هل استل عم دخيل سلاحه وكمن قريباً من ذلك المنزل؟
إن صراخ الطفل يوحي بأن أمراً ما يحدث في منزل سويلم.. ولكن ما هو؟
نظرات عم دخيل تراشقت يمنة ويسرة وعلى سطوح المنازل المحيطة، هل هو لص من نافذة قريبة من سرير الطفل فأرعبه وجعله يستغيث؟ أين أبواه.. أتراهما غارقين في حلاوة أحلام آخر الليل، يقولون إنها أمتع أوقات النوم ولكنه لا يعرفها، فقد أمضى أكثر سنين حياته متجولاً ومتسكعاً في الأزقة والحواري.. يرصد أي حركة حتى لو كانت للكلاب المشاكسة يطاردها بعصاه الغليظة حين تشتبك في عراك يقلق راحة النائمين من حولها.
عم دخيل كهل دلف إلى مشارف الخمسين من العمر، ضخم الجثة قوي العضل.. حاد البصر، جعله عمله المضني في الحراسة الليلية رشيق الخطوات، علاقاته ومعارفه متعددة سواء من كبار السن الذين يلتقونه في أواخر الهزيع من الليل، متجهين لأداء فريضة الفجر أو الشباب الذين تجرفهم السهرات حتى وقت متأخر من الليل، مما يضطر إلى نصحهم بأن السهر مضر للصحة ولا فائدة ترجى من ورائه، وحين يشاغلونه قائلين: وأنت لِمَ تسهر طوال الليل، يجيب متنهداً: إنها العيشة يا أولادي.. وقد كتب لكل إنسان ما خلق له. فيتضاحكون مهرولين إلى منازلهم.
في هذه الليلة الشتائية كان متدثراً بالملابس الثقيلة حين تناهى إلى سمعه صراخ ذلك الطفل الرضيع، فوقف يصيخ السمع مستثاراً ومدَّ يده قريباً من سلاحه معتقداً أن حركة ما سوف تتلو تلك الصرخة، هكذا هو الانطباع في العادة وتراءى له أن والدي الطفل في شاغل عنه، والأطفال في مثل هذه الأوقات لا يستيقظون إلا لسبب جوهري، كأن تتسرب السوائل من جوفه فتغرق ملابسه باردة أو حارة فتوقظه على الفور أو يشعر بالجوع فجأة، وغير ذلك أن يرى في منامه حلماً يروعه فيستغيث ليسمع صوت أمه حتى يطمئن، وتذكر كيف أن أحفاده يفخرون به ويدعونه بالبطل لأنه يطارد اللصوص في الشوارع ولا يخشاهم، بينما أمهاتهم يحذرنهم من اللصوص وقت النوم، قائلين إن اللصوص تسرق الأطفال المستيقظين، وذلك مما يرفع مكانته بين الأطفال.
كان الوقت يقترب من الفجر وبعض الشيوخ يسعلون من بعيد متجهين إلى المساجد القريبة من منازلهم، إنه يكاد يعرفهم بالتحديد لكثرة ما يلتقيهم طيلة العام.
الطفل لم يكف نهائياً عن إطلاق الصرخات وهذا ما استنفر كل الهواجس لدى عم دخيل، فجعله يحوم مثل الصقر حول منزل سويلم ويستشرق أسوار جيرانه بانتظار أن يصرخ هو الآخر في أعقاب اللص الذي روع الطفل في ليلة باردة كهذه، سوف يدعوه حتما إلى الاستسلام وإلا سيطلق من مسدسه ما يجعله يرتعد ويطلب الرأفة، هكذا هم قساة القلوب يتمسكون بالحياة ويخافون الموت والعقاب الرادع، إنه يحاذر من مواجهة مثل هذه المواقف التي تجعله صلباً لا يتورع عن إنزال أقصى العقوبات بالذين يهددون أمن المسالمين من عباد الله. والحي الذي يحرسه لا يعتبر من الأحياء التي يقطنها أثرياء وإن كانت الأسواق المحاذية هي التي تشكل الخطورة لأنها تحوي بضائع مرتفعة الأسعار بما فيها أسواق الذهب والفضة.
وتذكر أن أحفاده أخذوا يعاتبونه في الآونة الأخيرة عن عدم تمكن الرجال من إنقاذ الصبي الذي سقط في بئر مهجورة في مشارف المدينة وأخذ يصرخ مستغيثاً يطلب إبعاد الذين يضايقونه داخل البئر، والناس يستغربون من قوله لأنهم لا يشاهدون أحداً من مرصدهم فوق فوهة البئر على أن كبار السن هم فقط الذين فسروا ما يقوله حين غمغموا قائلين: لا شك أنهم أهل الأرض من تحتنا فسبحان الذي قسم الأماكن بين عباده.
الصبية يستيقظون أحياناً مروعين من تأثير هواجس حكايات الجدات التي تقصها عليهم قبيل النوم والطفل مازال يستغيث مما جعله يفكر بأن يطرق الباب لولا أن تراجع في آخر لحظة، معتبراً ذلك من باب الفضول والتدخل المنهي عنه، واكتفى بأن صاح بصوت مرتفع (من هناك) فاستمع إلى صدى صوته من ديدبان في شارع آخر يصرخ (صاحبي.. صاحبي) وترددت أصوات صافرات في أنحاء الحي، عم دخيل ارتكز على شجرة كبيرة تتوسط الحي وبقى هناك حتى ارتفعت الشمس مائلة في الأفق وعندها غادر إلى الزقاق إلى أن وصل قريباً من منزل سويلم، وهناك استرعى انتباهه بعض النسوة الملفعة بالسواد بين داخلات ومغادرات وبين ناشجات، بل إنه رأى أكثر من رجل ليس بعيداً عن المنزل مطأطئي الرؤوس والحزن يفترش وجوههم.
ولقد فهم أن زوجة الرجل توفيت تلك الليلة وهنا أدرك أن المرأة كانت تحتضر أثناء استغاثات طفلها الرضيع فتمتم.. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
إن صراخ الطفل يوحي بأن أمراً ما يحدث في منزل سويلم.. ولكن ما هو؟
نظرات عم دخيل تراشقت يمنة ويسرة وعلى سطوح المنازل المحيطة، هل هو لص من نافذة قريبة من سرير الطفل فأرعبه وجعله يستغيث؟ أين أبواه.. أتراهما غارقين في حلاوة أحلام آخر الليل، يقولون إنها أمتع أوقات النوم ولكنه لا يعرفها، فقد أمضى أكثر سنين حياته متجولاً ومتسكعاً في الأزقة والحواري.. يرصد أي حركة حتى لو كانت للكلاب المشاكسة يطاردها بعصاه الغليظة حين تشتبك في عراك يقلق راحة النائمين من حولها.
عم دخيل كهل دلف إلى مشارف الخمسين من العمر، ضخم الجثة قوي العضل.. حاد البصر، جعله عمله المضني في الحراسة الليلية رشيق الخطوات، علاقاته ومعارفه متعددة سواء من كبار السن الذين يلتقونه في أواخر الهزيع من الليل، متجهين لأداء فريضة الفجر أو الشباب الذين تجرفهم السهرات حتى وقت متأخر من الليل، مما يضطر إلى نصحهم بأن السهر مضر للصحة ولا فائدة ترجى من ورائه، وحين يشاغلونه قائلين: وأنت لِمَ تسهر طوال الليل، يجيب متنهداً: إنها العيشة يا أولادي.. وقد كتب لكل إنسان ما خلق له. فيتضاحكون مهرولين إلى منازلهم.
في هذه الليلة الشتائية كان متدثراً بالملابس الثقيلة حين تناهى إلى سمعه صراخ ذلك الطفل الرضيع، فوقف يصيخ السمع مستثاراً ومدَّ يده قريباً من سلاحه معتقداً أن حركة ما سوف تتلو تلك الصرخة، هكذا هو الانطباع في العادة وتراءى له أن والدي الطفل في شاغل عنه، والأطفال في مثل هذه الأوقات لا يستيقظون إلا لسبب جوهري، كأن تتسرب السوائل من جوفه فتغرق ملابسه باردة أو حارة فتوقظه على الفور أو يشعر بالجوع فجأة، وغير ذلك أن يرى في منامه حلماً يروعه فيستغيث ليسمع صوت أمه حتى يطمئن، وتذكر كيف أن أحفاده يفخرون به ويدعونه بالبطل لأنه يطارد اللصوص في الشوارع ولا يخشاهم، بينما أمهاتهم يحذرنهم من اللصوص وقت النوم، قائلين إن اللصوص تسرق الأطفال المستيقظين، وذلك مما يرفع مكانته بين الأطفال.
كان الوقت يقترب من الفجر وبعض الشيوخ يسعلون من بعيد متجهين إلى المساجد القريبة من منازلهم، إنه يكاد يعرفهم بالتحديد لكثرة ما يلتقيهم طيلة العام.
الطفل لم يكف نهائياً عن إطلاق الصرخات وهذا ما استنفر كل الهواجس لدى عم دخيل، فجعله يحوم مثل الصقر حول منزل سويلم ويستشرق أسوار جيرانه بانتظار أن يصرخ هو الآخر في أعقاب اللص الذي روع الطفل في ليلة باردة كهذه، سوف يدعوه حتما إلى الاستسلام وإلا سيطلق من مسدسه ما يجعله يرتعد ويطلب الرأفة، هكذا هم قساة القلوب يتمسكون بالحياة ويخافون الموت والعقاب الرادع، إنه يحاذر من مواجهة مثل هذه المواقف التي تجعله صلباً لا يتورع عن إنزال أقصى العقوبات بالذين يهددون أمن المسالمين من عباد الله. والحي الذي يحرسه لا يعتبر من الأحياء التي يقطنها أثرياء وإن كانت الأسواق المحاذية هي التي تشكل الخطورة لأنها تحوي بضائع مرتفعة الأسعار بما فيها أسواق الذهب والفضة.
وتذكر أن أحفاده أخذوا يعاتبونه في الآونة الأخيرة عن عدم تمكن الرجال من إنقاذ الصبي الذي سقط في بئر مهجورة في مشارف المدينة وأخذ يصرخ مستغيثاً يطلب إبعاد الذين يضايقونه داخل البئر، والناس يستغربون من قوله لأنهم لا يشاهدون أحداً من مرصدهم فوق فوهة البئر على أن كبار السن هم فقط الذين فسروا ما يقوله حين غمغموا قائلين: لا شك أنهم أهل الأرض من تحتنا فسبحان الذي قسم الأماكن بين عباده.
الصبية يستيقظون أحياناً مروعين من تأثير هواجس حكايات الجدات التي تقصها عليهم قبيل النوم والطفل مازال يستغيث مما جعله يفكر بأن يطرق الباب لولا أن تراجع في آخر لحظة، معتبراً ذلك من باب الفضول والتدخل المنهي عنه، واكتفى بأن صاح بصوت مرتفع (من هناك) فاستمع إلى صدى صوته من ديدبان في شارع آخر يصرخ (صاحبي.. صاحبي) وترددت أصوات صافرات في أنحاء الحي، عم دخيل ارتكز على شجرة كبيرة تتوسط الحي وبقى هناك حتى ارتفعت الشمس مائلة في الأفق وعندها غادر إلى الزقاق إلى أن وصل قريباً من منزل سويلم، وهناك استرعى انتباهه بعض النسوة الملفعة بالسواد بين داخلات ومغادرات وبين ناشجات، بل إنه رأى أكثر من رجل ليس بعيداً عن المنزل مطأطئي الرؤوس والحزن يفترش وجوههم.
ولقد فهم أن زوجة الرجل توفيت تلك الليلة وهنا أدرك أن المرأة كانت تحتضر أثناء استغاثات طفلها الرضيع فتمتم.. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).