عبد الفتّاح القرقني - منيرة و البحر

ذات أصيل مشمس ، نفضت منيرة بأناملها الرّقيقة ضريعا عالقا بصخرة مستوية ، كثيرة الثّقوب كأنّها إسفنجة و جلست عليها راجية أن تشعر بفيض من الرّاحة بعد يوم شاقّ على مقاعد الدّراسة بالجامعة . تفحّصت حذاءها الرّياضيّ الّذي هرّأه المشي و أبلاه الطّريق الفاصل بين منزلها و ميناء سيدي زايد ثم خلعته على مهل و وضعته بجانبها حتّى لا تجرفه المياه و ترحل به بعيدا و بعيدا .
ها هي تهيم في تأمّل البحر السّاكن ، الصّقيل كالمرآة بعينين مترعتين بالإعجاب و قلب طافح بالغبطة دون أن تغفل عن تحريك ساقيها البضّتين النّاعمتين في مياهه الصّافية ! ما هذا النسيم الرّقراق ؟ ما هذا الهمس الوديع للموج ؟ ما أروع البحر حين يطلّ عليه العشّاق وما أشد ظلمته حين تطلّ منه الذكريات وتنكسر على ضفافه الأحلام. كم كانت تتمنّى أن يكون عشيقها خالد بجانبها يكسر شوكة وحدتها بمزاحه و مداعباتــه و ضحكاته الرّنّانة فهو ممراح ، طروب ، خفيف الظّلّ لكن مع الأسف الشّديد فهو بعيد عنها يشتغل تاجرا في سوق العطّارين قرب جامع الزّيتونة المعمور! .
انبرت منيرة تحدّق في البحر برومانسيّة ساحرة تترجم مدى شغفها بجمال الطّبيعة فلا غرابة أن تكون على هذا النّحو بما أنّ الله سبحانه و تعالى قد وهبها حسنا فائقا و قدّا ممشوقـــــــــا و خيالا خصبا و إحساسا رهيفا ، راقيا يؤهّلها أن تكون في يوم من الأيّام رسّامة بارعة ، متألّقة لها عبقريّة خلاّقة ، مجنّحة : هذه قوارب راسية على الشّاطئ تحوم حولها نوارس مزدانة ، شجيّة الأصوات ، لا تتوانى في البحث عن سمك يدفع عنها غائلة الجوع . و في تلك الأعماق قرب رأس الرّمل سفن شراعية سريعة الحركة على متنها بحّارة شجعان خبروا البحر و ألفوا الصّيد فيه دون كلل أو ملل يحدوهم صبر جميل و أمل نيّر . إن يحالفهم الحظّ تمتلئ شباكهم بالأسمــاك و تكتنز جيوبهم بالأرباح الطّائلة و إن يشحّ البحر و يقتّر عليهم في الرّزق يعودوا بخفّي حنين جارّين أذيال الخيبة.
و بينما هي كذلك تتأمّل ذلك البحر الممتدّ أمامها في انبهار و هي تصغي إلى موسيقى عربيّة ، عذبة عن طريق هاتفها الجوّال إذ لاح لها صيّاد مديد القامة ، نحيف الجسم ، على ما يبدو من خلال ملامحه أنّ سنّه أناف عن الثّلاثين . نزل من زورقه الصغيــــــر و طفق يشقّ عباب البحر في ترنّح و هو مشمّر على سرواله المتهرّئ الّذي ابتلّت أطرافه . كان خفيض الرّأس ، بطيء الخطو ، يخفي في صدره أسى شديدا و يحمل على كتفه سلّة ملآى بالأسماك .
و ما إن أشارت إليه منيرة بسبّابة يدها اليمنى حتّى استجاب لندائها دون تردّد و هو باسم الثّغر ، طلق المحيّـــا . و فور وصوله إليها حيّاها في أدب و بقي يسترق النّظر إليها و هو شارد الذّهن من خلال ثقوب مظلّته البالية فبدت له فاتنة ممشوقة القوام ، ضامرة الخصر ، آية في الحســـــــن و قمّة في الجمال . لهذه الفتاة الهيفاء وجه مستدير كالبدر به مقلتان زرقـــاوان و أنف دقيق شامخ في الفضاء و ثغر منبلج البسمات تطلّ منه أسنان مرصّفة ، ناصعة البياض كأنّها الثّلج . ليتها تكون زوجته تواسيه في الرّخاء و الشّدّة فيزول تبرّمه من الحيــــــاة و يرنو إلى الشّمس المضيئة ساخرا من فداحة الفقر و مقت الحرمان و تعثّر الطّالع و خيبات الأمل الّتي تلاحقه مثل ظلّه !
تفرّست منيرة ذات العشرين سنة في وجهه القمحيّ و عينيه العسلتيــــــــــن و أطماره الباليــــــة و هي تداعب بأصابعها النّحيفة خصلة صفراء متمرّدة فوق جبينها الوضّاح ثمّ شرعت في الحديث معه بكلّ تلقائيّة ، على وجهها بشر و في بريق عينيها فــــــــرح و على لسانها قول جميل .
– « هل كان الصّيد وفيرا هذا اليوم ؟ »
– « كما ترين يا سيّدتي فسلّتي و الحمد لله ملآى بالسّمك و الحبّار»
– « اجلس بجانبي لنيل نصيب من الرّاحة بعد عناء الصّيد »
– « بكلّ سرور لكن ما اسمك فأنا اسمي بشير »
– « اسمي منيرة و لكنّني بين أهلي و رفاقي أكنى بـــ « منّو» . من فضلك كم كتلة هذه الأسماك الطّازجة ؟ »
– « حسب التّقريب خمسة كيلوغرامات »
– « بعني إيّاها بأيّ ثمن تقترحه عليّ »
– « أيّتها الحسناء هذا السّمك سيكون هديّة متواضعة لك »
– « يا لك من جواد لكن أنا لا تسمح لي عزّة نفسي بأخذ هذا السّمك دون مقابل »
أدارت يدها في جيب سروالها الأزرق فلم تعثر إلاّ على دراهم معدودة لا تفي بالحاجة . سكتت دقائق معدودة و هي منغمسة في تفكير عميق ثمّ أردفت قائلة و هي في أوجى تحسّرها :
– « مع الأسف الشّديد فأنا لا أملك الآن إلاّ بضعة دنانير فهل تقبل المقايضة ؟ »
– « ماذا تعنين بكلمة مقايضة ؟»
– « سأبادلك تلك الأسماك بهذا الهاتف الجوّال الأحمر اللّون من نوع ( سمسونغ ) بعد تخليصه من شفرتــــــه و بطاقة ذاكرته فما رأيك في هذا الاقتراح ؟ »
– « اقتراح وجيه فأنا لا أجرؤ على مناقشتك فالمهمّ بالنّسبة لي أن تكوني مبتهجة ، سعيدة »
في الحين تسلّم بشير الهاتف الجوّال و أودعه في جيب قميصه و هو يكاد يطير من شدّة الفرح ثمّ احتسى كأسي خمر من قارورة «مرناق» كانت مدسوسة في القفّة تحت السّمك . امتعضت منيرة من وقاحته و استوت قائمة محاولة الفرار و هي تنعته بأبشع النّعوت :
– « أيّها الحقير كيف تسمح لنفسك بشرب الخمرة أمامي ؟»
– « إنّها تجلّي عن النّفـــس الحزن و الكدر و تجلب إليها المسرّة و النشوة . هل أملأ لك كأسا من هذه الخمرة اللّذيذة ؟ »
– « لا و ألف لا . إن الهروب من الهموم والأحزان ليس حلاً ولكنّ الحلّ يكمن في علاج المشاكل بحكمة و رويّة . فيما يخصّ السّرور الّذي تجلبه الخمرة لشاربها فهو سرور مزيّف يعقبه إحبــــاط و شجن و ذلّ و تحسّر »
– « لا داعي للوعظ و الإرشاد فنحن لسنا في جامع. هيّا استمتعي بجرعات من هذه الخمرة فهي لن تسكرك »
– « تبّت يداك أيّها الرّكيك فمتى كنت أشرب الخمرة فأنا لا أتحمّل حتّى النّظر إليها ؟ هيّا اغرب عن وجهي لأنّ رائحتك كرائحة النّسناس »
لم يتحمّل بشير المذلّة و الطّرد فانتفخت أوداجه واختلج جفناه و تطاير الشّرر من عينيــــــــــه و انفرجت شفتاه في عصبيّة:
– « ما هذا الشّتم المقذع ؟ الرّجل لا يهان لا يهان »
– « أعوذ بالله … أعوذ بالله … أنت شيطان رجيم تغويني و تغريني بأمّ الخبائث »
لوى لها يدها في عنف صارخ حتّى كاد يخلع كتفها و اختطف منها في طرفة عين قبلتين في نكهة العسل و حاول أن يضمّها إلى صدره ضمّا شديدا للنّيل من شرفها لكنّها صدّته بكلّ ما أوتيت من قوّة و عفّة دون أن تستسلم لغرائــزه البهيميّة و نواياه الدّنيئة .
ها قد انتصرت منيرة انتصار الأبطال على هذا الوحش الكاسر الّذي سوّلت له نفسه تدنيس شرفــــــــها و نشب براثنه في جسدها الطّاهر . إنّها لطمته بأعجوبة مذهلة لطمة قاسية كادت ترحل به إلى عالم الأموات ثمّ طرحته أرضا و مرّغت وجهه في الرّمل و دسّته فيه .
لم يستسلم بشير لليأس و لم يذعن إلى الهزيمة بأيّة حال من الأحوال بل استجمع قــــــــواه و انتصب واقفا كالصّلّ و هو يرغـــي و يزبد و يتوعّدها بالانتقام :
– « الويل لك لن تفلتي من قبضتي أيّتها الباغية ، الطّاغية . سأمعّكك كما أشاء في هذه الرّمال الزعفرانيّــــــة و أنال مبتغاي في منتهى اليسر ثمّ أشجّ رأسك بقاع هذه القـــــــــــارورة . و عند تيقّني من موتك أرمي بك في اليمّ لتكوني لقمة سائغة للحيتــان »
– « أيّها المجرم إذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْت»
– « سأريك ما يفعل الرّجال يا بذيئة اللسان و عديمة المعروف و الإحسان »
و عندما سمعت منيرة هذا التّهديد الشّرس تحصّنت خلف سفينة حديثة الطّــــــــلاء لم يجفّ بعد دهنها الأزرق و الأبيض و حدجته بنظرات حادّة فيها كثير من التحــــــــــدّي و الجرأة .أمسكت حجارة مذبّبــــــــــة و همّت بتفضيخ جمجمته أفظع تفضيخ كي يكون عبرة لغيره لكنّها في آخر لحـــــــظة استعاذت بالله من كلّ شيطان رجيم و عدلت عن ذلك السّلوك الأرعــــن الّذي يمكن أن يشوّه سمعتها بين النّاس و يدخلها إلى السّجن .
من ألطاف الله صحا بشير من سكره فكظم غيظه و حنقه و استعــــاد توازنـــــــــه و افترّ ثغره عن ابتسامة عذبة . أزال العفر عن وجهه و دنا من منيرة بخطوات ثابتة خالية من الترنّح و التعثّر . كان يلوّح لها بيده مبتسما و هو ينطق بكلام معسول نابع من الوجدان الغاية منه العفو و تهدئة الخواطر:
– « هل تسمحين لي بأن أقبّل يدك »
– « لا فأنا أخاف من غدرك »
– « من الآن اعتبريني صديقا حميما »
– « حتما يا صديقي الجديد غير أنّني أنصحك بأن لا تكون فظّا غليظ القلب بالخصوص مع النّســاء »
– « هل عفوت عنّي رغم كلّ ما حصل بيننا في الشّجار؟»
– « نعم و أنت هل ستسامحني؟ »
– « بلى إِنَّ الله عُفُوٌّ كَرِيمٌ يحِبُّ الْعَفْوَ »
– « يدي ممدودة تنتظر قبلتك »
– « ما أشهى هذه القبلة و ما أنبل العفو عند المقدرة »
– « هل تعرف أنّ المرأة كالنّحلة تصنع العسل إذا أحبّت و تلسع إذا كرهت ؟ »
– « لا أعلم بذلك و من الآن فصاعدا عليّ بالاستقامة حتّى أتجنّب لسعاتك المؤلمــــــــة . آن الأوان أن أودّعك أيّتها الصديقة الفاضلة ثمّ أنصرف »
– « إلى لقاء آخر من وحي الصّدف فربّ صدفة خير من ألف ميعاد »
و جاء الغروب ليكمل تزويق اللّوحات الرّومانسيّة الّتي حاكها البحر بأمواجه و هو متربّع على عرشه . ها هي منيرة تتمعّن في الشّمس و هي تسعى إلى مغربها جارّة فستانها الأحمر في خجل . غاب قرص الشّمس في خيلاء مودّعا الأفق الجميل فانتشى الشفق بلون الورود و تسلّل الليل البهيم و هو يتبختر في مشيته متباهيا بثوبه الأسود القشيب . لقد أنبأت لحظات الغروب سميرة بأنّ النّهايات أكثر حرارةً من البدايات، وأنّ ساعات الوداع أكثر حرقةً من ساعات التهليل والاستقبال.
و ما إن أرخى اللّيل سدوله و سحب الظّلام في الكون ذيوله حتّى انتابت محمّدا حيرة شديدة فالتحق سريعا بابنته منيرة على متن سيّارته الفخمة . أبصرها تسير بخطى حثيثة على المسلك الرّياضيّ المحاذي للبحر و في يدها سلّة .أوقف سيّارته على قارعة الطّريق و دعاها للركوب و هو عابس الوجه ، مقطّب الجبين :
– « عجّلي بالركوب أيّتها الحمقاء »
– « حسنا لكن عليّ أوّلا أن أضع سّلّة الأسماك في صندوق السّيّارة »
أثناء السّير سألت منيرة أباها في منتهى اللّطف و الرّقّة و هي منشرحة الصّدر تعلو وجهها علامات الغبطـــــتة و السّرور :
« هل أنّ كلّ فتاة تعود إلى بيتها في وقت متأخّر غبيّة ؟ » –
– « أنا واثق من ذلك تمام الوثوق لأنّ الأمن في بلادنا و البلدان المجاورة هشّ يستدعي المزيد من الحيطـــــة و الحذر»
– « لن ألهيك طويلا بالحديث حتّى تحافظ على تركيزك أثناء السّياقة لكن سأكتفي بالقول لك أنّ الإرهاب في طريقه إلى الاضمحلال و الزّوال »
– « أعدّي لنا أنت و أمّك سمكا مشويّا و سلطة بالحبّار فعصافير بطني تزقزق »
– « لله درّك يا أبتي فأنت دوما جوعان ».



عبد الفتّاح القرقني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...