أبي عازف ناي، لا لشيء إلا لأنني أريده هكذا، ولا عجب فهذه قصتي وأنا المؤلف!. في الصباح خرج، وأنا في ذيله، دون تأخير، فهو يخرج بدري جدا، وهذا هو يومي الأول معه، بعدما ألححت عليه كثيرا، وتحسبا من أن يتحجج بضرورة بقائي مع أمي، أخدمها وأشوف طلباتها، أخرجتها من القصة، حتى يضطر أن لا يتركني وحدي في البيت الفارغ طبعا، هكذا أخذني معه قائلا:
- يا لّا بينا... يابطل.
ضحكت وصفقت وانطلقت مصفرا بالناي الصغير وراءه، كأننا طابور هو القائد فيه، لكنه لا يعزف في الشوارع كما قد يظن أحد، مُلمًلما النقود من الأفراح أو على المقاهي، أي يتسول بالفن، ويمرمطني أنا ابنه الصغير البريء بين الزبائن البخلاء الجشعين، أجمع منهم قطع النقود الفقيرة القليلة، لا، هو لا يعزف أبدا في الشوارع. لذا كففت عن الصفير.
مضى خارجا من منطقة البيوت والشوارع، تجاه البحر المحيط، فأنا أعيش في مدينة ساحلية، بيوتها واطئة وشوارعها واسعة، ويغمرها البحر بجلاله وهواؤه، وهو عريض جدا عرض السماء، التي تعلّق فوقه سحبا ملونة بالذهب، وترصع أمواجه الطيور كأنها الألماس المنثور، فرحت جدا، وانطلقت ألّعب في الرمل المبلول بجواره حتى يبدأ هو في العزف...
ظل جالسا بهدوء كالتمثال يتأمل البحر فوق صخرة بعيدة متطرفة مهجورة لا يذهب إليها أحد أبدا، ومضي الوقت فنسيت نفسي في اللعب أخلط الرمل المبلول بالقواقع في أشكال عديدة كتمثال أو زجاجة أو أشياءً اخري منها عصفور راح يزقزق متجاوبا مع عصافير بطني التي راحت تصوصو وتنهش بطني، حتى شعرت بأنني سأموت من الجوع...
وكان أبي مازال جالسا صامتا، منتظرا اللحن، ولما اقتربت منه متألما، تذكرت أنه حذرني في الطريق أن لا اقترب منه، وهو جالس، مهما حصل، حتى لو انهار العالم كله فوق رأسي، لأنه ينتظر اللحن، فشعرت بالرهبة، وخيّل لي أن هذا اللحن أهم مافي الكون، وأنه يشبه كائن عظيم على موعد مع أبي، وأن العزف على الناى ليس مجرد الصفير به وخلاص...
ظل أبي هكذا طوال النهار، في هدوء تام، بينما أنا نمت دون أن أدري تحت الصخرة من كثرة التعب، والبكاء بصمت، والندم أنني خرجت معه، والحزن على أمي التي ألغيت وجودها من القصة، ثم بدأت أصحو على صوت الناي، وهو يُعزف...
شيء ساحر رهيب أنساني جوعي وكل ألمي، ورأيت الطيور الفضية والألماس تحوّم فوق أبي، وتهبط إليه وتتجول حوله.. لم أفكر لحظة واحدة في الإمساك بالناي الصغير والعزف معه، كانت الطيور بارعة في الرقص فوق الهواء، والماء، وهو مندمج تماما مع اللحن الناعم الشجي، الذي كان يتصاعد لامسا أطراف أجنحة الطيور اللاعبة الراقصة المحومة في الجو كله، بل مالئة الأفق كله، نسيت جوعي تماما،
ثم رأيت أبي يرتفع في جلوسه قليلا قليلا من فوق الحجر الصلب، كأن شبكة مضيئة اُلقيت عليه، من كائن ما يصطاده، لم أصدق عيني، كانت الطيور ترصع ثقوب شبكة الضوء تلك، وأبي يصعد إلى الجو، ويرتفع وهو مندمجٌ، ولا يعرف أنه أصِطيدَ...
استغربت من أنه خفيف جدا جدا حتى ترفعه تلك الشبكة اللطيفة جدا، ثم حدث الأمر الأكبر، إذ تحوّل إلى طائر كبير وحلق معهم إلى السماء...
ورغم أنني لم انس تحذيره لي، انفجرت بالصراخ عليه، لكنه اختفي مع الطيور، وجن الليل، وعمت النجوم السماء...
عدت وحدي مذهولا مجنونا حزينا جدا، لا أعرف هل سيعود، أم أن اللحن اصطاده، ولن يرجعه لي أبدا، رحت أبكي، وأنا اقترب من البيت الفارغ، فكّرت بأنه فارغ فعلا، لا يوجد فيه أحد، فلا أم لي تنقذني... لذا رأيت أن أتراجع عن قراري السابق، بإخراج أمي من القصة، فالعاقل هو من يتراجع عن قرار أخذه في لحظة نزق... لذا لما عدت إلى البيت ووجدتها، ارتميت في حضنها، وبكيت بقهر لفقد أبي، وفرحة بوعدتها... وأخبرتها وأنا أعانقها واقبّلها بجنون، بسر أبي، أنه تحوّل إلى لحن، وطار في السماء...
تبسّمت وقالت بغموض:
- لقد صار لنا طائر في السماء إذن...
نمت في حجرها بعدما اطعمتني، فحلمت بأنني اقتفي أثر أبي، وفوقي نجمة لامعة جدا في سماء الليل، كانت تنظر لي بمرح، كأنها عين أبي، وترسل شعاعا في طريقي، راح يتشكل متخذا صورة أبي، رحت اتبعه وهو يعزف بنعومة وجمال، وجدت في فمي نايي الصغير، فَرِحتُ به وانطلقت أعزف عليه وراءه... ورويدا رويدا أحسست بشيء يلقى علينا، وأن الطيور الفضية والألماس تحوطنا، وانني ارتفع عن الأرض مع أبي، وأحلّق في السماء الليلية المنجمة الفاتنة... لكني سمعت صوت أمي يناديني، فشهقت، وفتحت عيني كانت تنظر لي باسمة، وأنا مازلت في حجرها الدافئ قلت:
- سمعتُ صوتك يناديني.
- إذن ستبقي معي يا طائري الصغير في العش.
حضنتني وراحت تبكي بصمت وأنا معها...
فُتح باب البيت، ودخل برقة الضوء، وهو يحمل في يده السماء كلها داخل بلورة مشعة بوهج بالغ اللطف... رحت أهز كتفي أمي وهي منحنية عليّ كما تنحني السماء على الأرض بحب ورقة، أهزهما بقوة وفرحة:
- أمي، أمي عاد، عاد أبي البطل...
فتحت عينيها وأقامت ظهرها ونظرت إليه باسمة. ركع على ركبتيه أمامها كفارس حقيقي قائلا بغبطة:
- وما قيمة السماء دونك ياسيدة الأرض.
تعانقا بقوة، وأنا بينهما، إنظر إلى البلورة السحرية بذهول وفرح خارق، كان الكون كله يدور فيها بسرور، كأنه لحن ملون، يتشكل بكل أشكال الحياة الحرة جدا...
لكن أليس غريبا وهو المشغول باصطياد السماء، عرف أنني ارجعت أمي إلى البيت؟!.
لا، ليس غريبا طبعا، فهو يعرف أن وراءه رجلا، وليس طفلا، مجرد طفل أبدا...
Sofian Ben Ammar Aoun
- يا لّا بينا... يابطل.
ضحكت وصفقت وانطلقت مصفرا بالناي الصغير وراءه، كأننا طابور هو القائد فيه، لكنه لا يعزف في الشوارع كما قد يظن أحد، مُلمًلما النقود من الأفراح أو على المقاهي، أي يتسول بالفن، ويمرمطني أنا ابنه الصغير البريء بين الزبائن البخلاء الجشعين، أجمع منهم قطع النقود الفقيرة القليلة، لا، هو لا يعزف أبدا في الشوارع. لذا كففت عن الصفير.
مضى خارجا من منطقة البيوت والشوارع، تجاه البحر المحيط، فأنا أعيش في مدينة ساحلية، بيوتها واطئة وشوارعها واسعة، ويغمرها البحر بجلاله وهواؤه، وهو عريض جدا عرض السماء، التي تعلّق فوقه سحبا ملونة بالذهب، وترصع أمواجه الطيور كأنها الألماس المنثور، فرحت جدا، وانطلقت ألّعب في الرمل المبلول بجواره حتى يبدأ هو في العزف...
ظل جالسا بهدوء كالتمثال يتأمل البحر فوق صخرة بعيدة متطرفة مهجورة لا يذهب إليها أحد أبدا، ومضي الوقت فنسيت نفسي في اللعب أخلط الرمل المبلول بالقواقع في أشكال عديدة كتمثال أو زجاجة أو أشياءً اخري منها عصفور راح يزقزق متجاوبا مع عصافير بطني التي راحت تصوصو وتنهش بطني، حتى شعرت بأنني سأموت من الجوع...
وكان أبي مازال جالسا صامتا، منتظرا اللحن، ولما اقتربت منه متألما، تذكرت أنه حذرني في الطريق أن لا اقترب منه، وهو جالس، مهما حصل، حتى لو انهار العالم كله فوق رأسي، لأنه ينتظر اللحن، فشعرت بالرهبة، وخيّل لي أن هذا اللحن أهم مافي الكون، وأنه يشبه كائن عظيم على موعد مع أبي، وأن العزف على الناى ليس مجرد الصفير به وخلاص...
ظل أبي هكذا طوال النهار، في هدوء تام، بينما أنا نمت دون أن أدري تحت الصخرة من كثرة التعب، والبكاء بصمت، والندم أنني خرجت معه، والحزن على أمي التي ألغيت وجودها من القصة، ثم بدأت أصحو على صوت الناي، وهو يُعزف...
شيء ساحر رهيب أنساني جوعي وكل ألمي، ورأيت الطيور الفضية والألماس تحوّم فوق أبي، وتهبط إليه وتتجول حوله.. لم أفكر لحظة واحدة في الإمساك بالناي الصغير والعزف معه، كانت الطيور بارعة في الرقص فوق الهواء، والماء، وهو مندمج تماما مع اللحن الناعم الشجي، الذي كان يتصاعد لامسا أطراف أجنحة الطيور اللاعبة الراقصة المحومة في الجو كله، بل مالئة الأفق كله، نسيت جوعي تماما،
ثم رأيت أبي يرتفع في جلوسه قليلا قليلا من فوق الحجر الصلب، كأن شبكة مضيئة اُلقيت عليه، من كائن ما يصطاده، لم أصدق عيني، كانت الطيور ترصع ثقوب شبكة الضوء تلك، وأبي يصعد إلى الجو، ويرتفع وهو مندمجٌ، ولا يعرف أنه أصِطيدَ...
استغربت من أنه خفيف جدا جدا حتى ترفعه تلك الشبكة اللطيفة جدا، ثم حدث الأمر الأكبر، إذ تحوّل إلى طائر كبير وحلق معهم إلى السماء...
ورغم أنني لم انس تحذيره لي، انفجرت بالصراخ عليه، لكنه اختفي مع الطيور، وجن الليل، وعمت النجوم السماء...
عدت وحدي مذهولا مجنونا حزينا جدا، لا أعرف هل سيعود، أم أن اللحن اصطاده، ولن يرجعه لي أبدا، رحت أبكي، وأنا اقترب من البيت الفارغ، فكّرت بأنه فارغ فعلا، لا يوجد فيه أحد، فلا أم لي تنقذني... لذا رأيت أن أتراجع عن قراري السابق، بإخراج أمي من القصة، فالعاقل هو من يتراجع عن قرار أخذه في لحظة نزق... لذا لما عدت إلى البيت ووجدتها، ارتميت في حضنها، وبكيت بقهر لفقد أبي، وفرحة بوعدتها... وأخبرتها وأنا أعانقها واقبّلها بجنون، بسر أبي، أنه تحوّل إلى لحن، وطار في السماء...
تبسّمت وقالت بغموض:
- لقد صار لنا طائر في السماء إذن...
نمت في حجرها بعدما اطعمتني، فحلمت بأنني اقتفي أثر أبي، وفوقي نجمة لامعة جدا في سماء الليل، كانت تنظر لي بمرح، كأنها عين أبي، وترسل شعاعا في طريقي، راح يتشكل متخذا صورة أبي، رحت اتبعه وهو يعزف بنعومة وجمال، وجدت في فمي نايي الصغير، فَرِحتُ به وانطلقت أعزف عليه وراءه... ورويدا رويدا أحسست بشيء يلقى علينا، وأن الطيور الفضية والألماس تحوطنا، وانني ارتفع عن الأرض مع أبي، وأحلّق في السماء الليلية المنجمة الفاتنة... لكني سمعت صوت أمي يناديني، فشهقت، وفتحت عيني كانت تنظر لي باسمة، وأنا مازلت في حجرها الدافئ قلت:
- سمعتُ صوتك يناديني.
- إذن ستبقي معي يا طائري الصغير في العش.
حضنتني وراحت تبكي بصمت وأنا معها...
فُتح باب البيت، ودخل برقة الضوء، وهو يحمل في يده السماء كلها داخل بلورة مشعة بوهج بالغ اللطف... رحت أهز كتفي أمي وهي منحنية عليّ كما تنحني السماء على الأرض بحب ورقة، أهزهما بقوة وفرحة:
- أمي، أمي عاد، عاد أبي البطل...
فتحت عينيها وأقامت ظهرها ونظرت إليه باسمة. ركع على ركبتيه أمامها كفارس حقيقي قائلا بغبطة:
- وما قيمة السماء دونك ياسيدة الأرض.
تعانقا بقوة، وأنا بينهما، إنظر إلى البلورة السحرية بذهول وفرح خارق، كان الكون كله يدور فيها بسرور، كأنه لحن ملون، يتشكل بكل أشكال الحياة الحرة جدا...
لكن أليس غريبا وهو المشغول باصطياد السماء، عرف أنني ارجعت أمي إلى البيت؟!.
لا، ليس غريبا طبعا، فهو يعرف أن وراءه رجلا، وليس طفلا، مجرد طفل أبدا...
Sofian Ben Ammar Aoun