[HEADING=2]نزلت من سابع دور فوق السطح إلى الشارع، وانتهى الأمر ولم تبق لي غرفة أنام فيها كالناس، فقد طردتنى صاحبة البيت – ولها حق – وكان كلامها كالسم فى بدنى.. مدين لها بأجرة شهرين متأخرين، وكانت ساكنة ولم يغظها ويدفعها إلى طردى غير ما صنعت، وكنت معذورا.
لقد رجعت آخر الليل إلى حجرة، وكل رجل فى جسمى كأنها من شدة التعب قالب حجر، وأردت أن أنام، كان فى نفسى أن أضع رأسى وأشخر واتخذت وسادتى من الطوبتين، وتمددت وارتميت على البلاط ببنطلونى وقميصى وصندلى، ولكن البرد كان شديداً، وصوت الريح يتخبط فى الحجرة، ولا شئ أفرشه تحت جسمى أو أتغطى به.
وكنت أرتعش، وألصق ركبتى ببطنى وأمد ذراعى فوق الجانب الظاهر من وجهى ورأسى.وكانت تخرج من فمى همهمات مرتعدة لا أستطيع أن أمنعها.
وشعرت بحاجتى إلى الدفء، ووجدت أن النوم مستحيل، والبرد يأكلنى، فقمت من رقدتى، وجاءتنى فكرة، أن أجمع أي أشياء وأشعل فيها النار لأستدفئ، فأسرجت المصباح، ورحت أنظر فى كل نواحى الغرفة وأنا أعلم أنه لا يوجد فيها شئ ينفع.
واصطدمت نظراتى بالجدران الخشب الأربعة، وتمنيت لو كان عندى ورق جرائد قديم، وخطر لي وأنا أريد النوم ولا أقدر عليه من البرد، أن أكسر جزءاً من أحد الألواح الخشب التى تؤلف جداراً من الحجرة.
وكان ذلك اللوح أمامى لا يلتقى طرفه بالسقف، كانت بينهما فجوة تسمح ليدى بأن تنفذ فيها وتكسر الجزء المطلوب للتدفئة، ولم أفكر فيما سيحدث بعد هذا العمل؟.. كنت أولاً أريد أن أستدفئ لأنام، ودفقت بعض غاز المصباح على الخشب المكسور وأشعلت فيه النار، وخلعت صندلى، ومددت كفى فوق اللهب وقد اتسعت الفجوة بين طرف اللوح الخشب وبين السقف، وكان الهواء البارد يدخل منها كالرصاص.
وكنت وأنا أنظر فى اللهب أمامى، أرثى لغباوتى الشديدة، وأتعجب كيف لم أفطن قبل تنفيذ الخطة إلى أن الفجوة ستتسع وأننى سأظل عرضة لرصاص الهواء الداخل منها، وشعرت بالدفء نوعاً ما، ولكن النوم بقى مستحيلاً، وكنت ألم صدرى من فتحة الجدار، وأتمنى أن يدخل بعضى فى بعضى. وأحسست أن رأسى ثقيل، وعينى مشدودتان من الداخل، وعظمى فى جسمى كالمسامير.
النوم.. كيف أحصل على النوم؟..
هه.. وهل حصلت على أي طعام؟.. أي طعام؟..
وتذكرت أننى لم أتناول لقمة من الظهر، وأننى عاطل من شهرين ومدين للبقال الذى فى ناصية الحارة، تذكرت أن حالتى كرب، ولم أنم.
وكانت أفكار تسرح بى فى حاجات بعيدة، وتذهب بى إلى القرية، وتجئ إلى مصر، وتروح فى ذكريات قديمة، وتتجه إلى آمال. وقد انطفأت النار، وتكومت فى ركن من الغرفة، أنتظر الصبح حتى طلع، وخرجت من الحجرة إلى السطح، وذهبت إلى مكان الحنفية ووضعت رأسى تحتها وفتحت الماء.
كان جسمى كالثلج، والصبح ملآن بالندى، والهواء بارداً يصفعنى على وجهى، وقد طلعت المرأة صاحبة البيت، تحمل الطعام للكتاكيت فى الكشك القائم إلى جوار غرفتى، وكنت أتحاشى اللقاء بها خوفاً من أن تطالبنى بالأجرة المتأخرة، ولكنها حين رأتنى قالت: صباح الخير.. ولم تكن فى صوتها كراهية أو سخط.. ففرحت، وقلت لها صباح النور... تفضلى.
وفتحت المرأة الكشك، وراحت تنثر الطعام للكتاكيت، وانتهزت أنا فرصة انشغالها، ودخلت حجرتى وقعدت.
غير أنى بعد دقائق، فوجئت بالمرأة تقتحم الباب، وتدير عينيها فى الغرفة وقد امتلأ قلبى بالخوف حين قالت:
- ايه ده ياسى عقيل؟..
وأدركت أنها شاهدت الفجوة واللوح المكسور ورماد الخشب، ولم أتكلم.. وانفتحت هى فى وجهى، وراحت تعيرنى بأننى كل ما فى الحجرة من أثاث، وبأننى مدين لها ولا أدفع أجرة، وبأن المصيبة الكبيرة هى كسر الجدار واشعال النار، وبأنها تخشى أنى لو بقيت هنا وكررت نفس العمل، أن تنشب حريق فتأتى على البيت كله، ثم قالت وهى تكنسنى بنظراتها: العوض على الله فى الشهرين.. واتفضل مع السلامة.
ونزلت.. نزلت من سابع دور إلى الشارع.. وانتهى الأمر، ولم تبق لي غرفة أنام فيها كالناس.. هه.. وهل استطعت فى تلك الحجرة أن أنام؟..
وقفت عند باب البيت، ورحت أنظر إلى ناصية الحارة.
كنت أريد أن أطمئن إلى أن البقال لن يرانى، وأنا أمر من أمامه، لأنه لن يتركنى إذا رآنى.
وكان من المستحيل أن أجد سكة تخرجنى من تلك الحارة المسدودة غير تلك السكة التى توصلنى إلى الناصية أولاً، حيث دكان البقال.
وقد خيل إلى أنه عرف مسألة طردى من الحجرة، ومسألة عدم وجود أي شئ لي فى الغرفة إلا المصباح.. ولذلك فإنه لن يصدقنى إذا قلت له: سأدفع الدين بعد أيام، لأنه واثق من أننى سأهرب ولن أرجع إلى الحارة أبداً، ولكنى تمهلت فى التفكير، فوجدت غير ممكن أن يكون قد عرف ما جرى، لأننى مطرود الآن، وهو لم يكن معنا عندما قالت لي صاحبة البيت: تفضل.. مع السلامة.
وقلت لنفسى: يا ولد.. عيب الجبن.
ثم انطلقت فى الحارة، وما كدت أقترب من الدكان، حتى جريت، وكنت أشعر كأن البقال رآنى، وكأن نظراته تصيب ظهرى كالحجارة.
وتعبت من الجرى بعد قليل، كان صدرى قد أصبح كالمنفاخ الملآن بالثقوب، فوقفت استرد أنفاسى واستند إلى حائط منزل.
وكان فى رأسى دوار يلف، وكنت أحس كأن شيئاً كالنمل يحرك أقدامه على جبهتى، فوضعت عليها يدى أمسحها، فابتلت أناملى بعرق لزق.. والدنيا برد؟..
وأخذت أفكر إلى أين أتجه؟..
إنى لم أتناول لقمة بعد غذاء الأمس، والجوع يكاد يرمينى على الأرض، ثم ان قلة النوم هدت حيلى.
كنت فى شارع محمد على، قريباً من باب الخلق، فتذكرت عم سليمان، تذكرت أنه يشتغل كاتباً فى دكان بباب الخلق، وأنه من أهل قريتنا، فلماذا لا أذهب إليه وأطلب منه خمشة قروش؟ ان خمسة قروش كافية جداً، فيمكن أن أشترى بها فطارى، والباقى ينفع.
ولم أتردد، لم يكن أمامى غير هذا الحل، فمشيت إلى باب الخلق، ولكننى عندما أصبحت قريباً من الدكان، رجعت أشعر بحرج سرعان ما تغلب عليه، ودخلت إلى المحل، وصافحت عم سليمان وطلبت منه المبلغ ووعدته بسداده.
كنت مرتبكاً، وقد لحظ عم سليمان ذلك الارتباك، فقال:
- يا ابنى بسيطة.. المسألة بسيطة.
وأخرج الرجل الطيب الخمسة قروش وأعطاها لي.
قلت: كتر خيرك.. أنا أصلى.
قال: ولا أصلك ولا فصلك.. يا ابنى المسألة بسيطة.. مع السلامة يا عقيل.
ودخلت إلى أول مطعم فول فى الميدان، وقعدت إلى أحد الكراسى فشعرت بتعب الليل كله ينزل من جسمى إلى مفاصلى.
وجاء طبق الفول والملح والرغيف، فالتهمته، كنت كالذى يبلع الطعام دون مضغ.. وبقى الشاى والسيجارة.
وكان فى أحد أزقة الميدان مقهى بلدى كثيراً ما كنت أتردد عليه، فذهبت إلى هناك، وطلبت الشاى، ثم جلست على أحد الكراسى، ووضعت ذقنى فوق ذراعى ونمت.
نمت قبل أن أشرب الشاى، وتركنى صاحب المقهى أشخر حتى ما قبل الظهر بقليل ثم أيقظنى، ولم أشبع من النوم، وكان فى مفاصلى دق، وكان دماغى دائخاً.
وقمت إلى داخل المقهى وأدخلت رأسى تحت حنفية، وتركت الماء يندلق وقد انتعشت قليلاً وشربت الشاى، ودخنت سيارة ورحت أفكر فى حالتى.
الظهر سيجئ، وسأشعر بالجوع، ومعى ما يكفى، فآكل فولاً، وأشرب شاياً، وأدخن سيجارة، ويأتى العشاء.. فماذا أصنع؟.. وكيف أحصل على طعام ولن يكون معى مليم؟ وأين سأنام.. أين سأنام؟.. هذه مشكلة.
وانسدت الدنيا فى وجهى، فخرجت من المقهى، ورحت أمشى، فى الطريق وأنا أبحث فى رأسى عن مكان أعرفه لأنام فيه الليل.
ولم أجد قدامى غير عم سليمان، ولكنى قلت لنفسى: يا ولد.. هل هذا كلام؟.. لقد أخذت منه الفلوس، وأنت لا تعرف أين بيته وربما يتأفف الرجل ويمل ويهرب منك، فاكتم الموضوع وابحث عن غيره ومشيت أفكر ثانى مرة، فتذكرت عبد البر صاحبى من زمان، ولكنى لا أعرف أين بيته أيضا؟..
وأخيراً قلت لنفسى: لما ييجى الليل يحلها الحلال.
وسرت وأنا أنظر فى الأرض، حتى وصلت إلى العتبة الخضراء، فاتجهت إلى حديقة الأزبكية ودخلت من باب السينما، وقعدت على كرسى من الكراسى التى هناك.
وكان الناس يروحون ويجيئون من أمامى وأنا لا أتحرك، كنت أغطس داخل نفسى، وأفتش عن طريقة تخلصنى من البطالة.
عمرى عشرون سنة، وكنت أشتغل فى محل يبيع أجهزة للراديو بشبرا وأجيد القراءة والكتابة وقد اتهمنى عبد الغفار صاحب المحل بأننى سرقت ريالاً، واستغنى عنى ظلماً، فالحق أنى لم أسرق الريال، وقد تأكدت أنه أراد أن يوفر اجرتى، فاختلق هذه الكذبة وعمل نفسه رجلا، وزعق فى وجهى وقال: امشى من غير كلمة واحدة.. طريق السلامة يا لص.
وكان عبد الغفار يعطينى خمسة عشر قرشاً كل يوم، وأنا أقوم عنه بالحساب وكل ما يطلب عمله منى، كنت أشتغل عنده عاملاً وكاتباً وساعياً بخمسة عشر قرشاً، ومع ذلك، فقد طردنى بتهمة السرقة، وعلمت بعدما تركت المحل، انه استغنى عن خدمتى كي يوظف بدلاً منى ولداً هو أخو امرأة فاجرة أحبها المجرم، كانت تأتى إلى المحل بالأبيض والأحمر وشعرها مكوى، فيقوم البغل من مكانه ويقبل يدها كأنه ابن باريس.
ايه.. وما فائدة الكلام؟..
لقد جرى ما جرى.. وأنا عاطل من شهرين وبدون فلوس.
وكنت كثيراً ما أفكر فى الرجوع إلى بلدى، ولكن أعدل عن هذا التفكير، لأنه ليس لي أحد بالبلد، لقد مات أبى، وماتت أمى هى الأخرى، وكان أقاربى فقراء جداً، وكنت أعمل عند العمدة كاتباً، وكان يعطينى كل سنة عدة (أرادب) من الأرز والقمح والأذرة، ولكنه استغنى عنى ولم يعد لي عيش هناك.
فقلت يا ولد إلى مصر.. وأتيت إلى عبد الغفار فهو من بلدنا، وحدث ما حدث.
طردنى قليل الأصل بعدما اشتغلت عنده سنة بحالها، لأنه عشق المرأة الحلوة، وأحب أن يرضيها ويوظف أخاها.
ولم أكل.. ولم أمل.. عرضت نفسى على محلات كثيرة، وذكرت أنى أعرف القراءة والكتابة.. وكانوا مع ذلك يرفضون.
لقد هربت من الفقر فى بلدنا، وجئت إلى مصر، فوقعت فى الفقر مرة ثانية.
طال جلوسى فى مدخل الأزبكية، وكان فى نفسى أن أنام، وتمنيت لو استطعت أن أتمدد على الكرسى، ولكن منعنى الخجل من الناس الذين يجيئون ويروحون، ومنعنى الخوف من حارس الباب، وهذا هو الأهم.
وكنت أتثاءب، وعيناى تدمعان من التعب، وأحس أن جسمى كله تراب، وجاءت لي فكرة انبسطت منها.
من بلدنا واحد محترم ساكن فى الروضة اسمه مرسى بيه، وكان أتى إلى محل عبد الغفار، واشترى راديو، ووصلته إلى البيت.
فلماذا لا أتوجه إلى مرسى بيه هذا، وأشرح له حالتى، وأطلب منه أن يساعدنى فى ايجاد عمل لي؟..
إنه بيه، ومحترم جداً، وموظف عظيم فى الحكومة، وهو قريب عائلة الزينى أيضاً، وكانت أمى تقول إن أولاد الزينى أقاربنا من بعيد.
على كل حال، أنا لا أطلب منه احساناً، أنا أريد أن أعمل بذراعى، فلا داعى لأن أقول له: أنت قريب الزينى وعائلته قريبتنا، لا داعى لألزق فيه بالعافية، والمسألة أنى أفيد الذى أشتغل عنده، فهل ضرورى أكون قريب مرسى بيه من طرف قرابة بعيدة، كي يبحث لي عن صاحب محل أفيده بعرقى وتعبى؟..
الله يلعن أم الظروف.
هل هذه أصول؟..
هل هذه عيشة؟..
إنى لا أعلم أين سأنام؟..
لا أعلم كيف أحصل على الطعام؟..
أنا عاطل.. متشرد.. صعلوك.
وكنت أشتغل عند العمدة واستغنى عنى.. وكنت أشتغل عند عبد الغفار وطردنى، ولم أصنع شيئاً أستحق من أجله، أن أتعطل، وأتشرد، وأتصعلك، وأجوع، وأتمنى أن ألقى مكاناً أشخر فيه ساعتين أقول لك يا ولد.. أذهب إلى مرسى بيه.. ربما تفرج على يديه.
وقمت وفى مفاصلى دق، ودماغى دائخ، وكانت الساعة قد أصبحت الثانية بعد الظهر، وحسبت الفلوس، فوجدت أن الباقى معى قرش صاغ واحد.. لقد كنت أحسب معى فلوساً تكفى لشراء سندوتش ولشرب الشاى والسيجارة، واحترت.. هل اشترى بالقرش حاجة آكلها؟.. أم أدفعه ثمن تذكرة الترام؟.. إننى جوعان وممصوص من التعب، وقد رأيت عربات الترام تجرى هناك، وفضلت أن أركب بالقرش، وليكن ما يكون، كان الترام مزدحماً جداً فقفزت إلى السلم، وكان الكمسارى فى نهاية العربة من الداخل، فخطر لي ألا أدفع ثمن الركوب، وفرحت بهذا الخاطر، ولم تنتقل عيناى عن الكمسارى أبداً، وكنت أتأهب للقفز من الترام إلى الطريق كلما وجدت الكمسارى يزحف قليلاً من مكانه إلى ناحيتى.
وقد ظللت معلقاً فى عمود الباب الخارجى، حتى وصل الترام إلى ميدان الاسماعيلية وكان الكمسارى قد بلغ مكانى، وقال: تذاكر.
وتصنعت أنى لم أسمع، وكرر هو قوله: تذاكر يا أفندى، فنظرت إليه وقلت: أنا نازل.
وكان الترام وقف عند المحطة، فهبطت منه مسرعاً وشتائم الكمسارى تلاحقنى.. مشيت من الميدان إلى الروضة، ووصلت بيت مرسى بيه، وطرقت الباب، وسألت عن البيه، فخرج لي بنفسه، وقال: أهلاً وسهلاً.. خير إن شاء الله.. تفضل.
ودخلت.. كان منظر المفروشات جميلاً جداً، فتمنيت أن يكون لي بيت، وشعرت أن الإنسان الصحيح هو الذى له بيت.
وقعدت على الكرسى، وقد أغرتنى الجلسة أن أنام.. وسألت نفسى لماذا لا يكون لي ولو كرسى واحد أنام فيه؟.. ليتنى كنت مثل هذه القطة التى تنام على الوسادة.
وكان مرسى بيه تركنى فى حجرة الاستقبال وحدى، فنظرت إلى القطة الممدودة على الوسادة فى وسط الغرفة، ومددت إليها يدى تتحسسها، وأنا أحسدها.. كأن شعر جسمها ينقل الدفء إلى أصابعى، وكان تثاؤبها يعدينى.
وجاء البيه، فقمت من مكانى احترمه.. فقال : أتفضل أقعد، فقلت العفو يا بيه.. قال: خير إن شاء الله.
وشرحت للبيه حكايتى، وكيف استغنى عنى العمدة، فجئت إلى عبد الغفار واشتغلت عنده، وذكرت أنى أجيد القراءة والكتابة، وأنى فى العشرين، وأطلب أي عمل، ووعدته بأنى سأبيض وجهه فى أي مكان.
ولحظت أن البيه لما جلس قدامى أحمر اللون، ورقبته سمينة، وصحته مثل الرصاص – وقد شعرت وأنا أنظر إليه بأن الراحة التى أنا محروم منها، حاجة عظيمة جداً، وبأن الجلباب السوكبيس الذى يلبسه، أمل من آمالى.
وقلت لنفسى: هل معقول أننا كلنا أولاد حواء وآدم؟.. طيب.. لماذا هو سمين وأحمر وأنا هزيل وأصفر؟ لماذا هو صحته قوية، وأنا مهدود العافية؟.. لماذا هو يشتغل فى وظيفة مريحة، وأنا لا أجد مكاناً أشتغل فيه بعمل غير مريح؟.. لماذا هو ينام الليل، وأنا لا ألقى بيتاً أو كوخاً أرتمى فيه؟.. وجاء فى نفسى أن أقول له، أنا لم أنم يا بيه والقطة نائمة غير أنه قطع فكرى وقال: طيب.
وكانت روحى معلقة فى حلقى، وأذنى تطقطق للكلام الذى سيخرج من فمه.
وسكت حضرته قليلاً، ثم راح يذكر لي أن المسألة ليست مسألتى وحدى فالناس كثير، لا يجدون أعمالاً ولا طعاماً، ولا مساكن.
ثم تنهد حضرته، وقال: الذين معهم الشهادات الجامعية لا يجدون أعمالاً، على كل حال سأبحث لك عن أي عمل بكل جهدى.
وتحرك فى الكرسى، ففهمت أنه يلمح لي بالقيام، وقلت له: كتر خيرك يا بيه، وصافحته ثم خرجت.
لما نزلت إلى الطريق، شممت رائحة الشارع، وقد كانت للراحة فى بيت البيه رائحة ثانية، والحق أنى كنت فى شدة الغم، وفى شدة الحيرة، وكانت يدى فى جيبى تلعب بالقرش الصاغ وهو كل ثروتى.
ومررت على بائع سجائر، ولكن لم أجرؤ على دفع القرش، لأنى جوعان، ولأنى أريد أن أنام، وقلت لنفسى: وهل ينفع القرش الصاغ فى شئ!.. إنه يكفى ثمن سندوتش من الفول المدمس، ولكنه لا يكفى أجرة للمبيت ولو على الرصيف.
وجاء فى دماغى عم سليمان مرة ثانية فجأة.
وقلت: وماذا يحدث لو طلبت مساعدته لك فى ايجاد عمل؟.. ربما يعرف هو أصحاب محلات محتاجين إلى عامل أو ساعى أو كاتب حسابات أو أي شئ.. ورجع الأمل فى نفسى، ومشيت بسرعة، وكنت وصلت إلى شارع القصر العينى، ونفذت من هناك إلى الحلمية، وإلى باب الخلق.
ودخلت الدكان، فاستغرب الرجل لما رآنى.
وحكيت الحكاية لعم سليمان، فقال لي: أقعد يا ابنى.
ثم قعد أمامى وأخذ يتذكر أسماء الناس الذين يعرفهم، ثم قال: اسمع يا عقيل.. ضرورى حنلقى لك أي عمل.. تعال الصبح.
وسألته إذا كان كلامه أكيداً، فقال وهو يخفف همى بابتسامته الطيبة الحلوة – تعال الصبح.. يابنى بسيطة.. المسألة بسيطة.
وكنت أتمنى أن أطلب منه تركى فى المحل طول الليل لأنام، ولكنى رأيت أن الدكان ملك غيره، فلماذا الاحراج؟.. وكنت أتمنى أن أطلب منه خمسة قروش ثانية، ولكنى خجلت، لأنه أعطانى ما يقدر عليه، وشكرت الرجل الطيب، ومشيت من الدكان، وقد صممت أن أطلب من عم سليمان فلوساً، لما يطلع الصبح، إذا طلع.
ولم أجد فى عينى غير المقهى المعروف بالميدان، المقهى الذى نمت فيه على الكرسى إلى ما قبل الظهر فاشتريت السندوتش بالقرش الصاغ، وذهبت إلى هناك.
وجاء الجرسون فقلت له: أنا شربت الشاى عندكم الصبح.
وكان المقهى مزدحماً بالناس، فمشى الجرسون ساكتاً، وظللت قاعداً حتى نصف الليل، وفرغ المكان من الناس، وقام صاحب المقهى بغلق الأبواب فشعرت بالكسوف، وقمت وأنا لا أعرف أين أروح؟ كان الجوع يلوى بطنى، والصداع يدق فى رأسى، ورجلاى كأنهما عكازتان أجرهما جراً، والبرد يشتد.
وقد رأيت فى الميدان جماعة من الأفندية الذين يقعدون عند الفكهانى، وكانوا يأكلون الفواكه، وشممت رائحة اللحم المشوى خارجة من عربة بائع السجق، وكانت فى الميدان عربة الحلويات وهى منورة والحلويات فى داخلها أصناف وألوان.. وكنت أرتعش من البرد والجوع والتعب حتى وجدت نفسى فى شارع الأزهر ووقعت عينى على الرصيف، فأردت أن أرتمى فوقه، وأسند ظهرى إلى الحائط، ولكنى سمعت العسكرى يقول: احم.. فخفت، وجعلت أسير فى الطريق، حتى انتهيت إلى ميدان الأزهر وقررت أن أنام فى مسجد الحسين.
وفرحت جداً بهذا التفكير الموفق، ولكنى وجدت باب المسجد مغلقاً وسألت أحد المارة لماذا الباب مغلق؟.. فقال لي: يفتح قبل صلاة الفجر.
وقعدت على الرصيف جوار الباب، وأسندت ظهرى إلى الحائط، وشعرت أننى سأموت من الكرب، وكان بدنى مكسراً كله، وصدرى غير قادر على التنفس، وكانت الأرض باردة، والحائط كذلك، والرعشة لا تتركنى أبداً.
ولم أستطع أن أنام فى هذه الحالة الصعبة، فقمت من مكانى وفكرت أن أجرى فى السكة كي يحمى دمى، فأحس بالدفء، ولكن أنفاسى كانت مقطوعة، فقلت: طيب أمشى.
ورحت أتخبط فى السكة، وكان منظر العساكر يجعلنى أصحو وأسرع ووصلت إلى ما قبل العتبة الخضراء، فى شارع الأزهر، ورأيت مرحاضاً عمومياً أمام سوق الخضر، فخطر لي أن أصب على دماغى الماء، ونظرت إلى ظهر السوق، فلقيت عربة من العربات الخشب التى يضع عليها الباعة أشياءهم ويجرونها فى الشوارع.
وسررت جداً بمنظر العربة، وزاد سرورى لما وجدت أنها مفروشة بالقش.
قلت: أخيراً وجدت المبيت.
وكانت الظلمة شديدة والبرد قاسياً، وقد وفقت إلى القش أنثره على جسمى وأستدفئ، وما كدت أرتمى فوق العربة حتى سمعت صوتاً يقول: آي.
ورأيت صبياً يقوم من قلب العربة ويقول: عاوز ايه ياعم؟..
قلت: عاوز أنام.. أنام..
قال الصبى وهو يسعل ويلقى برأسه إلى مكانه الأول: نام، نام ياسيدى.. العربية واسعة.. لازم تعمل هيصه علشان ييجى العسكرى يطردنا؟..
وشعرت بأن هذا الصبى قريبى.
وارتاح قلبى واسترخى جسمى.
وتمددت، ونثرت بعض القش على جسمى، ورحت أشخر.
* من مجموعة " دماء لاتجف" لعبد الرحمن الخميسي
29-4-1953
[/HEADING]
لقد رجعت آخر الليل إلى حجرة، وكل رجل فى جسمى كأنها من شدة التعب قالب حجر، وأردت أن أنام، كان فى نفسى أن أضع رأسى وأشخر واتخذت وسادتى من الطوبتين، وتمددت وارتميت على البلاط ببنطلونى وقميصى وصندلى، ولكن البرد كان شديداً، وصوت الريح يتخبط فى الحجرة، ولا شئ أفرشه تحت جسمى أو أتغطى به.
وكنت أرتعش، وألصق ركبتى ببطنى وأمد ذراعى فوق الجانب الظاهر من وجهى ورأسى.وكانت تخرج من فمى همهمات مرتعدة لا أستطيع أن أمنعها.
وشعرت بحاجتى إلى الدفء، ووجدت أن النوم مستحيل، والبرد يأكلنى، فقمت من رقدتى، وجاءتنى فكرة، أن أجمع أي أشياء وأشعل فيها النار لأستدفئ، فأسرجت المصباح، ورحت أنظر فى كل نواحى الغرفة وأنا أعلم أنه لا يوجد فيها شئ ينفع.
واصطدمت نظراتى بالجدران الخشب الأربعة، وتمنيت لو كان عندى ورق جرائد قديم، وخطر لي وأنا أريد النوم ولا أقدر عليه من البرد، أن أكسر جزءاً من أحد الألواح الخشب التى تؤلف جداراً من الحجرة.
وكان ذلك اللوح أمامى لا يلتقى طرفه بالسقف، كانت بينهما فجوة تسمح ليدى بأن تنفذ فيها وتكسر الجزء المطلوب للتدفئة، ولم أفكر فيما سيحدث بعد هذا العمل؟.. كنت أولاً أريد أن أستدفئ لأنام، ودفقت بعض غاز المصباح على الخشب المكسور وأشعلت فيه النار، وخلعت صندلى، ومددت كفى فوق اللهب وقد اتسعت الفجوة بين طرف اللوح الخشب وبين السقف، وكان الهواء البارد يدخل منها كالرصاص.
وكنت وأنا أنظر فى اللهب أمامى، أرثى لغباوتى الشديدة، وأتعجب كيف لم أفطن قبل تنفيذ الخطة إلى أن الفجوة ستتسع وأننى سأظل عرضة لرصاص الهواء الداخل منها، وشعرت بالدفء نوعاً ما، ولكن النوم بقى مستحيلاً، وكنت ألم صدرى من فتحة الجدار، وأتمنى أن يدخل بعضى فى بعضى. وأحسست أن رأسى ثقيل، وعينى مشدودتان من الداخل، وعظمى فى جسمى كالمسامير.
النوم.. كيف أحصل على النوم؟..
هه.. وهل حصلت على أي طعام؟.. أي طعام؟..
وتذكرت أننى لم أتناول لقمة من الظهر، وأننى عاطل من شهرين ومدين للبقال الذى فى ناصية الحارة، تذكرت أن حالتى كرب، ولم أنم.
وكانت أفكار تسرح بى فى حاجات بعيدة، وتذهب بى إلى القرية، وتجئ إلى مصر، وتروح فى ذكريات قديمة، وتتجه إلى آمال. وقد انطفأت النار، وتكومت فى ركن من الغرفة، أنتظر الصبح حتى طلع، وخرجت من الحجرة إلى السطح، وذهبت إلى مكان الحنفية ووضعت رأسى تحتها وفتحت الماء.
كان جسمى كالثلج، والصبح ملآن بالندى، والهواء بارداً يصفعنى على وجهى، وقد طلعت المرأة صاحبة البيت، تحمل الطعام للكتاكيت فى الكشك القائم إلى جوار غرفتى، وكنت أتحاشى اللقاء بها خوفاً من أن تطالبنى بالأجرة المتأخرة، ولكنها حين رأتنى قالت: صباح الخير.. ولم تكن فى صوتها كراهية أو سخط.. ففرحت، وقلت لها صباح النور... تفضلى.
وفتحت المرأة الكشك، وراحت تنثر الطعام للكتاكيت، وانتهزت أنا فرصة انشغالها، ودخلت حجرتى وقعدت.
غير أنى بعد دقائق، فوجئت بالمرأة تقتحم الباب، وتدير عينيها فى الغرفة وقد امتلأ قلبى بالخوف حين قالت:
- ايه ده ياسى عقيل؟..
وأدركت أنها شاهدت الفجوة واللوح المكسور ورماد الخشب، ولم أتكلم.. وانفتحت هى فى وجهى، وراحت تعيرنى بأننى كل ما فى الحجرة من أثاث، وبأننى مدين لها ولا أدفع أجرة، وبأن المصيبة الكبيرة هى كسر الجدار واشعال النار، وبأنها تخشى أنى لو بقيت هنا وكررت نفس العمل، أن تنشب حريق فتأتى على البيت كله، ثم قالت وهى تكنسنى بنظراتها: العوض على الله فى الشهرين.. واتفضل مع السلامة.
ونزلت.. نزلت من سابع دور إلى الشارع.. وانتهى الأمر، ولم تبق لي غرفة أنام فيها كالناس.. هه.. وهل استطعت فى تلك الحجرة أن أنام؟..
وقفت عند باب البيت، ورحت أنظر إلى ناصية الحارة.
كنت أريد أن أطمئن إلى أن البقال لن يرانى، وأنا أمر من أمامه، لأنه لن يتركنى إذا رآنى.
وكان من المستحيل أن أجد سكة تخرجنى من تلك الحارة المسدودة غير تلك السكة التى توصلنى إلى الناصية أولاً، حيث دكان البقال.
وقد خيل إلى أنه عرف مسألة طردى من الحجرة، ومسألة عدم وجود أي شئ لي فى الغرفة إلا المصباح.. ولذلك فإنه لن يصدقنى إذا قلت له: سأدفع الدين بعد أيام، لأنه واثق من أننى سأهرب ولن أرجع إلى الحارة أبداً، ولكنى تمهلت فى التفكير، فوجدت غير ممكن أن يكون قد عرف ما جرى، لأننى مطرود الآن، وهو لم يكن معنا عندما قالت لي صاحبة البيت: تفضل.. مع السلامة.
وقلت لنفسى: يا ولد.. عيب الجبن.
ثم انطلقت فى الحارة، وما كدت أقترب من الدكان، حتى جريت، وكنت أشعر كأن البقال رآنى، وكأن نظراته تصيب ظهرى كالحجارة.
وتعبت من الجرى بعد قليل، كان صدرى قد أصبح كالمنفاخ الملآن بالثقوب، فوقفت استرد أنفاسى واستند إلى حائط منزل.
وكان فى رأسى دوار يلف، وكنت أحس كأن شيئاً كالنمل يحرك أقدامه على جبهتى، فوضعت عليها يدى أمسحها، فابتلت أناملى بعرق لزق.. والدنيا برد؟..
وأخذت أفكر إلى أين أتجه؟..
إنى لم أتناول لقمة بعد غذاء الأمس، والجوع يكاد يرمينى على الأرض، ثم ان قلة النوم هدت حيلى.
كنت فى شارع محمد على، قريباً من باب الخلق، فتذكرت عم سليمان، تذكرت أنه يشتغل كاتباً فى دكان بباب الخلق، وأنه من أهل قريتنا، فلماذا لا أذهب إليه وأطلب منه خمشة قروش؟ ان خمسة قروش كافية جداً، فيمكن أن أشترى بها فطارى، والباقى ينفع.
ولم أتردد، لم يكن أمامى غير هذا الحل، فمشيت إلى باب الخلق، ولكننى عندما أصبحت قريباً من الدكان، رجعت أشعر بحرج سرعان ما تغلب عليه، ودخلت إلى المحل، وصافحت عم سليمان وطلبت منه المبلغ ووعدته بسداده.
كنت مرتبكاً، وقد لحظ عم سليمان ذلك الارتباك، فقال:
- يا ابنى بسيطة.. المسألة بسيطة.
وأخرج الرجل الطيب الخمسة قروش وأعطاها لي.
قلت: كتر خيرك.. أنا أصلى.
قال: ولا أصلك ولا فصلك.. يا ابنى المسألة بسيطة.. مع السلامة يا عقيل.
ودخلت إلى أول مطعم فول فى الميدان، وقعدت إلى أحد الكراسى فشعرت بتعب الليل كله ينزل من جسمى إلى مفاصلى.
وجاء طبق الفول والملح والرغيف، فالتهمته، كنت كالذى يبلع الطعام دون مضغ.. وبقى الشاى والسيجارة.
وكان فى أحد أزقة الميدان مقهى بلدى كثيراً ما كنت أتردد عليه، فذهبت إلى هناك، وطلبت الشاى، ثم جلست على أحد الكراسى، ووضعت ذقنى فوق ذراعى ونمت.
نمت قبل أن أشرب الشاى، وتركنى صاحب المقهى أشخر حتى ما قبل الظهر بقليل ثم أيقظنى، ولم أشبع من النوم، وكان فى مفاصلى دق، وكان دماغى دائخاً.
وقمت إلى داخل المقهى وأدخلت رأسى تحت حنفية، وتركت الماء يندلق وقد انتعشت قليلاً وشربت الشاى، ودخنت سيارة ورحت أفكر فى حالتى.
الظهر سيجئ، وسأشعر بالجوع، ومعى ما يكفى، فآكل فولاً، وأشرب شاياً، وأدخن سيجارة، ويأتى العشاء.. فماذا أصنع؟.. وكيف أحصل على طعام ولن يكون معى مليم؟ وأين سأنام.. أين سأنام؟.. هذه مشكلة.
وانسدت الدنيا فى وجهى، فخرجت من المقهى، ورحت أمشى، فى الطريق وأنا أبحث فى رأسى عن مكان أعرفه لأنام فيه الليل.
ولم أجد قدامى غير عم سليمان، ولكنى قلت لنفسى: يا ولد.. هل هذا كلام؟.. لقد أخذت منه الفلوس، وأنت لا تعرف أين بيته وربما يتأفف الرجل ويمل ويهرب منك، فاكتم الموضوع وابحث عن غيره ومشيت أفكر ثانى مرة، فتذكرت عبد البر صاحبى من زمان، ولكنى لا أعرف أين بيته أيضا؟..
وأخيراً قلت لنفسى: لما ييجى الليل يحلها الحلال.
وسرت وأنا أنظر فى الأرض، حتى وصلت إلى العتبة الخضراء، فاتجهت إلى حديقة الأزبكية ودخلت من باب السينما، وقعدت على كرسى من الكراسى التى هناك.
وكان الناس يروحون ويجيئون من أمامى وأنا لا أتحرك، كنت أغطس داخل نفسى، وأفتش عن طريقة تخلصنى من البطالة.
عمرى عشرون سنة، وكنت أشتغل فى محل يبيع أجهزة للراديو بشبرا وأجيد القراءة والكتابة وقد اتهمنى عبد الغفار صاحب المحل بأننى سرقت ريالاً، واستغنى عنى ظلماً، فالحق أنى لم أسرق الريال، وقد تأكدت أنه أراد أن يوفر اجرتى، فاختلق هذه الكذبة وعمل نفسه رجلا، وزعق فى وجهى وقال: امشى من غير كلمة واحدة.. طريق السلامة يا لص.
وكان عبد الغفار يعطينى خمسة عشر قرشاً كل يوم، وأنا أقوم عنه بالحساب وكل ما يطلب عمله منى، كنت أشتغل عنده عاملاً وكاتباً وساعياً بخمسة عشر قرشاً، ومع ذلك، فقد طردنى بتهمة السرقة، وعلمت بعدما تركت المحل، انه استغنى عن خدمتى كي يوظف بدلاً منى ولداً هو أخو امرأة فاجرة أحبها المجرم، كانت تأتى إلى المحل بالأبيض والأحمر وشعرها مكوى، فيقوم البغل من مكانه ويقبل يدها كأنه ابن باريس.
ايه.. وما فائدة الكلام؟..
لقد جرى ما جرى.. وأنا عاطل من شهرين وبدون فلوس.
وكنت كثيراً ما أفكر فى الرجوع إلى بلدى، ولكن أعدل عن هذا التفكير، لأنه ليس لي أحد بالبلد، لقد مات أبى، وماتت أمى هى الأخرى، وكان أقاربى فقراء جداً، وكنت أعمل عند العمدة كاتباً، وكان يعطينى كل سنة عدة (أرادب) من الأرز والقمح والأذرة، ولكنه استغنى عنى ولم يعد لي عيش هناك.
فقلت يا ولد إلى مصر.. وأتيت إلى عبد الغفار فهو من بلدنا، وحدث ما حدث.
طردنى قليل الأصل بعدما اشتغلت عنده سنة بحالها، لأنه عشق المرأة الحلوة، وأحب أن يرضيها ويوظف أخاها.
ولم أكل.. ولم أمل.. عرضت نفسى على محلات كثيرة، وذكرت أنى أعرف القراءة والكتابة.. وكانوا مع ذلك يرفضون.
لقد هربت من الفقر فى بلدنا، وجئت إلى مصر، فوقعت فى الفقر مرة ثانية.
طال جلوسى فى مدخل الأزبكية، وكان فى نفسى أن أنام، وتمنيت لو استطعت أن أتمدد على الكرسى، ولكن منعنى الخجل من الناس الذين يجيئون ويروحون، ومنعنى الخوف من حارس الباب، وهذا هو الأهم.
وكنت أتثاءب، وعيناى تدمعان من التعب، وأحس أن جسمى كله تراب، وجاءت لي فكرة انبسطت منها.
من بلدنا واحد محترم ساكن فى الروضة اسمه مرسى بيه، وكان أتى إلى محل عبد الغفار، واشترى راديو، ووصلته إلى البيت.
فلماذا لا أتوجه إلى مرسى بيه هذا، وأشرح له حالتى، وأطلب منه أن يساعدنى فى ايجاد عمل لي؟..
إنه بيه، ومحترم جداً، وموظف عظيم فى الحكومة، وهو قريب عائلة الزينى أيضاً، وكانت أمى تقول إن أولاد الزينى أقاربنا من بعيد.
على كل حال، أنا لا أطلب منه احساناً، أنا أريد أن أعمل بذراعى، فلا داعى لأن أقول له: أنت قريب الزينى وعائلته قريبتنا، لا داعى لألزق فيه بالعافية، والمسألة أنى أفيد الذى أشتغل عنده، فهل ضرورى أكون قريب مرسى بيه من طرف قرابة بعيدة، كي يبحث لي عن صاحب محل أفيده بعرقى وتعبى؟..
الله يلعن أم الظروف.
هل هذه أصول؟..
هل هذه عيشة؟..
إنى لا أعلم أين سأنام؟..
لا أعلم كيف أحصل على الطعام؟..
أنا عاطل.. متشرد.. صعلوك.
وكنت أشتغل عند العمدة واستغنى عنى.. وكنت أشتغل عند عبد الغفار وطردنى، ولم أصنع شيئاً أستحق من أجله، أن أتعطل، وأتشرد، وأتصعلك، وأجوع، وأتمنى أن ألقى مكاناً أشخر فيه ساعتين أقول لك يا ولد.. أذهب إلى مرسى بيه.. ربما تفرج على يديه.
وقمت وفى مفاصلى دق، ودماغى دائخ، وكانت الساعة قد أصبحت الثانية بعد الظهر، وحسبت الفلوس، فوجدت أن الباقى معى قرش صاغ واحد.. لقد كنت أحسب معى فلوساً تكفى لشراء سندوتش ولشرب الشاى والسيجارة، واحترت.. هل اشترى بالقرش حاجة آكلها؟.. أم أدفعه ثمن تذكرة الترام؟.. إننى جوعان وممصوص من التعب، وقد رأيت عربات الترام تجرى هناك، وفضلت أن أركب بالقرش، وليكن ما يكون، كان الترام مزدحماً جداً فقفزت إلى السلم، وكان الكمسارى فى نهاية العربة من الداخل، فخطر لي ألا أدفع ثمن الركوب، وفرحت بهذا الخاطر، ولم تنتقل عيناى عن الكمسارى أبداً، وكنت أتأهب للقفز من الترام إلى الطريق كلما وجدت الكمسارى يزحف قليلاً من مكانه إلى ناحيتى.
وقد ظللت معلقاً فى عمود الباب الخارجى، حتى وصل الترام إلى ميدان الاسماعيلية وكان الكمسارى قد بلغ مكانى، وقال: تذاكر.
وتصنعت أنى لم أسمع، وكرر هو قوله: تذاكر يا أفندى، فنظرت إليه وقلت: أنا نازل.
وكان الترام وقف عند المحطة، فهبطت منه مسرعاً وشتائم الكمسارى تلاحقنى.. مشيت من الميدان إلى الروضة، ووصلت بيت مرسى بيه، وطرقت الباب، وسألت عن البيه، فخرج لي بنفسه، وقال: أهلاً وسهلاً.. خير إن شاء الله.. تفضل.
ودخلت.. كان منظر المفروشات جميلاً جداً، فتمنيت أن يكون لي بيت، وشعرت أن الإنسان الصحيح هو الذى له بيت.
وقعدت على الكرسى، وقد أغرتنى الجلسة أن أنام.. وسألت نفسى لماذا لا يكون لي ولو كرسى واحد أنام فيه؟.. ليتنى كنت مثل هذه القطة التى تنام على الوسادة.
وكان مرسى بيه تركنى فى حجرة الاستقبال وحدى، فنظرت إلى القطة الممدودة على الوسادة فى وسط الغرفة، ومددت إليها يدى تتحسسها، وأنا أحسدها.. كأن شعر جسمها ينقل الدفء إلى أصابعى، وكان تثاؤبها يعدينى.
وجاء البيه، فقمت من مكانى احترمه.. فقال : أتفضل أقعد، فقلت العفو يا بيه.. قال: خير إن شاء الله.
وشرحت للبيه حكايتى، وكيف استغنى عنى العمدة، فجئت إلى عبد الغفار واشتغلت عنده، وذكرت أنى أجيد القراءة والكتابة، وأنى فى العشرين، وأطلب أي عمل، ووعدته بأنى سأبيض وجهه فى أي مكان.
ولحظت أن البيه لما جلس قدامى أحمر اللون، ورقبته سمينة، وصحته مثل الرصاص – وقد شعرت وأنا أنظر إليه بأن الراحة التى أنا محروم منها، حاجة عظيمة جداً، وبأن الجلباب السوكبيس الذى يلبسه، أمل من آمالى.
وقلت لنفسى: هل معقول أننا كلنا أولاد حواء وآدم؟.. طيب.. لماذا هو سمين وأحمر وأنا هزيل وأصفر؟ لماذا هو صحته قوية، وأنا مهدود العافية؟.. لماذا هو يشتغل فى وظيفة مريحة، وأنا لا أجد مكاناً أشتغل فيه بعمل غير مريح؟.. لماذا هو ينام الليل، وأنا لا ألقى بيتاً أو كوخاً أرتمى فيه؟.. وجاء فى نفسى أن أقول له، أنا لم أنم يا بيه والقطة نائمة غير أنه قطع فكرى وقال: طيب.
وكانت روحى معلقة فى حلقى، وأذنى تطقطق للكلام الذى سيخرج من فمه.
وسكت حضرته قليلاً، ثم راح يذكر لي أن المسألة ليست مسألتى وحدى فالناس كثير، لا يجدون أعمالاً ولا طعاماً، ولا مساكن.
ثم تنهد حضرته، وقال: الذين معهم الشهادات الجامعية لا يجدون أعمالاً، على كل حال سأبحث لك عن أي عمل بكل جهدى.
وتحرك فى الكرسى، ففهمت أنه يلمح لي بالقيام، وقلت له: كتر خيرك يا بيه، وصافحته ثم خرجت.
لما نزلت إلى الطريق، شممت رائحة الشارع، وقد كانت للراحة فى بيت البيه رائحة ثانية، والحق أنى كنت فى شدة الغم، وفى شدة الحيرة، وكانت يدى فى جيبى تلعب بالقرش الصاغ وهو كل ثروتى.
ومررت على بائع سجائر، ولكن لم أجرؤ على دفع القرش، لأنى جوعان، ولأنى أريد أن أنام، وقلت لنفسى: وهل ينفع القرش الصاغ فى شئ!.. إنه يكفى ثمن سندوتش من الفول المدمس، ولكنه لا يكفى أجرة للمبيت ولو على الرصيف.
وجاء فى دماغى عم سليمان مرة ثانية فجأة.
وقلت: وماذا يحدث لو طلبت مساعدته لك فى ايجاد عمل؟.. ربما يعرف هو أصحاب محلات محتاجين إلى عامل أو ساعى أو كاتب حسابات أو أي شئ.. ورجع الأمل فى نفسى، ومشيت بسرعة، وكنت وصلت إلى شارع القصر العينى، ونفذت من هناك إلى الحلمية، وإلى باب الخلق.
ودخلت الدكان، فاستغرب الرجل لما رآنى.
وحكيت الحكاية لعم سليمان، فقال لي: أقعد يا ابنى.
ثم قعد أمامى وأخذ يتذكر أسماء الناس الذين يعرفهم، ثم قال: اسمع يا عقيل.. ضرورى حنلقى لك أي عمل.. تعال الصبح.
وسألته إذا كان كلامه أكيداً، فقال وهو يخفف همى بابتسامته الطيبة الحلوة – تعال الصبح.. يابنى بسيطة.. المسألة بسيطة.
وكنت أتمنى أن أطلب منه تركى فى المحل طول الليل لأنام، ولكنى رأيت أن الدكان ملك غيره، فلماذا الاحراج؟.. وكنت أتمنى أن أطلب منه خمسة قروش ثانية، ولكنى خجلت، لأنه أعطانى ما يقدر عليه، وشكرت الرجل الطيب، ومشيت من الدكان، وقد صممت أن أطلب من عم سليمان فلوساً، لما يطلع الصبح، إذا طلع.
ولم أجد فى عينى غير المقهى المعروف بالميدان، المقهى الذى نمت فيه على الكرسى إلى ما قبل الظهر فاشتريت السندوتش بالقرش الصاغ، وذهبت إلى هناك.
وجاء الجرسون فقلت له: أنا شربت الشاى عندكم الصبح.
وكان المقهى مزدحماً بالناس، فمشى الجرسون ساكتاً، وظللت قاعداً حتى نصف الليل، وفرغ المكان من الناس، وقام صاحب المقهى بغلق الأبواب فشعرت بالكسوف، وقمت وأنا لا أعرف أين أروح؟ كان الجوع يلوى بطنى، والصداع يدق فى رأسى، ورجلاى كأنهما عكازتان أجرهما جراً، والبرد يشتد.
وقد رأيت فى الميدان جماعة من الأفندية الذين يقعدون عند الفكهانى، وكانوا يأكلون الفواكه، وشممت رائحة اللحم المشوى خارجة من عربة بائع السجق، وكانت فى الميدان عربة الحلويات وهى منورة والحلويات فى داخلها أصناف وألوان.. وكنت أرتعش من البرد والجوع والتعب حتى وجدت نفسى فى شارع الأزهر ووقعت عينى على الرصيف، فأردت أن أرتمى فوقه، وأسند ظهرى إلى الحائط، ولكنى سمعت العسكرى يقول: احم.. فخفت، وجعلت أسير فى الطريق، حتى انتهيت إلى ميدان الأزهر وقررت أن أنام فى مسجد الحسين.
وفرحت جداً بهذا التفكير الموفق، ولكنى وجدت باب المسجد مغلقاً وسألت أحد المارة لماذا الباب مغلق؟.. فقال لي: يفتح قبل صلاة الفجر.
وقعدت على الرصيف جوار الباب، وأسندت ظهرى إلى الحائط، وشعرت أننى سأموت من الكرب، وكان بدنى مكسراً كله، وصدرى غير قادر على التنفس، وكانت الأرض باردة، والحائط كذلك، والرعشة لا تتركنى أبداً.
ولم أستطع أن أنام فى هذه الحالة الصعبة، فقمت من مكانى وفكرت أن أجرى فى السكة كي يحمى دمى، فأحس بالدفء، ولكن أنفاسى كانت مقطوعة، فقلت: طيب أمشى.
ورحت أتخبط فى السكة، وكان منظر العساكر يجعلنى أصحو وأسرع ووصلت إلى ما قبل العتبة الخضراء، فى شارع الأزهر، ورأيت مرحاضاً عمومياً أمام سوق الخضر، فخطر لي أن أصب على دماغى الماء، ونظرت إلى ظهر السوق، فلقيت عربة من العربات الخشب التى يضع عليها الباعة أشياءهم ويجرونها فى الشوارع.
وسررت جداً بمنظر العربة، وزاد سرورى لما وجدت أنها مفروشة بالقش.
قلت: أخيراً وجدت المبيت.
وكانت الظلمة شديدة والبرد قاسياً، وقد وفقت إلى القش أنثره على جسمى وأستدفئ، وما كدت أرتمى فوق العربة حتى سمعت صوتاً يقول: آي.
ورأيت صبياً يقوم من قلب العربة ويقول: عاوز ايه ياعم؟..
قلت: عاوز أنام.. أنام..
قال الصبى وهو يسعل ويلقى برأسه إلى مكانه الأول: نام، نام ياسيدى.. العربية واسعة.. لازم تعمل هيصه علشان ييجى العسكرى يطردنا؟..
وشعرت بأن هذا الصبى قريبى.
وارتاح قلبى واسترخى جسمى.
وتمددت، ونثرت بعض القش على جسمى، ورحت أشخر.
* من مجموعة " دماء لاتجف" لعبد الرحمن الخميسي
29-4-1953