اشتهر غاستون باشلار عند جمهرة القراء في فرنسا بأشد كتبه اثارة : " تحليل النار النفسي " . ولعل أفضل مقترب الي طريقته في النقد الادبي هو أن نتأمل في هذا العنوان ، الذي يربط ما بين طريقة مشهورة في العلاج العقلي وبين ظاهرة طبيعية هي ايضا أكثر الرموز كلها غني واستعمالا . فاذا استطعنا أن نلم بما يعنيه باشيلار بتحليل النار نفسيا ، تيسر لنا ادراك طبيعة ومدي ما قدمه للنقد الأدبي والفلسفة كليهما من خلال حدهما المشترك : سيكولوجية الخيال .
لقد أدراك باشلار منذ البداية ، بصفته فيلسوف علْم ، ان التناول الموضوعي لمعطيات تجربة عامة كالعناصر التقليدية الاربعة : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، ليس بالامر التلقائي قطعا ، بل انه لا ينشأ الا نتيجة لعملية طويلة من التعلم . حتي العقول العلمية جداً تحتاج باستمرار الي ما يذكرها بأن الموضوعية ليست فطرية ، بل لابد من اكتسابها بجهد . اصحاب هذه العقول يعرفون أن الفِكر ال "قبل علمية" كامنة ، دوما وأبدا ، تحت كل فكرة ، وأن " كل معرفة علمية يجب اعادة بنائها في كل لحظة " (كما يقول باشلار في كتابه "تكوين الروح العلمية" ،ط 1960) . وتطور المعرفة الموضوعية من حالتها ال "قبل علمية" (القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) ، الي تكاملها في "الروح العلمية الجديدة"، التي يواكب ظهورها اعادة تشكيل الافكار التي كانت تعد في الماضي ثابتة لا تتغير ، وذلك بالنظرية النسبية _ هذا التطور يوازيه ، في رأي باشيلار ، ما يحدث في ذهن المفكر الفرد ، هناك في البدء مرحلة "مجسدة" فيها "يتمتع الذهن بصور الظواهر ويرتكز علي أدب فلسفي يمجد الطبيعة ، ممتدحا في آن معا وحدة العالم ، وغزارة تنويعه . تلي هذه مرحلة "مجسدة_مجردة" تتميز بالميل الي التجريد ، والرغبة في تبسيط الواقع بالتعبير عنه بأشكال هندسية تبقي ، رغم التناقض الظاهري ، وثيقة الارتباط بالتجارب المجسدة . وفي النهاية ، تأتي المرحلة " التجريدية " حقا ، وهذه تكمل انفصال المفكر عن التجربة المباشرة الي حد ان الحقيقة العلمية قد تتعارض بشدة مع الظواهر العيانية . أما بالنسبة الي المفكر الفرد ، فان الروح العلمية يبقي اكتسابها والاحتفاظ بها أصعب مما كانت في تاريخ العلم . ذلك لانه "حتي في الذهن النيّر ، ثمة مناطق مظلمة ، كهوف تبقي فيها الظلال حية . حتي في الانسان الجديد تبقي آثار الانسان القديم ."
ان أصالة فكر باشيلار تتأتي من أنه اختار طوعا أن يركز دراساته علي المراحل البدائية القبل علمية للمعرفة ، بدلا من حالة الذهن العلمية الكاملة التي هي حالة المعرفة الموضوعية . المعرفة التي تم تحليلها نفسيا . أما الذي يتحدي اهتمام باشيلار أكثر من ذلك بكثير فهو تلك المعرفة التي ، بعدم بلوغها حد الموضوعية ، هي بحاجة الي التحليل . " لان التحليل النفسي الكلاسيكي ، المعني أوليا بسيكولوجية العلاقات الانسانية ، أي بردود الفعل النفسية لدي الفرد ، التي تقررها عائلته وبيئته الاجتماعية ، لم يوجه انتباهه نحو المعرفة الموضوعية .. واجبنا هو القاء الضوء علي مقاومة العوائق المعرفية في تفصيل البحث الموضوعي نفسه .." ويبدو أن باشلار في دراسته لهذه "العوائق" المعرفية عثر علي حقيقة كونها خلاقة لا يقر لها قرار . فالوعي القبل علمي ، والافكار اللاعلمية التي تهدد دوما نقاوة الافكار العلمية ، أضف اليها ابتكار الشاعر الصور ونشاط احلام اليقظة في كل انسان - هذه كلها تنبع من قوة الخيال ، أي من حس ّ عميق الجذرو بانخراط شخصي في ظواهر الطبيعة . فلنأخذ مثل النار في كتاب "تحليل النار النفسي" . يقول باشيلار بصدد طبيعة النار " ان الموقف الموضوعي لم يتحقق قط . فالاغراء البدائي هنا طاغ ، حتي انه ما زال يشوه آراه ارصن العقول ، راجعا بهم دائما الي المنطقة الشعرية حيث يحل الحلم محل التفكير ، حيث القصائد تُخفي النظريات . هذه هي المشكلة السيكولوجية التي تثيرها اعتقاداتنا بصدد النار . والمشكلة هذه تبدو سيكولوجية بصراحة تجعلني لا أتردد في الحديث عن تحليل النار النفسي ".
غير أن استقصاء الاغراءات السيكولوجية كلها التي تكذب الاستقراءات (كما يروق لباشيلار أن يلعب علي الالفاظ) لا يقتصر علي موضوع النار ، ولو أن باشيلار يؤكد علي ان النار ظاهرة متميزة ، وأكثر الظواهر جميعاً قابلية للتفسير المباشر لدي الناس كلهم . انها التغيير . انها الحياة . وبلغة القيم ، يمكن لها أن تحمل معاني الخير ومعاني الشر ، علي حد سواء . ولكن رموزا أساسية أخري ، كالتراب ، والهواء ، والماء يمكن جعلها مواضيع لدراسات مماثلة : وهذه بالضبط هي المهمة التي قام بها باشيلار ، متتبعا كلا من هذه الرموز ، واسقاطاته الدينامية في الأدب ، من خلال كتابات اقطار عديدة وقرون عديدة ، مفتشا دائما عن المعاني اللامبحوثة الكامنة وراء كل رمز .
يتبع ،،،
ــــــــــ
* (المرجع) الاسطورة والرمز ، مباديء نقدية وتطبيقات ، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ، طبعة منشورات وزارة الاعلام ،الجمهورية العراقية ،دار الحرية للطباعة بغداد ، 1973.
لقد أدراك باشلار منذ البداية ، بصفته فيلسوف علْم ، ان التناول الموضوعي لمعطيات تجربة عامة كالعناصر التقليدية الاربعة : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، ليس بالامر التلقائي قطعا ، بل انه لا ينشأ الا نتيجة لعملية طويلة من التعلم . حتي العقول العلمية جداً تحتاج باستمرار الي ما يذكرها بأن الموضوعية ليست فطرية ، بل لابد من اكتسابها بجهد . اصحاب هذه العقول يعرفون أن الفِكر ال "قبل علمية" كامنة ، دوما وأبدا ، تحت كل فكرة ، وأن " كل معرفة علمية يجب اعادة بنائها في كل لحظة " (كما يقول باشلار في كتابه "تكوين الروح العلمية" ،ط 1960) . وتطور المعرفة الموضوعية من حالتها ال "قبل علمية" (القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) ، الي تكاملها في "الروح العلمية الجديدة"، التي يواكب ظهورها اعادة تشكيل الافكار التي كانت تعد في الماضي ثابتة لا تتغير ، وذلك بالنظرية النسبية _ هذا التطور يوازيه ، في رأي باشيلار ، ما يحدث في ذهن المفكر الفرد ، هناك في البدء مرحلة "مجسدة" فيها "يتمتع الذهن بصور الظواهر ويرتكز علي أدب فلسفي يمجد الطبيعة ، ممتدحا في آن معا وحدة العالم ، وغزارة تنويعه . تلي هذه مرحلة "مجسدة_مجردة" تتميز بالميل الي التجريد ، والرغبة في تبسيط الواقع بالتعبير عنه بأشكال هندسية تبقي ، رغم التناقض الظاهري ، وثيقة الارتباط بالتجارب المجسدة . وفي النهاية ، تأتي المرحلة " التجريدية " حقا ، وهذه تكمل انفصال المفكر عن التجربة المباشرة الي حد ان الحقيقة العلمية قد تتعارض بشدة مع الظواهر العيانية . أما بالنسبة الي المفكر الفرد ، فان الروح العلمية يبقي اكتسابها والاحتفاظ بها أصعب مما كانت في تاريخ العلم . ذلك لانه "حتي في الذهن النيّر ، ثمة مناطق مظلمة ، كهوف تبقي فيها الظلال حية . حتي في الانسان الجديد تبقي آثار الانسان القديم ."
ان أصالة فكر باشيلار تتأتي من أنه اختار طوعا أن يركز دراساته علي المراحل البدائية القبل علمية للمعرفة ، بدلا من حالة الذهن العلمية الكاملة التي هي حالة المعرفة الموضوعية . المعرفة التي تم تحليلها نفسيا . أما الذي يتحدي اهتمام باشيلار أكثر من ذلك بكثير فهو تلك المعرفة التي ، بعدم بلوغها حد الموضوعية ، هي بحاجة الي التحليل . " لان التحليل النفسي الكلاسيكي ، المعني أوليا بسيكولوجية العلاقات الانسانية ، أي بردود الفعل النفسية لدي الفرد ، التي تقررها عائلته وبيئته الاجتماعية ، لم يوجه انتباهه نحو المعرفة الموضوعية .. واجبنا هو القاء الضوء علي مقاومة العوائق المعرفية في تفصيل البحث الموضوعي نفسه .." ويبدو أن باشلار في دراسته لهذه "العوائق" المعرفية عثر علي حقيقة كونها خلاقة لا يقر لها قرار . فالوعي القبل علمي ، والافكار اللاعلمية التي تهدد دوما نقاوة الافكار العلمية ، أضف اليها ابتكار الشاعر الصور ونشاط احلام اليقظة في كل انسان - هذه كلها تنبع من قوة الخيال ، أي من حس ّ عميق الجذرو بانخراط شخصي في ظواهر الطبيعة . فلنأخذ مثل النار في كتاب "تحليل النار النفسي" . يقول باشيلار بصدد طبيعة النار " ان الموقف الموضوعي لم يتحقق قط . فالاغراء البدائي هنا طاغ ، حتي انه ما زال يشوه آراه ارصن العقول ، راجعا بهم دائما الي المنطقة الشعرية حيث يحل الحلم محل التفكير ، حيث القصائد تُخفي النظريات . هذه هي المشكلة السيكولوجية التي تثيرها اعتقاداتنا بصدد النار . والمشكلة هذه تبدو سيكولوجية بصراحة تجعلني لا أتردد في الحديث عن تحليل النار النفسي ".
غير أن استقصاء الاغراءات السيكولوجية كلها التي تكذب الاستقراءات (كما يروق لباشيلار أن يلعب علي الالفاظ) لا يقتصر علي موضوع النار ، ولو أن باشيلار يؤكد علي ان النار ظاهرة متميزة ، وأكثر الظواهر جميعاً قابلية للتفسير المباشر لدي الناس كلهم . انها التغيير . انها الحياة . وبلغة القيم ، يمكن لها أن تحمل معاني الخير ومعاني الشر ، علي حد سواء . ولكن رموزا أساسية أخري ، كالتراب ، والهواء ، والماء يمكن جعلها مواضيع لدراسات مماثلة : وهذه بالضبط هي المهمة التي قام بها باشيلار ، متتبعا كلا من هذه الرموز ، واسقاطاته الدينامية في الأدب ، من خلال كتابات اقطار عديدة وقرون عديدة ، مفتشا دائما عن المعاني اللامبحوثة الكامنة وراء كل رمز .
يتبع ،،،
ــــــــــ
* (المرجع) الاسطورة والرمز ، مباديء نقدية وتطبيقات ، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا ، طبعة منشورات وزارة الاعلام ،الجمهورية العراقية ،دار الحرية للطباعة بغداد ، 1973.