إبراهيم الناصر الحميدان - الاستغاثة..

هل استل عم دخيل سلاحه وكمن قريباً من ذلك المنزل؟

إن صراخ الطفل يوحي بأن أمراً ما يحدث في منزل سويلم.. ولكن ما هو؟

نظرات عم دخيل تراشقت يمنة ويسرة وعلى سطوح المنازل المحيطة، هل هو لص من نافذة قريبة من سرير الطفل فأرعبه وجعله يستغيث؟ أين أبواه.. أتراهما غارقين في حلاوة أحلام آخر الليل، يقولون إنها أمتع أوقات النوم ولكنه لا يعرفها، فقد أمضى أكثر سنين حياته متجولاً ومتسكعاً في الأزقة والحواري.. يرصد أي حركة حتى لو كانت للكلاب المشاكسة يطاردها بعصاه الغليظة حين تشتبك في عراك يقلق راحة النائمين من حولها.

عم دخيل كهل دلف إلى مشارف الخمسين من العمر، ضخم الجثة قوي العضل.. حاد البصر، جعله عمله المضني في الحراسة الليلية رشيق الخطوات، علاقاته ومعارفه متعددة سواء من كبار السن الذين يلتقونه في أواخر الهزيع من الليل، متجهين لأداء فريضة الفجر أو الشباب الذين تجرفهم السهرات حتى وقت متأخر من الليل، مما يضطر إلى نصحهم بأن السهر مضر للصحة ولا فائدة ترجى من ورائه، وحين يشاغلونه قائلين: وأنت لِمَ تسهر طوال الليل، يجيب متنهداً: إنها العيشة يا أولادي.. وقد كتب لكل إنسان ما خلق له. فيتضاحكون مهرولين إلى منازلهم.

في هذه الليلة الشتائية كان متدثراً بالملابس الثقيلة حين تناهى إلى سمعه صراخ ذلك الطفل الرضيع، فوقف يصيخ السمع مستثاراً ومدَّ يده قريباً من سلاحه معتقداً أن حركة ما سوف تتلو تلك الصرخة، هكذا هو الانطباع في العادة وتراءى له أن والدي الطفل في شاغل عنه، والأطفال في مثل هذه الأوقات لا يستيقظون إلا لسبب جوهري، كأن تتسرب السوائل من جوفه فتغرق ملابسه باردة أو حارة فتوقظه على الفور أو يشعر بالجوع فجأة، وغير ذلك أن يرى في منامه حلماً يروعه فيستغيث ليسمع صوت أمه حتى يطمئن، وتذكر كيف أن أحفاده يفخرون به ويدعونه بالبطل لأنه يطارد اللصوص في الشوارع ولا يخشاهم، بينما أمهاتهم يحذرنهم من اللصوص وقت النوم، قائلين إن اللصوص تسرق الأطفال المستيقظين، وذلك مما يرفع مكانته بين الأطفال.

كان الوقت يقترب من الفجر وبعض الشيوخ يسعلون من بعيد متجهين إلى المساجد القريبة من منازلهم، إنه يكاد يعرفهم بالتحديد لكثرة ما يلتقيهم طيلة العام.

الطفل لم يكف نهائياً عن إطلاق الصرخات وهذا ما استنفر كل الهواجس لدى عم دخيل، فجعله يحوم مثل الصقر حول منزل سويلم ويستشرق أسوار جيرانه بانتظار أن يصرخ هو الآخر في أعقاب اللص الذي روع الطفل في ليلة باردة كهذه، سوف يدعوه حتما إلى الاستسلام وإلا سيطلق من مسدسه ما يجعله يرتعد ويطلب الرأفة، هكذا هم قساة القلوب يتمسكون بالحياة ويخافون الموت والعقاب الرادع، إنه يحاذر من مواجهة مثل هذه المواقف التي تجعله صلباً لا يتورع عن إنزال أقصى العقوبات بالذين يهددون أمن المسالمين من عباد الله. والحي الذي يحرسه لا يعتبر من الأحياء التي يقطنها أثرياء وإن كانت الأسواق المحاذية هي التي تشكل الخطورة لأنها تحوي بضائع مرتفعة الأسعار بما فيها أسواق الذهب والفضة.

وتذكر أن أحفاده أخذوا يعاتبونه في الآونة الأخيرة عن عدم تمكن الرجال من إنقاذ الصبي الذي سقط في بئر مهجورة في مشارف المدينة وأخذ يصرخ مستغيثاً يطلب إبعاد الذين يضايقونه داخل البئر، والناس يستغربون من قوله لأنهم لا يشاهدون أحداً من مرصدهم فوق فوهة البئر على أن كبار السن هم فقط الذين فسروا ما يقوله حين غمغموا قائلين: لا شك أنهم أهل الأرض من تحتنا فسبحان الذي قسم الأماكن بين عباده.

الصبية يستيقظون أحياناً مروعين من تأثير هواجس حكايات الجدات التي تقصها عليهم قبيل النوم والطفل مازال يستغيث مما جعله يفكر بأن يطرق الباب لولا أن تراجع في آخر لحظة، معتبراً ذلك من باب الفضول والتدخل المنهي عنه، واكتفى بأن صاح بصوت مرتفع (من هناك) فاستمع إلى صدى صوته من ديدبان في شارع آخر يصرخ (صاحبي.. صاحبي) وترددت أصوات صافرات في أنحاء الحي، عم دخيل ارتكز على شجرة كبيرة تتوسط الحي وبقى هناك حتى ارتفعت الشمس مائلة في الأفق وعندها غادر إلى الزقاق إلى أن وصل قريباً من منزل سويلم، وهناك استرعى انتباهه بعض النسوة الملفعة بالسواد بين داخلات ومغادرات وبين ناشجات، بل إنه رأى أكثر من رجل ليس بعيداً عن المنزل مطأطئي الرؤوس والحزن يفترش وجوههم.

ولقد فهم أن زوجة الرجل توفيت تلك الليلة وهنا أدرك أن المرأة كانت تحتضر أثناء استغاثات طفلها الرضيع فتمتم.. (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).



==================



إبراهيم الناصر الحميدان
(1933م - 2013م)،
قاص وروائي سعودي، وأحد رواد الرواية السعودية الحديثة
أصدر أولى رواياته في مطلع الستينات الميلادية، وهو من مطوري فن القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، وأحد الكُتَّاب السعوديين الذين أصدروا رواية ومجموعة قصصية في الفترة نفسها؛ لذا حظي بتصنيف مزدوج منذ بداياته فكان قاصًّا وروائيًّا معًا، إذ أصدر نحو 8 روايات و6 مجموعات قصصية،وكتب مسلسلات تلفزيونية وإذاعية.

ولد إبراهيم الحميدان في مدينة الرياض، ثم انتقل مع عائلته إلى العراق لظروف عمل والده في التجارة وتنقله ما بين الكويت والعراق والسعودية، فنشأ في محافظة الزبير جنوب العراق، وفيها بدأ تعليمه حتى أتم المرحلة المتوسطة، وتوقف بعدها عن التحصيل الدراسي، ليتجه إلى التعليم الذاتي، متزودًا بمؤلفات الأدب العربي والأجنبي، كما كان محبًّا للأدب الفرنسي والروسي، وتأثر بشكل خاص بـ"مكسيم غوركي".
المسيرة العملية لإبراهيم الحميدان

عاد إبراهيم الحميدان إلى المملكة، وعُيِّن في شركة أرامكو السعودية، ثم شركة التابلاين، غادر بعدها القطاع الخاص ليلتحق بالعمل الحكومي، بداية بالمستشفى العسكري التابع لوزارة الدفاع، ثم وزارة المواصلات (النقل والخدمات اللوجستية حاليًّا)، وبقي فيها حتى جاء تعيينه في وزارة التجارة، وكانت تلك آخر وظيفة حكومية يشغلها، إذ عاد للعمل مجددًا في القطاع الخاص عام 1966م، وحافظ على العمل فيه حتى عام 1992م ليتفرغ للكتابة الأدبية.

مؤلفاته

أصدر إبراهيم الحميدان أول نتاجه الأدبي في الرواية ثم أتبعها بالقصة القصيرة، ففي عام 1961م نشر روايته الأولى "ثقب في رداء الليل"، التي تُعد من أوائل الروايات في الأدب السعودي الحديث، وفي العام نفسه نشر أولى مجموعاته القصصية بعنوان "أمهاتنا والنضال"، ثم توالت مؤلفاته حتى وصلت إلى نحو 14 كتابًا.

وألَّف الناصر ثماني روايات منذ أوائل الستينات الميلادية وحتى عام 2004م، منها: "رواية سفينة الموتى" أو "سفينة الضياع"، و"غيوم الخريف"، و"دم البراءة"، و"حيطان الريح"، أما مجموعاته القصصية فبلغت 6 مجموعات، منها: "أمهاتنا والنضال" عام 1961م ، وأرض بلا مطر عام 1966م، وغدير البنات عام 1977م، وعيون القطط عام 1994م، ونجمتان للمساء عام 1998م، والعذراء العاشقة عام 2004م.

نال إبراهيم الحميدان جوائز عدة، ومنها: درع الريادة من المؤتمر الثاني للأدباء السعوديين، وجائزة المفتاحة نظير ريادته في السرد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...