عبد الفتّاح القرقني - مدرسة غيزن الخالدة

ماض بدون ذكريات لا معنى له و لا تجذّر له فهو سيكون منبتّا ، لقيطا ليس له قرار . على أيّة حال هذه ومضات لبعض الذّكريات الّتي تزيّن حاضري و تنمّقه و تبعث فيه روحا خلاّقة ترفرف فيه طليقة فيكون النّجاح و التّألّق و الإبداع على أرض خضراء حنون تتلحّف بسماء الأمــــــــل و النّـور و الحريّة و الكرامة
كلّما اختليت بنفسي داخل غرفتي القبليّة في سكون الليل فكّرت في أيّامي الجميلة الضّائعــة و في أيّامي البشعة الّتي كفّنتها الدّموع و الأحزان .ها أنا أنظر في لجج الظّلام فأرمق صورا واضحة تتحرّك حولي كنسيم الصّباح و تتعاقب حول قلبي كأوراد الجبال . ما تلك الصّور إلاّ أطياف أنيقة ، مزدانة كقوس قزح تمرّ أمامي جذلى ، راقصة ، ثمّ تختفي في غيابات هوّة سحيقة ، دامسة . و على نقيض تلك الرّسوم الشّفافة ، المستحبّة أبصر رسوما ضبابيّة ، ذميمة ، متقلّبة كأمواج البحر الهادرة هي أسوء ما في ذاكرتي مازالت تؤسّرنــــــــــــي و تلاحقني ثمّ تستقرّ في رمس مهجور في لون اللّيل إذا عسعس .
* يا أيّتها المدرسة الحبيبة إلى قلبي أنت جمال أزليّ انصبغ في خاطري انصباغ الألوان الزّيتيّة على لوحة الموناليزا للرّسّام العالمي ليوناردو دا فينشي . أنت منارة شامخة ضممت إلى صدرك الدّافئ أطفالا و أطفالا منذ انبعاثك في 13 فيفري سنة 1939 على يد المرحوم الحاج شعبان أرواي فتسلّحوا بنور العلم و مكارم الأخلاق . أهدي إليك في فخر و اعتزاز تحيّاتي الزّكيّة و رياحين قلبي و أسمى عبارات التّقدير و الإجلال .
* شاءت الأقدار أن أكون فيك تلميذا في السّنة الأولى ابتدائي بائسا ، مرقّع الثّوب محفظتي كالمخلاة خاطتها لي أمّي من قماش أزرق ، متين ثمّ ها أنا معلّــم أعترف بجميلك عليّ مكبرا مجهودات من درّسوني و بذلوا ما في وسعهم في سبيل نجاحي . بين جدرانك الكلسيّة تذوّقت الذّكريات حلوها و مرّها فهي تارة أعذب من الماء الزّلال و طورا في طعم العلقم لا تحتمل لأنّها تلقي بثقلها على عاتقي كالجبال الرّواسي . تلاميذ أوفياء و زملاء طيّبون مازالت بسماتـــهم و نوادرهم تشعّ في نفسي غبطة عظيمة وأملا نيّرا و استقرارا مريحا.
* هذا قسم السّنة الخامســـــة شاهد علـــى جدّي و مثابرتـــي فأنا أنشّط الدّروس داخلـــه في حيويّة دائبــــة وفق منهجيّة حديثة واقفا دون جلوس على الكرســيّ فكنـــت تارة أسجّل القواعـــــــد بالطّباشيـــــر الملـــــــوّن على السّبّورة الخضراء و طورا أمرّ بين المقاعد مسرورا لمراقبة التّمارين المنجزة أو الرّسوم الهندسيّة أو الخطوط حتّى تكون حسنة ، بديعة...
* و تلك السّاحة الفسيحة نستهويني بحديقتها الجميلة و بترابها المسكيّ و بأشجارها الباسقة . نحن الأطفال تطأ أقدامنا كلّ شبر منها فنحن نذرعها دون أن يدركنا الفتور جريا و عـــــــــدوا و وثبا. لعبة الغمّيضة هي أفضل ألعابنا فعندما نمارسها نستمتع و نحدث جلبـــة و نكركر بضحكاتنا الرّنّانة و نعيش أحرارا في عالمنا الطّفوليّ المتميّز ، المحفوف بالمحبّـة و المغامرة .
* لمّا صرت معلّما كانت السّاحة بالنّسبـــــــــــة لي فضاء للرّاحــــة و الاستجمام بعـد دروس مضنيـــة ففيها ألاقى زملائي و زميلاتي فنكوّن حلقة و ننبري في الحديـــــث عن مشاغلنا دون أن تغيب عنّا لا فكاهــــــــــة و لا نـــــادرة و لا قهقهات صاخبة تترجم حبورنا و انشراحنا . في فصل الرّبيع أمتّع نظري بجمال الحديقة مصغيا إلى أهازيج أطيارها الرّخيمة ، الطّروب . أمّا عند اشتداد القيظ في شهر جوان أتفيّأ ظلال أشجارها الباسقة أين يكون الهواء لطيفا ، رخوا فأخلد للرّاحة بضعة دقائق فأنا لا أتحمّل لا شدّة الحرّ و لا العرق.
* ها هو المدير السّيّد لطفي بوجهه الباسم الضّحوك وفي كسوته الأنيقة حريص على احترام الوقت يحملق في ساعته اليدويّة من خلال زجاج نظّارته و يضغط على زرّ الجرس فيدوّي رنينه الحادّ في الأفق إيذانا بالجــدّ و الاجتهاد في الدّراسة . و ها هي إلاّ دقائق معدودة حتّى يصطفّ التّلاميذ أمام أقسامهم في صفوف مستقيمة ، متوازيّة لتحيّة العلم المفدّى على أنغام النّشيد الوطنيّ . و الويل لمن يتخلّف عن تحيّة العلم فهو سيحدج بنظرات ارتياب و عتاب هي أشدّ أثرا من الكلام العتاب .
* ها هو معلّم فظّ ، غليظ القلب يوصد باب القسم في ثورة وجنون و الشّرر يتطاير من عينيه و يمسك عصا غليظة سمّاها مسعودة ثمّ ينهال ضربا مبرّحا على قدمي صبيّ شقيّ في التّاسعة من عمره لأنّه اختلس اللّوز الأخضر من أحد البساتين . مسكين هذا الفتى فهو من شدّة الألم أطلق عقيرته للصّياح مستغيثا ، طالبا العفو:
تائب يا سيّدي ، تائب يا سيّدي و الله قد أغراني اللّوز المتدلّي في الأفنان كعناقيد العنب و بسبب الجوع الشّديد الّذي ينهش أمعائي حصل ما حصل . لن أعيد صنيعي فكن واثقا من قولي
* الزّعيم هو تلميذ مشاكس ، مديد القامّة ، ضخم الجثّة ، عريض المنكبين ، بليد ، ركيك لا يسلم أحد من أذاه ، يدرس في السنة الخامسة . بينما كانت معلّمته تنسخ نصّا على السّبّورة تحيّن عبثا غفلتها لصفع صديقه صفعة أرته النجوم ظهرا فانفرط عقد القسم و خيّمت على القسم ضروب من الصّخب و الضّحك و الاستهتار. استغربت المعلّمة من عجرفة الزّعيــــم و انتهاكه الصّارخ لحرمة القسم فكانت فاغرة الفم لا تنبس ببنت شفة ثمّ أطلقت العنان للسانها الطّويل توبّخه و تؤدّبه عساه يعود إلى رشده :
ويحك ... ويحك ... كيف تجرؤ على تعنيف صديقك تعنيفا شديدا و تترك له أثر يدك الغليظة على خدّه الغضّ الناعم . ينطبق عليك المثل القائل لا يصلح العقار ما أفسده الدّهر .الانحراف سيّئ العواقب فلا تجنح إليه و الاستقامة حسنة العواقب فبواسطتها ستنجح في دراستك و تفلح في حياتك فيرضى عنك الله و أسرتك و رفاقك. ربّي يهديك و يصلح رأيك و يبعد عنك مكائد الشّيطان .
ما إن أصغى الزّعيم إلى نصائح معلّمته حتّى دسّ رأسه بين يديه كالنّعامة من شدّة الخجل ثمّ غمغم بكلام متهدّج يكبته البــكاء الشّديد :
- أع أعتتذر لك يا سيّدتي و لر ر رفيقي الّذي ظلمته و اع اعتديت عليه بال الباطل و بدون مو مو موجب . نصائحك الثّمينة وقرت في قلبي وق وقرا شديدا و لذلك سأع سأعدك أمام أص أصدقائي و الشّاهد عليّ هو الله بأن أبتعد عن السّلوكات السيّئة و أكون مستقيما ، مهذّبا أحترم الجميع و بالخصوص أقراني الّذين يتضايقون من مشا مشاكساتي
* ها هم الأطفال في رحلة شيّقة لمدينة سبيطلة يتنقّلون بين آثارها الرّومانيّة الخلاّبة في خفّة و رشاقة تحدوهم لذّة الاكتشاف و نشوة الفضول في سماء من الطّلاقة و الحريّة دون حياد عن النّظام و الاحترام .
تحتوي مدينة سفيطلة حسب اسمها الرّومانيّ على عدد هامّ من المعالم أهمّها الفوروم بقوسه المهيب و ساحته المعبّدة و الكابتول المبنيّ من الحجارة الصفراء كلون الشّمس و هو مكوّن من ثلاث معابد متلاص»قة ، معدّة لآلهة رومانيّة. و يمكن الاطّلاع كذلك على المعالم الأخرى مثل الحمّامات و المسرح و قوس النّصر و مساكن الأثرياء المطرّزة بلوحات الفسيفساء الرّائعة . ها هم الرّحّالة الصّغار يركضون من معلم إلى آخر رفقة معلّميهم فحينا كانوا يسألون الدّليل عن اسم المعلم و تاريخه فيظفرون بالجواب الشّافي و حينا آخر كانوا يلتقطون صورا تذكاريّة و حينا آخر كانوا يترنّمون بأغانيهم البريئة الطّاهرة . و عند الوصول إلى المسرح ، خطر ببالهم تمثيل مسرحيّة الأسد و الأرنب من كتاب كليلة و دمنة فأجادوا أدوارهم فحظوا بشكري و علا هتاف الحاضرين و التهبت أكفّهم بالتّصفيق الحادّ إعجابا و تشجيعا
*لم أنس أيضا السّيّد محمّد شبوح ذاك المنظّف المشرق البسمات ، الهاشّ الباشّ الّذي لا يتوانى في الحفاظ على نظافة المدرسة و العناية بحديقتها . في الصّباح الباكر يفتح الأقسام و مكتب المدير لتهوئته ثمّ يشرع في تنظيف السّاحة متسّلحا بالصّبر و الإخلاص في العمل فهي فسيحة و هو مصرّ على أن لا يترك فيها لا قشّة و لا ورقة و لا أعقاب سجائر . في المساء على السّاعة 5 و 30 دق ، يكنس الأقســـام و يرتّب المقاعد و لا يعود إلى بيته إلاّ و هو واثق من أنّه كان أمينا ، متقنا شغله قد أوفاه حقّه من الوقت و العناية .
بدون مدح و إطراء يا سي محمّد أنت محلّ ثقتي و ثقة الجميع ، محلّ احترامي و احترام الجميع فكلّ تلميذ بالمدرسة يناديك بعبارة ســـــــــي محمّد و يلتجئ إليك كلّما دعت الحاجة إلى ذلك فأنت بمثابة أبيه تحسّ بما يحسّ ، مؤتمن على أسراره تساعده و لا ترفض له طلبا إلاّ إذا كان مستحيل التّنفيذ .
كم أنت شهم يا سيّدي محمّد ! كم أنت مثاليّ ! كم أنت طيّب ! خدماتك و بصماتك في المدرسة جليّة ، واضحة لا غبار عليها يعرفها القاصي و الدّاني ، الكبير و الصّغير . واصل عملك على نفس الوتيرة و بنفس الحماس فالله سيجازيك خيرا و أهالي غيزن سيباركون سعيك ، المثمـــــــر ، الدّؤوب و الأطفال سيكونون مثلك نظفاء ، محافظين على سلامة البيئة و المحيط ، مستحضرين في أذهانهم الصّقيلة الحكمة المأثورة : « النّظافة من الإيمان و الوسخ من الشّيطان »
أتذكّر مليّا أنّني في يوم من الأيّام صحت في وجهك في انفعال شديد حاد بي عن صوابي لأنّي وجدت قسم الإعلاميّة مقفلا . شكرا على لطفك فأنت واجهت عبوسي ببسمات عفوية و جواب هادئ ، رصين :
- يا سي عبد الفتّاح ، لا تغضـــب و انتظرني وقتا قصيرا فأنا سأفتحها حالاّ بعد الإتيان بمفتاحها من مكتـــب المديـر. و رحمة والديّ كنت أظنّ أنّك لست في حاجة إليها و أنت تعرف قيمـــــة الحواسيب و الأثاث الموجود فيها
لضيق الوقت ، اكتفيت بالقول على عجل و أنا مطرق الرّأس ، أفرك يديّ ندما و أسفا على الخطإ الّذي اقترفته في شأنه بسبب تسرّعي :
- اعف عنّي متقبّلا اعتذاري عن طيب خاطر فالمسامح كريم
- لا تشغل بالك وانصرف إلى عملك فأنت في مقام أخي و الله هو الأعلم بذلك .




عبد الفتّاح القرقني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...