منال فياض - سفر في وريد مقطوع

نظرت طويلاً في الصورة المعلقة على الجدار بلا إطار، فيها أشياء كثيرة تشبهك الشعر المبعثر كخيوط الشمس فوق كتفك... المطر الأبدي الحزين الغارق في الأهداب وعينيك النجلاوين.

وعلى رف المكتبة نظرت في صورتي المحاطة بإطار ذهبي حين كانت لحيتي السوداء منذورة لفتاة في الغربة.

اشتريت الصورة فقط من أجل عينيك المخلوقتين فيها كالمعجزة. وقبل أن تستعبدني الذكرى وتضعفني، وأمام الانتظار الطويل لأحد المرضى الأشقياء. أقفلت باب العيادة وصرفت الممرضة.

تعب المطر... فنام في البرك وثقوب الأرصفة. مشيت كما يمشي جميع الرجال بمحاذاة أفواه الدكاكين. كل شيء ينادي أن أشتريه (قهوة -علبة سجائر- منظفات- مجلات).

وقفت مشدوهاً أمام واجهة المكتبة حين لمحت بسرعة كتاباً صغيراً بحجم الكف الكبير مكتوباً عليه اسمك بالأصفر، وأنا الوحيد الذي أعلم بأنك تحبين الأصفر وتحبين زهرة عباد الشمس لأنها تدير وجهها بقوة ومتعة في وجه الشمس، في البيت قرأت كتابك في الشرفة، دخنت علبة من السجائر وفي الليل لفّ صوتي في اختناق فأيقظتني زوجتي ومسحت وجهي بحفنة من الماء.

في الكابوس تحولت حروفك المتصلة إلى حبل وصارت تعصرني وتغبّ من دمي.

وصلتني رسالتك بأنك تحتضرين- لم أصدق- لأني مثل أهلك، أحسّ بأنك ستعيشين لتشهدي دفن الجميع.

فوق تربتك بدأت أصغر وتحتها بدأت تكبرين، ومن خلف قضبان صدري أقف كالمحكوم لأبرر لك وأدافع مرة عن نفسي فقد طال صمتي، وأنت قلت بأن الصمت يقتل حين يستدعي الحدث كلمة واحدة ولا ننطقها.

فوق سريرك في الطابق التاسع كنت تشردين، ترتسم سفن الميناء بعينيك وأنت تحكين لجيرانك المرضى قصص عشتار وأندروماك وآلهة اليونان. تمنيت لو سمعتها منك بالتفصيل أنشدّ عبر صوتك في الزمن المخلد بحكاية.

في إحدى المساءات الحلوة، جسست لك النبض، نسيت الإشارة الحمراء التي تفصل بين عبوري من نفسي إليك، خرج من عينينا لمع خفيف لا توقفه قوى الأرض كلها. ولا الحراس ولا القانون. ولا اللّه. لم أنم ليلتها رغم مناوبتي وتعبي حتى الصباح في غرفة الانعاش. أصابعي مدبقة بدمعك مسحتها وأنت تتوسلين لي أن أريحك من آلامك بإبرة في الوريد. ووعدتك مازحاً بطريقة تريحك وبدأت الوخز بالروح حتى الموت. كنت أمزح، كنت أكذب. نسيت بأن المزاح سيرتدي في يوم موتك لون الكحل.

كنت مطروحة فوق السرير، تقرئين، تنامين وحدك، وتستفيقين لا أب يسأل ولا أخ ولا قريب. أخبرتني بأن أمك قبل عشر سنين لطمت وجهها، وشدّت شعرها، وفي انهيارك في المشفى للمرة الثانية بكت واعتقلت ألف دمعة.

ولما صار الألم مستمراً ومملاً صارت تزورك بضحكة مخضبة بالحسرة.

قبل ست سنوات من الآن كنت أترك لحيتي السوداء على سجيتها، كنت كالمجنون بالحفظ، حفظ شكل العظام، ومسيرات الدماء، ومناطق تواجد الأوردة. لي طموح واحد، أن أرجع إلى بلدي بلقب طبيب، أخرج من باب هذا المشفى ولا أعود إليه.

قبل أن أثور بدمعك الصافي كالفضة لم أفهم ما معنى الإنسانية كان الوريد أنبوباً رفيعاً يحرّك أجساداً تالفة، وبعدك صار له شكل آخر ولون ورائحة لم نقرأ عنها في كتب الطب. صار له همس القصب وانحناءات نهر بين الحصى وتحت خشب المراكب.

يا من بدأت تفتحين أبوابك في رياضي لتحويني في حضن اللّه... قصائدك قبل أن تنشر في كتاب لم أفهمها في مسودتها، لأني لم أرد أن أفهمها ربما لضيق الوقت أو لانشغالي بالأهم. مررتِ بي كما تمر نجمة في وضح النهار ولا نراها لأن الشمس أقوى من كلّ الكواكب.

نشتم رائحة الزبالة ولو كانت في يدنا وردة حين نمر بالقمامة الفائضة على الأرصفة لأننا لا ننشدّ لسوى الأقوى... لسوى الأكثر والأكبر. حين نختلي بأنفسنا بين أربعة جدران لا نجد وقتاً للصلاة ولا نفكر حين ننظر إلى ستائر النافذة بسوى نوعية قماشها وطريقة حياكتها.

مذ فهمت نظرتك الأولى حذرتك مني. من ذاك الحقد والبعد بيني وبين النساء.

(عبير) رجمت قلبي بليرات زوجها الجديد. حين سافرت لتكمل دراستها في روسيا أعطتني منديلها المغمس بالعطر والدموع وقبل أن تحصل على الشهادة حصلت على العريس تلك المرأة التي أكلها الفقر لتهضمه هي. (عبير) لم تغير يوماً تسريحة شعرها ولا بنطالها (الجينز الأزرق) من يومها فهمت بأن هدوء الوجه كالهدوء قبل العاصفة كالصفار في الوجه يغطيه ارتخاء واختناق لكنه يخفي في الدم الموت وآكلات البشر الصغيرة.

تلك نظرتي للنساء انطفأت من (عبير) لأشتعل بك. ابتسامتك، نعومتك، شعرك القصير.. هدوءك كل شيء جميل فيك يذكرني بها.

حاولت أن أخفي ولعي بك كما يفعل الطفل حين يسرق أو يخبئ في جيبه الصغير قطعة سكر نسيت بأن جمال الأنثى بكبريائها، وأن الرجل الشرقي مهما تمدّن يبقى ويجب أن يبقى الذكر القط الراكض من فوق الأسوار وراء المرأة آدم نفسه مشى خطوتين وراء حواء، فلم كسرت قوانين الطبيعة وأخذت تمشين كالثملة تحت زخات المطر تبتلين وأنت تبحثين عن هدية تليق بطبيب. نسيت نفسك لأذكر نفسي.

مشيت وراء صوتي المتعب، صوتي المبحوح مثل أصوات كل الرجال، والمريول الأبيض يلبسه الجزار والحلاق والطباخ وآلاف الرجال.

أواه يا عزيزتي، الأسى لا ينتسى. حين ذهبت في غيبوبة، وصعدت رائحة العرق من الممرضات والأطباء المتحلقين حول سريرك كي يجعلوك تتنهدين أو أن يعيدوا لك ضربات قلبك. لم تقدر العيون كلها أن تحبس دمعها عليك. فكرنا كيف نخبر أهلك وانتظرنا أن يبرد جسدك الممد كتمثال من العاج. إذكر كيف اتهمني الجميع بحبك حين احمر وجهي وارتجفت أناملي وأنا أصرخ بهم أن يبتعدوا لأسهر قربك على السرير حتى الصباح وأنجح في اقتناص وريدك الضامر. شهقت واغترفت من عينيك نظرات العسل من ذلك اليوم تسرّع نبضك ليستفيق دمي.

قلت لي:

-أفديك بروحي.

قلت لك.

-هذا واجبي تجاه أية مريضة.

شعرت بأنك ملكي بدأت أرقبك كحارس. من تكلمين من الذكور في عائلتكم؟ لمن تبتسمين من رفاقي من الأطباء. وكنت دائماً أسأل نفسي أهو حبٌّ؟ وأجيب: بل إن الذي بيني وبينك أسمى من الحب.

في غربتي صرت أمراً مفروضاً في حياتي كالمطر، والشمس، والشاي، والسيجار أشتاق كما تشتاق النوارس إلى أوطانها الأولى.



كنت بريئة وصرت بحبي تكبرين بسرعة مخيفة، دموعك لونّها الكحل، بدأت تكتحلين لتشوهي أجمل ما تملكين وبدأت تغارين من كل الإناث حتى انتشرت في دمك الغيرة كما ينتشر فيك المرض يوماً بعد يوم.

لم أجبرك أيتها المرحومة أن تشطري جسدك نصفين. نصف لي ونصف بي أن تفتتي نفسك لتكون دموعك الأسيد الذي أطفأك. علمتنا الديانة والأسطورة أن الحياة توهب ثانية لنكون أقوى منها لنكون ثائرين على حياتنا الأولى- عيشي- قلتها لك ألف مرة كان لديك وقت طويل كي تتصرفي بطفولة.

لم أجبرك أن تحملي لي أكياس السكّر ويدك مزرقة وممزقة من وخز الإبر فقط لأنك تعلمين بحبي للشاي المحلى بالسكر. ذكرتني بالطفلة كوزيت وهي تحمل الماء المثلج تحت رصاص المطر من الغابة البعيدة، البطلة الصغيرة في قصة البؤساء.

صليت كي لا تفكري بي كما تفعل الأخريات، ابقي كنحلة تلحس لتعيش لا لتشبع في نهايات ثغرها لذة المص. ابقي قبالتي تقولين شعراً لم ينشر على صفحات المجلات، شعر لي وليس للعالم أجمع. و لا تتخيلي ماذا يحصل لو التقى جسدانا التقاء رجل أدماه التعب بالفراش. لكن الحب لا يترك أحداً صغيراً صرت تتمارضين تقطعين عن نفسك الدواء لتكوني بين يدي في غرفة الانعاش شعرت بك... عيناك كجذوتي نار تحرق جسدي الممدد فوق سريري داخل غرفتي كنت بعينيك تحرثيني حرثاً قطعة قطعة. عطفت عليك فدعوتك بكيت لأنك تريدين وترغبين في تلك اللحظة أن أجعلك كحبة رمل بين الحذاء والرصيف.

انتصرت على نفسك وفي النصر خسارة حتى للقائد العظيم.

لو كنت أعلم بأنك ستموتين لما أقفلت في وجهك باب العيادة وأنت ترتجفين متعبة من السفر الطويل مغمسة بلباس كالليل (المعطف- الحقيبة- البنطال) أتيت إلى بحجة تقديم العزاء بوفاة والدي. لم تكوني حزينة عليه كنت تخبئين وراء حزنك فرحاً كبيراً كأنك كنت تنتظرين وفاته كي يفرحك لقائي، يومها صغرت في عيني أيتها الحبيبة.

اليوم توقف المساء. من أجلك نظرت في وجه زوجتي بازدراء وهجرتها حتى الصباح فيا أيتها الماشية نحوي في طريق وريدك المقطوع.... اعذريني.

يوم زرتني نسيت أن أضع يدي في يدك حتى يندمج عرقك في مساماتي كالمرهم.

نسيت أن أحقق لك بعضاً من حلمك قبلة على وجنتيك كقبلة أخ غائب عن أخته الحبيبة تكورت وراء مكتبي لأنني جبان -فمن قال لك أن شعر الوجه يصنع رجولة في الرجال.

في ذلك اليوم نفسه خفت منك، شبهتك بالخفاش حين رجعت في العاصفة إلى الكاراج بطريق مظلم يخشاه الرجال.

من دلّكِ على الطريق. الزقاق الأول والثاني ثم المنعطف الأخير؟ فأنت في مدينتك نفسها لا تعرفين سوى طريق واحد من باب بيتكم إلى غرفتي في الطابق الأخير.

أتسمعين؟

أعلم أن الروح تبقى لتشقى حول من تحب.... أتكونين روحاً لوردة القرنفل في هذا الأصيص أو أنك تلامسين شعري ووجهي المحصود تنسجين معي في السيارة لتستقري في صورة الطفلة الباكية المعلقة على الجدار.

أربعون عاماً.... وها نحن نفترق لنلتقي فوق ورقة... فيا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية.

1992
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...