خليل هنداوي - دمعة صلاح الدين.. قصة قصيرة

لم يشق الفجر من عينيه إلا قليلاً في مضارب الفرقة حين شق الفضاء صوت امرأة تنادي : اين ولدي اين ولدي ؟ كان هنا على يدي .

هب من في المعسكر قلقاً مضطرباً ، لا لانهم استيقظوا على فجأة ، فقد كانت مثل هذه اليقظة تتكرر في كل ساعة اثناء الليل و النهار ، و لكنهم قلقوا لان الذي يصيح بهم صوت امرأة من نسائهم اللواتي تعودن صحبتهم طلباً لمشاركتهم في القتال ،و تسليتهم في السلم ،وقد تعودوا على نفخ الابواق المنذرة باقتراب الخطر.

اقبلوا على هذه المرأة يسألونها : ما خطبها ؟

فقالت : فقدت ولدي الرضيع وكان نائماً الى جنبي .

فأجابها احدهم : ألهذا اثرت الجند ؟ بئس المرأة أنت هذا أهون ما تلاقين على هذه الارض ، اشكري الله لأنهم لم يخطفوك مع صغيرك إلتفتت المرأة وقد تسمر الغضب في وجهها وقالت : ويحك ماذا تقول ألهذا أخرجتمونا من ديارنا ؟ لماذا لم تقولوا لنا أن المسلمين يخطفون الاطفال؟

قال أحدهم : عودي إلى خيمتك واحسبي صغيرك ضحية من بين الضحايا
هدأت المرأة قليلاً ،و لكن عاطفتها في بركان لا يهدأ ، ولكن ولدي ، كيف أهدأ عنه ؟ إنه العالم في عيني ماذا أريد من الحياة بدونه؟

أدار المقدم ظهره لها وهو يودعها بضحكة ساخرة : يبدو أنك لاتعرفين الحرب ، الحرب هي الحرب.
فصرخت في وجهه ولماذا تكون هذه الحرب ؟ أين ولدي .
وتركوها وحدها مستسلمة للبكاء والحزن وقد ذهبت تعزيتهم لها عبثاً ,إنها تريد ولدها قبل أن تريد بيت المقدس وتود أن يبقى صغيرها على حضنها قبل أن تبقى على حضن هذه الارض التي فر منها السلام وأصبحت تنفخ بالويل وتشرق بالدماء وراحت تملأ المعسكرات بصوتها وتقف في الدروب لعلها تجد من ينبئها عن مصير ولدها وهي لاتجني إلا الخيبة

ناداها المقدم وقد شجاه صوتها ويئس من أية تعزية تعمل على تهدئتها فقال لها : نعرف بأن هناك شخصاً واحداً يرده عليك .. إرتمت الام على قدميه تمرغهما بخدها : قل لي من هو ؟ أقريب أم بعيد ؟
أجابها إنه صلاح الدين قالت : صلاح الدين أمير المسلمين ؟ إنه هو الذي اختطف ولدي ، فكيف يرده ؟ قال لها إنني أعرف خلق صلاح الدين إنه أشرف محارب رأيناه على وجه الارض ، قاس على المقاتلين ولكنه رؤوف بالنساء والاطفال قالت له :" وأين لي أن أصل إليه . أجابها : إن رجالي يستطيعون أن يتجاوزوا بك حدودنا ثم يبدأ عملك بالوصول إلى مضاربه قالت له : وهل أنت واثق أنه سيرد علي طفلي ؟ أجابها : إن كان صغيرك حياً أؤ ميتاً فإنه سيرده عليك قالت وقد غلبت عليها اللهفة : إذاً دعوني أذهب إليه سأمرغ وجهي بتراب خيمته سأبكي أمام أمه ، سأذكره بأطفاله ، سيراني أماً مفجوعة بطفلها . أجابها وقد أمر بعض جنده بمرافقتها إلى الحدود : إذهبي إليه وعودي إلينا سريعاً مشت برفقة الجند متجهة نحو الشرق وهي لاتدري مايخبىء لها القدر حتى بلغوا مكاناً لايجرؤون على تخطيه وقالوا لها : هذه هي الطريق التي سار عليها ولدك

مشت على درب لاتعرف قبل اليوم معالمه ، ولا تدرك إلى أين ينتهي بها وقد بدت هواجس الخوف تنتابها أحقاً تستطيع أن تصل إلى هذا الشجاع الرحيم ؟ أم لعلهم يقتلونها أو يأسرونها قبل أن ترى وجهه ..

ولكنها لاتبالي بأي شيء أتؤسر ؟ إنما هي أسيرة في الارض التي تضم ولدها
أتقتل ؟ وليس للحياة عندها معنى بعد مصرع ولدها .
وربما ارتجفت في الطريق وحدها وترددت في المسير فالتفتت إلى الوراء لترى أين مضارب قومها ولكنها لم تعد ترى شيئاً إلا الارض الجرداء ، وأسراباً من شجر الزيتون عالقة هنا ولاصقة هناك .. ومايدريها أن وراء كل شجرة محارباً ينتظر أن يوقع بها ..

لكن الهواء القادم من الشرق يحمل إليها صوتاً لاتسمعه إلا أذناها ،صوت بكاء رضيعها الذي فقد ثدي أمه إنها تسمع صياحه في كل مكان ،وإذا سكت صياحه تردد الصدى حولها يحثها على أن تتقدم ،وفجأة صاحت بها أصوات لاتعلم معانيها ،كأنها اختلطت بصوت رضيعها الذي يستحثها على المسير ..

من هذه المرأة الأجنبية ؟ من هذه الشقراء التي تعكر على الأسد هدوءّ في عرينه ،ماذا تريد؟ إنها تجهل اللغة ،ولاتعلم ماالذي تقوله ،ولكنها حفظت كلمة واحدة آمنت بها واعتقدت أنها جواز المرور وحده وهي ... «صلاح الدين» قالت لهم وكأنما هذه الكلمة أعطتها القوة والجرأة لمقابلة هؤلاء الفرسان السمر الذين تتلامع عيونهم تحت الخوذ البرامة كالشهب الثاقبة : أريد صلاح الدين .

أخذ ينظر بعضهم الى بعض حائرين لأن ذكر هذا الاسم وحده أعطى المرأة الأجنبية حياتها وأمنها ،ولكنهم لبثوا في دهشة بالغة من أمرها ،ماذا تريد هذه المرأة من صلاح الدين ؟ وأين سمعت به ؟ وكيف استطاعت أن تتخطى مضارب جنودها لتسلك هذا الطريق المجهول ؟ أفي الأمر مكيدة ؟

أرسولة من قومها تحمل اليه رسالة الاستسلام قبل أن يغزو بيت المقدس ،بعد أن مهد لها بمعركة حطين التي حطمت الغزاة ،أفكار وهواجس تراود مخيلاتهم ،وهم سائرون بها ،لايجرؤون على سؤالها وهي كأنما اندمجت معهم وسكنت اليهم ،دون أن يطرقها شك من أمرهم لأن مجرد ذكر اسم صلاح الدين وحده كان يعطيها التعزية والأمان وبعد مسيرة ذلك اليوم كله أشرفوا على حطين التي لاتزال نشوى بالمعركة الكبرى التي اهتزت لها جوانب ذلك السهل الكبير ،وكان القائد الكبير صلاح الدين يهم بأن يشهر سيفه مشيراً صوب بيت المقدس .. وما أخره عن سل سيفه إلا تلك المرأة التي أخذت بالنحيب والبكاء ،فاهتز لها من يسمعها وهو لايدري مابها ،فارتمت على حوافر فرسه مستغيثة مستثيرة رأفته ..
صاح بها صلاح الدين : ياهذه انهضي فالسجود لله ..ما خطبك أيتها المرأة ؟
قالت له ،وقد أعاد اليها صوته الرحيم هدوءها : ولدي ..إنه ولدي
قال لها : لاأفهم أي ولد؟ ألك ولد أسير عندنا ؟ إن كان أسيراً فهو حيّ عندنا .. إننا لانقتل الأسرى ،أجابته : لا ليس بمحارب أسير ،ولكنه طفل رضيع ،كان ينام على ذراعي فانتبهت فلم أجده ،سألت عنه فقالوا إن رجال صلاح الدين قد اختطفوه ،فقال لها : اهدئي أيتها المرأة سيعود اليك الآن .ونادى صلاح الدين بمن حوله ،وطلب اليهم أن يأتوه بالطفل حيث كان ،قبل أن يبرج المكان .

إن الأمومة شفيع لايرد،وظل صلاح الدين واقفاً وهذه الأم المسكينة ساكنة الى ظله ،ويده لاتزال على مقبض سيفه بينما راح بعض أتباعه يبحثون عن الطفل ،وماهي إلا لحظات حتى أتوا به يحملونه على أكفهم وقدموه لأمه التي أجهشت بالبكاء ،وراحت تفحص عينيها وتتلمسه بيديها ،كأنما خشيت أن تكذبها عيناها ،بينما تصدقها باللمس يداها - إنه ولدي ..وراحت تهدهده بالابتسامة التي كانت تتلامح خلال الدموع الغزيرة ،حتى إذا هدأ جأشها قال لها صلاح الدين : والآن بماذا تفتدينه ؟ قالت الأم : بنفسي بكل شيء ..فسألها : وأين أبوه ؟ أجابته : لقد قتل في معركة حطين فهز رأسه وقال لها : لن نطلب شيئاً خذيه ،ولا تربيه على بغضنا ،لسنا هنا وحوشاً مفترسة ،ولا شاربين للدماء ،إن لنا عواطفنا التي تشعر بالإنسانية والتفت الى بعض الأتباع وأو صاهم بها:انطلقوا معها لحمايتها حتى تصلوا الى حدود قومها ودافعوا عنها كما تدافعوا عن نساء صلاح الدين ,إنها أم قبل أن تكون عدوة والأمومة لا تعرف الحدود، لأنها تقتحم كل هذه الحدود التي تقيمها مطامع الإنسان ,قدم لها أحد الجنود فرسه فركبته هي وولدها وراحت تشكره ودموعها تسيل بينما استقرت نفس صلاح الدين لهذه الرحمة التي فاض بها قلبه قال:

اشكري رحمة الله التي فتحت قلوبنا وهنا هزت يده اليمنى مقبض سيفه الذي خرج من غمده مشيراً لجنده نحو الغرب ،بينما راحت يده اليسرى تمسح تلك الدمعة التي غلبته ،فلم تبق عين لمحت هذه الدمعة حتى سالت دموعها تأثراً بدمعة صلاح الدين أهذا هو القائد العظيم تثير الأم وصغيرها دمعته في هذا المأزق المتلاحم؟

مشت الأم عائدة في الطريق الذي حملها بالأمس وهي تشعر بحنان خفي يدفعها الى أن تغادر هذه الأرض ، وتتمنى أن الطريق لا ينتهي بها مادام صغيرها معها ناداها الحرس : الآن تستطيعين أن تبلغي مأمنك وحدك إن مهمتنا قد انتهت ولكن الأم وقفت ،ثم التفتت إليهم :أمجبورة على الرجوع الى قومي أجابها الحارس :ولكننا ننفذ رغبتك فقالت له :
إنني عائدة الى أرضكم لن أعود الى قومي ،إن المكان الذي ينبت الرحمة هو مكان قلبي حيث تكون الإنسانية مكرمة ،هذا هو وطني لن أعود وسأحيا الى جانبكم كنت أحسبكم قساة غلاظ الأكباد فإذا أنتم أرق منا قلوباً وهنا أدارت رأس الجواد ليعود بها خبباً نحو مضارب أعدائها

ولما استطاعت أن تقابل صلاح الدين بعد فتحه بيت المقدس ،ابتسم لها وقال :لقد عرفت أنك لابد عائدة إلينا ،والآن ماذا تريدين ؟فقالت :هل يأذن لي الأمير أن أفي نذري الذي خرجت لأجله من أرضي ؟
سألها صلاح الدين :وما هو النذر ؟لعل تعاليم ديني لا تجيزه ,فقالت :لقد نذرت أنني متى خرجت من ديار أهلي أن أعيش وأموت بجوار قبر المسيح عليه السلام ,فقال لها :إننا تركنا لكل مخلوق حرية عبادته ،اذهبي الى أي كنيسة من كنائس بيت المقدس فأنت آمنة فيها حتى يأتيك أجلك الموعود وتمر الأيام وتكر السنون ، وصلاح الدين ينتقل من ظفر الى ظفر حتى وافاه القدر وكان يوم موته يوماً مشهوراً في الأرض التي كانت تتطيب بجوار فرسه

وفي يوم من أيام الحر اللاهب كانت الطريق التي تصل بيت المقدس بالشام تشف عن شخصين يمشيان حثيثاً ،حتى يدخلا الشام ،فلا يسألان عن راحة ولا إقامة وإنما يواصلان السير حتى يطلا على قبر صلاح الدين ،فيسقط أحدهما على ترابه ،وهي امرأة عجوز محطمة لم تبق منها الأيام إلا ملامح تكاد تنطفيء والثاني فتى يلبس الزي العربي وقف الى جانب هذه العجوز جامد الملامح ،يعيد التأمل فيما وراء التراب لقد طال وقوع هذه المرأة على القبر ،ولما أراد أن يحركها فتاها لينهضها لم يجد سوى جثة هامدة ،يتدلى رأسها الأشيب من ناحية والصليب يتموج تحت عنقها الحانية وقدماها الرخوتان من ناحية ثانية

أضجعها جانباً وراحت عيناه تذرفان الدموع المتقطعة وهو يتلفت مرة الى هذا الجسد المتمدد الذي يلمسه بيده ومرة الى هذا التراب الذي يطوي ذلك القلب الكبير ولم يزد على أن قال :
حقاً ،لقد قتلت أمي دمعة صلاح الدين

ودلف عائداً الى مضارب القوم ليتم رسالته في الجهاد ... إنه ذاك الطفل الرضيع




===========



خليل الهنداوي
خليل محمد عرفات الهنداوي
- ولد في صيدا(لبنان) عام1906.
- تلقى علومه في صيدا ودمشق. عمل في التعليم في دير الزور وحلب، كما عمل مديراً للمركز الثقافي في حلب نال وسام الاستحقاق عام 1976.
- عضو جمعية البحوث والدراسات.
* مؤلفاته:
1- صفحة من حياة باريس- رواية- بيروت 1932.
2- البدائع- قصص- دير الزور 1936.
3- إرم ذات العماد- رواية- حلب 1943.
4- هاروت وماروت- مسرحيات- 1944.
5- سارق النار- مسرحيات- 1945.
6- فرانزليست- سيرة فنان- 1949.
7- الحب الأول- قصص- حلب 1950.
8- نصوص مدروسة في الأدب العربي- دراسة- 1952.
9- زهرة البركان- مسرحيات- 1960.
10- تجديد رسالة الغفران- 1965.
11- الأدب والنصوص- وزارة التربية- دمشق- 1965.
12- مع الإمام علي من خلال نهج البلاغة- 1963.
13- مونافنا لمترلنك- ترجمة- مسرحية 1966.
14- دمعة صلاح الدين- قصص- 1958.
15- تيسير الإنشاء- 1973.
16- نيتشه لهنري ليشتانبرجر- ترجمة- 1954.
17- الأغاني للأصفهاني- اختيارات- خمسة أجزاء- 1967.
18- نماذج إنشائية- 1971.
- توفي سنة 1976.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...