محمود البريكان - قصيدة البدوي الذي لم ير وجهه أحد

لعلك يوماً سمعت عن البدوي العجيب
الذي كتب الله أن لا يرى وجهه أحد
وجهه الأول المستدير البرئ
الذي غضّنته المهالك وافترسته الحروب
وخطت عليه المآسي علاماتها.
نمت طبقات الزمان
على جلده.. فهو لا يتذكر صورته
صورة البدء
مستغرباً في مرايا المياه ملامحه الغامضة
أنا هو ذاك
أنا البدوي الغريب يجوب البوادي
ويطوي العصور ويعبر جيلا فجيلاً
إلى آخر الأزمنة
أنا البدوي الذي لفظته الصحارى
الذي رفضته القصور
الذي أنكرته الشموس
الذي انطفأت جذوات النجوم
على محجريه
أنا البدوي المحمل بالأوبئة
بذكرى الجنان التي اندثرت
والبراري التي دفنتها الرياح
بصوت الينابيع في الأودية
ولون البروق على صخرة اللانهاية
أنا البدوي الذي نسخته التجارب
واختمرت صهوات الجياد إرادته
في الرحيل الطويل.
حفظت أغاني الزوابع عبر الأفق
وكنت امرأ القيس في التيه،
والمتنبي على الطرق النائية
وفي عزلة الروح كنت المعري رهين السجون الثلاثة،
وكنت دليل القوافل عبر المفاوز
وكنت الذي يوقد النار للطارقين
وكنت أنا الضيف والفارس المتوحد يأتي المضارب
محتجباً بلثام الغموض
وكنت أنا الزائر الهادئ المنزوي في المجالس
سمعت كلام النبي
وآمنت.. لكن رأيت الدماء التي انفجرت
وحروب السلالات
والقوة العارية تمارس لعبتها وتُغيّر ألوان راياتها.
أنا الشاهد الأبدي
على الموت، تسقط ذاكرتي في الظلام.
أقمت على صخرة الروح مملكتي
وفتحت حدود المقادير يوماً
فمن أين دبّ البوار أليّ؟
وفي أي مرحلة في الطريق
بدأت ضلالي؟
تلاشيت بين المقاصير
اعصرتني المخادع
واستعبدت روحي الطيبات
إلى أن تفتت لحمي
نسيت صهيل جوادي
ولم يكن السيف رهن يدي عندما اقتحم الآخرون
مداخل حصني الأخير
دخلت عصوراً من الخوف
بايعت في حضرة السيف والنطع
خضت حروب سواي
وما عدت أذكر مغزى حروبي.
رأيت كلاب الملوك
تطاردني في المنام
رأيت الرجال
وهم يخدمون كلاب السلاطين.. أو يُضحِكون
الطواشية المتخمين
وقوفاً وراء الموائد.
وكالببغاء التي هرمت
كنت أملك هذا اللسان ولا أتذكر شيئاً
تخاطبني الريح
أفتح عيني،
هل كان ذلك حلماً بعمق الزمان؟
وهل أحلم الآن؟
ها أنا في عالم يتفجر حولي بايقاعه المتوحش
طاحونة بقوى الظلمات تدور بأسرع مما أفكر
عقول وراء المكاتب تبدع هندسة الموت
للمدن اللاهية.
صواريخ منصوبة باتجاه النجوم
جيوش تخوض حروباً خفية
أيقهر هذا الدوار؟ سأجمع أجزاء روحي
وأبحث ثانية عن مكاني وأسمي ومسقط رأسي
وما ترك الدهر لي من سلالة أهلي
عسى أن يتم التعرف يوماً.
أحس وراء صلابة جلدي
وراء قناعي القديم
وراء برود عظامي
أحس اختلاجة روح خفي
بصيص براءة
وبقيا من القوة الغاربة
ونازعة تشبه البعث.
هذا الرميم
متى يتحرك؟
هذه العروق
متى تتدفق بالدم؟
هذي اليد الذابلة
متى تتحرر من موتها
متى يا الهي؟!
متى؟؟
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...