دراسة وتقويم .. الأستاذ الدكتور السيد الجميلى
في جزيرة العرب، وفى المملكة العربية السعودية الشقيقة، وجد العلم له رياضا فمال إليها وجنح إليها، فهى الجزيرة التي حظيت بأنفح طيب وأروع عبير روته التنزلات العلوية .
اختيرت هذه البقعة المباركة لتكون محلا للتنزيل ومهداً لآخر وأكمل رسالات السماء، وعلى ثراها الطيب الطهور كان سيدنا رسول الله الله وصحبه الأبرار الأطهار، من ثم كانت من أطيب بقاع المعمورة، ومن أكرم مواضع المسكونة، وذلك لاحتوائها أيضاً على الأماكن المقدسة .. طيب الله ثراها وزادها تقديساً وتشريفاً وتعظيما، ومحبة ومهابة وجلالا.
في هذه البيئة التقية، ومن أصول عربية نقية تسامت وتراقت هذه السرحة العظيمة حتى بلغت مداها بين الخافقين .. وصدق فيها قول الشاعر ... وهل تعلو إلا في منابتها النخل؟!
تألق العلامة الشيخ حمد الجاسر الذى لم يخف فضله، في أفق المملكة العربية السعودية المأنوسة بلطف الله، المكلوءة بعين رعايته.
هذا الرجل بدا نبراساً ساطعاً وضوءا لامعًا، إذ استبطن دخائل العلم، وتبحر في فنون الأدب، وتقصى في التحقيق، وبلغ الغاية المأمولة في التدقيق.
لقد انغمس في معركة البحث والتحقيق متوشحاً بعدته كامل الأدوات، متكميا بسلاحه من ماضي العزيمة، ومشحوذ الهمة، متدرعا في شِكَّته بالصبر والأناة والنظام الدقيق الذي هو من سمات شخصيته الوقور.
من ثم - ولكل هذه الأسباب - فشت وانتشرت وتضوّعت فضائل الرجل في كل مصر من أرجاء الأرض ومضطر بها.
ناهيك به من رجل حصيف يعمل للآخرة وللدين وللتاريخ أعمالا جليلة يقدرها عارفوها .. فهو بعلمه السخي ومادته الغزيرة وقوة شخصيته فى غير كبر ولا زهو، إنما يتصرف يعقله وفهمه وتجاربه.
وإذا كان من يسدى ويُسَوِّغ إنساناً فضلا يكون حقيقاً بالشكر والامتنان، فما بالنا بمن سَوَّغ وموَّل اللغة والأدب والتاريخ بغير حدود ؟؟!! أليس جديراً بالثناء والتقدي؟ بلى ورب الكعبة .. في الشيخ حمد الجاسر يصدق قول الشاعر :
وأنعمه في الناس شتى كأنها *** مواقع ماء المزن في البلد القفر
بل ربما كان الأنسب قول الآخر :
وإذا نظرت إلى غرائب فضله *** أبصرت روضاً في السماء نضيرا
واستأذن شاعر العرب الذي قال في جود معن بن زائدة :
فتى عيش في معروفه بعد موته *** كما كان بعد السيل مجراه مرتعاً
فاستعير منه مؤدى الشطر الأول للجاسر فأقول :
فتى عيش في معروفه في حياته *** ويقى ظليلا فضله أبد الدهر
إن أحداً لا يتجاسر على محاكاة الجاسر فيما قدمه ويقدمه - أطال الله عمره ونفع بعلمه - للمعرفة والتاريخ.
***
شيخنا الشيخ العلامة حمد بن جاسر، من عشيرة «الشَّوْل» من «بني سُليم» فهو عربي ممحوض العربية.
ولد الجاسر في قرية ( البرود ) من إقليم ( السر ) فى الجزيرة العربية أدام الله عزها وتمكينها ..
حفظ الجاسر القرآن الكريم صبياً، وكان فضل الله عليه عظيماً، ثم رعاية أبيه ذلك الرجل الفلاح الطيب، الذي كان يعمل بالزراعة .. وكان أفاد من عمله الزراعي فوائد جمة ندر المعتبرون بها والملتفتون إليها، ألا وهى أن الأرض بقدر ما يُعطيها من بذور يكون عطاؤها ومردودها من الثمار والغراس من ناحية الكم والعدد، وعلى قدر الرعاية والتعهد والعناية؛ تكون الجودة والأصالة في الثَّمَر.
أراد هذا الأب المثالى أن يطبق هذا المعتقد على ابنه الدارج فوجد البداية في الأمر بالعناية بحفظ القرآن الكريم؛ لأنه أصل كل خير وأساس كل سعادة وتسديد وتمكين .. ولكي يكون الانتفاع بالقرآن مناسباً لشرف حفظه، والإحاطة بمراميه لابد أن يكون قارئه ودارسه مطوياً على الخشية والإخبات والدعة والوقار والالتزام، وإلا فما أكثر من يحفظون القرآن الكريم، ولا يعملون بما يوجبه من مثالية وسلوك راشد قويم .
كانت توجيهات الأب الفاضل سراجاً على درب الحياة وكان قد رأى أنه لأجل الفتى الصبي حمد ، ولأجل مستقبله المأمول لابد أن يتحول إلى «الرياض» العاصمة حتى يتسنى له طلب العلم وتحصيله وكان صعباً وشاقاً على الأب أن يترك ممارسته للزراعة في القرية التي درج ونشأ فيها، وخالطت حبات كيانه وسويداء قلبه لولا أنه رأى في ابنه عوضاً من كل فائت، مطمئنا بثاقب نظره، وعمق بصيرته إلى أن هذا الابن سيكون محققاً لكل آدابه ومقاصده وهذا غاية في الإرشاد والتوجيه الإلهى، والثقة بالله والصمود إليه والتوكل عليه والاستعانة به.
قالوا قديماً : إن من حفظ المتون حاز الفنون .
وهذه مقولة صدق لا تقاربها ريبة، فإن المتون هي التي حفظت العلم وصانته من الضياع .
وقد عيب عليها من رجالات التنوير لعجزهم عنها - وسموها بأنها لا تناسب العصر الحاضر، وهذا زعم مزعوم مدحوض مدفوع، فإن المتون لا يلم بها إلا الراسخون في العلم الذين يعمدون إلى الأصول والقواعد التي يقيمون عليها صرح ثقافتهم، ويحصلون بها رصيدا من التمكين والرسوخ، وعلى قدر صلابة وقوة الأساس تكون صلابة وقوة البناء .
من ثم عمد الطالب حمد الجاسر إلى المتون القديمة فحفظها ووعاها في ذلك الطور الباكر من حياته، والذى كان له أكبر الأثر فى مستقبله المشرق المشهود .
درس الجاسر النحو والتوحيد على الشيخ سعد بن أحمد بن عتيق، وهو من علماء الرياض المعروفين المرموقين ثم توفى والده -رحمه الله - فما كان منه إلا أن عاد أدراجه، وقفل مرة أخرى إلى قريته مستقرا بها ليعمل معلماً للقرآن الكريم .
ثم بعد فترة أشخص إلى مكة المكرمة؛ فالتحق بالمعهد السعودي - قسم التخصص الديني وبعد أن أتم دراسته فيه، عُيِّن مدرساً بمدرسة ( ينبع ) ثم اشتغل بعد ذلك بالقضاء ببلدة ( ضبة ) ونواحيها وأرباضها .
ترك القضاء بعد ذلك لأكثر من عام، ثم عاد إلى المعارف معاوناً ومساعداً لمعتمد المعارف ( أي مديرا للتعليم ) في جدَّة .
وفي سنة أربعين وتسعمائة وألف وفد الشيخ حمد الجاسر إلى مصر منتسباً إلى كلية الآداب بجامعة ( فؤاد الأول ) بالقاهرة .
ثم كرَّ وآب مرة أخرى إلى مكة حيث اشتغل بالتعليم ونيط به الإحصاء وإعداد البعثات، ترقى حمد الجاسر بعد ذلك في مناصب ومراقى التعليم المختلفة حتى صار مديرا للتعليم في «نجد» .
ثم اختير بعد ذلك مديراً لكليتي اللغة العربية والعلوم الشرعية .
أسس صحيفة «اليمامة» وهى أول صحيفة في نجد - صدرت مجلة لمدة سنتين، ثم صدرت بعد ذلك ..
والشيخ حمد الجاسر أول من عمل على إنشاء دار للطباعة فى الرياض ... وهذه سابقة له وحده الشرف الأسنى والشقص الأتم فيها .
من أهم كتب الجاسر وتحقيقاته العلمية :
- معجم البلاد العربية .. وهو معجم يحدد الأماكن والمدن والقرى والأصقاع والنجوع والدساكر والجبال والأودية في الجزيرة العربية .
- أمراء نجد .
- معادن نجد .
والشيخ حمد الجاسر عضو بالمجمع العلمي العربي، وقد انتخب واختير عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف في المكان الذى خلا بوفاة الشيخ عبد الوهاب خلاف - رحمه الله .
***
قال عنه الدكتور عبد الوهاب عزام عند استقباله عضوا بالمجمع :
«الأستاذ المحتفل به، عالمُُ ثَبتُُ خبير بمواضع الجزيرة العربية ومعالمها وسيجد الأدباء والمؤرخون والجغرافيون غناء وفائدة حين ينشر كتبه» .
لقد أفاد الجاسر المجمع إفادات جليلة مثمرة مثيرة بتحقيقاته لكثير من أماكن الجزيرة العربية؛ وإن لجنة المعجم الكبير ظلت على صلة وثيقة به، وهي صلة دائمة، تستشيره في كثير منأماكن الجزيرة العربية؛ فيوافيها بالجواب الشافي عن ذلك من هذه الناحية كانت إسهاماته الدقيقة النافعة في تحقيق المواضع والأنساب منطوية على فوائد عالية لا ضريب له فى الإحاطة بها والتعمق فيها .
وفي مجلة مجمع اللغة العربية ١٤ / ۲۳۲ كلماته في حفل استقباله في المجمع .
ثم إن له : نظرات في كتاب الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأحياء والأشعار، لأبي الفتح بصر بن عبد الرحمن الاسكندري . ( مؤتمر د ۳۸ ص ١٢٥ ) .
وللأستاذ حمد الجاسر صولات وجولات فاحصة، محققة مدققة في المجلد الذي أعدته لجنة المعجم الكبير .
***
وقد أثلج صدورنا وأسعدنا أن نعلم أن الأستاذ الشيخ حمد الجاسر قد حصل على جائزة الملك فيصل العالمية .. وأن الجهاز الفنى الخاص بمنح هذه الجائزة في المملكة العربية السعودية الشقيقة - يعتبر الأستاذ حمد الجاسر ركنا ركينا من رجال اللغة والأدب .
حّيَّاك الله وبيَّاك أيها الشيخ الجليل .. فإن عملك مذخور، وجهدك مأجور، وسعيك مشكور .. ولن يضيع عمل قصدت به وجه الله - تعالى - فنعم أجر العاملين .. بشرى من رب العالمين .
لقد أشرب في قلبه حب التراث الذي هو سند حضارة الأمة، فعمد - أعزه الله - إلى جمع صور المخطوطات النادرة من جميع مكتبات العالم، وكلنا يعلم انطواء مثل هذا الصنيع المحمود على المشقة والعنت والتكاليف .. فلا يتصدى لمثله إلا الأشداء من ذوى العزائم الماضية، والهمم العالية، والبصائر النافذة .
***
ركب حمد الجاسر في سبيل تحقيق ذلك المأرب - الصعب والذلول، يجمع صور المخطوطات من مظانها من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، من أقاصى الشمال إلى أقاصي الجنوب .. لم يترك فرصة سانحة إلا انتهزها ولا بادرة متاحة إلا أتاها، ودل الناس عليها مشيراً إليها في مجلته التي أسسها ويرأس تحريرها ( مجلة العرب ) التي تصدر من بيروت .
وتعنى مجلة العرب بالتراث الفكرى كما هو مذكور بديباجة غلافها وفى ( ترويستها )، وهي شهرية .
من أهم ما قدمه لنا حمد الجاسر أيضاً مخطوطة : «نسب قريش وأخبارها» للزبير بن بكار، نسَّابة قريش، والتي أخرج منها الشيخ محمود شاكر رحمه الله ( توفى ليلة الجمعة ۱۹۹۷/۸/۷م ) المجلد الأول سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة أي منذ سبع وعشرين سنة تقريباً .
***
بذل الشيخ حمد جهداً محموداً في النشرة الثانية لكتاب «وستنفلد» : ( علم الاستشراق ) للعربية المسمى : «مختلف القبائل ومؤتلفها لابن حبيب» والمنشور سلفاً في «جونتجن» سنة خمسين وثمانمائة وألف، من النسخة الأم بخط المؤرخ الأديب المقريزي، والتي حصل عليها إبان رحلته للحج سنة تسع وثلاثين وثمانمائة للهجرة من مكة المكرمة .
ثم أعاد الجاسر طبع ونشر هذا الكتاب مرة أخرى مع كتاب «الإيناس في علم الأنساب» للوزير المغربي، النادى الأدبى بالرياض سنة ١٤٠٠ هـ ١٩٨٠م .
في جزيرة العرب، وفى المملكة العربية السعودية الشقيقة، وجد العلم له رياضا فمال إليها وجنح إليها، فهى الجزيرة التي حظيت بأنفح طيب وأروع عبير روته التنزلات العلوية .
اختيرت هذه البقعة المباركة لتكون محلا للتنزيل ومهداً لآخر وأكمل رسالات السماء، وعلى ثراها الطيب الطهور كان سيدنا رسول الله الله وصحبه الأبرار الأطهار، من ثم كانت من أطيب بقاع المعمورة، ومن أكرم مواضع المسكونة، وذلك لاحتوائها أيضاً على الأماكن المقدسة .. طيب الله ثراها وزادها تقديساً وتشريفاً وتعظيما، ومحبة ومهابة وجلالا.
في هذه البيئة التقية، ومن أصول عربية نقية تسامت وتراقت هذه السرحة العظيمة حتى بلغت مداها بين الخافقين .. وصدق فيها قول الشاعر ... وهل تعلو إلا في منابتها النخل؟!
تألق العلامة الشيخ حمد الجاسر الذى لم يخف فضله، في أفق المملكة العربية السعودية المأنوسة بلطف الله، المكلوءة بعين رعايته.
هذا الرجل بدا نبراساً ساطعاً وضوءا لامعًا، إذ استبطن دخائل العلم، وتبحر في فنون الأدب، وتقصى في التحقيق، وبلغ الغاية المأمولة في التدقيق.
لقد انغمس في معركة البحث والتحقيق متوشحاً بعدته كامل الأدوات، متكميا بسلاحه من ماضي العزيمة، ومشحوذ الهمة، متدرعا في شِكَّته بالصبر والأناة والنظام الدقيق الذي هو من سمات شخصيته الوقور.
من ثم - ولكل هذه الأسباب - فشت وانتشرت وتضوّعت فضائل الرجل في كل مصر من أرجاء الأرض ومضطر بها.
ناهيك به من رجل حصيف يعمل للآخرة وللدين وللتاريخ أعمالا جليلة يقدرها عارفوها .. فهو بعلمه السخي ومادته الغزيرة وقوة شخصيته فى غير كبر ولا زهو، إنما يتصرف يعقله وفهمه وتجاربه.
وإذا كان من يسدى ويُسَوِّغ إنساناً فضلا يكون حقيقاً بالشكر والامتنان، فما بالنا بمن سَوَّغ وموَّل اللغة والأدب والتاريخ بغير حدود ؟؟!! أليس جديراً بالثناء والتقدي؟ بلى ورب الكعبة .. في الشيخ حمد الجاسر يصدق قول الشاعر :
وأنعمه في الناس شتى كأنها *** مواقع ماء المزن في البلد القفر
بل ربما كان الأنسب قول الآخر :
وإذا نظرت إلى غرائب فضله *** أبصرت روضاً في السماء نضيرا
واستأذن شاعر العرب الذي قال في جود معن بن زائدة :
فتى عيش في معروفه بعد موته *** كما كان بعد السيل مجراه مرتعاً
فاستعير منه مؤدى الشطر الأول للجاسر فأقول :
فتى عيش في معروفه في حياته *** ويقى ظليلا فضله أبد الدهر
إن أحداً لا يتجاسر على محاكاة الجاسر فيما قدمه ويقدمه - أطال الله عمره ونفع بعلمه - للمعرفة والتاريخ.
***
شيخنا الشيخ العلامة حمد بن جاسر، من عشيرة «الشَّوْل» من «بني سُليم» فهو عربي ممحوض العربية.
ولد الجاسر في قرية ( البرود ) من إقليم ( السر ) فى الجزيرة العربية أدام الله عزها وتمكينها ..
حفظ الجاسر القرآن الكريم صبياً، وكان فضل الله عليه عظيماً، ثم رعاية أبيه ذلك الرجل الفلاح الطيب، الذي كان يعمل بالزراعة .. وكان أفاد من عمله الزراعي فوائد جمة ندر المعتبرون بها والملتفتون إليها، ألا وهى أن الأرض بقدر ما يُعطيها من بذور يكون عطاؤها ومردودها من الثمار والغراس من ناحية الكم والعدد، وعلى قدر الرعاية والتعهد والعناية؛ تكون الجودة والأصالة في الثَّمَر.
أراد هذا الأب المثالى أن يطبق هذا المعتقد على ابنه الدارج فوجد البداية في الأمر بالعناية بحفظ القرآن الكريم؛ لأنه أصل كل خير وأساس كل سعادة وتسديد وتمكين .. ولكي يكون الانتفاع بالقرآن مناسباً لشرف حفظه، والإحاطة بمراميه لابد أن يكون قارئه ودارسه مطوياً على الخشية والإخبات والدعة والوقار والالتزام، وإلا فما أكثر من يحفظون القرآن الكريم، ولا يعملون بما يوجبه من مثالية وسلوك راشد قويم .
كانت توجيهات الأب الفاضل سراجاً على درب الحياة وكان قد رأى أنه لأجل الفتى الصبي حمد ، ولأجل مستقبله المأمول لابد أن يتحول إلى «الرياض» العاصمة حتى يتسنى له طلب العلم وتحصيله وكان صعباً وشاقاً على الأب أن يترك ممارسته للزراعة في القرية التي درج ونشأ فيها، وخالطت حبات كيانه وسويداء قلبه لولا أنه رأى في ابنه عوضاً من كل فائت، مطمئنا بثاقب نظره، وعمق بصيرته إلى أن هذا الابن سيكون محققاً لكل آدابه ومقاصده وهذا غاية في الإرشاد والتوجيه الإلهى، والثقة بالله والصمود إليه والتوكل عليه والاستعانة به.
قالوا قديماً : إن من حفظ المتون حاز الفنون .
وهذه مقولة صدق لا تقاربها ريبة، فإن المتون هي التي حفظت العلم وصانته من الضياع .
وقد عيب عليها من رجالات التنوير لعجزهم عنها - وسموها بأنها لا تناسب العصر الحاضر، وهذا زعم مزعوم مدحوض مدفوع، فإن المتون لا يلم بها إلا الراسخون في العلم الذين يعمدون إلى الأصول والقواعد التي يقيمون عليها صرح ثقافتهم، ويحصلون بها رصيدا من التمكين والرسوخ، وعلى قدر صلابة وقوة الأساس تكون صلابة وقوة البناء .
من ثم عمد الطالب حمد الجاسر إلى المتون القديمة فحفظها ووعاها في ذلك الطور الباكر من حياته، والذى كان له أكبر الأثر فى مستقبله المشرق المشهود .
درس الجاسر النحو والتوحيد على الشيخ سعد بن أحمد بن عتيق، وهو من علماء الرياض المعروفين المرموقين ثم توفى والده -رحمه الله - فما كان منه إلا أن عاد أدراجه، وقفل مرة أخرى إلى قريته مستقرا بها ليعمل معلماً للقرآن الكريم .
ثم بعد فترة أشخص إلى مكة المكرمة؛ فالتحق بالمعهد السعودي - قسم التخصص الديني وبعد أن أتم دراسته فيه، عُيِّن مدرساً بمدرسة ( ينبع ) ثم اشتغل بعد ذلك بالقضاء ببلدة ( ضبة ) ونواحيها وأرباضها .
ترك القضاء بعد ذلك لأكثر من عام، ثم عاد إلى المعارف معاوناً ومساعداً لمعتمد المعارف ( أي مديرا للتعليم ) في جدَّة .
وفي سنة أربعين وتسعمائة وألف وفد الشيخ حمد الجاسر إلى مصر منتسباً إلى كلية الآداب بجامعة ( فؤاد الأول ) بالقاهرة .
ثم كرَّ وآب مرة أخرى إلى مكة حيث اشتغل بالتعليم ونيط به الإحصاء وإعداد البعثات، ترقى حمد الجاسر بعد ذلك في مناصب ومراقى التعليم المختلفة حتى صار مديرا للتعليم في «نجد» .
ثم اختير بعد ذلك مديراً لكليتي اللغة العربية والعلوم الشرعية .
أسس صحيفة «اليمامة» وهى أول صحيفة في نجد - صدرت مجلة لمدة سنتين، ثم صدرت بعد ذلك ..
والشيخ حمد الجاسر أول من عمل على إنشاء دار للطباعة فى الرياض ... وهذه سابقة له وحده الشرف الأسنى والشقص الأتم فيها .
من أهم كتب الجاسر وتحقيقاته العلمية :
- معجم البلاد العربية .. وهو معجم يحدد الأماكن والمدن والقرى والأصقاع والنجوع والدساكر والجبال والأودية في الجزيرة العربية .
- أمراء نجد .
- معادن نجد .
والشيخ حمد الجاسر عضو بالمجمع العلمي العربي، وقد انتخب واختير عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة ثمان وخمسين وتسعمائة وألف في المكان الذى خلا بوفاة الشيخ عبد الوهاب خلاف - رحمه الله .
***
قال عنه الدكتور عبد الوهاب عزام عند استقباله عضوا بالمجمع :
«الأستاذ المحتفل به، عالمُُ ثَبتُُ خبير بمواضع الجزيرة العربية ومعالمها وسيجد الأدباء والمؤرخون والجغرافيون غناء وفائدة حين ينشر كتبه» .
لقد أفاد الجاسر المجمع إفادات جليلة مثمرة مثيرة بتحقيقاته لكثير من أماكن الجزيرة العربية؛ وإن لجنة المعجم الكبير ظلت على صلة وثيقة به، وهي صلة دائمة، تستشيره في كثير منأماكن الجزيرة العربية؛ فيوافيها بالجواب الشافي عن ذلك من هذه الناحية كانت إسهاماته الدقيقة النافعة في تحقيق المواضع والأنساب منطوية على فوائد عالية لا ضريب له فى الإحاطة بها والتعمق فيها .
وفي مجلة مجمع اللغة العربية ١٤ / ۲۳۲ كلماته في حفل استقباله في المجمع .
ثم إن له : نظرات في كتاب الأمكنة والمياه والجبال والآثار ونحوها المذكورة في الأحياء والأشعار، لأبي الفتح بصر بن عبد الرحمن الاسكندري . ( مؤتمر د ۳۸ ص ١٢٥ ) .
وللأستاذ حمد الجاسر صولات وجولات فاحصة، محققة مدققة في المجلد الذي أعدته لجنة المعجم الكبير .
***
وقد أثلج صدورنا وأسعدنا أن نعلم أن الأستاذ الشيخ حمد الجاسر قد حصل على جائزة الملك فيصل العالمية .. وأن الجهاز الفنى الخاص بمنح هذه الجائزة في المملكة العربية السعودية الشقيقة - يعتبر الأستاذ حمد الجاسر ركنا ركينا من رجال اللغة والأدب .
حّيَّاك الله وبيَّاك أيها الشيخ الجليل .. فإن عملك مذخور، وجهدك مأجور، وسعيك مشكور .. ولن يضيع عمل قصدت به وجه الله - تعالى - فنعم أجر العاملين .. بشرى من رب العالمين .
لقد أشرب في قلبه حب التراث الذي هو سند حضارة الأمة، فعمد - أعزه الله - إلى جمع صور المخطوطات النادرة من جميع مكتبات العالم، وكلنا يعلم انطواء مثل هذا الصنيع المحمود على المشقة والعنت والتكاليف .. فلا يتصدى لمثله إلا الأشداء من ذوى العزائم الماضية، والهمم العالية، والبصائر النافذة .
***
ركب حمد الجاسر في سبيل تحقيق ذلك المأرب - الصعب والذلول، يجمع صور المخطوطات من مظانها من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، من أقاصى الشمال إلى أقاصي الجنوب .. لم يترك فرصة سانحة إلا انتهزها ولا بادرة متاحة إلا أتاها، ودل الناس عليها مشيراً إليها في مجلته التي أسسها ويرأس تحريرها ( مجلة العرب ) التي تصدر من بيروت .
وتعنى مجلة العرب بالتراث الفكرى كما هو مذكور بديباجة غلافها وفى ( ترويستها )، وهي شهرية .
من أهم ما قدمه لنا حمد الجاسر أيضاً مخطوطة : «نسب قريش وأخبارها» للزبير بن بكار، نسَّابة قريش، والتي أخرج منها الشيخ محمود شاكر رحمه الله ( توفى ليلة الجمعة ۱۹۹۷/۸/۷م ) المجلد الأول سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة وألف للهجرة أي منذ سبع وعشرين سنة تقريباً .
***
بذل الشيخ حمد جهداً محموداً في النشرة الثانية لكتاب «وستنفلد» : ( علم الاستشراق ) للعربية المسمى : «مختلف القبائل ومؤتلفها لابن حبيب» والمنشور سلفاً في «جونتجن» سنة خمسين وثمانمائة وألف، من النسخة الأم بخط المؤرخ الأديب المقريزي، والتي حصل عليها إبان رحلته للحج سنة تسع وثلاثين وثمانمائة للهجرة من مكة المكرمة .
ثم أعاد الجاسر طبع ونشر هذا الكتاب مرة أخرى مع كتاب «الإيناس في علم الأنساب» للوزير المغربي، النادى الأدبى بالرياض سنة ١٤٠٠ هـ ١٩٨٠م .