تلك هي شجرة تين جرداء, في عظمة تتشابك, جزعها يتضاءل حتي ليكاد يختفي ,وهي بالزهر متيمة.
إذ تتعرى في لحمتها على نحو الازدهار يشي, ومنها ألوان الحياة تنطلق.
كان ثمة زهرة من داخلها اينعت, وفي باطن الرحم ازدهرت, والآن ثمة رحمة مكتملة, في شكله يشبه الزهرة.
د.هـ لورانس
وقفت موكامي بالباب, وفي تثاقل أدارت رأسها وراحت تنظر ناحية الموقد, وانتابها التردد للحظة قصيرة.. فلقد بدت النار الخامدة و المقعدة الصغيرة بجوار الموقد وكأنهما يدعوانها للعودة. لا.. لقد استقر رأيها, لابد من أن تمضي وفي ثوب خارجي زيتي اللون أملس شد إحكام حول رأسها, ولولاه لكان الراس حاسراً, ثم انساب فوق كتفيها النحيلتين الضيقتين, اندفعت نحو الظلام الموحش المخيف.
كل شيء كان هادئاً, والهواء يغمره من السحر, وإن أحست أنه يتهددها, وانتابها الفزع من اتساع رقعة الظلام الموحش العنيف الذي لفها في سرابيله, وبسرعة تحركت عبر الفناء الذي تألفه تماماً, وهي تخشي أن يصدر عنها أدني صوت , وبدا الفناء وأكواخ ضراتها الأربع وظل كوخ زوجها بل وحتي كوخها جميعاً قد انضمت لتترنم معا وفي آن واحد وفي صمت, بلعنة أبدية علي ما تنوي القيام به , وفي ذلك الصمت المتسم بالازدراء الممزوج بالرثاء توسلت إليها هذه الأكواخ وكأنها تقول:” إنك تهجرين رجلك.. عودي أدراجك!”.
لكنها عبرت الفناء في إصرار, واتخذت طريقاً يفضي بها إلي البوابة اليسرى, وببطء فتحتها ثم أغلقتها ووقفت برهة , أدركت خلالها هي تغلق هذه البوابة أنها تسدل ستاراً علي جانب من جوانب حياتها.
وكانت دموعها على وشك أن تنهمر وهي تدير ظهرها بقلب مثقل بالحزن لمنزلها الشرعي.. وبدأت تتحرك.
وسالت نفسها.. ترى إلي اين تذهب؟.. لكنها لم تكن تدري ولم تكن تهتم كثيراً بذلك, كل ما كانت تبتغيه هو أن تهرب وأن تمضي فلتمض إذن, ولتذهب إلي أي مكان.. لتذهب إلي ارض ماساي أو إلي كامباني, كانت تريد الابتعاد عن الموقد والفناء والأكواخ والناس.
الابتعاد عن كل ما يذكرها بمرتفع موهوريني وكل سكانه, سوف تمضي ولن تعود إليه.. إلى زوجه.. لا .. إنه ليس زوجها, بل هو الرجل الذي اراد قتلها, والذي كان يود تحطيم روحها, إنه لم يعد زوجها بعد, ولو أنه هو الرجل نفسه الذي كانت شديدة الإعجاب به.
كيف تأتي لها أن تمقته؟.
وتدفقت علي راسها أفكار , تدور حولها وكأنها طوفان عارم ,وعادت إلى ذاكرتها صور حياتها الزوجية القصيرة مع موثرجا.. زوجها.. الرجل العصامي صاحب الزوجات الأربع وما أشيع عن غلظة معاملته لهن, وإحجام أبيها عن أن يزوجها له, ورفضها بعناد أن تصغي السمع إلى اعتراضاته, ذلك أن موثوجا كان قد فتن لبها تماماً فاستبدت بها الرغبة فيه, وتاقت نفسها إلي الانضمام إلي حاشيته.. زوجاته وأبنائه , والحقيقة أنها منذ تفتحت عيناها على الحياة وهي تكن في الخفاء وبإصرار, إعجاباً شديداً بهذا الرجل .. بخطواته.. وفوق ذلك بصوته الجهير ومظهره الرياضي كل ما يحيط به كان يوحي بالغموض والقوة, وكانت فترة الخطبة قصيرة وغريبة.
فهي مازالت تتذكر خفقات قلبها وبسمتها العريضة وترددها في قبول عقد من اصداف المحار عربونا للزواج, وتقديم الصداق المعتاد عقب قبول العقد.
غير أن الناس لم يصدقوا ذلك, ونظر إليها بسخط واستياء كثير من المحاربين الشبان ممن تجاهلت عروضهم للزواج, كانوا يتحسرون قائلين” أيضحي بمثل هذا الشباب والجمال من أجل رجل مسن”؟ وساد اعتقاد بين أكثر من شاب بأنها وقعت اسيرة سحره.
وراحوا يتهامسون بذلك فيما بينهم, والحقيقة أنها كانت كذلك, فقد انجذب قلبها كلية نحو هذا الرجل.
ولم يكن يوم أن حملت إلى كوخه بأقل إثارة في نفسها وانطباعا في ذاكرتها عن غير ذلك من أحداث, وكان كوخاً جديداً شيد خاصة من أجلها فلقد كانت في طريقها إلى المزرعة, وإذا بثلاثة رجال انشقت عنهم الأرض فيما يبدو يدنون منها فجأة إنها لم تدر من أين جاءوا, ثم أدركت الأمر لقد كانوا قادمين من أجلها, وكان ينبغي عليها أن تكون واعية بذلك من قبل وأن تعد نفسها لهذا الحدث, فلقد حل يوم عرسها, وبشدة رفعها الرجال الثلاثة من فوق الأرض.
وللحظات انتابها في الواقع خوف, وتهيأت للدخول في صراع حقيقي لتتخلص من قبضات أيدي الرجال الثلاثة المحكمة والرقيقة في آن واحد, وكانوا يحملونها فوق أكتافهم, الرجال! آه.. أولئك الرجال!..
إنهم لم يهتموا كلية بصراخها المهتاج وتجاسر أحدهم وقرصها في وقاحة قائلاً لاحد زميليه بلا اكتراث” فقط لكي تهدأ” وصدمتها القرصة بطريقة غريبة , طريقة غريبة لكنها ممتعة للغاية, وكفت عن صراخها, وأدركت لتوها أنها محمولة على الأكتاف فوق عيدان من الذرة الناعمة المليئة بالحبوب, والتي كانت تدغدغ قدميها وجنبيها…
والرجال يمضون بها, وأحست بسعادة حقيقية, غير أنها أدركت فجأة أنه يتحتم عليها أن تولول طوال الطريق إلي بيت زوجها, وأن تواصل هذه الولولة أسبوعاً بكامله.
وتذكرت الموسم الأول .. فيه فاض عليها حبه وغمرها برعايته. وبسبب شبابها صارت هدفاً لحسد وبغض غيرها من الزوجات الأخريات وسرعان ما نشأ بينها وبينهن نفور شديد يا لهؤلاء النسوة!.. لماذا لم يدعنها تستمتع بما استمتعن به سنوات… بحبه؟…. إنها مازالت تتذكر كيف أن واحدة منهن وهي أكبرهن سناً تعرضت للضرب حين رفضت السماح لها بالحصول على وقود من كوخها, وكان هذا إيذانا بالكف عن المشاجرات والعراك والتصرفات العدائية, وأصبح الصراع بعد ذلك يدور في صمت, وصارت موكامي صلبة في مواجهتهن , ولم تعد تأبه لوقاحتهن وتجاهلهن لها وهو ما جاهدن في أن يشارك فيه أهالي القرية بكاملها, وكانت تحدث نفسها, لماذا تأبه لذلك؟.. ألم يتحقق لها حلمها وطموحها وأمل حياتها بل وكل شيء في هذا الرجل؟.
ومضى موسمان بل ثلاثة مواسم ثم بدأت الدنيا من حولها تتبدل, إذ أنها لم ترزق بعد بطفل.
ثاتا!.. امرأة عاقر!.
لا طفل حتى الآن يربط ما بينها وبينه من أواصر
لا طفل تشغف به حباً, تعانقه وتعنقه.
لا طفل يخلد ذكري الأرواح الراحلة
أرواح أسلاف رجلها وأرحام أبيها
لقد انهزمت وأدركت هي ذلك كما أدركته الأخريات , وكن يتهامسن ويبتسمن .آه ,كما آلمتها ابتساماتهن, بما تحمل من وقاحة وخيلاء, بيد أنه لم يكن ثمة ما تخشاه, فليشعرن كما شئن بالظفر, فما زالت تستحوذ علي رجلها.
لكن الرجل بدأ يتبدل دون سابق إنذار, ومع الأيام هجرها تماماً وهجر كوخها وأكثر من التزام كوخه هو وأحست بالمرارة , وراحت تلح في طلبه وانفطر قلبها أسي عليه, لكنها لم تظفر به, فقد ارتدت إلى موثوجا المحارب الفلاح الراقص قساوة قلبه المعهودة تلك التي كانت قد خففت هي حدتها فترة من زمن, وبدأ يضربها فقد شاهدها مرة تتشاجر مع كبرى الزوجات فوجد في ضربها متنفسا لكل غضبه المختزن واستيائه وإحباطاته. آه الضرب, والجمع الذي شاهد هذا الضرب ولم يقدم عوناً قط! وكان هذا مقدمة لذلك التنكيل والشقاء اللذين كادا أن يفضيا بها إلى الموت في ذلك الصباح نفسه, فقد زارها في وقت مبكر وانهال عليها ضرباً دونما إنذار أو توضيح للسبب.
وكان الضرب مبرحاً بحيث تركها على شفا حفرة من الموت, لم تصرخ.. فقد رضيت بنصيبها, وبينما كانت على الأرض راقدة تظن أنها النهاية , تبين لها أن الأخريات ربما كن يعانين كثيراً بسببها.
أجل .. لقد أتيح لها أن تراهن وهن يتعرضن للضرب ويصرخن التماسا للرحمة بيد أنها جاهدت بإصرار ألا يؤدي مثل هذا الضرب وهذه الهواجس إلى إخضاع إرادتها, يجب أن تنتصر وأن تفوز.
وبهذا اليقين وإدراك الأمور حولها استقر رأيها سريعاً على ما اعتزمته, فليست هذه الدار مكاناً تعيش فيه, وهي لا تستطيع العودة إلى موطنها لتواجه مرة أخرى أباها العزيز المسن الحذر دوما, إنها لا تستطيع تحمل هذا الخزي.
وردها نسيم الليل البارد عن شرودها, وانسابت على وجنتيها دموع طال احتباسها وهي تسرع هابطة في ذلك الممر الذي يتلوى داخل الدغل منحدراً إلى الوادي ومخترقاً الغابة , وكان الظلام كثيفاً, فشق عليها أن تجد طريقها خلال متاهة الاشواك والأحراش, ولكن..
أيتعاطف معها ذلك الجدول المدموع وهذا الشجر الساكن الذي يحيط بها, أم أن كل هذا يشارك القرية في شجبها الصامت لفعلتها هذه ؟.
وسارت مع الجدول, ثم عبرته عند بقعة هي أكثر بقاعة انخفاضاً حيث كان ثمة حجران أو ثلاثة أحجار تمكنت من أن تخطو فوقها, وكانت ما تزال شديدة الإحساس بالمرارة وبالحزن إلي درجة أنها لم تلحظ الأخطار المحدقة بها, أليس هذا هو المكان الذي يلقي فيه بالموتى, حيث ترفرف أرواحهم في الهواء وتمتزج بالأشجار وتتحرش بالغرباء والدخلاء؟. ونقمت علي الدنيا وعلي زوجها بل علي نفسها.. أو يمكن أن تكون مخطئة طوال هذا الوقت؟. وهل هذا هو الثمن الذي يجب أن تدفعه بسبب تشبثها في أنانية بهذا الرجل؟.
ولكنها أيضاً ضحت بشبابها وجمالها من أجله, وازداد انهمار الدموع واشتدت اللوعة.
أواه يا أرواح الموتى.. تعالي إلي!
أواه يا مورونجو, يارب جيكوبو ورب مومبي,
يا من تسكن كرينياجا العالية, مع ذلك أنت في كل مكان.
لم لا تخلصني من الشقاء؟.
يا أمي الأرض العزيزة , لم لا تنشقين وتبتلعينني
تماماً كما ابتلعت جومبا- جومبا الذي
اختفي تحت جذور الميكونجي؟.
واستغاثت بأرواح الأحياء و الموتى ترجوها أن تأتي وتحملها إلي مكان بعيد حيث لا يراها ثانية وإلي الأبد أحد علي الإطلاق.
وفجأة سمعت صوتاً بعيداً حزيناً, صوتاً مثيراً للشجن, ولكنه صوت حقيقي, كما لو أنه كان استجابة لتوسلاتها, وبدأت الريح تهب بعنف , واختفى آخر نجم, وهو النجم الذي كان يسري عنها بغرابة شديدة, وكانت وحيدة وسط ظلمة الغابة , ومسها شيء ما بارد لا روح فيه ولا حياة فوثبت, وأخيراً فعلت ما لم يفلح الضرب في أن يؤديه معها.. فقد صرخت, وتجاوبت الغابة جميعها مع صدى صراخها, وتملكها رعب قاتل, وارتعد الجسد كله, ثم أدركت أنها لم تكن وحيدة, كانت تشاهد هنا وهناك ألف عين تتوهج توهجاً متقطعاً علي طول جدول الماء , كما شعرت بأيد كثيرة خفية تدفعا إلى الأمام وإلى الخلف, غير ان المشهد ووعيها فجأة أنها وحيدة في ارض الأشباح وبعيدة عن بيتها أصاباتها برعدة, لقد فقدت القدرة علي الإحساس أو التفكير أو حتي البكاء.. كان هذا قدرها.. فهي إرادة مورنجو, ورويدا رويداً أخذت تتهاوي علي الأرض, حيث خار آخر ما تبقي لها من قوة في جسدها, وكانت هذه هي النهاية.. ذروة أحلامها وطموحاتها, بيد أن الأمر كان مثيراً للسخرية تماماً إنا لم تكن تريد حقاً أن تموت فالحياة جميلة , وهي لم تكن تطمح في شيء سوى أن تتاح لها الفرصة لتبدأ الحياة من جديد, حياة بذلك والعطاء, وليست تلك الحياة التي تقوم علي الأخذ فحسب.
لم يكن لتعاستها حد, ذلك أنها حين أرتمت بجسدها على الأرض, بل وعندما تردد في الأفق صياح بوم وزئير ضبع من بعيد, اشتد هبوب الريح, وعلا الصوت الحزين وازداد اقتراباً, وبدأ هطول المطر, وبدت الأرض من تحتها وكأنها تتصدع وتنفلق.
لكن عندما أبرقت السماء وقصف الرعد, لمحت شجرة عن بعد, وكانت الشجرة ضخمة, ولمحت مع ذلك الدغل وهو ينحني في رقة ولكن في إجلال حول الجذع كله, وعرفت.. أدركت دون أن ينبئها أحد أن هذه هي الشجرة, شجرة التين المقدسة والتي يسمونها موكويو- مذبح مورونجو البصير بكل شيء وقالت” هنا أخيراً موقع الحرم المقدس”.
ونهضت تركض تتحدي المطر والرعد والاشباح, وتواري الزوج وتواري معه أهالي مرتفع موهرويني, تلاشت صورهم واختفت بلا اهتمام ولا مبالاة, وبدأ وكأن الحمل الذي يثقل على قلبها قد انزاح عنها وهي تركض داخل الدغل الشوكي وتصطدم بالأشجار فتهوي علي الأرض ثم تنهض, وذهب عنها إحساسها بالعجز, وتبدد قلقها, وكان هدفها الوحيد هو أن تصل إلى شجرة التين, إنها مسألة حياة أو موت … معركة من أجل الحياة, فهناك تحت شجرة التين ستجد الملاذ والمطأنينة هناك ستلتقي بإليهها مورونجو.. رب قبيلتها.
ومن أجل هذا راحت تركض رغم ما اصابها من هزال, وقد أحست بتوهج ممتع ولذيذ يسري في حناياها ويتراقص مع رحمها, إنها الآن قريبة من موضع الحرم المقدس, من مذبح أعلي العليين , موضع الخلاص, وهكذا راحت تركض تجاه المذبح, لا إنها لم تكن تركض, بل إنها تطير, أو إن روحها علي الأقل هي التي تطير, لقد شعرت أنها خفيفة, كأنها ريشة تدفعها الريح, وأخيراً بلغت البقعة التي تريد لاهثة مبهورة الأنفاس.
واستمر المطر يهطل, لكنها لم تكن تدري أو تحس بشيء, فقد رقدت وغلبها النوم تحت أذرع شجرة الإله الحانية, وسيطرة عليها السحر مرة أخري.
وصحت موكامي من نومهاوجله, ما هذا. لا أحد هنا؟ لا شك أنها كانت مومبي التي تقف إلى جوار زوجها جيكويو هي التي مستها مسة رقيق نفذت داخل جسدها مباشرة , لا, لابد من أنها كانت تحلم, ولكن يا له من حلم جميل وغريب!.. وكات مومبي قد قالت ” أنني أم القبيلة” وتلفتت موكامي حواليها, وكان الجو بارداً مظلماً, وهناك… كانت الشجرة العتيقة قوية فتية.. كم من الأسرار لابد من أنك تحتفظين بها؟..
” ينبغي أن أعود إلى البيت, أعود إلى زوجي وقبيلتي”
موكامي التي تفوهت بهذا كانت امرأة جديدة وديعة, ولكنها كانت مفعمة بالأمل, ثم استغرقت في النوع ثانية .. إنه السحر.
كانت الشمس ترتفع في المشرق وخيوط الضوء الغامرة التي تميل للاصفرار وتتخلل الغابة, تنفذ إلي حيث كانت موكامي تجلس متكئة علي الشجرة , وعندما مست بشرتها خيوط الضوء الشاردة, انتابها إحساس بهيج, إحساس سري في كل جسدها, فجري الدم في عروقها , واه واه … لقد شعرت بدفء.. دفء شديد وبسعادة وبهجة وتراقصت روحها, واستجاب لذلك رحمها.. ثم أدركت أنها حبلي… لقد كانت حبلي منذة فترة من الزمن.
وحين نهضت موكامي واقفة تتهيأ للعودة, حملقت في الفضاء بعينين غائمتين, وقد انحدرت علي وجنتيها دموع امتنان وخشوع عميقين, وتطلعت عيناها إلي ما وراء الغابة إلي ما وراء جدول الماء, كما لو أنهما تشاهدان شيئاً ما.. شيئاً يخبئه المستقبل البعيد, وأبصرت أهل مورهوريوني, ورأت ضراتها ورجلها… رأته فتياً قوياً يقف بينهن , ذاك هو مكانها الصحيح, هناك بجوار زوجها ووسط الزوجات الأخريات, يجب أن يتماسكن ويساندن القبيلة, ويمنحنها حياة جديدة.
ومن مكان بعيدة خارت بقرة, فنفضت موكامي عنها أحلام اليقظة.
” يجب أن أمضي”.. وبدأت تتحرك و ما زالت شجرة التين منتصبة في صمت.. ضخمة .. يكتنفها الغموض.
إذ تتعرى في لحمتها على نحو الازدهار يشي, ومنها ألوان الحياة تنطلق.
كان ثمة زهرة من داخلها اينعت, وفي باطن الرحم ازدهرت, والآن ثمة رحمة مكتملة, في شكله يشبه الزهرة.
د.هـ لورانس
وقفت موكامي بالباب, وفي تثاقل أدارت رأسها وراحت تنظر ناحية الموقد, وانتابها التردد للحظة قصيرة.. فلقد بدت النار الخامدة و المقعدة الصغيرة بجوار الموقد وكأنهما يدعوانها للعودة. لا.. لقد استقر رأيها, لابد من أن تمضي وفي ثوب خارجي زيتي اللون أملس شد إحكام حول رأسها, ولولاه لكان الراس حاسراً, ثم انساب فوق كتفيها النحيلتين الضيقتين, اندفعت نحو الظلام الموحش المخيف.
كل شيء كان هادئاً, والهواء يغمره من السحر, وإن أحست أنه يتهددها, وانتابها الفزع من اتساع رقعة الظلام الموحش العنيف الذي لفها في سرابيله, وبسرعة تحركت عبر الفناء الذي تألفه تماماً, وهي تخشي أن يصدر عنها أدني صوت , وبدا الفناء وأكواخ ضراتها الأربع وظل كوخ زوجها بل وحتي كوخها جميعاً قد انضمت لتترنم معا وفي آن واحد وفي صمت, بلعنة أبدية علي ما تنوي القيام به , وفي ذلك الصمت المتسم بالازدراء الممزوج بالرثاء توسلت إليها هذه الأكواخ وكأنها تقول:” إنك تهجرين رجلك.. عودي أدراجك!”.
لكنها عبرت الفناء في إصرار, واتخذت طريقاً يفضي بها إلي البوابة اليسرى, وببطء فتحتها ثم أغلقتها ووقفت برهة , أدركت خلالها هي تغلق هذه البوابة أنها تسدل ستاراً علي جانب من جوانب حياتها.
وكانت دموعها على وشك أن تنهمر وهي تدير ظهرها بقلب مثقل بالحزن لمنزلها الشرعي.. وبدأت تتحرك.
وسالت نفسها.. ترى إلي اين تذهب؟.. لكنها لم تكن تدري ولم تكن تهتم كثيراً بذلك, كل ما كانت تبتغيه هو أن تهرب وأن تمضي فلتمض إذن, ولتذهب إلي أي مكان.. لتذهب إلي ارض ماساي أو إلي كامباني, كانت تريد الابتعاد عن الموقد والفناء والأكواخ والناس.
الابتعاد عن كل ما يذكرها بمرتفع موهوريني وكل سكانه, سوف تمضي ولن تعود إليه.. إلى زوجه.. لا .. إنه ليس زوجها, بل هو الرجل الذي اراد قتلها, والذي كان يود تحطيم روحها, إنه لم يعد زوجها بعد, ولو أنه هو الرجل نفسه الذي كانت شديدة الإعجاب به.
كيف تأتي لها أن تمقته؟.
وتدفقت علي راسها أفكار , تدور حولها وكأنها طوفان عارم ,وعادت إلى ذاكرتها صور حياتها الزوجية القصيرة مع موثرجا.. زوجها.. الرجل العصامي صاحب الزوجات الأربع وما أشيع عن غلظة معاملته لهن, وإحجام أبيها عن أن يزوجها له, ورفضها بعناد أن تصغي السمع إلى اعتراضاته, ذلك أن موثوجا كان قد فتن لبها تماماً فاستبدت بها الرغبة فيه, وتاقت نفسها إلي الانضمام إلي حاشيته.. زوجاته وأبنائه , والحقيقة أنها منذ تفتحت عيناها على الحياة وهي تكن في الخفاء وبإصرار, إعجاباً شديداً بهذا الرجل .. بخطواته.. وفوق ذلك بصوته الجهير ومظهره الرياضي كل ما يحيط به كان يوحي بالغموض والقوة, وكانت فترة الخطبة قصيرة وغريبة.
فهي مازالت تتذكر خفقات قلبها وبسمتها العريضة وترددها في قبول عقد من اصداف المحار عربونا للزواج, وتقديم الصداق المعتاد عقب قبول العقد.
غير أن الناس لم يصدقوا ذلك, ونظر إليها بسخط واستياء كثير من المحاربين الشبان ممن تجاهلت عروضهم للزواج, كانوا يتحسرون قائلين” أيضحي بمثل هذا الشباب والجمال من أجل رجل مسن”؟ وساد اعتقاد بين أكثر من شاب بأنها وقعت اسيرة سحره.
وراحوا يتهامسون بذلك فيما بينهم, والحقيقة أنها كانت كذلك, فقد انجذب قلبها كلية نحو هذا الرجل.
ولم يكن يوم أن حملت إلى كوخه بأقل إثارة في نفسها وانطباعا في ذاكرتها عن غير ذلك من أحداث, وكان كوخاً جديداً شيد خاصة من أجلها فلقد كانت في طريقها إلى المزرعة, وإذا بثلاثة رجال انشقت عنهم الأرض فيما يبدو يدنون منها فجأة إنها لم تدر من أين جاءوا, ثم أدركت الأمر لقد كانوا قادمين من أجلها, وكان ينبغي عليها أن تكون واعية بذلك من قبل وأن تعد نفسها لهذا الحدث, فلقد حل يوم عرسها, وبشدة رفعها الرجال الثلاثة من فوق الأرض.
وللحظات انتابها في الواقع خوف, وتهيأت للدخول في صراع حقيقي لتتخلص من قبضات أيدي الرجال الثلاثة المحكمة والرقيقة في آن واحد, وكانوا يحملونها فوق أكتافهم, الرجال! آه.. أولئك الرجال!..
إنهم لم يهتموا كلية بصراخها المهتاج وتجاسر أحدهم وقرصها في وقاحة قائلاً لاحد زميليه بلا اكتراث” فقط لكي تهدأ” وصدمتها القرصة بطريقة غريبة , طريقة غريبة لكنها ممتعة للغاية, وكفت عن صراخها, وأدركت لتوها أنها محمولة على الأكتاف فوق عيدان من الذرة الناعمة المليئة بالحبوب, والتي كانت تدغدغ قدميها وجنبيها…
والرجال يمضون بها, وأحست بسعادة حقيقية, غير أنها أدركت فجأة أنه يتحتم عليها أن تولول طوال الطريق إلي بيت زوجها, وأن تواصل هذه الولولة أسبوعاً بكامله.
وتذكرت الموسم الأول .. فيه فاض عليها حبه وغمرها برعايته. وبسبب شبابها صارت هدفاً لحسد وبغض غيرها من الزوجات الأخريات وسرعان ما نشأ بينها وبينهن نفور شديد يا لهؤلاء النسوة!.. لماذا لم يدعنها تستمتع بما استمتعن به سنوات… بحبه؟…. إنها مازالت تتذكر كيف أن واحدة منهن وهي أكبرهن سناً تعرضت للضرب حين رفضت السماح لها بالحصول على وقود من كوخها, وكان هذا إيذانا بالكف عن المشاجرات والعراك والتصرفات العدائية, وأصبح الصراع بعد ذلك يدور في صمت, وصارت موكامي صلبة في مواجهتهن , ولم تعد تأبه لوقاحتهن وتجاهلهن لها وهو ما جاهدن في أن يشارك فيه أهالي القرية بكاملها, وكانت تحدث نفسها, لماذا تأبه لذلك؟.. ألم يتحقق لها حلمها وطموحها وأمل حياتها بل وكل شيء في هذا الرجل؟.
ومضى موسمان بل ثلاثة مواسم ثم بدأت الدنيا من حولها تتبدل, إذ أنها لم ترزق بعد بطفل.
ثاتا!.. امرأة عاقر!.
لا طفل حتى الآن يربط ما بينها وبينه من أواصر
لا طفل تشغف به حباً, تعانقه وتعنقه.
لا طفل يخلد ذكري الأرواح الراحلة
أرواح أسلاف رجلها وأرحام أبيها
لقد انهزمت وأدركت هي ذلك كما أدركته الأخريات , وكن يتهامسن ويبتسمن .آه ,كما آلمتها ابتساماتهن, بما تحمل من وقاحة وخيلاء, بيد أنه لم يكن ثمة ما تخشاه, فليشعرن كما شئن بالظفر, فما زالت تستحوذ علي رجلها.
لكن الرجل بدأ يتبدل دون سابق إنذار, ومع الأيام هجرها تماماً وهجر كوخها وأكثر من التزام كوخه هو وأحست بالمرارة , وراحت تلح في طلبه وانفطر قلبها أسي عليه, لكنها لم تظفر به, فقد ارتدت إلى موثوجا المحارب الفلاح الراقص قساوة قلبه المعهودة تلك التي كانت قد خففت هي حدتها فترة من زمن, وبدأ يضربها فقد شاهدها مرة تتشاجر مع كبرى الزوجات فوجد في ضربها متنفسا لكل غضبه المختزن واستيائه وإحباطاته. آه الضرب, والجمع الذي شاهد هذا الضرب ولم يقدم عوناً قط! وكان هذا مقدمة لذلك التنكيل والشقاء اللذين كادا أن يفضيا بها إلى الموت في ذلك الصباح نفسه, فقد زارها في وقت مبكر وانهال عليها ضرباً دونما إنذار أو توضيح للسبب.
وكان الضرب مبرحاً بحيث تركها على شفا حفرة من الموت, لم تصرخ.. فقد رضيت بنصيبها, وبينما كانت على الأرض راقدة تظن أنها النهاية , تبين لها أن الأخريات ربما كن يعانين كثيراً بسببها.
أجل .. لقد أتيح لها أن تراهن وهن يتعرضن للضرب ويصرخن التماسا للرحمة بيد أنها جاهدت بإصرار ألا يؤدي مثل هذا الضرب وهذه الهواجس إلى إخضاع إرادتها, يجب أن تنتصر وأن تفوز.
وبهذا اليقين وإدراك الأمور حولها استقر رأيها سريعاً على ما اعتزمته, فليست هذه الدار مكاناً تعيش فيه, وهي لا تستطيع العودة إلى موطنها لتواجه مرة أخرى أباها العزيز المسن الحذر دوما, إنها لا تستطيع تحمل هذا الخزي.
وردها نسيم الليل البارد عن شرودها, وانسابت على وجنتيها دموع طال احتباسها وهي تسرع هابطة في ذلك الممر الذي يتلوى داخل الدغل منحدراً إلى الوادي ومخترقاً الغابة , وكان الظلام كثيفاً, فشق عليها أن تجد طريقها خلال متاهة الاشواك والأحراش, ولكن..
أيتعاطف معها ذلك الجدول المدموع وهذا الشجر الساكن الذي يحيط بها, أم أن كل هذا يشارك القرية في شجبها الصامت لفعلتها هذه ؟.
وسارت مع الجدول, ثم عبرته عند بقعة هي أكثر بقاعة انخفاضاً حيث كان ثمة حجران أو ثلاثة أحجار تمكنت من أن تخطو فوقها, وكانت ما تزال شديدة الإحساس بالمرارة وبالحزن إلي درجة أنها لم تلحظ الأخطار المحدقة بها, أليس هذا هو المكان الذي يلقي فيه بالموتى, حيث ترفرف أرواحهم في الهواء وتمتزج بالأشجار وتتحرش بالغرباء والدخلاء؟. ونقمت علي الدنيا وعلي زوجها بل علي نفسها.. أو يمكن أن تكون مخطئة طوال هذا الوقت؟. وهل هذا هو الثمن الذي يجب أن تدفعه بسبب تشبثها في أنانية بهذا الرجل؟.
ولكنها أيضاً ضحت بشبابها وجمالها من أجله, وازداد انهمار الدموع واشتدت اللوعة.
أواه يا أرواح الموتى.. تعالي إلي!
أواه يا مورونجو, يارب جيكوبو ورب مومبي,
يا من تسكن كرينياجا العالية, مع ذلك أنت في كل مكان.
لم لا تخلصني من الشقاء؟.
يا أمي الأرض العزيزة , لم لا تنشقين وتبتلعينني
تماماً كما ابتلعت جومبا- جومبا الذي
اختفي تحت جذور الميكونجي؟.
واستغاثت بأرواح الأحياء و الموتى ترجوها أن تأتي وتحملها إلي مكان بعيد حيث لا يراها ثانية وإلي الأبد أحد علي الإطلاق.
وفجأة سمعت صوتاً بعيداً حزيناً, صوتاً مثيراً للشجن, ولكنه صوت حقيقي, كما لو أنه كان استجابة لتوسلاتها, وبدأت الريح تهب بعنف , واختفى آخر نجم, وهو النجم الذي كان يسري عنها بغرابة شديدة, وكانت وحيدة وسط ظلمة الغابة , ومسها شيء ما بارد لا روح فيه ولا حياة فوثبت, وأخيراً فعلت ما لم يفلح الضرب في أن يؤديه معها.. فقد صرخت, وتجاوبت الغابة جميعها مع صدى صراخها, وتملكها رعب قاتل, وارتعد الجسد كله, ثم أدركت أنها لم تكن وحيدة, كانت تشاهد هنا وهناك ألف عين تتوهج توهجاً متقطعاً علي طول جدول الماء , كما شعرت بأيد كثيرة خفية تدفعا إلى الأمام وإلى الخلف, غير ان المشهد ووعيها فجأة أنها وحيدة في ارض الأشباح وبعيدة عن بيتها أصاباتها برعدة, لقد فقدت القدرة علي الإحساس أو التفكير أو حتي البكاء.. كان هذا قدرها.. فهي إرادة مورنجو, ورويدا رويداً أخذت تتهاوي علي الأرض, حيث خار آخر ما تبقي لها من قوة في جسدها, وكانت هذه هي النهاية.. ذروة أحلامها وطموحاتها, بيد أن الأمر كان مثيراً للسخرية تماماً إنا لم تكن تريد حقاً أن تموت فالحياة جميلة , وهي لم تكن تطمح في شيء سوى أن تتاح لها الفرصة لتبدأ الحياة من جديد, حياة بذلك والعطاء, وليست تلك الحياة التي تقوم علي الأخذ فحسب.
لم يكن لتعاستها حد, ذلك أنها حين أرتمت بجسدها على الأرض, بل وعندما تردد في الأفق صياح بوم وزئير ضبع من بعيد, اشتد هبوب الريح, وعلا الصوت الحزين وازداد اقتراباً, وبدأ هطول المطر, وبدت الأرض من تحتها وكأنها تتصدع وتنفلق.
لكن عندما أبرقت السماء وقصف الرعد, لمحت شجرة عن بعد, وكانت الشجرة ضخمة, ولمحت مع ذلك الدغل وهو ينحني في رقة ولكن في إجلال حول الجذع كله, وعرفت.. أدركت دون أن ينبئها أحد أن هذه هي الشجرة, شجرة التين المقدسة والتي يسمونها موكويو- مذبح مورونجو البصير بكل شيء وقالت” هنا أخيراً موقع الحرم المقدس”.
ونهضت تركض تتحدي المطر والرعد والاشباح, وتواري الزوج وتواري معه أهالي مرتفع موهرويني, تلاشت صورهم واختفت بلا اهتمام ولا مبالاة, وبدأ وكأن الحمل الذي يثقل على قلبها قد انزاح عنها وهي تركض داخل الدغل الشوكي وتصطدم بالأشجار فتهوي علي الأرض ثم تنهض, وذهب عنها إحساسها بالعجز, وتبدد قلقها, وكان هدفها الوحيد هو أن تصل إلى شجرة التين, إنها مسألة حياة أو موت … معركة من أجل الحياة, فهناك تحت شجرة التين ستجد الملاذ والمطأنينة هناك ستلتقي بإليهها مورونجو.. رب قبيلتها.
ومن أجل هذا راحت تركض رغم ما اصابها من هزال, وقد أحست بتوهج ممتع ولذيذ يسري في حناياها ويتراقص مع رحمها, إنها الآن قريبة من موضع الحرم المقدس, من مذبح أعلي العليين , موضع الخلاص, وهكذا راحت تركض تجاه المذبح, لا إنها لم تكن تركض, بل إنها تطير, أو إن روحها علي الأقل هي التي تطير, لقد شعرت أنها خفيفة, كأنها ريشة تدفعها الريح, وأخيراً بلغت البقعة التي تريد لاهثة مبهورة الأنفاس.
واستمر المطر يهطل, لكنها لم تكن تدري أو تحس بشيء, فقد رقدت وغلبها النوم تحت أذرع شجرة الإله الحانية, وسيطرة عليها السحر مرة أخري.
وصحت موكامي من نومهاوجله, ما هذا. لا أحد هنا؟ لا شك أنها كانت مومبي التي تقف إلى جوار زوجها جيكويو هي التي مستها مسة رقيق نفذت داخل جسدها مباشرة , لا, لابد من أنها كانت تحلم, ولكن يا له من حلم جميل وغريب!.. وكات مومبي قد قالت ” أنني أم القبيلة” وتلفتت موكامي حواليها, وكان الجو بارداً مظلماً, وهناك… كانت الشجرة العتيقة قوية فتية.. كم من الأسرار لابد من أنك تحتفظين بها؟..
” ينبغي أن أعود إلى البيت, أعود إلى زوجي وقبيلتي”
موكامي التي تفوهت بهذا كانت امرأة جديدة وديعة, ولكنها كانت مفعمة بالأمل, ثم استغرقت في النوع ثانية .. إنه السحر.
كانت الشمس ترتفع في المشرق وخيوط الضوء الغامرة التي تميل للاصفرار وتتخلل الغابة, تنفذ إلي حيث كانت موكامي تجلس متكئة علي الشجرة , وعندما مست بشرتها خيوط الضوء الشاردة, انتابها إحساس بهيج, إحساس سري في كل جسدها, فجري الدم في عروقها , واه واه … لقد شعرت بدفء.. دفء شديد وبسعادة وبهجة وتراقصت روحها, واستجاب لذلك رحمها.. ثم أدركت أنها حبلي… لقد كانت حبلي منذة فترة من الزمن.
وحين نهضت موكامي واقفة تتهيأ للعودة, حملقت في الفضاء بعينين غائمتين, وقد انحدرت علي وجنتيها دموع امتنان وخشوع عميقين, وتطلعت عيناها إلي ما وراء الغابة إلي ما وراء جدول الماء, كما لو أنهما تشاهدان شيئاً ما.. شيئاً يخبئه المستقبل البعيد, وأبصرت أهل مورهوريوني, ورأت ضراتها ورجلها… رأته فتياً قوياً يقف بينهن , ذاك هو مكانها الصحيح, هناك بجوار زوجها ووسط الزوجات الأخريات, يجب أن يتماسكن ويساندن القبيلة, ويمنحنها حياة جديدة.
ومن مكان بعيدة خارت بقرة, فنفضت موكامي عنها أحلام اليقظة.
” يجب أن أمضي”.. وبدأت تتحرك و ما زالت شجرة التين منتصبة في صمت.. ضخمة .. يكتنفها الغموض.