فارس زرزور - الكأس والفأس والرأس

رشف آخر قطرة في كأسه وأخذ نفساً عميقاً، ثم انتظر.. وانتظر، فلم يحس بنشوة. لم يشعر بخيبة قدر ما أحس باللاشيء.. بالفراغ. انحنى جانباً وتناول الزجاجة، وكانت فارغة أيضاً. لم يتألم ولم يحزن، فسيكون المعنى نفسه لو لم تكن فارغة. أعاد الزجاجة إلى مكانها فوق البلاط في هدوء وهو يقول بصوت مرتفع: نعم.وكان يعني ((وماذا بعد كل ذلك؟.))

لقد صل الشراب إلى بلعومه ولكن رأسه ظل فارغاً. وقال: ((نعم)) لربما ليفرغ ذلك البلعوم، أو ليجعل السائل ينزاح قليلاً ليسمح له بالتنفس. وقد أعاد الزجاجة إلى مكانها في هدوء لأسباب عديدة: أهما ألا يزعج الساكنين تحت أرضه. وكان يتفتت غيظاً من ضجة الأحياء فوق سقفه. وليس عجيباً أن يعتبر الآخرين حساسين مثله، لطالما أنهم ـ على الأقل ـ يسيرون على قدمين فقط، وتظل رؤوسهم منتصبة أو منحنية قليلاً.
نهض غارساً قبضتيه في خاصرتيه وتمطى، وفكر: والآن!؟ ثم عاد إلى مقعده. وحاول أن يفكر من جديد فلم يفلح في إيجاد أية مسألة يشغل فيها رأسه. هذا الرأس اللعين، إنه أشد قحطاً من صحراء اليمن.
ما العمل الآن؟.. أسقط رأسه بين أصابعه وضغطه في تشنج. وماذا الآن؟.. ليس هناك أي عمل أو أية قضية.. لا شيء على الإطلاق. حتى ولا مسمار يدق في الجدار، ولا أوساخ في الأرض ينبغي لها أن تنظف و.. لا أحد يمكن العثور عليه لمسامرته، امرأته نائمة دائماً، أطفاله نائمون دائماً و.. العالم كله متيقظ. فليخاطب العالم إذن. أيها العالم! أيها العالم!. يا أيها العا.. عا.. لم!.
صوت سيارة بعيدة ونباح كلب. الكلب يعيش في المدينة، وما أسوأ نباح كلاب المدينة!. فهو لا يحدث ذلك الصدى المحبب. إنه نباح مكلوم جائع فيه نشاز طبل أجوف. فليتحدث مع نفسه إذن.
ـ من أنت؟
ـ لماذا تسألني؟
ـ أقول لك من أنت؟.
ـ أسألك ماذا تريد؟.
ـ لاشيء أريده.
ـ شكراً.
ـ العفو.
ـ مع السلامة.
والآن؟. إذن فليرجع إلى الأمس، فقد يجد فيه شيئاً مسلياً..
ـ ولكن لماذا لا تفكر في الغد؟
ـ غدي كيومي.
ـ وأمسك أليس كيومك؟
ـ إنه يختلف.
ـ من أية ناحية؟.
ـ من حيث النكهة.
ـ أنت إذن متخوم.
ـ نعم.. متخوم.
ـ وتعوزك النكهة فقط!.
ـ النكهة تبدل الحياة قليلاً.. ولا شعرة.
ـ التغيير!.
ـ نعم..
ـ طيب.. انزع ثيابك ونم.
ونفذ النصيحة بلا جدل. ولكنه لم ينم. اضطجع على السرير على ظهره وأخذ يحملق في السقف. كان السقف صديقه لأول وهلة ولكنه سرعان ما تحول إلى عدو يثيره بسخريته. ولم تكن هناك أية فترة هدنة. طيب. فليكن له عدو، على الأقل يشغله.
ـ أيها السقف الطيب.. قل لي شيئاً.
ـ ...
ـ قل شيئاً..
ـ ...
ـ تنفس..
ـ ...
ـ اصمت..
ـ ...
ـ اللعنة عليك.
ـ ...
ـ أنا أحبك.
ـ ...
ـ أنا أكرهك..
ـ ...
ـ أنت لا شيء.. وأنا .. لا شيء..
لو كان موسى النبي لخاطب الإله، ولكنه ليس نبياً. إنسان.. إنسان صغير. للبعوضة شأن أهم وأعظم. إنها على الأقل تطير، وتؤذي وتبحث عن غذائها وتتناسل.
ـ وأنت!. ألا تتغذى وتتناسل.
ـ نعم.. افعل ذلك ولكن دون أن أبذل جهداً.
ـ كيف؟..
ـ هكذا..
ـ هل أنت ملك؟..
ـ لا..
ـ إذن!..
ـ أنا عبد.
ـ العبد يعمل وله مسؤوليته.
ـ أنا لا أعمل وليس لي أية مسؤولية.
ـ ولماذا لا تعمل؟.
ـ لأني لست بحاجة إلى عمل.
ـ اعمل لتشغل نفسك.
ـ لم أجد عملاً..
هل حاولت؟..
ـ نعم.. ورُفضت.
ـ والحطَّاب!.
ـ كسر لي الحطب ومضى ناسياً فأسه هنا.
إنه محكوم بالإعدام وعلى الآخرين أيضاً. وقد استطاع بعض الآخرين أن يظفروا بتأجيل الحكم، وألا يجدوا طرقاً يتشردون فيها. وكانت طريقه غير مسدودة، ولكنها هلامية، صار يتعثر فيها ويتعثر.. دون أن يلمح فيها بصيصاً يقود إلى نهاية.
ـ النهاية؟.
ـ نعم.
ـ وماذا تكون النهاية؟
ـ الحياة.
ـ ولماذا لا تكون العدم؟
ـ ...
ـ لماذا لا ترد؟..
ـ هناك فرق.
ـ لا .. بل المعنى نفسه.
ـ من يبني الأرض إذن؟
ـ ...
ها أنت ذات تصمت بدورك.
ـ لا.. فقد يكون هناك مخلوقات في الكواكب الأخرى.
ـ تعني أن اكتشف القمر خالياً.
ـ نعم. ثم هناك غيرك. أنت لا تبني إذن ستنتهي و.. يجب أن تنتهي.
ـ ولكن ذلك ليس ذنبي.
ـ ستنفذ الحكم..
ـ كما تريد..
في اليوم التالي حملته قدماه إلى صاحب له محام.
ـ مرحباً.
ـ أرجوك أن تنتظر.
وانتظر خارج المكتب. انتظر طويلاً. إنهم يقرعون بابه ويدخلون نساء ورجال من الأعمار كافة.
ـ أنا مطلقة و..
ـ امرأتي هجرتني و..
سُرق صندوقي و..
ـ اغتصبني وأنا نائمة و..
قال لي صاحبي وهو يتأوه ويمسح العرق المتفصد من جبينه:
ـ وأنت ما هي مشكلتك.
ـ لماذا تخاطبين بهذه اللهجة؟.. هل تعتبرني زبوناً؟..
وضحك في شراسة. قال لي:
ـ أنت زبون دائم.
ـ لماذا؟..
ـ لأنك بلا مشكلة.
...
إنه بلا مشكلة.. فعلاً. فليس بمقدوره أن يحرر فلسطين، ولا يستطيع أن يلغي نظام الرق، ولا يجسر على قطع يد ممدودة تقول: ((من مال الله يا محسنين)) فيتنام بعيدة، وليس لديه عمل للعاطلين. إنه هنا غريب. وأهله غرباء. ليسوا نازحين. ولكنهم غرباء. وهو بعيد وهم قريبون، إنه عاجز عن أن يصلح فساداً أو يقوّم اعوجاجاً.
...
عجيب! كيف نسي الحطاب فأسه هنا؟. المقصلة.. المقصلة.. المقصلة.. إنه محكوم بالإعدام ألم يقل لكم؟.. أيها الحطاب الخبيث، لماذا نسيت فأسك في غرفته؟..
...
لا يَعلم ما حدث بالدقة، يقال أن رأسه وجد هناك.. قريباً، أو على بعد بضعة سنتيمترات من باب الغرفة. كان ذلك في تقرير الشرطة. ويُقال أن المحقق عدّل قليلاً في التقرير وأضاف إليه:
(إن الرأس ما يزال يتنفس).

==================
فارس زرزور / 1930-2004

ولد في دمشق عام 1930
تلقى تعلمه في دمشق، وتخرج في الكلية العسكرية ضابطاً،
ثم تحول إلى الحياة المدنية عام 1958
عضو جمعية القصة والرواية.

* مؤلفاته:
1-حسن جبل- رواية- دمشق 1969.
2-حتى القطرة الأخيرة- قصص- دمشق 1960.
3-معارك الحرية في سورية- دراسة- دمشق 1962.
4-(42) راكباً ونصف- قصص- دمشق 1969.
5-لن تسقط المدينة- رواية- دمشق 1969.
6-اللااجتماعيون- رواية- دمشق 1970.
7-الحفاة وخفي حنين- رواية- دمشق 1971.
8-الأشقياء والسادة- رواية- دمشق 1971.
9-المذنبون- رواية-دمشق 1974.
10-لاهو كما هو- قصص- تونس 1975.
11-غرفة للعامل وأمه- قصة- دمشق 1976.
12-آن له أن ينصاع- رواية- دمشق 1980.
13-أبانا الذي في الأرض- قصص- دمشق 1983.
14-كل ما يحترق يلتهب- رواية- دمشق 1989.
توفي في2004


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...