْـتُ ذكراهم. لقد سـعدتُ بانتصاراتهم وأسـفتُ لهزائمهم. وفي الوقت نفسه ، لقد استعصيتُ على أعدائي ، وأذقتـُهم مرارة العجز عن احتوائي. ومع أنّ البحر قد ابتلع معظم الملاحين ، فما زال هناك نفـرٌ قليلٌ يصارع الموج. ورغم الظلام والضباب والعصف ، مازال هناك صارٍ في الأفق." *
حين رأيت مهدي أول مرة خيل إلي أنني كنت التقيت به من قبل. وربما كنت أعرفه منذ ولادتي ، أو منذ ولادتنا. أدركت أننا كنا في طريقنا الى عقد صداقة حميمة ذلك اليوم نفسه. لقد رأيت فيه ذاتي الأخرى. أحسست ان ذلك الفتى الذي يحاول جاهداً التستر على مشاعره بقناع من التجهم ، بشعره الذي لم يرتفع أعلى من سلامية الإصبع مثل رغوة سوداء، لم يكن بوسعه أن لا يكون صديقي. كنت أقرأ في تعابير وجهه التوزع بين الحاجة الى الإنتماء والعجز عنه. كان هناك سلام هش يطبع ملامحه ، كغشاء رقيق يشف عن إحساس بالصلح المهشم مع الآخرين ، وباستحالة الإنسجام معهم. يده الشبيهة برجل كرسي إسطوانية ، تزداد نحافة وهي تتجه الى نهايتها السائبة ، لتتفرع أصابع عصبية تجتمع لتعمل عمل الكمّامة للفم. تخيلته قد انتـُـزع من منطقة ظل كثيف ليجد نفسه فجأة تحت نورساطع.
كان ذلك عام 1972 في قاعة صغيرة بثانوية البصرة للبنات. كانت الطالبات يجلسن الى يمين الداخل والطلاب الى يساره. حين نهض مهدي من أحد المقاعد الخلفية ومر عن يميني متجهاً الى منصة الإلقاء لم أسمع وقع خطواته. كان لمشيته صوت كالحفيف. وربما كان يرتدي حذاء من الكتان او ما أشبه. وقد قطع المسافة بين كرسيه ومنصة الإلقاء بعينين نصف مغلقتين وبرأس مطرق. كان مستوى كتفيه مائلاً ميلاً طفيفاً. أما وجهه ، الذي كنت أراه من الجانب ، فبدا مصمماً على الإتجاه الى الأمام حتى اللحظة التي سيستدير فيها بجسمه كله ليواجهنا. خطر لي أنه ، لولا الجدار المقابل ، لاستمر في المضي أماماً مبتعداً عنا حتى يختفي في نقطة تلاش ما. لم تكن نحافته استثنائية ، فلم يكن أنحف مني بكثير. لكن ، لأمر ما ، ارتبطت نحافته في ذهني بتوتره وشدة حساسيته. فكأن الأنظار المسلطة عليه تعمل فيه عمل الحك في الممحاة. وإذا نجح في إخفاء انفعالاته خلف ستار من التقطيب والذهول وزم الشفاه وغلق العينين والتبرم واللا إكتراث ، فقد كنت أدرك بحدسي أن عواطفه سهلة الخدش ، وأنه ، إدراكاً منه لهذه الحقيقة ، كان يحصن نفسه ضد مصادر الأذى المحتملة، بعدم لفت الأنظار الى شخصه ، وبالحفاظ على مسافة أمان تفصله عن الآخرين.
كان عليه أن يلتفت أخيراً ويواجه العيون المحدقة فيه وهو مغمض العينين. وراح يقرأ القصيدة المسماة "صوتان على نافدة أنجيلا ديفز" وهو مغمض العينين. لم تعنني الرسالة المباشرة للقصيدة كثيراً. بدت الكلمات كثقوب في الصمت يرشح منها الحزن. لو كنت ، بدلاً من سماع القصيدة ، قد قرأتها قراءة لما بقي منها في ذاكرتي ما تجدر الأشارة اليه. وحتى القول بـ "سماع القصيدة" ليس دقيقاً. فالكلمات التي سمعتها كانت متداخلة وصدى بعضها يطغى على الآخر. ولم تكن مخارج الحروف واضحة. لكن عملية الإنشاد ذاتها كانت المناسبة التي تتنفس عبرها الروح. إن فـَرْجَ الشفتين هنا يعادل رفعَ الجفنة المعدنية عن فم التنور ، وإطلاقَ الروح الملتهبة من حبسها بذريعة الكلام. الخطاب الحقيقي كان في الهالة التي يشعها الصوت أكثر منه في المحمول الدلالي للكلمات. فالوحدات الصوتية كانت أشبه بنفثات دخان تتدفق من الفم لتواصل تشكلها بحرية في فضاء الغرفة. لم أكن أصغي للكلمات ، بل لوعد غامض حملتـْه في طياتها. ثمة شئ يطبخ هناك بصبر وتؤدة. ثورة تتجاوز الحقب ، أطول عمراً من حاملها ، وأشد تدميراً من أن يتسع لها جسد بتلك الهشاشة. لكنها ثورة عزلاء. كنت أرى يد النار تمتد فلا تطال الأشجار. وهمست لنفسي : "فعلاً ، الشاعر يعرف الشاعر مثلما يعرف اللص اللص." فيما كنت أسمعه يردد في نهاية قصيدته "إفتحي كوة السجن أمي الحزينة / إفتحي/ إفتحي/ إفتحي" ، ومازالت عيناه مغمضتين ، حتى ظننته قد أغفى على تلك الهدهدة. وبدل الهمسات والدردرشات الخافتة التى سبقت القصيدة ، ساد الأن صمت مكهرب ، مربك ، قطعه أحدهم بالتصفيق ، وتبعه الآخرون. واخترق هو الضجيج عائداً الى مقعده.
ذلك كان أول الرحلة المشتركة التي ابتدأت بداية هادئة عام 1972 لتنتهي نهايتها التراجيدية المدوية عام 1975. وانظم الى القافلة رفاق جدد: حميد كاظم (القاص سمير أنيس) و سعدون حاتم (الشاعر آدم حاتم)—كلاهما سيموت فيما بعد في لبنان— ، قاسم حيدر (الشاعر قيس حيدر) الذي سيعدم بتهمة الإنتماء الى حزب محظور بعد بضعة أشهر من موت مهدي ، الشاعر كاظم حسن سعيد ، الذي سيسجن بتهمة القذف لأنه اتهم السلطة بقتل مهدي ، الفنان التشكيلي عباس مكطوف (عباس بن فرناس) الذي سيغادر الى السويد ثم يعاد منها ليقتل في الحرب ، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً ، وكلهم جدير بالذكر. كان مهدي بمثابة ملتقى الطرق أو مركز الدائرة في شبكة العلاقات تلك. وفي جامعة البصرة ، التي كان طالباً في كلية العلوم فيها ، اجتذبت شخصيته عدداً كبيراً من الطلبة المتشوفين الى التغيير والناقمين على الوضع القائم. كان ذا حيوية مدهشة وذهن متقد. وكانت علاقته بالشعر وبالأسئلة الكونية الكبرى متصلة وحميمة.
آخر مرة رأيت فيها مهدي كانت عشية رحيله الأخير ، في مقهى الموعد ، في زقاق ضيق مواجه لسينما أطلس بالعشار. كنت أشاهد التلفزيون في الزاوية القريبة من المدخل ، ولم أعلم بدخوله. لكنه حين غادر نبّهني الى وجوده. قال: "باي..حيدر." حين التفتّ رأيتـُه قرب مدخل المقهى ، يهم بالإبتعاد. سألتـُه: "وين كنت؟" قال: "هنا ، بالداخل."
وكنت أدرك أنه كان مازال مستاء من حوار سابق اختلفنا فيه حول أهمية الروائي الفرنسي مارسيل بروست. كان هو يستخفّ به وكنت أنا أدافع عنه. ولست أفهم الآن سر خلافنا حول أمر كهذا ، فلم يكن أي منا قد قرأ لبروست أكثر من ثلاث أو أربع صفحات ، على ذمة مترجمها ، مجتزأة من رواية تزيد صفحاتها في أصلها الفرنسي على الألفين. سألته: "وين رايح؟" أجاب: "رايح أزت سعدون." (يقصد الشاعر آدم حاتم). وأظنه قال ثانيةً: "باي" ، قبل أن يختفي.
وُجـِدتْ جثته على جرف نهر الحكيمية ، ولم يُعثرْ على مخطوطاته وأوراقه التي كان يواظب على حملها معه. وقال تقرير الطبيب إن موته كان نتيجة الغرق. ولم ُيقنع ذلك ذويه. قال لي أبوه إن مهدي يجيد السباحة ، وليس من الممكن أن يغرق في ذلك النهر الصغير. وأعيدَ فحص الجثة. وبرزت شكوك بوجود كدمات أو آثار ضرب. وكان مهدي قد تعرض للضرب من قبل على أيدي عناصر من الأمن الطلابي في جامعة البصرة. والمعروف أن جسر الحكيمية كان يتوسط مؤسـستين إرهابيتين كبريين من مؤسسات السلطة حينذاك ، هما الإستخبارات والمخابرات. وهكذا افترض أبواه أن ابنهما قد قُتل ، وراحا يبحثان عن قاتله.
حين ذهبتُ لأعزي أهله ، كانت قد مرت على وفاته ليلتان. كان الأب يبحث عمن يهديه الى حل لغز موت ابنه. وكان بعض أقاربه يظنني ، بوصفي صديقه الأقرب ، أعرف ملابسات موته وأتحاشى التصريح بها خشيةً من انتقام قتلة مهدي. وهكذا ارتفع جدار من الشك حال دون استئمانهم إياي على نتاجات الفقيد. قضّيت الليلة في خيمة العزاء المنصوبة قبالة بيت الشاعر فيما سمي بمحلة حسينية العبيد في منطقة الجمهورية. قلتُ "قضيت الليلة" ولم أقل "نمت." كنتُ وحيداً في الخيمة وأرقاً. "لقد كفًّ أنكيدو عن الوجود" قلت لنفسي وأنا أتأمل جدار الخيمة وأصغي لليل. ورحت أدمدم مع نفسي:
"مهدي ،
يا من ترقد تحت ركام الطينْ ،
لا تتقدمْ خطوة ،
لا تتأخرْ خطوة ،
أرضكَ ..رخوة ،
والله هو القادر في هذي الساعة أن يأخذ غفوة
في عـِلـّيّـين
لا مثلك تحت ركام الطين."
فيما بعد ، عند جسر المغايز بالعشار ، إلتقيت بصديقنا المشترك حميد كاظم (القاص سمير أنيس) وقد بدا عليه السكر أو التعب أو كلاهما. وأدركت من ذبول وجهه وإطراقه أنه كان قد علم بالخبر. فلم أقل شيئاً ، ولم يقل هو شيئاً ، وسرنا صامتين. توقف هو لحظة ليقول بذهول كبير: "هلا." وكانت عبارة لصيقة به ، يرددها حزيناً أو سعيداً ، بمناسبة وبدونها. وكان مهدي هو من عرّفني بحميد. جاءا معاً ذات يوم الى محل عملي في شارع أبي الأسود ، وفي يد مهدي مخطوطة رواية لحميد إسمها طيور سنونو بيضاء. ترك مهدي الرواية معي وذهب قائلاً: "إقراها." فركنتها جانباً وواصلتُ عملي. وعاد مهدي بعد ساعة أو نحوها، يتبعه حميد على مبعدة ، فأخذ الرواية قبل أن يتسنى لي فتحها. وهكذا لم أتمكن من قراءة تلك الرواية حتى الآن. فقد شتـّتْ بنا السبل. وغادر حميد الى لبنان ملتحقاً بسعدون حاتم وانقطعت أخباره.
كذلك التقيت بسعدون لدى عودته من بغداد. كان آخر من علم بوفاة مهدي ، وقد صعقه الخبر. جلسنا في بار الأخضر في شارع الوطن. وراح هو يبكي. وقد استغرب هدوئي فعلق ساخراً: "أنت طبعاً صلب." سعدون ، الذي سيحمل إسم آدم حاتم بعد انتقاله الى لبنان، والذي سيموت ميتة بائسة هو الآخر ، سيكتب من هناك قصيدة يسميها "رسائل الى الموتى" يضمّـنها الخطاب التالي الى مهدي طه:
"صديقي الغريق ،
أناشدك كطفل ،
لا تعدْ الى الحياة ،
فقد أصبحتْ
مثلَ رجلٍ يضاجعُ شقيقته."
منذ رحيل مهدي عام 1975 ، سوّدتُ الكثير من الأوراق محاولاً الكتابة عنه. لم أنشر شيئاً ولا احتفظت بشئ مما كتبته. فليس أمراً مألوفاً ان تتحدث للقراء عن شاعر ٍ في غياب شعره. كنتُ آمل أن أستنقذ بعض كتاباته. وها قد انطوت عقود من الزمن دون جدوى. مهدي ، المولود عام 1953 ، والذي كان يكبرني بعام هو الآن أصغر مني بإحدى و ثلاثين سنة. فالموتى لايحقّ لهم أن يشيخوا. وحيلتهم الوحيدة لمواصلة الحياة هي أن يقيموا في ذاكرتنا. وقد خشيت أن يكتمل فناؤه بموت الذاكرة الأخيرة التى مازالت تحمله. وها أنا أخرجه من سجن ذاكرتي ليتنزّه على الورق ، وليفنـّد مزاعمي حول مارسيل بروست. وحين يتعب مني سأدعه يتأبط حافظة أوراقه ، ويدير ظهره لي ويقول: "باي ..حيدر."
حيدر الكعبي
30 أيار 2007
* من رسالة لكاتب السـطور الى مجيد الكعبي تعزيةً بفقد الشـاعر محمد طالب محمد.
"إذا ابتكر النهر ثانية ً لعبة ً للغرق
سيضمخ كفي دمي
وسأصرخ من غرقي: إبتعدْ."
مهدي طه 1975
"هنالك إحساسان يتناوبانني عند فقد صديق: الأوّل أن كل صديقٍ يموت يدنيني من القبر خطوة ، كإصابةٍ جديدة ، قد لا تكون مميتة ، لكنها تسهم في التبكير بموتي. فالناس الذين يفهمونني بلا عناء يتناقصون ، ويسحبون معهم البسـاط من تحتي. الموت يجردني من أصدقائي واحداً بعد واحد. أتـلـفـّت فأجد نفسـي اليوم أضعف مني أمس. وقد أجد نفسي غداً أضعف مني اليوم. ويوماً بعد يوم أجد شهوداً أقلّ على عذابي ، وأناسـاً أقلّ تغفـر لي وتفسـّر أخطائي. وهذا ما يلجئني الى البحث عن أصدقائي القدامى المنبثـّين في الأرض ، كتاباً وشعراء وفنانين وحالمين عظاماً ، لأطمئن على أنهم ، حين يموتون ، سيموتون في منتصف الطريق الى مغامرة إبداعية جديدة. وهذا ما يلجئني أيضاً الى البحث عن أصدقاء جدد ، قد يصغرونني سـناً ، لكنهم أكفاء لي في العذاب ، أطيل بهم عمر أصدقائي الموتى ، وأتسـلح بهم ضد اليأس ، وأحارب بهم النسـيان.
الإحساس الآخر هو الإحساس بدَيْن باهظٍ جديد يضاف الى ديوني الباهظة القديمة ، كفريق العمل يتقاسم الحاضرون فيه عمل الغائبين. إلا أن الغائبين لا يعودون أبداً ، ولا يحلّ محلهم أحد. وهكذا يشـتدّ العمل يوماً بعد يوم ، ويسـتمر الغياب ويتكرر ، فتـُـسْــتـنـزف القوى ، ويُسْــتـَقـطر العرق ، حتى يأتي يوم يتهاوى فيه العمال ، وقد بقيتْ منهم قلة قليلة ، صرعى الإرهاق واليأس ، بين فوضى البضائع ونثار الأدوات. وهكذا تتراكم الديون يوماً بعد يوم ، حتى يأتي يوم أعجز فيه عن السـداد ، وأسلم نفسـي فيه لدائنيـن يتحينون الفرص لينهشوا لحمي حياً. عندها سـأقول لنفسي: ليكن. فقد اسـْـتـُـهلكَ لحمي في الطريق ، فلن يجدوا ما يأكلون. لقد عشْـتُ حياتي كما أردتُ ، لا كما أريدَ لي ، قدر ما سـمح لي بذلك زمني البخيل. لقد كنتُ نافعاً لأصدقائي. لقد وفـّـيتـُهم حقهم. لقد احترمتـُهم وأحيَيْـتُ ذكراهم. لقد سـعدتُ بانتصاراتهم وأسـفتُ لهزائمهم. وفي الوقت نفسه ، لقد استعصيتُ على أعدائي ، وأذقتـُهم مرارة العجز عن احتوائي. ومع أنّ البحر قد ابتلع معظم الملاحين ، فما زال هناك نفـرٌ قليلٌ يصارع الموج. ورغم الظلام والضباب والعصف ، مازال هناك صارٍ في الأفق." *
حين رأيت مهدي أول مرة خيل إلي أنني كنت التقيت به من قبل. وربما كنت أعرفه منذ ولادتي ، أو منذ ولادتنا. أدركت أننا كنا في طريقنا الى عقد صداقة حميمة ذلك اليوم نفسه. لقد رأيت فيه ذاتي الأخرى. أحسست ان ذلك الفتى الذي يحاول جاهداً التستر على مشاعره بقناع من التجهم ، بشعره الذي لم يرتفع أعلى من سلامية الإصبع مثل رغوة سوداء، لم يكن بوسعه أن لا يكون صديقي. كنت أقرأ في تعابير وجهه التوزع بين الحاجة الى الإنتماء والعجز عنه. كان هناك سلام هش يطبع ملامحه ، كغشاء رقيق يشف عن إحساس بالصلح المهشم مع الآخرين ، وباستحالة الإنسجام معهم. يده الشبيهة برجل كرسي إسطوانية ، تزداد نحافة وهي تتجه الى نهايتها السائبة ، لتتفرع أصابع عصبية تجتمع لتعمل عمل الكمّامة للفم. تخيلته قد انتـُـزع من منطقة ظل كثيف ليجد نفسه فجأة تحت نورساطع.
كان ذلك عام 1972 في قاعة صغيرة بثانوية البصرة للبنات. كانت الطالبات يجلسن الى يمين الداخل والطلاب الى يساره. حين نهض مهدي من أحد المقاعد الخلفية ومر عن يميني متجهاً الى منصة الإلقاء لم أسمع وقع خطواته. كان لمشيته صوت كالحفيف. وربما كان يرتدي حذاء من الكتان او ما أشبه. وقد قطع المسافة بين كرسيه ومنصة الإلقاء بعينين نصف مغلقتين وبرأس مطرق. كان مستوى كتفيه مائلاً ميلاً طفيفاً. أما وجهه ، الذي كنت أراه من الجانب ، فبدا مصمماً على الإتجاه الى الأمام حتى اللحظة التي سيستدير فيها بجسمه كله ليواجهنا. خطر لي أنه ، لولا الجدار المقابل ، لاستمر في المضي أماماً مبتعداً عنا حتى يختفي في نقطة تلاش ما. لم تكن نحافته استثنائية ، فلم يكن أنحف مني بكثير. لكن ، لأمر ما ، ارتبطت نحافته في ذهني بتوتره وشدة حساسيته. فكأن الأنظار المسلطة عليه تعمل فيه عمل الحك في الممحاة. وإذا نجح في إخفاء انفعالاته خلف ستار من التقطيب والذهول وزم الشفاه وغلق العينين والتبرم واللا إكتراث ، فقد كنت أدرك بحدسي أن عواطفه سهلة الخدش ، وأنه ، إدراكاً منه لهذه الحقيقة ، كان يحصن نفسه ضد مصادر الأذى المحتملة، بعدم لفت الأنظار الى شخصه ، وبالحفاظ على مسافة أمان تفصله عن الآخرين.
كان عليه أن يلتفت أخيراً ويواجه العيون المحدقة فيه وهو مغمض العينين. وراح يقرأ القصيدة المسماة "صوتان على نافدة أنجيلا ديفز" وهو مغمض العينين. لم تعنني الرسالة المباشرة للقصيدة كثيراً. بدت الكلمات كثقوب في الصمت يرشح منها الحزن. لو كنت ، بدلاً من سماع القصيدة ، قد قرأتها قراءة لما بقي منها في ذاكرتي ما تجدر الأشارة اليه. وحتى القول بـ "سماع القصيدة" ليس دقيقاً. فالكلمات التي سمعتها كانت متداخلة وصدى بعضها يطغى على الآخر. ولم تكن مخارج الحروف واضحة. لكن عملية الإنشاد ذاتها كانت المناسبة التي تتنفس عبرها الروح. إن فـَرْجَ الشفتين هنا يعادل رفعَ الجفنة المعدنية عن فم التنور ، وإطلاقَ الروح الملتهبة من حبسها بذريعة الكلام. الخطاب الحقيقي كان في الهالة التي يشعها الصوت أكثر منه في المحمول الدلالي للكلمات. فالوحدات الصوتية كانت أشبه بنفثات دخان تتدفق من الفم لتواصل تشكلها بحرية في فضاء الغرفة. لم أكن أصغي للكلمات ، بل لوعد غامض حملتـْه في طياتها. ثمة شئ يطبخ هناك بصبر وتؤدة. ثورة تتجاوز الحقب ، أطول عمراً من حاملها ، وأشد تدميراً من أن يتسع لها جسد بتلك الهشاشة. لكنها ثورة عزلاء. كنت أرى يد النار تمتد فلا تطال الأشجار. وهمست لنفسي : "فعلاً ، الشاعر يعرف الشاعر مثلما يعرف اللص اللص." فيما كنت أسمعه يردد في نهاية قصيدته "إفتحي كوة السجن أمي الحزينة / إفتحي/ إفتحي/ إفتحي" ، ومازالت عيناه مغمضتين ، حتى ظننته قد أغفى على تلك الهدهدة. وبدل الهمسات والدردرشات الخافتة التى سبقت القصيدة ، ساد الأن صمت مكهرب ، مربك ، قطعه أحدهم بالتصفيق ، وتبعه الآخرون. واخترق هو الضجيج عائداً الى مقعده.
ذلك كان أول الرحلة المشتركة التي ابتدأت بداية هادئة عام 1972 لتنتهي نهايتها التراجيدية المدوية عام 1975. وانظم الى القافلة رفاق جدد: حميد كاظم (القاص سمير أنيس) و سعدون حاتم (الشاعر آدم حاتم)—كلاهما سيموت فيما بعد في لبنان— ، قاسم حيدر (الشاعر قيس حيدر) الذي سيعدم بتهمة الإنتماء الى حزب محظور بعد بضعة أشهر من موت مهدي ، الشاعر كاظم حسن سعيد ، الذي سيسجن بتهمة القذف لأنه اتهم السلطة بقتل مهدي ، الفنان التشكيلي عباس مكطوف (عباس بن فرناس) الذي سيغادر الى السويد ثم يعاد منها ليقتل في الحرب ، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم جميعاً ، وكلهم جدير بالذكر. كان مهدي بمثابة ملتقى الطرق أو مركز الدائرة في شبكة العلاقات تلك. وفي جامعة البصرة ، التي كان طالباً في كلية العلوم فيها ، اجتذبت شخصيته عدداً كبيراً من الطلبة المتشوفين الى التغيير والناقمين على الوضع القائم. كان ذا حيوية مدهشة وذهن متقد. وكانت علاقته بالشعر وبالأسئلة الكونية الكبرى متصلة وحميمة.
آخر مرة رأيت فيها مهدي كانت عشية رحيله الأخير ، في مقهى الموعد ، في زقاق ضيق مواجه لسينما أطلس بالعشار. كنت أشاهد التلفزيون في الزاوية القريبة من المدخل ، ولم أعلم بدخوله. لكنه حين غادر نبّهني الى وجوده. قال: "باي..حيدر." حين التفتّ رأيتـُه قرب مدخل المقهى ، يهم بالإبتعاد. سألتـُه: "وين كنت؟" قال: "هنا ، بالداخل."
وكنت أدرك أنه كان مازال مستاء من حوار سابق اختلفنا فيه حول أهمية الروائي الفرنسي مارسيل بروست. كان هو يستخفّ به وكنت أنا أدافع عنه. ولست أفهم الآن سر خلافنا حول أمر كهذا ، فلم يكن أي منا قد قرأ لبروست أكثر من ثلاث أو أربع صفحات ، على ذمة مترجمها ، مجتزأة من رواية تزيد صفحاتها في أصلها الفرنسي على الألفين. سألته: "وين رايح؟" أجاب: "رايح أزت سعدون." (يقصد الشاعر آدم حاتم). وأظنه قال ثانيةً: "باي" ، قبل أن يختفي.
وُجـِدتْ جثته على جرف نهر الحكيمية ، ولم يُعثرْ على مخطوطاته وأوراقه التي كان يواظب على حملها معه. وقال تقرير الطبيب إن موته كان نتيجة الغرق. ولم ُيقنع ذلك ذويه. قال لي أبوه إن مهدي يجيد السباحة ، وليس من الممكن أن يغرق في ذلك النهر الصغير. وأعيدَ فحص الجثة. وبرزت شكوك بوجود كدمات أو آثار ضرب. وكان مهدي قد تعرض للضرب من قبل على أيدي عناصر من الأمن الطلابي في جامعة البصرة. والمعروف أن جسر الحكيمية كان يتوسط مؤسـستين إرهابيتين كبريين من مؤسسات السلطة حينذاك ، هما الإستخبارات والمخابرات. وهكذا افترض أبواه أن ابنهما قد قُتل ، وراحا يبحثان عن قاتله.
حين ذهبتُ لأعزي أهله ، كانت قد مرت على وفاته ليلتان. كان الأب يبحث عمن يهديه الى حل لغز موت ابنه. وكان بعض أقاربه يظنني ، بوصفي صديقه الأقرب ، أعرف ملابسات موته وأتحاشى التصريح بها خشيةً من انتقام قتلة مهدي. وهكذا ارتفع جدار من الشك حال دون استئمانهم إياي على نتاجات الفقيد. قضّيت الليلة في خيمة العزاء المنصوبة قبالة بيت الشاعر فيما سمي بمحلة حسينية العبيد في منطقة الجمهورية. قلتُ "قضيت الليلة" ولم أقل "نمت." كنتُ وحيداً في الخيمة وأرقاً. "لقد كفًّ أنكيدو عن الوجود" قلت لنفسي وأنا أتأمل جدار الخيمة وأصغي لليل. ورحت أدمدم مع نفسي:
"مهدي ،
يا من ترقد تحت ركام الطينْ ،
لا تتقدمْ خطوة ،
لا تتأخرْ خطوة ،
أرضكَ ..رخوة ،
والله هو القادر في هذي الساعة أن يأخذ غفوة
في عـِلـّيّـين
لا مثلك تحت ركام الطين."
فيما بعد ، عند جسر المغايز بالعشار ، إلتقيت بصديقنا المشترك حميد كاظم (القاص سمير أنيس) وقد بدا عليه السكر أو التعب أو كلاهما. وأدركت من ذبول وجهه وإطراقه أنه كان قد علم بالخبر. فلم أقل شيئاً ، ولم يقل هو شيئاً ، وسرنا صامتين. توقف هو لحظة ليقول بذهول كبير: "هلا." وكانت عبارة لصيقة به ، يرددها حزيناً أو سعيداً ، بمناسبة وبدونها. وكان مهدي هو من عرّفني بحميد. جاءا معاً ذات يوم الى محل عملي في شارع أبي الأسود ، وفي يد مهدي مخطوطة رواية لحميد إسمها طيور سنونو بيضاء. ترك مهدي الرواية معي وذهب قائلاً: "إقراها." فركنتها جانباً وواصلتُ عملي. وعاد مهدي بعد ساعة أو نحوها، يتبعه حميد على مبعدة ، فأخذ الرواية قبل أن يتسنى لي فتحها. وهكذا لم أتمكن من قراءة تلك الرواية حتى الآن. فقد شتـّتْ بنا السبل. وغادر حميد الى لبنان ملتحقاً بسعدون حاتم وانقطعت أخباره.
كذلك التقيت بسعدون لدى عودته من بغداد. كان آخر من علم بوفاة مهدي ، وقد صعقه الخبر. جلسنا في بار الأخضر في شارع الوطن. وراح هو يبكي. وقد استغرب هدوئي فعلق ساخراً: "أنت طبعاً صلب." سعدون ، الذي سيحمل إسم آدم حاتم بعد انتقاله الى لبنان، والذي سيموت ميتة بائسة هو الآخر ، سيكتب من هناك قصيدة يسميها "رسائل الى الموتى" يضمّـنها الخطاب التالي الى مهدي طه:
"صديقي الغريق ،
أناشدك كطفل ،
لا تعدْ الى الحياة ،
فقد أصبحتْ
مثلَ رجلٍ يضاجعُ شقيقته."
منذ رحيل مهدي عام 1975 ، سوّدتُ الكثير من الأوراق محاولاً الكتابة عنه. لم أنشر شيئاً ولا احتفظت بشئ مما كتبته. فليس أمراً مألوفاً ان تتحدث للقراء عن شاعر ٍ في غياب شعره. كنتُ آمل أن أستنقذ بعض كتاباته. وها قد انطوت عقود من الزمن دون جدوى. مهدي ، المولود عام 1953 ، والذي كان يكبرني بعام هو الآن أصغر مني بإحدى و ثلاثين سنة. فالموتى لايحقّ لهم أن يشيخوا. وحيلتهم الوحيدة لمواصلة الحياة هي أن يقيموا في ذاكرتنا. وقد خشيت أن يكتمل فناؤه بموت الذاكرة الأخيرة التى مازالت تحمله. وها أنا أخرجه من سجن ذاكرتي ليتنزّه على الورق ، وليفنـّد مزاعمي حول مارسيل بروست. وحين يتعب مني سأدعه يتأبط حافظة أوراقه ، ويدير ظهره لي ويقول: "باي ..حيدر."
حيدر الكعبي
30 أيار 2007
* من رسالة لكاتب السـطور الى مجيد الكعبي تعزيةً بفقد الشـاعر محمد طالب محمد.