ناجح المعموري - محمود البريكان.. اجمل ما في العالم ، مشهده العابر

هو كرس تجربته الشعرية حول الانطولوجيا وربما تبدو هذه الخاصية التي لها انعكاس ظاهر جداً ، متأتية من تنوعات قراءاته وعلاقته بالموسيقى ،

التي تقود الكائن الحساس نحو انشغالات ليست عامة ، بل هي خاصة جداً والولع الانطولوجي فيه رواسب التجارب عالمية . وطفر البريكان من الاهتمامات التي شاعت وتلبست ابناء جيله وتبدَى هذا الموقف الثقافي والمعرفي متلبساً كل تجربته وتشرب البريكان به، لذا اتضح ذلك عن سلوكه اليومي وليس تجربته الشعرية فقط . هو الذي قال :

اجمل ما في العالم

مشهده العابر

هكذا تعامل البريكان مع الحياة المغلقة بتفاصيل الانطولوجيا وغارقة وسط سوادات الحياة وغربة الكائن ، فيها حاملاً قلقه صليباً ، معلناً عنه ، متمسك به ، لأنه وريث المقتول بصليبه .

هذا مقطع شعري حساس جداً، كاف لتقديم كشوف ثقافية وانطولوجية ، تضع الشاعر في مغايرة للسائد في العام من التجارب العراقية والعربية قليلاً. وما عبر البريكان في هذا المقطع حساس وفيه قسوة ضاغطة، تضع الذات وجهاً لوجه مع المجهول من المصائر، التي لا يشك البريكان ما بها ستختار نهاية للانا، وتضع جداً لهمومه وشحنات القلق والعدمية التي اضاءت قصيدته «حارس الفنار» وقد اضاءها القاص والروائي يعرب السعيدي بالتماعات نقدية ذكية بوقت مبكر ولابد من التذكير بأن البريكان كتب عن مشهد الغياب والذهاب والفراغ والضياع كلها عبر عنها الفنار الذاهب الى اين؟ وعلى بقاء الفنار ماثلاً في البحر لزمن ليس قصير، لكنه يختصر الذهاب الى اين؟ الناظر لا يدري الى اي مكان هو يتحرك. وهذا ما اختصر المقطع الشعري «اجمل ما في العالم / مشهده العابر « والفنار صورة مثيرة بشعريتها. ما ذهب اليه البعض ضد موقف البريكان الانطولوجي بسبب سياسي كان حاضراً ومهيمناً، بينما قرأ الشاعر فوزي كريم تجربة البريكان بذكاء ملتمع ودقة، من شاغل البريكان الشعري، الذي بدا غريباً عن شاغل شعراء المرحلة، هو شاغل المعترك الداخلي والذي تبدو الوجودية ظلاً من ظلاله. لكن هذا لا يعني بأن الاحساس بالعدمية معدوم، لأنه يواجه مصيراً ليس فردياً، وانما هو مصير بشريته.

أضاف الشاعر فوزي كريم: أن الاعتقاد بعدمية البريكان ستضطرنا الى ايجاد مخرج تأويلي من قراءة قصيدة اخرى للبريكان تحت عنوان «احتفاء بالأشياء الزائلة» يبدو فيها الشاعر غاية في احتضان الكائن الانساني، والاحتفاء بمجده ومجد الارض التي يقيم عليها:

ارفع أيد

تمتد الى دفء النار معاً

وعيون اربع

تتأمل طفلاً في مهدً

مائدة

من زاد الفقراء

وحديث هادئ

الليل فيلم السهرة

انسام الفجر ترف رفيف جناح الفراشة

العشب اللين بعد الغيث

يبدو منتعشاً ونظيفاً

يتضح البريكان في هذا المقطع من نصه الشعري «احتفاء بالأشياء ، الزائلة» شعرية منفتحة على الحياة المعدمة، الفقيرة، لكنها سعيدة، لأنها ارتضت ما جعل من الحياة مسحة تستحق العيش .

ذهب فوزي كريم الى ان هذا الوضوح بقصيدة البريكان لا يلغي العدمية كموقف ثقافي ومعرفي، لان ذلك يمثل نتاجاً طبيعياً للصوت المرهق بالتساؤل الذي القاه في قصائد البريكان الاخرى. ما من تعارض الا اذا اخذنا معنى «العدمية» مأخذاً فلسفياً غير شعري. وهذا الامر يعيدني قليلاً الى اليوت ومعادلة الموضوعي «يقول في واحدة من» مقالاته المختارة «ان الشاعر الذي يفكر هو الشاعر الذي يملك ان يعبر عن المعادل العاطفي للفكرة لا غير: لكنه ليس بالضرورة معنياً بالفكرة ذاتها.

رسم الموقف الانساني المتسامي لنا اجمل النصوص الشعرية التي لا يمكن لأكثر التجارب المعنية بالواقعي من الدنو اليها... لكن هذا الموقف الفني لا يعني تأكيد قطعية مع الاحساس العدمي لدى الشاعر .

المناجاة العاطفية المعبرة دون وسيط عن فكرة والتي وقعنا عليها واضحة كمرآة مغسولة بماء في القصيدة السابقة ، نراها في بضعة قصائد ، منها «فقدان الذاكرة» حيث سيادة التوسل بالميتافيزيقيا وكأنه منكسر، ضعيف، خائف من مداهمة اضطر للإشارة لها، تعبيراً عن موقفه الانطولوجي وذاكرته الخازنة لما ينفرد به من مشاعر ومواقف جعلته شاعراً منفرداً بتجربته وصمته وتكتمه وكأن حياة الشاعر الحقيقي لا تختلف عن منجزاته الابداعية وسمات تجربته الفنية.

فلنتأمل هذا التضرع، مقارنة بالقلب الجسور الذي رأيناه في «حارس الفنار»

الهي ، اذا كان هذا عقابك

دعني اجتز عذاب الثواني سريعاً

اذا كان هذا اختبارك

هبني الشجاعة ان أتأمل وجهي الغريب اعني، لكي اتنفس ثانية في سمائي لكي استعيد روائح ارضي اعني لأعثر يوماً على روحي الضائعة اعني، لكي اعبر الفاجعة.

توصل الشاعر فوزي كريم للتناص بين الشاعر الشهير ميووش وهذا النص للبريكان المشحون بالحزن والأسى والقلق، لأنه خائف من لحظة مداهمة المصير له، وهذا ما يثير الرعب لديه. الموت هو الحقيقة الانطولوجية الشاغلة لمحمود البريكان الذي تلاشت لديه رغبة الدنو من الانا/ والتعرف على الذات وما يمور فيها من توهان فهو الذي قال: هبني الشجاعة ان أتأمل وجهي الغريب.

الاهتمام الانساني الذي لا يقبل الجدل او يثير الشكوك في نص «احتفاء الاشياء الزائلة» قوة العلاقة والتفاني بالتعايش المشترك، وثنائية النوع التي لم يصرح بها، وتكتم عليها، هكذا هو البريكان لان الشعر لا يفصح عن اسراره ومخفياته، الاثنان هما اربع ايد، وعيون اربع، تتأمل طفلاً.

لحياتهما معنى، هو الذي لا يعطل الموقف المعرفي الذي اختاره البريكان. لذا لعب البرق دوره الرمزي والكشاف وما يؤديه الرمز ــ البرق ــ ذاته الذي فاض معنى عبر «حارس الفنار» وقدمته البروقط، لا تختلف كثيراً عن إضاءة الفنار المتسامي عالياً.

قبّةُ الليل في لحظة تتفطر

الارض بحرُ من الزرقة الساطعة

البيوت

فجأة تستحيل شواهد من مدن دارسة

البيوت

ثم تستأنف الكائنات تنفسها

وتواصل في العتمة القارسة

بنبضها

العدم غير مختف، بل معاين، صورته بطاقتها الحسية ملفته للانتباه فالكائنات تعاود تنفسها، بعد دمار علامات مهمة للمدن وبيوتها، تعني تدمير كامل لكن الامل الطفيف يلقح الحياة بفسحة من الحياة التي يستحق البقاء من اجلها. والبرق في هذا النص هو الامل والمرتجى بحصول متغيرات جوهرية.

المجهول يطرق المغلق ويثير نوعاً من الرعب، وتضيق تصورات الانا الملاحق بلحظة غامضة ، لكنها معلومة غير معروفة زمنيتها.

يعاين الكائن ذاته بلحظة تستدعيه وهو بقلق وريبة، لان الامتحانات دائمة الحضور في الحياة لان الحياة خالية من المصاعب، والامتحانات، لن تكون حياة. لذا فان حيرة البريكان ليست مؤقته والتفاؤل لم يكن مستمراً. هو شاعر ارتضى ان يتوزع بين هموم وآمال، لكن الاختبار ملاحق له، لا يعرفه بأي طريقة يحضر ويأتيه وتتحقق نهاية المجهول، المعروف .

الكائن / الفرد، غريب، مطرود، يرى ويتجاهل ويطفر من بين اكوام هي انهيارات، يجلس بها حاضرة بشكل بسيط، لان الشاعر منحها صفة التنفس. وللأسف فان اجمل ما في العالم مشهده العابر/ ومباهجه الصغرى/ طوبى لك/ ان كنت بسيط القلب/ فستفهم مجد الارض القلب / سحر الاشياء المألوفة/ ايقاع الدأب اليومي/ وجمال اواصر لا تبقى/ وسعادة ما هو زائل. نص فياض بضغوط وارتباك، كلها تفضي الى حياة لن تكون هي الحلم، فالفنار مفقود والبرق مؤقت السر يحتفظ بتكتماته، لأنه مجبول عنها.

ما قاله فوزي كريم رسم به توصيفاً عميقاً وبليغاً للبريكان الذي تعامل مع الانسان وشرط حياته ومصيره محوراً مركزياً في كل تجارب البريكان الشعرية. وهو بهذا المحور يقف على مبعدة من التيار الشعري العراقي الرائد جملة، باستثناء السياب، الانسان، لا لأفكار التي يولدها الانسان بفعل معتركه مع التاريخي، هو الذي يعني البريكان الشاعر، بالدرجة الاولى. حتى مشاهد الحيوان والشيء «السفينة/ النسر، الجواد القديم/ المدينة، الصخرة. لا انما تتأنسن داخل خبرة القصيدة.

بالإضافة لكل هذا فأن البريكان شاعر منشغل بالتاريخ ولكن فقط، لكي يحسن الانفلات منه.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...