لقد قرأنا الكثير عن الشاعر العراقي المبدع محمود البريكان العازف عن الشهرة والنشر والمتوحد مع شعره وموسيقاه ودنياه الخاصة التي انشاها لذاته بعيدا عن دنيا الناس وهمومهم وما تعارفوا عليه من طرق العيش واللهو والمقتول غليةً وغدرا ليل الخميس الثامن والعشرين من شباط فبراير 2002 ولعل الكثيرين من الذين تناولوا حياة البريكان بل كلهم وقفوا عند ناحية محددة من حياته الادبية هي عزوفه عن النشر . ولقد عزا الكثيرون منهم هذا العزوف الى ان كان يربأ بنفسه عن ان يجعلها في خدمة الممدوح لكن هذا الامر لايكاد يقف على قدميه ازاء حقائق الحياة الخاصة للشاعر والعامة وحقائق الحركة الشعرية والثقافية في العراق فالرجل صامت ازلي ساكت لايكاد يبوح الا بقليل هو عازف عن النشر ولعله عازف عن الكتابة وكدت اقول بل هو عازف عن الكتابة مسقطاً هذه الــ (لعل) والا اين شعره الذي كبه في حياته واين هذا الذي خلفه بعد رحيله المأساوي الصامت؟ اذ قتله القاتلون وحيداً متفرداً في داره طمعا بشىء من مال ، ومن اين للبريكان المتوحد الصامت المتمرس بصمته ازاء الحياة مالاً ؟ هو عازف عن الكتابة والنشر ابتداءً ، هو صامت ايدا ولو لم يكن هكذا لما حاول السياب منذ زمن بعيد اخراجه عن صمته اذ نشر مقالة في الملحق الادبي لجريدة (الشعب) لصاحبها يحيى قاسم عام 1957 وليقف القراء ملياً امام تاريخ (1957) ذكر فيها ان (( ساحاول بذل كل جهد لاخراجه من صمه ليتبوأ المكانة اللائقة به....)) .
هو ساكت ازلي لولا بعض محاولات لكسر الطوق حول نفسه وهكذا شأنه ولم يكن ساكتا لانه لايريد مدح فلان او فلان ومرت على العراق عهود وعهود منذ ذلك التاريخ عام (1957) والرجل ساكت لايكاد يبارح سكوته واصبح السكوت هو القاعدة والكتابة هي الاسثناء وخرق القواعد اذ لم ينشر على مدى اكثر من نصف قرن من الزمان الذي يشكل عمره الابداعي في دنيا الكتابة ومحرابها غير خمس وثمانين قصيدة والمعدل يقل عن قصيدتين سنويا .
اننا مهما حاولنا ايجاد التسويغات والاعذار لعزوف الشاعر عن الكتابة والنشر من كره للشهرة وصد عن اللقاءات العامة او زهد في الذيوع او الانتشار او بعد عن اجواء الممدوحين او ...او... فلن نجد له عذرا في وأد موهبته وقتل قرحيته وروح الشعر فيه تحت سياط الصمت اللاذع وجلد ذاته بمنعها عن البوح الشعري والتغريد في افنان الشعر وايكة البواسق وما ارقة من دنيا الابداع هو الذي يصف منطقة الابداع الشعري بمنطقة الذات العميقة التي لا يستطيع الوصول الى اعماقها الا المبدعون الاصلاء .
وقديما نسب العرب الشعراء الى وادي عقر فمنه ينهلون واذا عجزوا عن تفسير ظاهرة الابداع الشعري لدى الشعراء وكلوا بكل واحد منهم جاناً يكون ملهمه ومسعفه وفاكاً لمغالق الشعر ودنياه عنده فالشعر كما يقول البريكان (( هو ابن النزوع الانساني وموضعه الاساس تجربة الوجود بكل شمولها وهي تمثل خاص لواقع التغير في الزمن وقلق المصير والتارجح بين الراهن والمنشود(1) وان شاعرا هذا شانه وهذا فهمه للشعر ماكان له ان يصمت هذا الصمت الازلي الماساوي ليجعل حياته وتراثه الشعري القليل نهبا لتفسيرات المفسرين والى حياته ونصوصه بالشكل الذي يرغبون وما كان احرى بـ ( حارس الفنار) (2) ان يكون حارساً لارثه الابداعي وتوجهاته في الحياة والادب بعيداً عن رأي الاخر وتدخلاته وتفسيراته. لقد مارس الشاعر الراحل محمود البريكان ماسوشية فاجعة معذبة ازاء ذاته طوق منطقة ابداعها الشعري منطقة ذاته العميقة بسلاسل الكبح وقمعها عن ان تكون طائرا غردا وقمحا من ان ترى حصيلة بذرات غرسه فالانسان عامة والمبدع خاصة والشاعر على وجه اخص يريد ان سرى ثمرة جهده وتعبه ان يراه مشخصا ومؤثرا في ذاكرة القراء والمتلقين والاتبقى صرخته في واد ولو اطلق البريكان صرخته لكنا وجدنا لها صدى او بعض صدى لكنه كتم صرخته وقمع ذاته ومنعها من ان نرى لذة هذا البوح وثمرة هذا الغراس فكان جنى على نفسه بأن عاش في الظل طيلة حياته الثقافية ولم يؤسس لذاته منهجا او تيارا وهو لقادر على ذلك ولم يظهر له ديوان شعري يحفظ بعض هذه القصائد القليلات التي نشرها ولو لم يتناد العديد من اصدقائه وتلاميذه ومديريه ، واهل البصرة طيبون ذوو شفافية ونبل ، لنشر ملفات تتناول حياته وشعره لعاش في الظل الظليل والفيء السميك مضيعا فرصا كثيرة فالدنيا لا تقف عند من يعزب عنها ويطوي كشحه عنها لكن هي بعض سعادات الحياة ان يهيأ للشاعر المغمور الظالم نفسه محمود البريكان بعض اصدقائه فينشر ابداعاته القليلة وهذا الناقد الحافظ للصداقة والود الاستاذ حسين عبد اللطيف عكف على اكثر من ملف عن البريكان احدهما المنشور في مجلة (الاقلام) بعد رحيله الماساوي العدد الثالث لعام 2002 وكانت مجلة الاقلام الرائعة قد نشرت عام 1993 ملفا عنه والناقد حسين عبد اللطيف شغوف باعداد ملفاته عن البصرة الجميلة وفي الذاكرة ملفة المنشور في مجلة الاقلام عام 2002 عن المبدع محمود عبد الوهاب صمته المطبق هذا دفع بالناقد حسين عبد اللطيف الى ان يلاحظ (( الخليق بالملاحظة في مسألة محمود البريكان ان السور الذي ضربه حول نفسه او متراسه امام شعره انهار بكل بساطة واصبح عرضة لكل يد او مزايدة او ادعاء كاذب او معرفة ناقصة واصبح نفسه مشجبا او اسطورة بعد السياب ذلك ما تحدثنا به مرارا وحذرناه منه على حياته لكن الاستجابة كانت ضعيفة مترردة متريثة ومؤجلة دائما مع الاقرار الضمني من قبله بقوتها وصحتها وسلامة دوافعها (3) .
لقد عانى الكثيرون من المبدعين فترات صمت وسكوت لكن هذا الصمت الى حين والى تغير الحال فلقد صمت المبدع الكبير عبد الملك نوري صمتا طويلا يوم اختلف مع القائمين على الامر مع انه كتب الكثير من القصص والكثير من النقد واذا استغرقته الوظيفة ولهو الحياة هو الشاب العازب المحب للحياة فانه غادر دنيا الكتابة في مقالة كتبتها عنوانها (ادباء هجروا الكتابة) (4) . لكن ان تصمت كل الحياة وكل عمرك الثقافي وانت من انت ابداعا واصالة وريادة فهذا هو المرض النفسي وهذه هي الماسوشية المدمرة للذات وللاخر لو تخلى شيئا عن ماهو فيه من تقوقع وصدفية لقدم لنا قصائد خوالد في الضمير الشعري العراقي وشاهدي هذا الذي قرأته من شعره وخاصة قصائد المخطوطة الي قام بدراستها نقديا ونشرها الناقد العراقي رياض عبد الواحد بكابه (( البذرة والفأس . قراءات حرة في شعر محمود البريكان قصائد ( عوالم متداخلة) انموذجا ) ، هو يكره الاسراف والترهل في القصيدة هو ينحو فيها منحى التكثيف انه يسخن قصيدته في دورق حتى اذا استحالت الى بخار متطاير في دورقه عاد الى تبريدها تبريد انبيقها والحصول على قطرات ماء صاف مركز ومنذ سنوات بعيدات ( السبعينيات) نصح استاذنا في مادة النقد الادبي في كلية الاداب الدكتور كمال نشأت نصح الشعراء منا بضرورة التكثيف الذي ألزم نفسه به ووجدته في قصائد الشعراء ادونيس والراحل رشدي العامل و سامي مهدي ، ومحمود البريكان لم يكن يطالب بالتكثيف في الشعر بل كان يريده كذلك في القصة فها هو يبدي ملاحظاته للقاص العراقي المبدع محمود عبد الوهاب يوم قرأ قصته الرائعة ( طيور بنغالية) والمعروف لدى الدارسين والقراء النابهين اللغة الدورقية المكثفة التي يكتب بها قصصه ومنها روايته ( رغوة السحاب ) الطبعة الاولى / بغداد 2001 او كتابه النقدي ثريا النص مدخل لدراسة العنوان القصصي ) الطبعة الاولى بغداد 1995 ، واذ يساله محمود عبد الوهاب رأيه في ما قرأ ؟ قال:
انك مختلف
كيف ؟
راقب لغتك ولا تأذن لها بان تكون مسرفة.
شكرته ، انا اعرف حرصه الشديد على لغته واتذكر ما قاله في حوار له (( ان كل كلمة لا يعنيها الشاعر تعني تفككاً في الكيان وان عبارة لا تستقطب شيئأ هي خيانة )) واعرف كيف كان يترصد الكلمات الفائضة ويوجه اليها ما سورة بندقيته كلما اطلت برؤوسها في بساتين نصوصه .. ياللقناص النبيل (5).
هو شاعر كبير من طراز بدر شاكر السياب ورائد من رواد قصيدته التفعيلة مثل المبدعة الكبيرة نازك الملائكة لكن ما الذي خلفه لنا محمود البريكان من ناج ٍ يقرأ يجعله مذكوراً ؟ ما الذي تركه اذا ما قيس بما تركه مجايلوه ؟ لا شك انه قليل واقل من القليل فجنى جنايتين جناية على ذاته اذ حرمها متعة الابداع ونشوة الكتابة وفرصة معرفة الاثر الذي تركه في النفوس وجنى علينا نحن محبيه وعارفي قدره ومقدرته ومنزلته في دنيا الابداع ...
انا تخليت امام الضباع
والوحش عن سهمي
لا مجد للمجد فخذ للضياع
حقيقتي واسمي
الهوامش :
- تراجع مقالة الناقد ياسين النصير ( محمود البريكان الشاعر القتيل) جريدة الصباح السبت 6/ اذار/ 2004
-اسم لاحدى قصائده المشهورات
-يراجع الملف الذي اعده حسين عبد اللطيف عن البريكان جريدة الزمان السبت 28/ فبراير/2004
-راجع جريدة العراق عددها الصادر يوم السبت 20/كانون الاول / ديسمبر /1986
-ملف جريدة الزمان المذكور انفا مقالة بقلم محمود عبد الوهاب عنوانها ( القناص ).
-من قصيدة ( في الرياح التاريخية).
**************
(2)
محمود البريكان في سطور، من اعداد : الموروث
"محمود البريكان (1931-2002) شاعر عراقي كبير، ولكنه لم يعرف في العراق كما عرف أبناء جيله من الشعراء، وظل على صعيد الوطن العربي مجهولا أو شبه مجهول، وذلك بسبب انغلاقه على محيطه المحدود وقلة ما نشره من شعره وتباعد أوقات نشره.وعادة ما يصنف النقاد البريكان بأنه من رواد الشعر الحديث في العراق، فهو من مجايلي بدر شاكر السياب (1962-1964) ونازك الملائكة (1923) وعبد الوهاب البياتي(1962-1998)، ولكنه دون هؤلاء شهرة حتى في العراق.وبالرغم من ذلك شاع اتفاق عام (غير نقدي) على أهمية هذا الشاعر وتفرده، وقيلت فيه شهادات تعبر عما يحظى به من تقدير كبير بين مجايليه.فقد قال السياب مرة: ان "محمود البريكان شاعر عظيم، ولكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر" (1)
"ولد محمود داود البريكان (أو البريجان بلهجة أهل الزبير) عام 1929 في قضاء الزبير من أسرة عريقة تمتد جذورها الى نجد والتي يطلق عليها إسم (شيوخ الأصل) في الزبير، أبوه الشيخ داود البريكان من الذين عملوا وكافحوا على فتح مدرسة البنات في الزبير وكان أن أعتدي عليه في مقهى المدينة من قبل جماعة من المتعصبين، ويذكر البريكان عن طفولته (ما رواه صديق طفولته الأديب عبد الغفور النعمة) إنه كان جالسا في ديوان والده (المضيف) والناس يتكلمون وأبوه يتكلم وحينما تكلم هو، أعجب الحاضرون بمنطقه وقال أحدهم لأبيه (إبنك من يكبر يصير شي)، ويذكر النعمة إن البريكان ومنذ صغره كان متوانيا منغلقا على نفسه ويتذكر إنه حينما كان في الصف الثالث الإبتدائي يخرج للعب في ساحة المدرسة (أثناء الفرصة) بينما يقف البريكان في باب الصف يلبس نظارته وكثيرا ما كان الطلبة يستاؤون منه و (يضوجون) لطبعه هذا. في الصف الثاني المتوسط يذكر زميل دراسته القاص محمود عبد الوهاب كيف نادى مدرس اللغة العربية وهو يحمل دفتره بغلاف أنيق من بين مجموعة دفاتر الإنشاء بإسم محمود داود البريكان.نهض من مقعده في الزاوية اليسرى من الصف، طالب معتدل القامة يتستر بمعطف خفيف، مشى نحو المدرس إزاء السبورة، ناوله المدرس الدفتر وطلب منه أن يقرأ الإنشاء، الذي كتبه وبدأ محمود يقرأ، فجأة أصبح الصف مكانا اخر، وارتعشت وجوهنا كلمات وصورة وجملة كإنها تتواثب تحت جلودنا، وفي بهو المدرسة المعتم وخارج الصف دنوت منه، فإبتسم أحدنا للآخر ثم سرنا معا صامتين كما لو كنا نسير في نفق طويل.
إمتهن البريكان التعليم الإبتدائي في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير بما يقارب السنوات الثلاث ثم سافر الى الكويت عام 1953 وعمره 23 سنة وظل فيها ما يربو على الخمس سنوات ونصف قضاها في التعليم بمدرسة قتيبة وفي عام 1959 إنتقل الى بغداد حيث أتم المرحلتين الباقيتين من دراسته للحقوق التي كان قد قطعها عام 1949 لظروف خاصة، وبعد نيله الشهادة عام 1961 بقي في بغداد حتى أواخر عام 1967 يزاول التدريس إذ إنه لم يمارس المحاماة ثم عاد بعدها الى البصرة ليستقر به المطاف مدرسا للغة العربية في معهد إعداد المعلمين. تزوج من إبنة عمه وكانت عاقرا وعاش فترة من الجفاف العاطفي، وشخصية البريكان لا يمكن أن تثير أية إمرأة لأنه رجل من عالم خاص من الشعر والموسيقى، حينها ظهرت بحياته الزوجة الثانية (الشاعرة عدالة العيداني التي كثيرا ما كانت تؤكد إنها قررت أن تتزوج البريكان وكان لها ما أرادت) حين تزوجها وعمره 55 سنة أنجبت له ولدين هما (ماجد -تولد عام 1984) و (خالد - تولد 1985) وبسبب مشاكل عائلية إنفصل عنها.
قتل البريكان الساعة العاشرة من مساء يوم الخميس المصادف 28 شباط من عام 2002 في داره الواقعة في حي الجزائر في العشار ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير بعد يومين من قتله وسكن مع السياب في المقبرة التي دفن فيها"(2)
المصادر:
(1) محمود البريكان الوعد الذي لم ينجز ـ مجلة نزوى ـ سامي مهدي
(2) محمود البريكان وطرقات الحياة والموت ـ مجلة الشبكة العراقية.
شكيب كاظم – كاتب عراقي – بغداد
هو ساكت ازلي لولا بعض محاولات لكسر الطوق حول نفسه وهكذا شأنه ولم يكن ساكتا لانه لايريد مدح فلان او فلان ومرت على العراق عهود وعهود منذ ذلك التاريخ عام (1957) والرجل ساكت لايكاد يبارح سكوته واصبح السكوت هو القاعدة والكتابة هي الاسثناء وخرق القواعد اذ لم ينشر على مدى اكثر من نصف قرن من الزمان الذي يشكل عمره الابداعي في دنيا الكتابة ومحرابها غير خمس وثمانين قصيدة والمعدل يقل عن قصيدتين سنويا .
اننا مهما حاولنا ايجاد التسويغات والاعذار لعزوف الشاعر عن الكتابة والنشر من كره للشهرة وصد عن اللقاءات العامة او زهد في الذيوع او الانتشار او بعد عن اجواء الممدوحين او ...او... فلن نجد له عذرا في وأد موهبته وقتل قرحيته وروح الشعر فيه تحت سياط الصمت اللاذع وجلد ذاته بمنعها عن البوح الشعري والتغريد في افنان الشعر وايكة البواسق وما ارقة من دنيا الابداع هو الذي يصف منطقة الابداع الشعري بمنطقة الذات العميقة التي لا يستطيع الوصول الى اعماقها الا المبدعون الاصلاء .
وقديما نسب العرب الشعراء الى وادي عقر فمنه ينهلون واذا عجزوا عن تفسير ظاهرة الابداع الشعري لدى الشعراء وكلوا بكل واحد منهم جاناً يكون ملهمه ومسعفه وفاكاً لمغالق الشعر ودنياه عنده فالشعر كما يقول البريكان (( هو ابن النزوع الانساني وموضعه الاساس تجربة الوجود بكل شمولها وهي تمثل خاص لواقع التغير في الزمن وقلق المصير والتارجح بين الراهن والمنشود(1) وان شاعرا هذا شانه وهذا فهمه للشعر ماكان له ان يصمت هذا الصمت الازلي الماساوي ليجعل حياته وتراثه الشعري القليل نهبا لتفسيرات المفسرين والى حياته ونصوصه بالشكل الذي يرغبون وما كان احرى بـ ( حارس الفنار) (2) ان يكون حارساً لارثه الابداعي وتوجهاته في الحياة والادب بعيداً عن رأي الاخر وتدخلاته وتفسيراته. لقد مارس الشاعر الراحل محمود البريكان ماسوشية فاجعة معذبة ازاء ذاته طوق منطقة ابداعها الشعري منطقة ذاته العميقة بسلاسل الكبح وقمعها عن ان تكون طائرا غردا وقمحا من ان ترى حصيلة بذرات غرسه فالانسان عامة والمبدع خاصة والشاعر على وجه اخص يريد ان سرى ثمرة جهده وتعبه ان يراه مشخصا ومؤثرا في ذاكرة القراء والمتلقين والاتبقى صرخته في واد ولو اطلق البريكان صرخته لكنا وجدنا لها صدى او بعض صدى لكنه كتم صرخته وقمع ذاته ومنعها من ان نرى لذة هذا البوح وثمرة هذا الغراس فكان جنى على نفسه بأن عاش في الظل طيلة حياته الثقافية ولم يؤسس لذاته منهجا او تيارا وهو لقادر على ذلك ولم يظهر له ديوان شعري يحفظ بعض هذه القصائد القليلات التي نشرها ولو لم يتناد العديد من اصدقائه وتلاميذه ومديريه ، واهل البصرة طيبون ذوو شفافية ونبل ، لنشر ملفات تتناول حياته وشعره لعاش في الظل الظليل والفيء السميك مضيعا فرصا كثيرة فالدنيا لا تقف عند من يعزب عنها ويطوي كشحه عنها لكن هي بعض سعادات الحياة ان يهيأ للشاعر المغمور الظالم نفسه محمود البريكان بعض اصدقائه فينشر ابداعاته القليلة وهذا الناقد الحافظ للصداقة والود الاستاذ حسين عبد اللطيف عكف على اكثر من ملف عن البريكان احدهما المنشور في مجلة (الاقلام) بعد رحيله الماساوي العدد الثالث لعام 2002 وكانت مجلة الاقلام الرائعة قد نشرت عام 1993 ملفا عنه والناقد حسين عبد اللطيف شغوف باعداد ملفاته عن البصرة الجميلة وفي الذاكرة ملفة المنشور في مجلة الاقلام عام 2002 عن المبدع محمود عبد الوهاب صمته المطبق هذا دفع بالناقد حسين عبد اللطيف الى ان يلاحظ (( الخليق بالملاحظة في مسألة محمود البريكان ان السور الذي ضربه حول نفسه او متراسه امام شعره انهار بكل بساطة واصبح عرضة لكل يد او مزايدة او ادعاء كاذب او معرفة ناقصة واصبح نفسه مشجبا او اسطورة بعد السياب ذلك ما تحدثنا به مرارا وحذرناه منه على حياته لكن الاستجابة كانت ضعيفة مترردة متريثة ومؤجلة دائما مع الاقرار الضمني من قبله بقوتها وصحتها وسلامة دوافعها (3) .
لقد عانى الكثيرون من المبدعين فترات صمت وسكوت لكن هذا الصمت الى حين والى تغير الحال فلقد صمت المبدع الكبير عبد الملك نوري صمتا طويلا يوم اختلف مع القائمين على الامر مع انه كتب الكثير من القصص والكثير من النقد واذا استغرقته الوظيفة ولهو الحياة هو الشاب العازب المحب للحياة فانه غادر دنيا الكتابة في مقالة كتبتها عنوانها (ادباء هجروا الكتابة) (4) . لكن ان تصمت كل الحياة وكل عمرك الثقافي وانت من انت ابداعا واصالة وريادة فهذا هو المرض النفسي وهذه هي الماسوشية المدمرة للذات وللاخر لو تخلى شيئا عن ماهو فيه من تقوقع وصدفية لقدم لنا قصائد خوالد في الضمير الشعري العراقي وشاهدي هذا الذي قرأته من شعره وخاصة قصائد المخطوطة الي قام بدراستها نقديا ونشرها الناقد العراقي رياض عبد الواحد بكابه (( البذرة والفأس . قراءات حرة في شعر محمود البريكان قصائد ( عوالم متداخلة) انموذجا ) ، هو يكره الاسراف والترهل في القصيدة هو ينحو فيها منحى التكثيف انه يسخن قصيدته في دورق حتى اذا استحالت الى بخار متطاير في دورقه عاد الى تبريدها تبريد انبيقها والحصول على قطرات ماء صاف مركز ومنذ سنوات بعيدات ( السبعينيات) نصح استاذنا في مادة النقد الادبي في كلية الاداب الدكتور كمال نشأت نصح الشعراء منا بضرورة التكثيف الذي ألزم نفسه به ووجدته في قصائد الشعراء ادونيس والراحل رشدي العامل و سامي مهدي ، ومحمود البريكان لم يكن يطالب بالتكثيف في الشعر بل كان يريده كذلك في القصة فها هو يبدي ملاحظاته للقاص العراقي المبدع محمود عبد الوهاب يوم قرأ قصته الرائعة ( طيور بنغالية) والمعروف لدى الدارسين والقراء النابهين اللغة الدورقية المكثفة التي يكتب بها قصصه ومنها روايته ( رغوة السحاب ) الطبعة الاولى / بغداد 2001 او كتابه النقدي ثريا النص مدخل لدراسة العنوان القصصي ) الطبعة الاولى بغداد 1995 ، واذ يساله محمود عبد الوهاب رأيه في ما قرأ ؟ قال:
انك مختلف
كيف ؟
راقب لغتك ولا تأذن لها بان تكون مسرفة.
شكرته ، انا اعرف حرصه الشديد على لغته واتذكر ما قاله في حوار له (( ان كل كلمة لا يعنيها الشاعر تعني تفككاً في الكيان وان عبارة لا تستقطب شيئأ هي خيانة )) واعرف كيف كان يترصد الكلمات الفائضة ويوجه اليها ما سورة بندقيته كلما اطلت برؤوسها في بساتين نصوصه .. ياللقناص النبيل (5).
هو شاعر كبير من طراز بدر شاكر السياب ورائد من رواد قصيدته التفعيلة مثل المبدعة الكبيرة نازك الملائكة لكن ما الذي خلفه لنا محمود البريكان من ناج ٍ يقرأ يجعله مذكوراً ؟ ما الذي تركه اذا ما قيس بما تركه مجايلوه ؟ لا شك انه قليل واقل من القليل فجنى جنايتين جناية على ذاته اذ حرمها متعة الابداع ونشوة الكتابة وفرصة معرفة الاثر الذي تركه في النفوس وجنى علينا نحن محبيه وعارفي قدره ومقدرته ومنزلته في دنيا الابداع ...
انا تخليت امام الضباع
والوحش عن سهمي
لا مجد للمجد فخذ للضياع
حقيقتي واسمي
الهوامش :
- تراجع مقالة الناقد ياسين النصير ( محمود البريكان الشاعر القتيل) جريدة الصباح السبت 6/ اذار/ 2004
-اسم لاحدى قصائده المشهورات
-يراجع الملف الذي اعده حسين عبد اللطيف عن البريكان جريدة الزمان السبت 28/ فبراير/2004
-راجع جريدة العراق عددها الصادر يوم السبت 20/كانون الاول / ديسمبر /1986
-ملف جريدة الزمان المذكور انفا مقالة بقلم محمود عبد الوهاب عنوانها ( القناص ).
-من قصيدة ( في الرياح التاريخية).
**************
(2)
محمود البريكان في سطور، من اعداد : الموروث
"محمود البريكان (1931-2002) شاعر عراقي كبير، ولكنه لم يعرف في العراق كما عرف أبناء جيله من الشعراء، وظل على صعيد الوطن العربي مجهولا أو شبه مجهول، وذلك بسبب انغلاقه على محيطه المحدود وقلة ما نشره من شعره وتباعد أوقات نشره.وعادة ما يصنف النقاد البريكان بأنه من رواد الشعر الحديث في العراق، فهو من مجايلي بدر شاكر السياب (1962-1964) ونازك الملائكة (1923) وعبد الوهاب البياتي(1962-1998)، ولكنه دون هؤلاء شهرة حتى في العراق.وبالرغم من ذلك شاع اتفاق عام (غير نقدي) على أهمية هذا الشاعر وتفرده، وقيلت فيه شهادات تعبر عما يحظى به من تقدير كبير بين مجايليه.فقد قال السياب مرة: ان "محمود البريكان شاعر عظيم، ولكنه مغمور بسبب عزوفه عن النشر" (1)
"ولد محمود داود البريكان (أو البريجان بلهجة أهل الزبير) عام 1929 في قضاء الزبير من أسرة عريقة تمتد جذورها الى نجد والتي يطلق عليها إسم (شيوخ الأصل) في الزبير، أبوه الشيخ داود البريكان من الذين عملوا وكافحوا على فتح مدرسة البنات في الزبير وكان أن أعتدي عليه في مقهى المدينة من قبل جماعة من المتعصبين، ويذكر البريكان عن طفولته (ما رواه صديق طفولته الأديب عبد الغفور النعمة) إنه كان جالسا في ديوان والده (المضيف) والناس يتكلمون وأبوه يتكلم وحينما تكلم هو، أعجب الحاضرون بمنطقه وقال أحدهم لأبيه (إبنك من يكبر يصير شي)، ويذكر النعمة إن البريكان ومنذ صغره كان متوانيا منغلقا على نفسه ويتذكر إنه حينما كان في الصف الثالث الإبتدائي يخرج للعب في ساحة المدرسة (أثناء الفرصة) بينما يقف البريكان في باب الصف يلبس نظارته وكثيرا ما كان الطلبة يستاؤون منه و (يضوجون) لطبعه هذا. في الصف الثاني المتوسط يذكر زميل دراسته القاص محمود عبد الوهاب كيف نادى مدرس اللغة العربية وهو يحمل دفتره بغلاف أنيق من بين مجموعة دفاتر الإنشاء بإسم محمود داود البريكان.نهض من مقعده في الزاوية اليسرى من الصف، طالب معتدل القامة يتستر بمعطف خفيف، مشى نحو المدرس إزاء السبورة، ناوله المدرس الدفتر وطلب منه أن يقرأ الإنشاء، الذي كتبه وبدأ محمود يقرأ، فجأة أصبح الصف مكانا اخر، وارتعشت وجوهنا كلمات وصورة وجملة كإنها تتواثب تحت جلودنا، وفي بهو المدرسة المعتم وخارج الصف دنوت منه، فإبتسم أحدنا للآخر ثم سرنا معا صامتين كما لو كنا نسير في نفق طويل.
إمتهن البريكان التعليم الإبتدائي في مدرسة النجاة الأهلية في الزبير بما يقارب السنوات الثلاث ثم سافر الى الكويت عام 1953 وعمره 23 سنة وظل فيها ما يربو على الخمس سنوات ونصف قضاها في التعليم بمدرسة قتيبة وفي عام 1959 إنتقل الى بغداد حيث أتم المرحلتين الباقيتين من دراسته للحقوق التي كان قد قطعها عام 1949 لظروف خاصة، وبعد نيله الشهادة عام 1961 بقي في بغداد حتى أواخر عام 1967 يزاول التدريس إذ إنه لم يمارس المحاماة ثم عاد بعدها الى البصرة ليستقر به المطاف مدرسا للغة العربية في معهد إعداد المعلمين. تزوج من إبنة عمه وكانت عاقرا وعاش فترة من الجفاف العاطفي، وشخصية البريكان لا يمكن أن تثير أية إمرأة لأنه رجل من عالم خاص من الشعر والموسيقى، حينها ظهرت بحياته الزوجة الثانية (الشاعرة عدالة العيداني التي كثيرا ما كانت تؤكد إنها قررت أن تتزوج البريكان وكان لها ما أرادت) حين تزوجها وعمره 55 سنة أنجبت له ولدين هما (ماجد -تولد عام 1984) و (خالد - تولد 1985) وبسبب مشاكل عائلية إنفصل عنها.
قتل البريكان الساعة العاشرة من مساء يوم الخميس المصادف 28 شباط من عام 2002 في داره الواقعة في حي الجزائر في العشار ودفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير بعد يومين من قتله وسكن مع السياب في المقبرة التي دفن فيها"(2)
المصادر:
(1) محمود البريكان الوعد الذي لم ينجز ـ مجلة نزوى ـ سامي مهدي
(2) محمود البريكان وطرقات الحياة والموت ـ مجلة الشبكة العراقية.
شكيب كاظم – كاتب عراقي – بغداد