يعد البناء الفني للقصيدة هاجس الشاعر الأول، إذ تتجلى براعته في صناعة نمط بنائي مختلف، يصوغ المتن ضمن آلية مغايرة، وذلك كله يجري وفق ما نطلق عليه «العناصر الدالة» في التركيب التي تقود إلى المداليل أو المعاني.
وفي ضوء ذلك تنقسم هذه العناصر إلى رئيسة وثانوية، فأما الأولى فهي مساند البناء الأساس التي من الصعب تحريكها، وإن حصل ذلك، فإن المتلقي يشـــعر بفراغات واضحة في النص الشعري، وأما ما هي ثانوية فإنها المنطقة الحرة التي تسمح للشاعر أن يتلاعب بها، بالحذف والإضافة.
تتعاضد هذه العناصر لتشكل بنية كاملة، هي القصيدة بصورتها الكلية. وهنا نتساءل: كيف يتم ترتيب هذه العناصر؟ بمعنى آخر: أين تكمن الجمالية؟ وهل يكسب ترتيب العناصر القصيدة شكلها الحيوي، المختلف عن المألوف والسائد؟
ذلك ما نجده في القصائد الشهيرة المتداولة لسانيًّا.
يتمظهر في البنية الدالة المبنى عبر المتن، وذلك كله يجري وفق أنماط تشي بما يراد أن يكون مدلولًا، التأخير والتقديم، الفراغات، تأجيل الفواعل أو الأفعال، المضمر اللفظي، القطع المفاجئ، ذلك لا يبنى في القصيدة الحديثة اعتباطيًا.
قلت إن العناصر في تشكّلها المتنوع تخلق بنى متنوعة، وربما حين يتم التلاعب بعنصر واحد فحسب، يؤدي إلى خلق نموذج جديد من بنية مغايرة، هذه المغايرة هي بؤرة ما يطلق عليه الحداثة في النص الشعري وتجديداتها.
إن السؤال الأهم، فيما لو تصفحنا تاريخ الحداثات المتوالية في الشعر العربي، هل نجد علاماتها ماثلة في قصائد اختيرت بلا قصدية مسبقة؟ وهل تصبح هذه القصائد رموزًا لحداثة متحولة؟
القصيدة الأنموذج
وفي ضوء هذا نجد أن قصيدة «حارس الفنار» لمحمود البريكان، هي القصيدة الأنموذج لحداثة متحولة سبق لها أن امتلكت سمات وخصائص استحوذت على قصيدة التفعيلة إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
إن أهم عنصر في هذه القصيدة هو «الزمن» الذي يهيمن على بيئتها في استهلالها وخاتمتها، بما يمكن أن نطلق عليه «العنصر الدائري» (الروندو) الذي يصاغ المبنى في ضوئه.
يبدأ السؤال في استهلال القصيدة بـ:
«متى» و«الانتظار» و«أنا في انتظار» وفي «آخر الساعات قبل توقف الزمن الأخير» و«في أعمق الساعات صمتًا».
يبدو الزمن هنا مستحوذًا على استهلال النص الشعري، بما يوازي ويقابل في خاتمة القصيدة:
«الوقت أدرك» 3 مرات، و«أنا في انتظار اللحظة العظمى»، و«الساعة السوداء سوف تشل»، و«أنا في انتظار» قلق الساعة المتأرجحة. هناك يبدو الاستهلال متحركًا أو يكاد في بُعد زمني طويل.
وهنا تبدو الخاتمة ساكنة، مطبقة في اختفاء زمني قصير.
هذا التقابل قاد النص الشعري إلى اعتباره نصًّا تأمليًّا ضمن مكان افتراضي مفتوح على عوالم لا حياة فيها، على الرغم من رحابة فضائها «البحر، الأفق البعيد»، والتي يصرح بها البريكان منذ الاستهلال الأول:
«أوقدت القناديل الصغار
ببقية الزيت المضيء
فهل يطول الانتظار؟»
نلاحظ هنا أن صغر القناديل يوازي قلة الزيت الذي سيضيء أمام طول الزمن الآتي، المعبّر عنه بأداة الاستفهام «هل»، بما يعني أن البريكان يستخدم «إنكار العارف» بلاغيًا، كي يدلل إرصاديًّا على أن الزمن سيتوقف، مادامت القناديل صغيرة، وهي بالضرورة لا تحتوي على زيت سيمتد نفاده مع الزمن الطويل الآتي.
القناديل الصغار = بقية الزيت المضيء
اللعبة السردية
هذه اللعبة السردية على عناصر ثانوية داخل مقطع واحد أدت إلى أن تشكّل العناصر الرئيسة في القصيدة، وهي مجموعة خصائص وسمات العالم الذي سيتناوله الشاعر.
تبدو العناصر الثانوية فواعل نشطة في الذهاب إلى عالم الشاعر، أو لنقل: إنها طرائق سردية متحركة للوصول إلى رؤية الشاعر، والتي تبدأ حكايتها من هذا المقطع:
«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح»
ثم يأتي «التوصيف» من:
«في آخر الساعات قبل توقف الزمن الأخير
في أعمق الساعات صمتًا».
حتى يصل الشاعر إلى مركز القصيدة عند:
«سقطت فنارات العوامل دون صوت الرياح
هي بعد سيدة الفراغ وكل متّجه مباح».
حتى أن هذا السقوط بدا متجليًّا في استذكار ما حصل للموتى:
«أتذكر الموتى
ولون عيونهم في الزمهرير
(ولعلهم كانوا جميعًا قبل ذلك أبرياء)
لم يهلكوا جوعًا ولا عطشًا وإن كانوا ظماء
ماتوا بداء الوهم».
ولعل «أبرياء»، في المقطع السابق، تقابل دلاليًا الطائر الجميل في المقطع التالي، و«الوهم» في الأول يقابل لا ينزف في الثاني:
«ليس لطائر البحر الجميل
شكل وقد
لا ينزف الدم من قتيل»
أي 1/أبرياء = الطائر الجميل
و2/ الوهم = لا ينزف
ثم يتدرج الشاعر في بناء نصه دلاليًّا، حيث نجد بعد تذكّر الموتى، يأتي تذكّر العرف الخفية، ثم تذكر الســفن الغريقة، ثم تذكر سبائك الذهب، ثم جدائل الشعر، ثم أصابع الأيدي، أي أن الشاعر يتحول من الذاكرة «التجريد» إلى تحسس الرائحة المباغتة «المحسوس»، ثم يتحول ثالثة إلى المشاهدة:
«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد».
ثم يتحول رابعة إلى التأمل:
«أتأمل الشمس التي تحمرّ كان اليوم عيد»
ثم يتحول إلى الصوت:
«ومكبرات الصوت»
وهذه التحولات الخمسة تقابلها عناصر دلالية خمسة هي:
الرؤية، الشعور، الفزع، التعجب، ثم الصراخ.
ويعود البريكان من بعد أن تكتمل حكاية حارسه المنتظر إلى الزمن ثانية:
«الوقت أدرك لســت وحدي
..............................
.............................
أنا في انتظار اللحظة العظمى»
ويتجلى التوازي هنا بين:
«التجريد، المحسوس، المشاهدة، التأمل، الصوت»
يوازيها:
«الرؤية، الشعور، الفزع، التعجب، الصراخ».
المفهوم النسقي
هذا التوازي هو العنصر الرئيس الذي بنى البريكان عليه «حارس الفنار»، أي أنه كان يراكم تقابلًا وتوازيًا دلاليًّا على شكل نسقي جديد يمكن أن يقال له «التنضيد» بمفهومه النسقي عند تودوروف، في عملية تراكم كمّي للصور الواحدة فوق الأخرى، بما يخلق نصًّا متحركًا لا يتمثل فيها المتلقي ذهنيًا صورة شعرية إلا وقد استقبل صورة أخرى مغايرة ومكملة للأولى في الآن نفسه.
من الملاحظ أن التقابل الدلالي في استهلال القصيدة يبدأ من:
أعددت مائدتي = وهيأت الكؤوس
وأعددت هي في المعنى ذاته من هيأت، لكن الفارق بينهما أن الأولى ليس فيها شروع وحركة، بينما امتلكت الثانية حركة وتحفيزًا، وامتازت الأولى بالمضي التام، في الوقت الذي دلت الثانية على الماضي المتضمن معنى الحاضر والمستقبل.
حين يذهب الشاعر بعيدًا نراه يقابل الأشياء، ليس من باب التشبيه، وإنما في أصول المشابَهة.
حين ينكسر الصباح = حين يخاف طير أن يطير
تتكرر (حين) في القسمين أولًا، وما يدل عليه الخوف في الثانية هو الانكسار في الأولى.
وما يمكن أن يعمّق هذا التقابل الدلالي هو المماثلة المغايرة المتناقضة بين:
حين ينكسر الصباح = في ظلمة الرؤيا (تناقض دلالي)
يجيء = بلا خطى (تناقض دلالي)
أي أن الشاعر قد استخدم عدة بنى متقابلة (مماثلة ومتناقضة)، ولكننا نتساءَل: ما الذي جعل الشاعر يورد الزوائد هنا، وهي: «ليس له حدود» و«دقته» و«وأغيب في بحر من الظلمات ليس له حدود» و«ويدق دقته على بابي ويدخل في خفوت»؟
ولو حذفنا تلك الزوائد لقلنا:
«وأغيب في بحر من الظلمات»... أليس هذا يكفي؟
«ويدق على بابي»... أليس هذا يكفي؟
ولنسأل: ما ضرورة مجيء تلك الزوائد؟ هل هي تجميلية، أي عناصر ثانوية، أم هي تكوينية، أي عناصر رئيسة في بنية الصورة؟
إن هذه العناصر داعمة للصورة نحو آفاق تمثيل مضاعفة، أي أن الغياب في بحر الظلمات لا يكفي إن لم يوصف بعدم تناهي الحدود، كي لا تحدها رؤية، وإن الدقّ على الباب لا يكفي إن لم يخصص بالدقة / الطرقة كي نسمع صوتها.
تبدو قصيدة «حارس الفنار» تجريدية في بنيتها السطحية، غير أن بنيتها العميقة الدلالية تشي بعناصر من الغضب والسخط والموت، والسكون:
أتبعت الدفائن في السكون = وأشم رائحة السكون الكامل الأقصى
ألّا أقطّع بالتوتر = أو أسمر بالحضور
ويحصل التقابل الدلالي هنا في:
«السكون/ الغائب»
و«السكون/ الحاضر»
و«أقطّع/الغياب = وأسمر/الحضور»
التداخل النصي
ويقلب البريكان العنصر الواقعي تمثّلًا لمجمل دلالية قصيدته إذ يقلب:
«المتهم بريء حتى تثبت إدانته» (واقعية بلا دلالة)
إلى «كل إنسان مجرم حتى يقام على براءته الدليل» (شعرية بدلالة الاحتجاج).
هذا القلب، بمفهوم «سولير» في التداخل النصي، يذكّرنا بالقلب السردي الذي كان كروزو المتحضر معلمًا لجمعة المتوحش، بينما في يمابيس يصبح جمعة الإنسان البريء معلمًا لكروزو الشرير الذي أفقدته الحضارة إنسانيته، وهو ما يطلق عليه سولير القلب والتحويل.
هذا التقابل الدلالي هو محاولة كشف عالم الشاعر البريكان، وهو أيضًا كشف لما يدور في عالم القصيدة، حيث الشرور والتوحش والإنسانية المضاعة التي هيمنت على القصيدة في انتظار «حارس الفنار» اللامُجدي للخلاص من المجهول الذي لن يأتي، بينما بدأ الزمن ينفد بنفاد الزيت المتبقي في القناديل الصغيرة، ولهذا لا بدّ أن يصل رقاص الساعة القلق إلى السكون في «تأرجحه يسارًا ويمينًا»، وكأن الدلالة تشير إلى أن البريكان لن يصل بقصيدته إلى نهاية مقنعة، وإلى قرار أكيد، إذ لا يعرف أولًا متى يقف رقاص الساعة، ولا يعرف أين سيقف رقاص الساعة يمينًا أم يسارًا.
تلك هي الحيرة التجريدية في قصيدة «حارس الفنار» التي حاول الشاعر أن يبثها في تقابلات دلالية متناقضة، جعلته يصور عالمنا الكوني المهشم بالانسحاق .
وفي ضوء ذلك تنقسم هذه العناصر إلى رئيسة وثانوية، فأما الأولى فهي مساند البناء الأساس التي من الصعب تحريكها، وإن حصل ذلك، فإن المتلقي يشـــعر بفراغات واضحة في النص الشعري، وأما ما هي ثانوية فإنها المنطقة الحرة التي تسمح للشاعر أن يتلاعب بها، بالحذف والإضافة.
تتعاضد هذه العناصر لتشكل بنية كاملة، هي القصيدة بصورتها الكلية. وهنا نتساءل: كيف يتم ترتيب هذه العناصر؟ بمعنى آخر: أين تكمن الجمالية؟ وهل يكسب ترتيب العناصر القصيدة شكلها الحيوي، المختلف عن المألوف والسائد؟
ذلك ما نجده في القصائد الشهيرة المتداولة لسانيًّا.
يتمظهر في البنية الدالة المبنى عبر المتن، وذلك كله يجري وفق أنماط تشي بما يراد أن يكون مدلولًا، التأخير والتقديم، الفراغات، تأجيل الفواعل أو الأفعال، المضمر اللفظي، القطع المفاجئ، ذلك لا يبنى في القصيدة الحديثة اعتباطيًا.
قلت إن العناصر في تشكّلها المتنوع تخلق بنى متنوعة، وربما حين يتم التلاعب بعنصر واحد فحسب، يؤدي إلى خلق نموذج جديد من بنية مغايرة، هذه المغايرة هي بؤرة ما يطلق عليه الحداثة في النص الشعري وتجديداتها.
إن السؤال الأهم، فيما لو تصفحنا تاريخ الحداثات المتوالية في الشعر العربي، هل نجد علاماتها ماثلة في قصائد اختيرت بلا قصدية مسبقة؟ وهل تصبح هذه القصائد رموزًا لحداثة متحولة؟
القصيدة الأنموذج
وفي ضوء هذا نجد أن قصيدة «حارس الفنار» لمحمود البريكان، هي القصيدة الأنموذج لحداثة متحولة سبق لها أن امتلكت سمات وخصائص استحوذت على قصيدة التفعيلة إبان ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
إن أهم عنصر في هذه القصيدة هو «الزمن» الذي يهيمن على بيئتها في استهلالها وخاتمتها، بما يمكن أن نطلق عليه «العنصر الدائري» (الروندو) الذي يصاغ المبنى في ضوئه.
يبدأ السؤال في استهلال القصيدة بـ:
«متى» و«الانتظار» و«أنا في انتظار» وفي «آخر الساعات قبل توقف الزمن الأخير» و«في أعمق الساعات صمتًا».
يبدو الزمن هنا مستحوذًا على استهلال النص الشعري، بما يوازي ويقابل في خاتمة القصيدة:
«الوقت أدرك» 3 مرات، و«أنا في انتظار اللحظة العظمى»، و«الساعة السوداء سوف تشل»، و«أنا في انتظار» قلق الساعة المتأرجحة. هناك يبدو الاستهلال متحركًا أو يكاد في بُعد زمني طويل.
وهنا تبدو الخاتمة ساكنة، مطبقة في اختفاء زمني قصير.
هذا التقابل قاد النص الشعري إلى اعتباره نصًّا تأمليًّا ضمن مكان افتراضي مفتوح على عوالم لا حياة فيها، على الرغم من رحابة فضائها «البحر، الأفق البعيد»، والتي يصرح بها البريكان منذ الاستهلال الأول:
«أوقدت القناديل الصغار
ببقية الزيت المضيء
فهل يطول الانتظار؟»
نلاحظ هنا أن صغر القناديل يوازي قلة الزيت الذي سيضيء أمام طول الزمن الآتي، المعبّر عنه بأداة الاستفهام «هل»، بما يعني أن البريكان يستخدم «إنكار العارف» بلاغيًا، كي يدلل إرصاديًّا على أن الزمن سيتوقف، مادامت القناديل صغيرة، وهي بالضرورة لا تحتوي على زيت سيمتد نفاده مع الزمن الطويل الآتي.
القناديل الصغار = بقية الزيت المضيء
اللعبة السردية
هذه اللعبة السردية على عناصر ثانوية داخل مقطع واحد أدت إلى أن تشكّل العناصر الرئيسة في القصيدة، وهي مجموعة خصائص وسمات العالم الذي سيتناوله الشاعر.
تبدو العناصر الثانوية فواعل نشطة في الذهاب إلى عالم الشاعر، أو لنقل: إنها طرائق سردية متحركة للوصول إلى رؤية الشاعر، والتي تبدأ حكايتها من هذا المقطع:
«أنا في انتظار سفينة الأشباح تحدوها الرياح»
ثم يأتي «التوصيف» من:
«في آخر الساعات قبل توقف الزمن الأخير
في أعمق الساعات صمتًا».
حتى يصل الشاعر إلى مركز القصيدة عند:
«سقطت فنارات العوامل دون صوت الرياح
هي بعد سيدة الفراغ وكل متّجه مباح».
حتى أن هذا السقوط بدا متجليًّا في استذكار ما حصل للموتى:
«أتذكر الموتى
ولون عيونهم في الزمهرير
(ولعلهم كانوا جميعًا قبل ذلك أبرياء)
لم يهلكوا جوعًا ولا عطشًا وإن كانوا ظماء
ماتوا بداء الوهم».
ولعل «أبرياء»، في المقطع السابق، تقابل دلاليًا الطائر الجميل في المقطع التالي، و«الوهم» في الأول يقابل لا ينزف في الثاني:
«ليس لطائر البحر الجميل
شكل وقد
لا ينزف الدم من قتيل»
أي 1/أبرياء = الطائر الجميل
و2/ الوهم = لا ينزف
ثم يتدرج الشاعر في بناء نصه دلاليًّا، حيث نجد بعد تذكّر الموتى، يأتي تذكّر العرف الخفية، ثم تذكر الســفن الغريقة، ثم تذكر سبائك الذهب، ثم جدائل الشعر، ثم أصابع الأيدي، أي أن الشاعر يتحول من الذاكرة «التجريد» إلى تحسس الرائحة المباغتة «المحسوس»، ثم يتحول ثالثة إلى المشاهدة:
«شاهدت ما يكفي وكنت الشاهد الحي الوحيد».
ثم يتحول رابعة إلى التأمل:
«أتأمل الشمس التي تحمرّ كان اليوم عيد»
ثم يتحول إلى الصوت:
«ومكبرات الصوت»
وهذه التحولات الخمسة تقابلها عناصر دلالية خمسة هي:
الرؤية، الشعور، الفزع، التعجب، ثم الصراخ.
ويعود البريكان من بعد أن تكتمل حكاية حارسه المنتظر إلى الزمن ثانية:
«الوقت أدرك لســت وحدي
..............................
.............................
أنا في انتظار اللحظة العظمى»
ويتجلى التوازي هنا بين:
«التجريد، المحسوس، المشاهدة، التأمل، الصوت»
يوازيها:
«الرؤية، الشعور، الفزع، التعجب، الصراخ».
المفهوم النسقي
هذا التوازي هو العنصر الرئيس الذي بنى البريكان عليه «حارس الفنار»، أي أنه كان يراكم تقابلًا وتوازيًا دلاليًّا على شكل نسقي جديد يمكن أن يقال له «التنضيد» بمفهومه النسقي عند تودوروف، في عملية تراكم كمّي للصور الواحدة فوق الأخرى، بما يخلق نصًّا متحركًا لا يتمثل فيها المتلقي ذهنيًا صورة شعرية إلا وقد استقبل صورة أخرى مغايرة ومكملة للأولى في الآن نفسه.
من الملاحظ أن التقابل الدلالي في استهلال القصيدة يبدأ من:
أعددت مائدتي = وهيأت الكؤوس
وأعددت هي في المعنى ذاته من هيأت، لكن الفارق بينهما أن الأولى ليس فيها شروع وحركة، بينما امتلكت الثانية حركة وتحفيزًا، وامتازت الأولى بالمضي التام، في الوقت الذي دلت الثانية على الماضي المتضمن معنى الحاضر والمستقبل.
حين يذهب الشاعر بعيدًا نراه يقابل الأشياء، ليس من باب التشبيه، وإنما في أصول المشابَهة.
حين ينكسر الصباح = حين يخاف طير أن يطير
تتكرر (حين) في القسمين أولًا، وما يدل عليه الخوف في الثانية هو الانكسار في الأولى.
وما يمكن أن يعمّق هذا التقابل الدلالي هو المماثلة المغايرة المتناقضة بين:
حين ينكسر الصباح = في ظلمة الرؤيا (تناقض دلالي)
يجيء = بلا خطى (تناقض دلالي)
أي أن الشاعر قد استخدم عدة بنى متقابلة (مماثلة ومتناقضة)، ولكننا نتساءَل: ما الذي جعل الشاعر يورد الزوائد هنا، وهي: «ليس له حدود» و«دقته» و«وأغيب في بحر من الظلمات ليس له حدود» و«ويدق دقته على بابي ويدخل في خفوت»؟
ولو حذفنا تلك الزوائد لقلنا:
«وأغيب في بحر من الظلمات»... أليس هذا يكفي؟
«ويدق على بابي»... أليس هذا يكفي؟
ولنسأل: ما ضرورة مجيء تلك الزوائد؟ هل هي تجميلية، أي عناصر ثانوية، أم هي تكوينية، أي عناصر رئيسة في بنية الصورة؟
إن هذه العناصر داعمة للصورة نحو آفاق تمثيل مضاعفة، أي أن الغياب في بحر الظلمات لا يكفي إن لم يوصف بعدم تناهي الحدود، كي لا تحدها رؤية، وإن الدقّ على الباب لا يكفي إن لم يخصص بالدقة / الطرقة كي نسمع صوتها.
تبدو قصيدة «حارس الفنار» تجريدية في بنيتها السطحية، غير أن بنيتها العميقة الدلالية تشي بعناصر من الغضب والسخط والموت، والسكون:
أتبعت الدفائن في السكون = وأشم رائحة السكون الكامل الأقصى
ألّا أقطّع بالتوتر = أو أسمر بالحضور
ويحصل التقابل الدلالي هنا في:
«السكون/ الغائب»
و«السكون/ الحاضر»
و«أقطّع/الغياب = وأسمر/الحضور»
التداخل النصي
ويقلب البريكان العنصر الواقعي تمثّلًا لمجمل دلالية قصيدته إذ يقلب:
«المتهم بريء حتى تثبت إدانته» (واقعية بلا دلالة)
إلى «كل إنسان مجرم حتى يقام على براءته الدليل» (شعرية بدلالة الاحتجاج).
هذا القلب، بمفهوم «سولير» في التداخل النصي، يذكّرنا بالقلب السردي الذي كان كروزو المتحضر معلمًا لجمعة المتوحش، بينما في يمابيس يصبح جمعة الإنسان البريء معلمًا لكروزو الشرير الذي أفقدته الحضارة إنسانيته، وهو ما يطلق عليه سولير القلب والتحويل.
هذا التقابل الدلالي هو محاولة كشف عالم الشاعر البريكان، وهو أيضًا كشف لما يدور في عالم القصيدة، حيث الشرور والتوحش والإنسانية المضاعة التي هيمنت على القصيدة في انتظار «حارس الفنار» اللامُجدي للخلاص من المجهول الذي لن يأتي، بينما بدأ الزمن ينفد بنفاد الزيت المتبقي في القناديل الصغيرة، ولهذا لا بدّ أن يصل رقاص الساعة القلق إلى السكون في «تأرجحه يسارًا ويمينًا»، وكأن الدلالة تشير إلى أن البريكان لن يصل بقصيدته إلى نهاية مقنعة، وإلى قرار أكيد، إذ لا يعرف أولًا متى يقف رقاص الساعة، ولا يعرف أين سيقف رقاص الساعة يمينًا أم يسارًا.
تلك هي الحيرة التجريدية في قصيدة «حارس الفنار» التي حاول الشاعر أن يبثها في تقابلات دلالية متناقضة، جعلته يصور عالمنا الكوني المهشم بالانسحاق .