(تشرب. . .؟)
(لا. . . وأشكرك. . .)
فانحنى مساعد السائق، ووضع القلة الفخارية المفحمة في ركن من القاطرة، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبي فمه، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى:
(الفكرية؟)
(آه. . . . . .)
(. . . . . . . . .)
(فحم. . .)
ففتح المساعد باب الفرن المستدير، ورمق النار وهي تتضرم وتلتهب، وطالعه وهجها وسعيرها، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم وقوس ظهره وغيب طرف المجراف في المخزن، ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب، ورمى النار بالوقود، فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت، ثم شبت وامتدت ألسنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن، ودارت على جوانبها وسقفها، وزادها تيار الهواء ضراماً وسعيراً. . . ورمى المساعد النار بمجراف آخر، ثم رقبها لحظة، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معاً، وضم الباب بيده، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت، ونزلت يده على جنبه وتنفس وقال في صوت هادئ تشوبه بعض المرارة:
(كل شيء تغير في هذه الدنيا بعد الحرب. . . حتى الفحم)
فسأل السائق وعينه على الطريق وظهره إلى مساعده: (لماذا. . .؟)
فقال المساعد في حماسة غير منتظرة وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق:
(كان الفحم قوالب ضخمة. . . كارديف. . . وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها. . كنا ننزل القالب في حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة في النار وننام على حسه!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه. .)
فتحول إليه السائق بجانب وجهه، وبصره لا يزال عالقاً بالقضيب، وقال باسماً في خبث:
(تعبت. . .؟)
(تعبت!! لا يزال نور (المنيا) بادياً. . رحم الله أيام الشباب، كنا نعمل في الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفاً على الأقدام ولا نفكر حتى في الطعام. كان أحسن الله إليه. . .)
وحبس سيل الكلام بعد أن بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار. . وسأله:
(59؟. .)
(8. . . .)
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك (بالاسطبة) وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة؛ ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلاً، ففعل، وهب البخار القوي من بوق القاطرة وهو يئز وينش وطار مع التيار، ولما قفل المساعد المحبس ثانية رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة، فعبس وكشر، وصمت محنقاً، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق!
وكان السائق واقفاً عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق، وهو يدخن؛ وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ودرجة البخار ومقياس الطريق، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة، ويده في سرواله الأزرق، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوي البارز، وعلى كتفيه وفي طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح. وكان في وقفته ساكن الملامح، هادئ النفس، ثابت الجوارح، راسخ القدم، فعل الواثق من نفسه وعمله؛ وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح في ذلك.
أما المساعد فقد ما بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن وانطلق يدفع الدخان ويفكر، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه في حلته الزرقاء. ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق، انتصب المساعد وحدجه بطرفه، وتحول إلى ظله الجاري على الأرض، وأنعم فيه النظر في سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات فرفع وجهه، وكان السائق قد انحنى عليه وفي فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه، وقد تلاقت عينا الرجلين واختلطت أنفاسهما، ونظر المساعد في حدة إلى عيني صاحبه العميقتين السوداوين ذواتي البريق العجيب، والى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل. . وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته؛ شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى فتحسر وتقبض، ولما أرتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه، ويقارن بين جسمه القوي المصبوب، وبين نفسه، وهو الناحل الضامر المعروق. وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض في مخيلته عمل كل منهما، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد. . . وأنطلق يحدث نفسه:
(ما الذي يفعله هذا السائق. . يحرك القطار في المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار. . ويمضي معظم الليل واضعاً يده في جيوبه يدخن، ويتلهى بالنظر إلى الطريق، وكل ما يعمله هو عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق. . وبعض الأحيان بتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة!! ثم بعد هذا كله يلقي الأوامر: غذِّ النار. . ندِّ الفحم. . زّيت الآلات. . أما أنا فأظل الليل طوله واقفاً على باب جهنم، أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت، حتى يلمع ويصقل، وجسمي عليه ضعف قاذوراته.
وإذا وقف القطار في المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيّت العدد الصغيرة والمفاصل والدوافع والجواذب وأمسح معدن الذراع، فحتى هذا يجب أن يكون لامعاً!. وإذا ملأنا الماء طوقت الخرطوم بذراعي ودفعته عن الخزان بجسمي فيصيبني هاطله ويزيدني بلاء على بلائي. . . هذا هو عملي وعمله، ومع هذا فأجره ضعف أجري ويزيد، وأوقات فراغي وراحتي ليست كأوقات فراغه وراحته. . . وامرأته عاقر وامرأتي تجيء في كل عام بمولود سعيد!! وأولادي من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملئوا البطون بالطعام والسماء لا تجيب! وهو فارع قوي مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب، وأنا قميء ناحل معروق تقوست قناتي، وشابت شياتي، وأضحت جلدتي تتخدد. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عني. . . ومن يدري؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب في ذلك، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعفاء المرضى المناكيد، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا، واتقت شرنا، وأحنت لنا الرأس فسرنا في مسالكها شامخين. . .)
(فحم. . . . . .)
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان؛ وفتح باب الفرن وأقبل على النار يغذيها بالوقود وهو صامت صابر.
عندما جاز القطار محطة (ملوي) كان الليل قد انتصف واعتدل الجو، وهب النسيم العليل من جنبات الوادي الخصيب، فأثر هذا الجو الرخي المنعش على خواطر المساعد، فخف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه، ووقف ينصت لدوي القطار وهو ينهب الأرض ويطوي القرى والدساكر، وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام في جوفه، حتى بدت صامتة موحشة رهيبة، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه، يثرثر معه في أي موضوع، ويتكلم عن أي شيء، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية، فما كان يعنيه هذا، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه. . . . وفتح فمه ثم أطبقه، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن في أذنيه التيار الشديد، وسفي في وجهه الغبار وجرى على وجهه دخان الفحم، وسمع صفير قطار من بعيد فبقى في مكانه ليحيي السائق إن أمكن.! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان، فقال المساعد: وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة (367. .؟)
(نعم. . .)
(من الأقصر. . .؟)
(آه. . وخزن في أسيوط. . .)
(توفيق شاكر. . .؟)
فهز السائق رأسه موافقاً، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض في ذهنه صوراً باهتة يحاول بروزها ووضوحها وغير من نبرات صوته وهو يقول:
(كان سائقاً للقطار 72. . . أنزلوه. . . بعض الأحيان تتحكم الأقدار. . .)
فلم يقل السائق شيئاً وأخذ يتمثل في مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه. . . ثم وضع يده على جبينه يتفرس في الطريق، يستشف الحجب، ما وراء الغيب، ما في بطن الأقدار فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه:
(كان خارجاً من ورشة سوهاج. . . ليوصل القطار إلى الأقصر. . . كانت السرعة أكثر من اللازم، وكان العامل يتخطى القضبان. . . توفيق نفسه لا يدري كيف مات الرجل. . شهد عليه عامل (البلوك) و (اثنان من الخفراء)
فقال السائق وقد حز في نفسه الأسى على صاحبه
(سيئ الحظ. . . وكان عليه أن يحاذر)
فقال المساعد بصوت وإن:
(يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات. . . فما الذي يدفعه الحذر والسائق والكشاف ونور الكشاف؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التي تبعث على الدهشة والتفكير العميق. . . كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين، على جملة، ينتظر مرور القطار، ومر القطار وفزع الجمل، ورمى الرجل تحت العجلات. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ولكنه جفل في هذه المرة لسبب لا نفهمه.)
فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة:
(ولكن إذا كان الفلاح قد رد الجمل عن الحديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت؟)
(كان لا يستطيع في تلك الساعة أن يفعل ذلك. . . كان لا بد من أن يموت فمات) ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونوَّر فتحول المساعد إلى الحقل وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً، فقد بدأ الوادي ينحني والشريط يدور، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه، وهدأت حركة الآلات نوعاً، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن، وطرفه على الساعة والمقياس، واستمر هكذا مدة، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى في شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجري عليه أيدي العمال في النهار. . ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهواً بعض الأدوات الحديدية على الشريط، فمد بصره إلى نهاية نور الكشافة وثبت نظره على حديد القضبان. . . وفكر في نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة سيدخل محطة أسيوط؛ وسره هذا كما سره خروجه منتصراً من الطريق المرمم. . وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن. . وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض.
وقال المساعد:
(النيل عال. . وشديد)
فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار.
(أتخاف أن تتقطع الجسور؟)
(لا. . . جسور القطارات هي آخر من يصيبه الأذى دائماً!)
وبقى نظر السائق ثابتاً على النيل وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد.
وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية. . .
وخيم صمت عميق.
وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش:
(رجل. . .)
(ماذا. .؟؟؟) (رجل تحت. . الـ. . .)
فتلفت السائق في سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب في غمرة الليل. . فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار في حذر شديد. . . وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه. . . ثم حبس البخار. . . وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد وقد أجبرت على البطء على غير انتظار، ووقف وروحه تثور ونفسه حانقة ساخطة.
كان يود أن يدخل محطة أسيوط في الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين. . . منذ خمس سنوات لم يتأخر في حياته مرة. . . مرة واحدة. . . كان دائماً يحاذي الرصيف وعقرب الثواني على الستين. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالي على الأخوان، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو العارف بأنه المسيطر على الحديد والنار. كان إذا تأخر في أثناء الطريق يغذي النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة في ميعاده. . . ولكنه الآن سيتأخر لأول مرة في حياته كسائق سيتأخر. . . سيتأخر. . . لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثاً. . . بل أكثر من ذلك. شعر بنفسه تذوب حسرات، أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول. . . كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات (البستون). . . تدوي في أذنيه كالطاحون البالية، كالمدافع المنطلقة على غير هدى في وادي التيه. أحس بدمه يفور. . . وروحه تثور حتى عقدت جبينه السحب. . ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه. . . أي مأفون هذا الرجل الذي عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة. . .؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه، وطحنته العجلات، وجرى دمه مع الزيت فتفطر قلبه على الرجل المسكين. . . ووقف تتملكه أعصابه الحديدية. صامتاً. . . حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطيل، والبخار ينش ويئز، والذراع يغالب ويجاهد، ويطوح بنفسه في ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر.
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوي عند العجلات الأمامية ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط، وكان لصوت قدميه دوي مسموع في الليل الساكن، وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على (الاسطبة) الملوثة بالزيت القذر، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه:
(لا شيء. . .؟)
(لا شيء في العجلات الأمامية، وإنما أثر الدم واضح في التروس الخلفية التي أخذ عندها الرجل، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام. . .)
فصمت المساعد وكأنه يفكر، ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذي في يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعاً لهبات الرياح. . وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ولوث الكثير من جسمه، فمسح الرجل الزيت في سرواله، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه، واستدار ومد بصره وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ووجوههم إلى الخلف، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع (الكمساري) وحولهما بعض الناس.
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برايته، فقال لمساعده:
(اطلع. . .)
فطلع المساعد إلى القاطرة ووضع المزيتة جانباً، وبعد السائق عن النافذة الجانبية ووقف أمام الآلة يحدق في الساعة، ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة في بطء وثقل شديد، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التي خلفها على الفارغ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ في سرعة وجنون، وزفر القطار وأز البخار ونش، وشال الذراع وحط، وتحركت العجلات الأمامية ولامست العجلات التي خلفها القضبان، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح. . . تقدم القطار في بطء وحزن من غير صفير!
محمود البدوي
مجلة الرسالة - العدد 178
بتاريخ: 30 - 11 - 1936
================
محمود البدوي (1908 - 1986) أديب مصري بارز اسمه الحقيقي كما ورد بشهادة الميلاد هو محمود أحمد حسن عمر' وقام بتغييره إلى الاسم الذي اشتهر به قبل ذهابه مباشرة ضمن أعضاء البعثة التي ضمت خيرة رجال التعليم في مصر إلى الهند والصين وهونج كونج واليابان في عام 1957 وأصبح اسمه في الأوراق الرسمية محمود البدوى أحمد حسن عمر. توفي في 12 فبراير 1986.
جوائز الدولة المصرية
صورة من جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 1986
منح اسمه بعد وفاته وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى في عام 1988
حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1986
حصل على جائزة الدولة للجدارة في الفنون عام 1978
مرحلة الطفولة
ولد محمود البدوى في قرية الإكراد مركز الفتح بمحافظة أسيوط في الرابع من شهر ديسمبر سنة 1908.
كان والده عمدة القرية ووالدته ابنة عبد المنعم التونى عمدة قرية اتليدم مركز ملوى بمحافظة المنيا «وكانت القرية تقع في آخر حدود مديرية أسيوط».
توفيت والدته وهو في السابعة من العمر، وكانت هي في الثلاثين من عمرها
مرحلة التعليم
قضى طفولته كلها في الريف حتى حصل على شهادة الابتدائية من مدرسة أسيوط
التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة وكان حريصا على قضاء كل إجازاته مع الفلاحين.
التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها، وترك الدراسة وهو في السنة الثالثة قسم اللغة الإنجليزية وآثر أن يثقف نفسه تثقيفا ذاتيا، فقرأ الأدب القديم والحديث، والآداب الأجنبية بلغتها الأصلية.
حياته الأدبية
دخل الحياة الأدبية لأول مرة من خلال نقل الآداب الأجنبية إلى اللغة العربية، ونشرها في مجلة الرسالة التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات منذ السنة الأولى لصدورها عام 1933.
سافر إلى أوروبا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية عام 1934 وعاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة وكتب رواية قصيرة باسم «الرحيل».
ساهم اسهاما حقيقيا في التعبير عن آمال الشعب في تغيير واقعه منذ صدور قصته الرحيل عام 1935.
تناول حياة الريف والفلاحين وصور طباع أهل الصعيد وأخلاقهم في محاولة منه للنفوذ إلى أعماق الفلاح المصري وتبرير تخلفه وما يعانيه من قسوة الإقطاع. وبلغت قصصه التي كتبها عن الريف والفلاحين في الصعيد تسعة وثمانون قصة.
أدى دوره الوطني بكتابة بعض القصص القصيرة في المناسبات الوطنية والكفاح ضد الاستعمار الإنجليزى وحروب 1948 و1956 و1967 و1973.
كتب ما يزيد على 389 قصة نشرت جميعها بالصحف والمجلات المصرية بالإضافة إلى المجلات المتخصصة كالرسالة والقصة والثقافة والأديب والهلال والمجلة والعصور والرواية، ولا يدخل في هذا الحصر القصص التي نشرها بالصحف والدوريات العربية حيث لم يمكن حصرها «أنظر الببليوجرافيا الملحقة بكتاب سيرة محمود البدوى.. بقلم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى.. مكتبة مصر 2002» و«محمود البدوى والقصة القصيرة بقلم على عبد اللطيف.. مكتبة مصر 2001»
صور بعض قصصه خلال رحلاته في أوروبا واليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا وبانكوك وروسيا والجزائر والدنمرك، وهي البلاد التي حركت مشاعره وأثر أهلها في عقله ووجدانه.
له كتاب واحد في أدب الرحلات عن رحلته إلى الصين واليابان وهونج كونج «مدينة الأحلام» (الدار القومية للطباعة والنشر 1963).
كان كثير الأسفار فقد طاف بأوربا وآسيا وبعض البلاد العربية والأفريقية في رحلات ثقافية وغير ثقافية وانعكس أثر هذه الأسفار عليه ككاتب يؤمن بالإنسان ويهتم به في كل بقاع الأرض وصوره في كتاباته.
أطلق عليه بعض النقاد والدارسين لقب «تشيكوف العرب» ولقب «راهب القصة القصيرة» ولقب «فارس القصة القصيرة»وآخر من لقبه بلقب تشيكوف القصة المصرية هو الأديب العالمي نجيب محفوظ في الحوار الذي أجرى معه بصحيفة القدس العربي بعددها الصادر في 3|1|2004
الكاتب العربي الوحيد الذي تقابل مع العالم النفسى الشهير «سيجموند فرويد» في النمسا أثناء زيارته لها في سنة 1934 والتصق به فترة غير قصيرة «من كتاب محمود البدوى والقصة القصيرة.. للكاتب على عبد اللطيف.. الناشر مكتبة مصر 2001» ومن كتاب «سيرة محمود البدوى للكاتبين على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى.. الناشر مكتبة مصر 2002»
مبررات منحه جائزة الدولة التقديرية
مبررات منحه جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1986 وفقالما ورد بالكتاب التذكارى الذي يتضمن تاريخا شاملا للجائزة منذ إنشائها سنة 1958 «مطبعة هيئة الآثار المصرية 1991 ص 101 و102»
بتاريخ 12 مارس 1932، التحق محمود البدوى بالعمل في قلم حسابات الحكومة بوزارة المالية بمرتب سبعة جنيهات ونصف، وانتدب للعمل في مصلحة الموانى والمنائر بالسويس، وفي عام 1934 عاد للعمل في مقر الوزارة بميدان اللاظوغلى.
واستمر في العمل بالوزارة ولم يطلب نقله للعمل في وظيفة أخرى لها صلة بالآداب وفنونه مثلما فعل زملاء له من الأدباء، وكان راضيا قانعا بوظيفته إلى أن احيل إلى المعاش لبلوغه السن القانونية في 3 ديسمبر 1968
حياته الوظيفيه كما سطرها بخط يده
تاريخ الألتحاق بالعمل 12 / 3 / 1932
(لا. . . وأشكرك. . .)
فانحنى مساعد السائق، ووضع القلة الفخارية المفحمة في ركن من القاطرة، وانتصب وهو يمسح بيده الماء السائل من جانبي فمه، وتحول إلى النافذة وقال بعد أن لمح نور إحدى القرى:
(الفكرية؟)
(آه. . . . . .)
(. . . . . . . . .)
(فحم. . .)
ففتح المساعد باب الفرن المستدير، ورمق النار وهي تتضرم وتلتهب، وطالعه وهجها وسعيرها، فارتد عنها وأمسك بمجراف الفحم وقوس ظهره وغيب طرف المجراف في المخزن، ثم استدار وتقدم خطوة وعينه على الباب، ورمى النار بالوقود، فخمدت جذوتها وتلوت ودخنت، ثم شبت وامتدت ألسنتها على الحديد والتصقت بجدران الفرن، ودارت على جوانبها وسقفها، وزادها تيار الهواء ضراماً وسعيراً. . . ورمى المساعد النار بمجراف آخر، ثم رقبها لحظة، وكأنه شعر بحاجتها إلى المزيد فرماها بمجرافين معاً، وضم الباب بيده، ونصب قامته ويده على مقبض المجراف، وطرف كمه الممزق يمسح العرق المتصبب الملوث بغبار الفحم وقطرات الزيت، ونزلت يده على جنبه وتنفس وقال في صوت هادئ تشوبه بعض المرارة:
(كل شيء تغير في هذه الدنيا بعد الحرب. . . حتى الفحم)
فسأل السائق وعينه على الطريق وظهره إلى مساعده: (لماذا. . .؟)
فقال المساعد في حماسة غير منتظرة وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق:
(كان الفحم قوالب ضخمة. . . كارديف. . . وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها. . كنا ننزل القالب في حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة في النار وننام على حسه!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه. .)
فتحول إليه السائق بجانب وجهه، وبصره لا يزال عالقاً بالقضيب، وقال باسماً في خبث:
(تعبت. . .؟)
(تعبت!! لا يزال نور (المنيا) بادياً. . رحم الله أيام الشباب، كنا نعمل في الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفاً على الأقدام ولا نفكر حتى في الطعام. كان أحسن الله إليه. . .)
وحبس سيل الكلام بعد أن بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار. . وسأله:
(59؟. .)
(8. . . .)
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك (بالاسطبة) وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة؛ ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلاً، ففعل، وهب البخار القوي من بوق القاطرة وهو يئز وينش وطار مع التيار، ولما قفل المساعد المحبس ثانية رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة، فعبس وكشر، وصمت محنقاً، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق!
وكان السائق واقفاً عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق، وهو يدخن؛ وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ودرجة البخار ومقياس الطريق، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة، ويده في سرواله الأزرق، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوي البارز، وعلى كتفيه وفي طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح. وكان في وقفته ساكن الملامح، هادئ النفس، ثابت الجوارح، راسخ القدم، فعل الواثق من نفسه وعمله؛ وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح في ذلك.
أما المساعد فقد ما بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن وانطلق يدفع الدخان ويفكر، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه في حلته الزرقاء. ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق، انتصب المساعد وحدجه بطرفه، وتحول إلى ظله الجاري على الأرض، وأنعم فيه النظر في سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات فرفع وجهه، وكان السائق قد انحنى عليه وفي فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه، وقد تلاقت عينا الرجلين واختلطت أنفاسهما، ونظر المساعد في حدة إلى عيني صاحبه العميقتين السوداوين ذواتي البريق العجيب، والى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل. . وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته؛ شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى فتحسر وتقبض، ولما أرتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه، ويقارن بين جسمه القوي المصبوب، وبين نفسه، وهو الناحل الضامر المعروق. وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض في مخيلته عمل كل منهما، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد. . . وأنطلق يحدث نفسه:
(ما الذي يفعله هذا السائق. . يحرك القطار في المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار. . ويمضي معظم الليل واضعاً يده في جيوبه يدخن، ويتلهى بالنظر إلى الطريق، وكل ما يعمله هو عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق. . وبعض الأحيان بتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة!! ثم بعد هذا كله يلقي الأوامر: غذِّ النار. . ندِّ الفحم. . زّيت الآلات. . أما أنا فأظل الليل طوله واقفاً على باب جهنم، أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت، حتى يلمع ويصقل، وجسمي عليه ضعف قاذوراته.
وإذا وقف القطار في المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيّت العدد الصغيرة والمفاصل والدوافع والجواذب وأمسح معدن الذراع، فحتى هذا يجب أن يكون لامعاً!. وإذا ملأنا الماء طوقت الخرطوم بذراعي ودفعته عن الخزان بجسمي فيصيبني هاطله ويزيدني بلاء على بلائي. . . هذا هو عملي وعمله، ومع هذا فأجره ضعف أجري ويزيد، وأوقات فراغي وراحتي ليست كأوقات فراغه وراحته. . . وامرأته عاقر وامرأتي تجيء في كل عام بمولود سعيد!! وأولادي من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملئوا البطون بالطعام والسماء لا تجيب! وهو فارع قوي مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب، وأنا قميء ناحل معروق تقوست قناتي، وشابت شياتي، وأضحت جلدتي تتخدد. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عني. . . ومن يدري؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب في ذلك، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعفاء المرضى المناكيد، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا، واتقت شرنا، وأحنت لنا الرأس فسرنا في مسالكها شامخين. . .)
(فحم. . . . . .)
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان؛ وفتح باب الفرن وأقبل على النار يغذيها بالوقود وهو صامت صابر.
عندما جاز القطار محطة (ملوي) كان الليل قد انتصف واعتدل الجو، وهب النسيم العليل من جنبات الوادي الخصيب، فأثر هذا الجو الرخي المنعش على خواطر المساعد، فخف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه، ووقف ينصت لدوي القطار وهو ينهب الأرض ويطوي القرى والدساكر، وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام في جوفه، حتى بدت صامتة موحشة رهيبة، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه، يثرثر معه في أي موضوع، ويتكلم عن أي شيء، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية، فما كان يعنيه هذا، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه. . . . وفتح فمه ثم أطبقه، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن في أذنيه التيار الشديد، وسفي في وجهه الغبار وجرى على وجهه دخان الفحم، وسمع صفير قطار من بعيد فبقى في مكانه ليحيي السائق إن أمكن.! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان، فقال المساعد: وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة (367. .؟)
(نعم. . .)
(من الأقصر. . .؟)
(آه. . وخزن في أسيوط. . .)
(توفيق شاكر. . .؟)
فهز السائق رأسه موافقاً، وصمت المساعد لحظة كأنما يستعرض في ذهنه صوراً باهتة يحاول بروزها ووضوحها وغير من نبرات صوته وهو يقول:
(كان سائقاً للقطار 72. . . أنزلوه. . . بعض الأحيان تتحكم الأقدار. . .)
فلم يقل السائق شيئاً وأخذ يتمثل في مخيلته صورة حادث توفيق كما سمعه من رفاقه. . . ثم وضع يده على جبينه يتفرس في الطريق، يستشف الحجب، ما وراء الغيب، ما في بطن الأقدار فقال المساعد وقد طاب له أن يجد ما يتحدث فيه:
(كان خارجاً من ورشة سوهاج. . . ليوصل القطار إلى الأقصر. . . كانت السرعة أكثر من اللازم، وكان العامل يتخطى القضبان. . . توفيق نفسه لا يدري كيف مات الرجل. . شهد عليه عامل (البلوك) و (اثنان من الخفراء)
فقال السائق وقد حز في نفسه الأسى على صاحبه
(سيئ الحظ. . . وكان عليه أن يحاذر)
فقال المساعد بصوت وإن:
(يولد كثير من الناس ليموتوا تحت العجلات. . . فما الذي يدفعه الحذر والسائق والكشاف ونور الكشاف؟ مرت على المرء كثير من الحوادث العجيبة التي تبعث على الدهشة والتفكير العميق. . . كنا قد بعدنا عن ديروط وفلاح مسكين، على جملة، ينتظر مرور القطار، ومر القطار وفزع الجمل، ورمى الرجل تحت العجلات. قد يكون مر على هذا الجمل مائة قطار وهو ساكن ثابت ولكنه جفل في هذه المرة لسبب لا نفهمه.)
فقال السائق وقد بدت على وجهه البشاشة:
(ولكن إذا كان الفلاح قد رد الجمل عن الحديد الممر وبعد به عن الشريط أكان يموت؟)
(كان لا يستطيع في تلك الساعة أن يفعل ذلك. . . كان لا بد من أن يموت فمات) ومر القطار على حقل كبير من القطن وقد تفتح ونوَّر فتحول المساعد إلى الحقل وراقب السائق مقياس الطريق لحظات ثم أدار المحرك إلى اليسار قليلاً، فقد بدأ الوادي ينحني والشريط يدور، وكان يعرف هذه الطريق أكثر من موضع أنفه من وجهه، وهدأت حركة الآلات نوعاً، ثم أرجع المحرك إلى مكانه بعد ثوان، وارتد عن النافذة ووقف أمام الفرن، وطرفه على الساعة والمقياس، واستمر هكذا مدة، ثم أدار المحرك إلى اليسار مرة أخرى في شدة حتى تعدى الكثير من الدرجات، فقد وصل القطار إلى طريق مرمم واهن لا تزال تجري عليه أيدي العمال في النهار. . ودار بخلده أن أحد العمال قد يكون ترك سهواً بعض الأدوات الحديدية على الشريط، فمد بصره إلى نهاية نور الكشافة وثبت نظره على حديد القضبان. . . وفكر في نفسه أنه بعد نصف ساعة وستمائة سيدخل محطة أسيوط؛ وسره هذا كما سره خروجه منتصراً من الطريق المرمم. . وبعد أن لمح المقياس أدار المحرك بالتدريج إلى اليمين، إلى نهاية ما تتحمله أرض النيل السعيد! وكان يود أن يعوض بتلك السرعة الجارفة ما قضاه وهو سائر ببطء على الطريق الواهن. . وانطلق القطار كالسهم يطوى القرى ويزلزل تحته الأرض.
وقال المساعد:
(النيل عال. . وشديد)
فقال السائق وقد تحول بوجهه إلى النيل فرأى بعض المراكب الشراعية تسير مغالبة التيار.
(أتخاف أن تتقطع الجسور؟)
(لا. . . جسور القطارات هي آخر من يصيبه الأذى دائماً!)
وبقى نظر السائق ثابتاً على النيل وقد راقه هول الليل عند الأفق البعيد.
وأطل المساعد من النافذة وبصره على الأرض الجارية. . .
وخيم صمت عميق.
وقال المساعد بعد دقائق بصوت يرتعش:
(رجل. . .)
(ماذا. .؟؟؟) (رجل تحت. . الـ. . .)
فتلفت السائق في سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب في غمرة الليل. . فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار في حذر شديد. . . وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه. . . ثم حبس البخار. . . وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد وقد أجبرت على البطء على غير انتظار، ووقف وروحه تثور ونفسه حانقة ساخطة.
كان يود أن يدخل محطة أسيوط في الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين. . . منذ خمس سنوات لم يتأخر في حياته مرة. . . مرة واحدة. . . كان دائماً يحاذي الرصيف وعقرب الثواني على الستين. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالي على الأخوان، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو العارف بأنه المسيطر على الحديد والنار. كان إذا تأخر في أثناء الطريق يغذي النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة في ميعاده. . . ولكنه الآن سيتأخر لأول مرة في حياته كسائق سيتأخر. . . سيتأخر. . . لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثاً. . . بل أكثر من ذلك. شعر بنفسه تذوب حسرات، أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول. . . كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات (البستون). . . تدوي في أذنيه كالطاحون البالية، كالمدافع المنطلقة على غير هدى في وادي التيه. أحس بدمه يفور. . . وروحه تثور حتى عقدت جبينه السحب. . ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه. . . أي مأفون هذا الرجل الذي عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة. . .؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه، وطحنته العجلات، وجرى دمه مع الزيت فتفطر قلبه على الرجل المسكين. . . ووقف تتملكه أعصابه الحديدية. صامتاً. . . حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطيل، والبخار ينش ويئز، والذراع يغالب ويجاهد، ويطوح بنفسه في ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر.
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوي عند العجلات الأمامية ثم يتراجع خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط، وكان لصوت قدميه دوي مسموع في الليل الساكن، وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على (الاسطبة) الملوثة بالزيت القذر، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه:
(لا شيء. . .؟)
(لا شيء في العجلات الأمامية، وإنما أثر الدم واضح في التروس الخلفية التي أخذ عندها الرجل، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام. . .)
فصمت المساعد وكأنه يفكر، ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذي في يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعاً لهبات الرياح. . وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ولوث الكثير من جسمه، فمسح الرجل الزيت في سرواله، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه، واستدار ومد بصره وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ووجوههم إلى الخلف، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع (الكمساري) وحولهما بعض الناس.
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برايته، فقال لمساعده:
(اطلع. . .)
فطلع المساعد إلى القاطرة ووضع المزيتة جانباً، وبعد السائق عن النافذة الجانبية ووقف أمام الآلة يحدق في الساعة، ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة في بطء وثقل شديد، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التي خلفها على الفارغ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ في سرعة وجنون، وزفر القطار وأز البخار ونش، وشال الذراع وحط، وتحركت العجلات الأمامية ولامست العجلات التي خلفها القضبان، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح. . . تقدم القطار في بطء وحزن من غير صفير!
محمود البدوي
مجلة الرسالة - العدد 178
بتاريخ: 30 - 11 - 1936
================
محمود البدوي (1908 - 1986) أديب مصري بارز اسمه الحقيقي كما ورد بشهادة الميلاد هو محمود أحمد حسن عمر' وقام بتغييره إلى الاسم الذي اشتهر به قبل ذهابه مباشرة ضمن أعضاء البعثة التي ضمت خيرة رجال التعليم في مصر إلى الهند والصين وهونج كونج واليابان في عام 1957 وأصبح اسمه في الأوراق الرسمية محمود البدوى أحمد حسن عمر. توفي في 12 فبراير 1986.
جوائز الدولة المصرية
صورة من جائزة الدولة التقديرية في الآداب لعام 1986
منح اسمه بعد وفاته وسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى في عام 1988
حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1986
حصل على جائزة الدولة للجدارة في الفنون عام 1978
مرحلة الطفولة
ولد محمود البدوى في قرية الإكراد مركز الفتح بمحافظة أسيوط في الرابع من شهر ديسمبر سنة 1908.
كان والده عمدة القرية ووالدته ابنة عبد المنعم التونى عمدة قرية اتليدم مركز ملوى بمحافظة المنيا «وكانت القرية تقع في آخر حدود مديرية أسيوط».
توفيت والدته وهو في السابعة من العمر، وكانت هي في الثلاثين من عمرها
مرحلة التعليم
قضى طفولته كلها في الريف حتى حصل على شهادة الابتدائية من مدرسة أسيوط
التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة وكان حريصا على قضاء كل إجازاته مع الفلاحين.
التحق بكلية الآداب بالجامعة المصرية إبان عمادة الدكتور طه حسين لها، وترك الدراسة وهو في السنة الثالثة قسم اللغة الإنجليزية وآثر أن يثقف نفسه تثقيفا ذاتيا، فقرأ الأدب القديم والحديث، والآداب الأجنبية بلغتها الأصلية.
حياته الأدبية
دخل الحياة الأدبية لأول مرة من خلال نقل الآداب الأجنبية إلى اللغة العربية، ونشرها في مجلة الرسالة التي كان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات منذ السنة الأولى لصدورها عام 1933.
سافر إلى أوروبا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية عام 1934 وعاد من هذه الرحلة متفتح المشاعر للكتابة وكتب رواية قصيرة باسم «الرحيل».
ساهم اسهاما حقيقيا في التعبير عن آمال الشعب في تغيير واقعه منذ صدور قصته الرحيل عام 1935.
تناول حياة الريف والفلاحين وصور طباع أهل الصعيد وأخلاقهم في محاولة منه للنفوذ إلى أعماق الفلاح المصري وتبرير تخلفه وما يعانيه من قسوة الإقطاع. وبلغت قصصه التي كتبها عن الريف والفلاحين في الصعيد تسعة وثمانون قصة.
أدى دوره الوطني بكتابة بعض القصص القصيرة في المناسبات الوطنية والكفاح ضد الاستعمار الإنجليزى وحروب 1948 و1956 و1967 و1973.
كتب ما يزيد على 389 قصة نشرت جميعها بالصحف والمجلات المصرية بالإضافة إلى المجلات المتخصصة كالرسالة والقصة والثقافة والأديب والهلال والمجلة والعصور والرواية، ولا يدخل في هذا الحصر القصص التي نشرها بالصحف والدوريات العربية حيث لم يمكن حصرها «أنظر الببليوجرافيا الملحقة بكتاب سيرة محمود البدوى.. بقلم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى.. مكتبة مصر 2002» و«محمود البدوى والقصة القصيرة بقلم على عبد اللطيف.. مكتبة مصر 2001»
صور بعض قصصه خلال رحلاته في أوروبا واليونان وتركيا ورومانيا والمجر والهند والصين وهونج كونج واليابان وسوريا وبانكوك وروسيا والجزائر والدنمرك، وهي البلاد التي حركت مشاعره وأثر أهلها في عقله ووجدانه.
له كتاب واحد في أدب الرحلات عن رحلته إلى الصين واليابان وهونج كونج «مدينة الأحلام» (الدار القومية للطباعة والنشر 1963).
كان كثير الأسفار فقد طاف بأوربا وآسيا وبعض البلاد العربية والأفريقية في رحلات ثقافية وغير ثقافية وانعكس أثر هذه الأسفار عليه ككاتب يؤمن بالإنسان ويهتم به في كل بقاع الأرض وصوره في كتاباته.
أطلق عليه بعض النقاد والدارسين لقب «تشيكوف العرب» ولقب «راهب القصة القصيرة» ولقب «فارس القصة القصيرة»وآخر من لقبه بلقب تشيكوف القصة المصرية هو الأديب العالمي نجيب محفوظ في الحوار الذي أجرى معه بصحيفة القدس العربي بعددها الصادر في 3|1|2004
الكاتب العربي الوحيد الذي تقابل مع العالم النفسى الشهير «سيجموند فرويد» في النمسا أثناء زيارته لها في سنة 1934 والتصق به فترة غير قصيرة «من كتاب محمود البدوى والقصة القصيرة.. للكاتب على عبد اللطيف.. الناشر مكتبة مصر 2001» ومن كتاب «سيرة محمود البدوى للكاتبين على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى.. الناشر مكتبة مصر 2002»
مبررات منحه جائزة الدولة التقديرية
مبررات منحه جائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 1986 وفقالما ورد بالكتاب التذكارى الذي يتضمن تاريخا شاملا للجائزة منذ إنشائها سنة 1958 «مطبعة هيئة الآثار المصرية 1991 ص 101 و102»
بتاريخ 12 مارس 1932، التحق محمود البدوى بالعمل في قلم حسابات الحكومة بوزارة المالية بمرتب سبعة جنيهات ونصف، وانتدب للعمل في مصلحة الموانى والمنائر بالسويس، وفي عام 1934 عاد للعمل في مقر الوزارة بميدان اللاظوغلى.
واستمر في العمل بالوزارة ولم يطلب نقله للعمل في وظيفة أخرى لها صلة بالآداب وفنونه مثلما فعل زملاء له من الأدباء، وكان راضيا قانعا بوظيفته إلى أن احيل إلى المعاش لبلوغه السن القانونية في 3 ديسمبر 1968
حياته الوظيفيه كما سطرها بخط يده
تاريخ الألتحاق بالعمل 12 / 3 / 1932