بين الأزهر وبين القرية، يولد طالب العلم كل يوم مرة على تجارب لم يشهدها وحياة لم يألفها، في تلك المدينة التي يختنق صوت المؤذن فيها بصيحات المعربدين الفجار، والتي لو بعث فيها اليوم منشئها الأول جوهر الصقلي لما وجد فيها مكاناً يأوي إليه، ولآثر عليها منادمة منكر ونكير. . .
ويوم غادر الشيخ عبد الباسط محمد حسين أبو جبل قريته الصغيرة لينتسب إلى الأزهر، كان أكثر أهله في وداعه، وقبيل أن يعلن القطار ضجره من الانتظار بصفيره المزعج، انتحى به والده ناحية منعزلة وأوصاه بالصلاة والمذاكرة وطاعة شيوخه واحتقار ملذات الدنيا الفانية
ثم دس الوالد في يد ولده خطاباً علت غلافه بصمات أصابعه المغمورة بالتراب، وطلب منه أن يقدمه إلى سيد القرية في القاهرة وهو رجل من الأثرياء يملك أكثر أرض هذه البقعة وينظر إليه الأهلون كإنسان لم يخلقوا على طرازه، فلا بدع أن يتخذوا منه السيد والمولى، وأن يخشوا غضبه كما يخشى العابد غضب الإله
وحل الشيخ عبد الباسط في غرفة مظلمة في حي الباطنية بالقرب من الأزهر، وحل معه فيها خمسة من الطلاب ومجموعة من الهوام والحشرات كانت تشارك أهل هذا الكهف طعامهم وشرابهم، وتخفف الدم النقي من جسومهم فلا يشعرون بالحاجة إلى معصية الله. . .
ولم يكد يضع عبد الباسط رحله، ويؤدي الصلاة المكتوبة، ويستفسر من زملائه الذين سبقوه عن مواعيد الدراسة وعن كراء البيت حتى ذكر خطاب سيد والده الغني، فأخرجه من جيبه بوقار وخشوع وراح يسأل عن هذا العنوان:
- جاردن. . جا. . جار. . دن. . جاردن ستي. . أي عنوان هذا؟. . محمد بك الخربوطلي بجاردن ستي!
وتضاحك زملاؤه الخمسة من جهل صاحبهم بأحياء القاهرة وهم الذين يعرفونها حياً حياً. . وراودت النكتة اللفظية أحدهم عن نفسه فأطلقها:
- ستّي ولا ستّك. . ها ها!
وضحك الجميع حتى الشيخ عبد الباسط عن طيب خاطر
يعيش محمد بك الخربوطلي في منزل يضم فتياته الثلاث (صفية وحكمت وآمال) وكلهن جاوزن سن الزواج. ولما كان الأب فاجراً متهتكاً فقد نسج فتياته على منواله، لذلك وجدت كل واحدة منهن أصدقاء كثيرين ولكنها لم تجد زوجاً إلى اليوم
وكان محمد بك رجلاً في حدود الخمسين؛ وقد توفيت زوجته في حادث مؤلم، فراح ينسى الدنس الذي علق بشرفه بالإفراط في كل ما يستثير شهواته الخسيسة، ولم يكن في برنامجه أن يحتفل بتربية بناته بل تركهن في أيدي الظروف
في يوم من أيام الربيع الصافية، وقف الشيخ عبد الباسط ومعه زملاؤه الخمسة الذين تطوعوا بتعريفه منزل السيد، يصفق بيديه على باب المنزل، ويمسح العرق المتصبب من جبينه بطرف جبته الخضراء، على حين جلس زملاؤه فوق المقعد الخشبي الذي يجلس فوقه حارس الباب وهم يلهثون
وجاء البستاني العجوز وهو يبصق الشتائم والإهانات من فمه، فقد أزعجه هذا الذي يصفق دون أن يسكت، ثم سأله:
- ماذا تريد؟
قالها بلهجة حاكم متغطرس لخادم عنده. ولم يكن الشيخ عبد الباسط يتوقع هذه الخشونة، أمام زملائه على الأقل، فأخفى خجله في سعاله وسلم إلى البستاني خطاب والده إلى سعادة ألبك. . وعاد البستاني يقول له باللهجة الأولى:
- أدخل. . .
ثم ضرب البستاني الباب الحديدي وراءه بعنف وغضب. فدخل الشيخ عبد الباسط وقلبه يتراكض بين جنبيه؛ ثم اقتيد إلى حجرة بهره فيها أثاثها الفخم مما لم ير مثله إلا في الحوانيت التي قاده للفرجة عليها زملاؤه. فأدرك لفوره في أي طريق ينفق سيد القرية أمواله. .
وشهد في الحجرة وسادة ملقاة على الأرض فرام الجلوس فوقها، بيد أن الخادم الطيب أنهضه ليجلس على مقعد مريح. وهنا ابتسم الشيخ عبد الباسط على رغم أنفه. . ابتسم لأنه لم يكن يقدر على البكاء. . .
وبينما هو يجول ببصره فيما أثبت على الجدار من صور وما حشد في الحجرة من نفائس، إذا بصوت ناعم يصل إلى أذنيه، وإذا بفتاة هيفاء تدخل إلى الحجرة وهي تغني، فلما رأت الشيخ الجالس أمامها تظاهرت بالفزع وصاحت:
- بردون يا. . يا أستاذ! ثم واصلت الغناء. . .
وجاء الخادم يشرح للفتاة من يكون هذا الشيخ؟ إنه نجل وكيل والدها في ضيعته، وقد جاء إلى القاهرة ليطلب العلم فأرسله أبوه إلى سيده ليشمله برعايته. . .
وتلطفت الفتاة وصوبت بصرها إلى هذا المخلوق، فإذا هو شاب ممتلئ الجسم في لحية قصيرة كأنما صنعها بيديه. أما ذلك المخلوق فلم يكن يدري أحد ماذا يعتلج في ذهنه من الخواطر، وقد غمره الموقف الشاذ بفيض من البلاهة، ففغر فمه وبقي في صمته الجليل، وقد غض الطرف وذكر نصيحة والده له فلم يخالس الفتاة النظر سوى مرتين
وجاء السيد في جلباب حريري أزرق، فنهض الشيخ عبد الباسط وقبل يده ثلاث مرات كما يصنع مع شيخه في الدرس، ثم وقف صامتاً وقد أنساه الشيطان الكلمات الفخمة التي زورها ليلقي بها في هذا المقام
وقال السيد وهو يعبث بلفافة تبغ في أصابعه:
- كيف والدك؟. . . هل بعث معك مالاً؟. . كيف أنت؟. . اجلس. . هل تدخن؟. . .
وماتت الإجابة على هذه الأسئلة كلها فوق شفتي الشيخ عبد الباسط فلم ينطق وإن كان قد جلس على حافة المقعد ورقبته ممتدة ويده العابثة بلحيته ترتعش
وجاءت القهوة، فشرب نصف ما في الفنجانة، وضمخ بالنصف الآخر ثيابه من الدهشة والخوف. ومرت به الفتاة التي رآها حينذاك وهي تغني، فربكه مرآها واختل توازنه فوق حافة المقعد وهوى على الأرض؛ ومن ثم ضحك السيد والفتاة والخادم الواقف بقرب الباب. . . وضحك الشيخ عبد الباسط أيضاً! وكثر تردد الشيخ عبد الباسط على منزل السيد، وفي المرات الأولى كان ظله ثقيلاً على نفوس أهل المنزل؛ فلما كشف عن سذاجته وألح في الزيارة استطابوا وجوده. وكان في كل يوم يكشف عن أسماء النفائس التي يراها في المنزل فيحفظها كما يحفظ ألفية ابن مالك؛ ولم يكن يبالي السخرية به والتهكم عليه، فان العبد وما ملكت يده لسيده؛ وكان يؤثر على الجميع الفتاة التي تغني، وكانت هي من جانبها تزيد في الإساءة إليه فيحسب أن يده تقبض على قلبها
ولم يعد الشيخ عبد الباسط يحتفل بدروسه، لا ولا بصلواته. أما زملاؤه فقد أنكروا عليه هذا الإهمال، وتوعدوه بالخزي في الدنيا والآخرة. غير أنه كان يتمثل في وجوههم شقوة البؤس، فلم يعبأ حتى بأن يدفع نصائحهم عنه بطرف أصبعه
وانقلب الشيخ عبد الباسط فجأة إلى متظرف يطالع الصحف ويغشى المقاهي ويتهكم بشيوخه الأعلام، حتى زجاجة العطر التي لمحها في أحد الحوانيت ظل يقتصد ثمنها واشتراها، والساعة والمنديل الحريري والحذاء اللامع. . . كان ذلك كله في سبيل أن يحوز رضاء تلك الفتاة اللعوب التي لا تعرف من الدنيا سوى الغناء
وكان الشيخ عبد الباسط يرى في منزل السيد كل مرة أصنافا من الشبان يفدون على الدار في أزياء خليعة، حاسري الرؤوس حليقي اللحى والشوارب، وكان يسأل الخدم عنهم واحداً فواحداً، ويعرف أنهم أصدقاء الأسرة فيسكت، ويكلفه سكوته هذا لعنة أولئك الشبان في سره وذلك أَضعف الإيمان
ولم يكن الشيخ عبد الباسط يجترئ على التفكير في هذه الدنيا العجيبة التي يضمها منزل السيد، وإن كان قد فكر مراراً في أنه أصبح مطلوبا ومرغوبا فيه
ألم يقل له محمد بك ذات يوم:
- حصلت البركة يا أستاذ!
كلمة لا يقولها السيد إلا لمن يحبه ويوده. ألم تصارحه الفتاة التي تغني ذات مساء بأن دمه خفيف. ثم ضربته بيدها على وجهه، وضرب الحبيب مثل أكل الزبيب!
ترى هل حان الوقت الذي يصارحهم فيه بما تضطرم به نفسه من رغبات!
وجاء ذلك الوقت فلم يفاجئ الشيخ عبد الباسط برغبته رب الأسرة، لأنه كان رغم كل شيء يتهيب ويخجل. وكانت رغبته أن يتزوج بتلك الفتاة التي تغني دائما والتي لم يعرف اسمها بعد. وكثيرا ما تمثل هذا البدن الناعم البديع واستعاد ذكريات أمسه السعيد، فيسمعه زملاؤه في الغرفة يئن ويصرخ من هول ما يعتمل في صدره. . .
لم يقدر الفوارق الهائلة بينه وبينها، ولا راعى مركزه كطالب علم فقير، ولكنه أقنع نفسه بأن كل شيء يسوى بنفسه، والمصادفات قد تكون في بعض الأحايين سبباً في أن يرتفع المرء من الغرفة الحقيرة إلى القصر المنيف
وبعد تفكير طويل أودع الشيخ عبد الباسط سره الخطير لدى أحد الخدم في المنزل، فتضاحك الخادم وسكت، وكان في سكوته ما حمل الشيخ عبد الباسط على أن يتأول ويستولد عدم استحالة الوصول إلى مبتغاه
والظاهر أن الخادم أفضى إلى الفتيات بما قال الشيخ، ولا ريب أنهن تضاحكن وعبثن بالفتاة التي وقع عليها اختياره، ثم انقلب الموضوع إلى فكرة ضخمة. لذلك استقبل الشيخ عبد الباسط في اليوم التالي استقبالاً فخما، وكأنما كان يتوقع ذلك فراح يفرض وجوده في المجلس ويصعر خده للجالسين والجالسات. . .
واقترب يوم الزواج ولم يكلف الشيخ عبد الباسط أن يدفع شيئاً وزاد أهل المنزل في الحفاوة به والترحيب فكان الذي يشغله أنه يتزوج ووالده لا يعلم، ولكن ماذا يهم والفتاة جميلة ووالدها سيد القرية. .
وفي اليوم الموعود كان رب المنزل غائباً، ومن الإنصاف أن نقول إنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئاً؛ غير أن الشيخ عبد الباسط لم يكن يهمه ذلك، فقد آمن بأن الرجل يعلم دون شك ولم يفاتحه في الأمر حتى لا يسئ إلى ذات نفسه ويخجله
وأنيرت الدار وأقبل المدعوون، ولم يجرؤ الشيخ عبد الباسط على دعوة زملائه حتى لا يفسدوا عليه خياله، واكتفى بأن زاد في الأناقة وفي التجمل، وراح يحفظ قصائد الغزل كلها ليسكب بها في أذن عروسه الحسناء. .
وتم عقد الزواج على يد مأذون حليق اللحية والشارب وإن كان يرتدي جبة وعمامة، وكان هناك مغن يترنم بصوته والمدعوون من كل صنف يقصفون ويلهون. .
واقترح أحدهم على الشيخ عبد الباسط أن يشرب قدحاً قدمه إليه فلم يستسغ طعمه، ثم أعطاه قدحاً آخر وقدحاً ثالثاً. . والجمع الصاخب يطلق الضحكات المخمورة من عقالها وهو ذاهل لا يعرف رأسه من قدميه. .
وأفردت له ولعروسه حجرة خاصة في المنزل الفخم، ولما أحس دوارا في رأسه انكفأ إلى حجرته وهبط إلى الفراش لا يقوى على النظر ثم أدركه النوم العميق. .
وفي الصباح وجد إلى جانبه عروسا من الخشب. . والجمع الحاشد يغمر حجرة نومه بالضحك، ثم تكشفت له الحيلة شيئاً فشيئاً حتى عرف كل شيء. . .
عرف أن المأذون شاب من أصدقاء أهل الدار استعار جبته وعمامته من فقيه المنزل، وعرف أنه شرب في الأقداح الثلاثة خمرا حرمها الله؛ وأخيراً عرف أن عروسه من الخشب وليس لها طاقة على الغناء!
محمد علي غريب
مجلة الرسالة - العدد 158
بتاريخ: 13 - 07 - 1936
ويوم غادر الشيخ عبد الباسط محمد حسين أبو جبل قريته الصغيرة لينتسب إلى الأزهر، كان أكثر أهله في وداعه، وقبيل أن يعلن القطار ضجره من الانتظار بصفيره المزعج، انتحى به والده ناحية منعزلة وأوصاه بالصلاة والمذاكرة وطاعة شيوخه واحتقار ملذات الدنيا الفانية
ثم دس الوالد في يد ولده خطاباً علت غلافه بصمات أصابعه المغمورة بالتراب، وطلب منه أن يقدمه إلى سيد القرية في القاهرة وهو رجل من الأثرياء يملك أكثر أرض هذه البقعة وينظر إليه الأهلون كإنسان لم يخلقوا على طرازه، فلا بدع أن يتخذوا منه السيد والمولى، وأن يخشوا غضبه كما يخشى العابد غضب الإله
وحل الشيخ عبد الباسط في غرفة مظلمة في حي الباطنية بالقرب من الأزهر، وحل معه فيها خمسة من الطلاب ومجموعة من الهوام والحشرات كانت تشارك أهل هذا الكهف طعامهم وشرابهم، وتخفف الدم النقي من جسومهم فلا يشعرون بالحاجة إلى معصية الله. . .
ولم يكد يضع عبد الباسط رحله، ويؤدي الصلاة المكتوبة، ويستفسر من زملائه الذين سبقوه عن مواعيد الدراسة وعن كراء البيت حتى ذكر خطاب سيد والده الغني، فأخرجه من جيبه بوقار وخشوع وراح يسأل عن هذا العنوان:
- جاردن. . جا. . جار. . دن. . جاردن ستي. . أي عنوان هذا؟. . محمد بك الخربوطلي بجاردن ستي!
وتضاحك زملاؤه الخمسة من جهل صاحبهم بأحياء القاهرة وهم الذين يعرفونها حياً حياً. . وراودت النكتة اللفظية أحدهم عن نفسه فأطلقها:
- ستّي ولا ستّك. . ها ها!
وضحك الجميع حتى الشيخ عبد الباسط عن طيب خاطر
يعيش محمد بك الخربوطلي في منزل يضم فتياته الثلاث (صفية وحكمت وآمال) وكلهن جاوزن سن الزواج. ولما كان الأب فاجراً متهتكاً فقد نسج فتياته على منواله، لذلك وجدت كل واحدة منهن أصدقاء كثيرين ولكنها لم تجد زوجاً إلى اليوم
وكان محمد بك رجلاً في حدود الخمسين؛ وقد توفيت زوجته في حادث مؤلم، فراح ينسى الدنس الذي علق بشرفه بالإفراط في كل ما يستثير شهواته الخسيسة، ولم يكن في برنامجه أن يحتفل بتربية بناته بل تركهن في أيدي الظروف
في يوم من أيام الربيع الصافية، وقف الشيخ عبد الباسط ومعه زملاؤه الخمسة الذين تطوعوا بتعريفه منزل السيد، يصفق بيديه على باب المنزل، ويمسح العرق المتصبب من جبينه بطرف جبته الخضراء، على حين جلس زملاؤه فوق المقعد الخشبي الذي يجلس فوقه حارس الباب وهم يلهثون
وجاء البستاني العجوز وهو يبصق الشتائم والإهانات من فمه، فقد أزعجه هذا الذي يصفق دون أن يسكت، ثم سأله:
- ماذا تريد؟
قالها بلهجة حاكم متغطرس لخادم عنده. ولم يكن الشيخ عبد الباسط يتوقع هذه الخشونة، أمام زملائه على الأقل، فأخفى خجله في سعاله وسلم إلى البستاني خطاب والده إلى سعادة ألبك. . وعاد البستاني يقول له باللهجة الأولى:
- أدخل. . .
ثم ضرب البستاني الباب الحديدي وراءه بعنف وغضب. فدخل الشيخ عبد الباسط وقلبه يتراكض بين جنبيه؛ ثم اقتيد إلى حجرة بهره فيها أثاثها الفخم مما لم ير مثله إلا في الحوانيت التي قاده للفرجة عليها زملاؤه. فأدرك لفوره في أي طريق ينفق سيد القرية أمواله. .
وشهد في الحجرة وسادة ملقاة على الأرض فرام الجلوس فوقها، بيد أن الخادم الطيب أنهضه ليجلس على مقعد مريح. وهنا ابتسم الشيخ عبد الباسط على رغم أنفه. . ابتسم لأنه لم يكن يقدر على البكاء. . .
وبينما هو يجول ببصره فيما أثبت على الجدار من صور وما حشد في الحجرة من نفائس، إذا بصوت ناعم يصل إلى أذنيه، وإذا بفتاة هيفاء تدخل إلى الحجرة وهي تغني، فلما رأت الشيخ الجالس أمامها تظاهرت بالفزع وصاحت:
- بردون يا. . يا أستاذ! ثم واصلت الغناء. . .
وجاء الخادم يشرح للفتاة من يكون هذا الشيخ؟ إنه نجل وكيل والدها في ضيعته، وقد جاء إلى القاهرة ليطلب العلم فأرسله أبوه إلى سيده ليشمله برعايته. . .
وتلطفت الفتاة وصوبت بصرها إلى هذا المخلوق، فإذا هو شاب ممتلئ الجسم في لحية قصيرة كأنما صنعها بيديه. أما ذلك المخلوق فلم يكن يدري أحد ماذا يعتلج في ذهنه من الخواطر، وقد غمره الموقف الشاذ بفيض من البلاهة، ففغر فمه وبقي في صمته الجليل، وقد غض الطرف وذكر نصيحة والده له فلم يخالس الفتاة النظر سوى مرتين
وجاء السيد في جلباب حريري أزرق، فنهض الشيخ عبد الباسط وقبل يده ثلاث مرات كما يصنع مع شيخه في الدرس، ثم وقف صامتاً وقد أنساه الشيطان الكلمات الفخمة التي زورها ليلقي بها في هذا المقام
وقال السيد وهو يعبث بلفافة تبغ في أصابعه:
- كيف والدك؟. . . هل بعث معك مالاً؟. . كيف أنت؟. . اجلس. . هل تدخن؟. . .
وماتت الإجابة على هذه الأسئلة كلها فوق شفتي الشيخ عبد الباسط فلم ينطق وإن كان قد جلس على حافة المقعد ورقبته ممتدة ويده العابثة بلحيته ترتعش
وجاءت القهوة، فشرب نصف ما في الفنجانة، وضمخ بالنصف الآخر ثيابه من الدهشة والخوف. ومرت به الفتاة التي رآها حينذاك وهي تغني، فربكه مرآها واختل توازنه فوق حافة المقعد وهوى على الأرض؛ ومن ثم ضحك السيد والفتاة والخادم الواقف بقرب الباب. . . وضحك الشيخ عبد الباسط أيضاً! وكثر تردد الشيخ عبد الباسط على منزل السيد، وفي المرات الأولى كان ظله ثقيلاً على نفوس أهل المنزل؛ فلما كشف عن سذاجته وألح في الزيارة استطابوا وجوده. وكان في كل يوم يكشف عن أسماء النفائس التي يراها في المنزل فيحفظها كما يحفظ ألفية ابن مالك؛ ولم يكن يبالي السخرية به والتهكم عليه، فان العبد وما ملكت يده لسيده؛ وكان يؤثر على الجميع الفتاة التي تغني، وكانت هي من جانبها تزيد في الإساءة إليه فيحسب أن يده تقبض على قلبها
ولم يعد الشيخ عبد الباسط يحتفل بدروسه، لا ولا بصلواته. أما زملاؤه فقد أنكروا عليه هذا الإهمال، وتوعدوه بالخزي في الدنيا والآخرة. غير أنه كان يتمثل في وجوههم شقوة البؤس، فلم يعبأ حتى بأن يدفع نصائحهم عنه بطرف أصبعه
وانقلب الشيخ عبد الباسط فجأة إلى متظرف يطالع الصحف ويغشى المقاهي ويتهكم بشيوخه الأعلام، حتى زجاجة العطر التي لمحها في أحد الحوانيت ظل يقتصد ثمنها واشتراها، والساعة والمنديل الحريري والحذاء اللامع. . . كان ذلك كله في سبيل أن يحوز رضاء تلك الفتاة اللعوب التي لا تعرف من الدنيا سوى الغناء
وكان الشيخ عبد الباسط يرى في منزل السيد كل مرة أصنافا من الشبان يفدون على الدار في أزياء خليعة، حاسري الرؤوس حليقي اللحى والشوارب، وكان يسأل الخدم عنهم واحداً فواحداً، ويعرف أنهم أصدقاء الأسرة فيسكت، ويكلفه سكوته هذا لعنة أولئك الشبان في سره وذلك أَضعف الإيمان
ولم يكن الشيخ عبد الباسط يجترئ على التفكير في هذه الدنيا العجيبة التي يضمها منزل السيد، وإن كان قد فكر مراراً في أنه أصبح مطلوبا ومرغوبا فيه
ألم يقل له محمد بك ذات يوم:
- حصلت البركة يا أستاذ!
كلمة لا يقولها السيد إلا لمن يحبه ويوده. ألم تصارحه الفتاة التي تغني ذات مساء بأن دمه خفيف. ثم ضربته بيدها على وجهه، وضرب الحبيب مثل أكل الزبيب!
ترى هل حان الوقت الذي يصارحهم فيه بما تضطرم به نفسه من رغبات!
وجاء ذلك الوقت فلم يفاجئ الشيخ عبد الباسط برغبته رب الأسرة، لأنه كان رغم كل شيء يتهيب ويخجل. وكانت رغبته أن يتزوج بتلك الفتاة التي تغني دائما والتي لم يعرف اسمها بعد. وكثيرا ما تمثل هذا البدن الناعم البديع واستعاد ذكريات أمسه السعيد، فيسمعه زملاؤه في الغرفة يئن ويصرخ من هول ما يعتمل في صدره. . .
لم يقدر الفوارق الهائلة بينه وبينها، ولا راعى مركزه كطالب علم فقير، ولكنه أقنع نفسه بأن كل شيء يسوى بنفسه، والمصادفات قد تكون في بعض الأحايين سبباً في أن يرتفع المرء من الغرفة الحقيرة إلى القصر المنيف
وبعد تفكير طويل أودع الشيخ عبد الباسط سره الخطير لدى أحد الخدم في المنزل، فتضاحك الخادم وسكت، وكان في سكوته ما حمل الشيخ عبد الباسط على أن يتأول ويستولد عدم استحالة الوصول إلى مبتغاه
والظاهر أن الخادم أفضى إلى الفتيات بما قال الشيخ، ولا ريب أنهن تضاحكن وعبثن بالفتاة التي وقع عليها اختياره، ثم انقلب الموضوع إلى فكرة ضخمة. لذلك استقبل الشيخ عبد الباسط في اليوم التالي استقبالاً فخما، وكأنما كان يتوقع ذلك فراح يفرض وجوده في المجلس ويصعر خده للجالسين والجالسات. . .
واقترب يوم الزواج ولم يكلف الشيخ عبد الباسط أن يدفع شيئاً وزاد أهل المنزل في الحفاوة به والترحيب فكان الذي يشغله أنه يتزوج ووالده لا يعلم، ولكن ماذا يهم والفتاة جميلة ووالدها سيد القرية. .
وفي اليوم الموعود كان رب المنزل غائباً، ومن الإنصاف أن نقول إنه لا يعرف عن هذا الموضوع شيئاً؛ غير أن الشيخ عبد الباسط لم يكن يهمه ذلك، فقد آمن بأن الرجل يعلم دون شك ولم يفاتحه في الأمر حتى لا يسئ إلى ذات نفسه ويخجله
وأنيرت الدار وأقبل المدعوون، ولم يجرؤ الشيخ عبد الباسط على دعوة زملائه حتى لا يفسدوا عليه خياله، واكتفى بأن زاد في الأناقة وفي التجمل، وراح يحفظ قصائد الغزل كلها ليسكب بها في أذن عروسه الحسناء. .
وتم عقد الزواج على يد مأذون حليق اللحية والشارب وإن كان يرتدي جبة وعمامة، وكان هناك مغن يترنم بصوته والمدعوون من كل صنف يقصفون ويلهون. .
واقترح أحدهم على الشيخ عبد الباسط أن يشرب قدحاً قدمه إليه فلم يستسغ طعمه، ثم أعطاه قدحاً آخر وقدحاً ثالثاً. . والجمع الصاخب يطلق الضحكات المخمورة من عقالها وهو ذاهل لا يعرف رأسه من قدميه. .
وأفردت له ولعروسه حجرة خاصة في المنزل الفخم، ولما أحس دوارا في رأسه انكفأ إلى حجرته وهبط إلى الفراش لا يقوى على النظر ثم أدركه النوم العميق. .
وفي الصباح وجد إلى جانبه عروسا من الخشب. . والجمع الحاشد يغمر حجرة نومه بالضحك، ثم تكشفت له الحيلة شيئاً فشيئاً حتى عرف كل شيء. . .
عرف أن المأذون شاب من أصدقاء أهل الدار استعار جبته وعمامته من فقيه المنزل، وعرف أنه شرب في الأقداح الثلاثة خمرا حرمها الله؛ وأخيراً عرف أن عروسه من الخشب وليس لها طاقة على الغناء!
محمد علي غريب
مجلة الرسالة - العدد 158
بتاريخ: 13 - 07 - 1936