في إحدى قباب بغداد قرأ المنصور ورقة تشكو، ثم قبضها في يده تتلوى، وقد ظل يردد كلماتها، يكاد يتمزع من الغضب، كأنه سحاب راعد: في عينيه برقه، وعلى جبينه قطره، وفوق سمرته غيمه، ولم يكد يخفف عن الورقة قبضته حتى انتفضت، كأنها منخنقة فك خناقها، فبدت آثاره على صفحاتها اثناء، وعلى كتابتها شحوباً!
ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟
واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه
ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:
ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت! صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!
فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين
قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!
قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: أسعيد أنت؟
قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!
قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟
فتأوه سعيد، وقال:
- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!
فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟
قال سعيد:
- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه أهداب الديباج، حتى استرد الليل بردته السوداء، وطوى فيها حلمي ألهني، فصحوت أمد يدي. . . قالت المرأة: مالك؟ قلت أين المال؟ قالت: المال أخذ. . . أحسست أن عقلي أخذ معه، وقمت أتفحص عن الجدار فما وجدت نقباً، وطفت أتوسم في الأثاث فما رأيت أثراً، فأي لص هجم على بيت كأنه حصن؟ وكيف تسور أو تدخل؟ تخيل لي أن عقلي قد اختنق، وأن صدري قد اشتعل، فسرت تيهان هائماً كمحترق يفر من نار شبت فيه!!. . . وهكذا رأيت قرة عيني تسيل في دموع كأنها ينبوع!. . . وأحسست بهجة قلبي تطير في خفقان، كأنها غربان!. . .
قال المنصور: لعل المال مأخوذ غير مسروق
فنظر إليه سعيد نظرة سائلة وهو يردد قوله: مأخوذ! مسروق!. . . مأخوذ! مسروق!. . .
فأطرق المنصور عنه قليلاً، ثم قال: منذ كم تزوجت امرأتك؟
قال سعيد: منذ سنة
قال المنصور: شابة أم مسنة؟
قال سعيد: شابة
قال المنصور: ألها ولد؟
قال سعيد: لا!
قال المنصور: أبرْزة إلى الرجال، أم مقصورة في الحجال؟
قال سعيد: برزة
قال المنصور: جميلة؟
قال سعيد: أن وجهها كالدينار: أخذت بريقه واستدارته
فهمس المنصور: وتركت لك رنينه وصفرته
ثم قال: يروقك جمالها إذن!
قال سعيد: أنها كالبدر يا أمير المؤمنين
قال المنصور: ذكية؟
قال سعيد: أن ذكاءها هو السماء التي تطلع بدرها
قال المنصور: تلك امرأة حبيبة قال سعيد: وذاك اسمها يا أمير المؤمنين
قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!
قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!
فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب
دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟
قال المنصور: ما الذي أقدمك؟
فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: ما اسمك؟
قال الرجل: حبيب!
قال المنصور: ما احب اسمك! ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .
قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين
فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه
قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟
فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً
فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!
قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .
قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .
قال حبيب: أنا. . .
قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.
قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه
قال المنصور: ومن أهداها إليك؟
فاعتقل لسان حبيب في فمه!
قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر
كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت سحابة من كسبه حتى تقاطرت في صرفه! كأن المال زائر عابر: ما سلم حتى ودع! ولكن هذه الهدية عريت عنده من معنى المال ولبست معنى القلب، فما يحسب رنين ذهبها إلا صدى الخفوق! ووثب خياله إلى رجل هنالك قد جمد قلبه جمود الذهب حتى عد خفوقه رنيناً!. . . رجل هنالك!. . . وأزعجه الخيال بوثيته، فصحا من غفوته، فإذا الخليفة يجسه بعينه وبجانبه صاحب الشرطة!
قال المنصور لصاحب الشرطة: خذ هذا الرجل، فخيره في ما خيرته، وأمهله، فعسى أن ينجده وقته، فإن أبى فصب عليه من العذاب ألف سوط!
******
وأمر المنصور حاجبه أن يستقدم سعيداً، ثم يستقدم زوجه، فلما قدم سعيد رأى في الفناء حبيباً مع صاحب الشرطة، فتعجب، وقال: أنت أمامي هنا وهناك!! ثم جد في السير كأنه يفر، حتى دخل على المنصور، فسلم وحيا، وبدت في عينيه نظرة الاهتمام.
قال المنصور: أتعرف الرجل الذي مررت به في فنائنا؟
قال سعيد: أعرفه
قال المنصور: أبينكما صداقة؟
قال سعيد: بيننا شيء
قال المنصور: كيف وجدته؟
قال سعيد: وجدته رجلا لا يعرف قيمة المال
قال المنصور: وكيف وجدت عقله؟
قال سعيد: هو رجل يروي أدباً ويقرض شعراً
قال المنصور: هل تتزاوران؟
قال سعيد: قد يزورنا
قال المنصور: ولكنك لست فارغاً للشعر والأدب!
قال سعيد: أن زوجي تحب الشعر والأدب، فإذا حضر تناشدا الشعر وتقارضا الأدب، حتى إذا أفلس أدبه قام عنا
فهمس المنصور: وهل يفلس الأدب كما يفلس المال؟! ثم قال: لعلك ترغب عن حديثه؟
قال سعيد: أن أكثر كلامه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف أرغب فيه؟
قال المنصور: أولست ترى له خيراً ترتجيه؟
قال سعيد: أنه ليس غنيا أرتجيه. . . غير أني. . .
فبادر المنصور قوله: غير أنك قد استفدت منه!
فاضطرب سعيد وقال: قد كان له جاه وجهه في عرض تجارتي، وله رأى رآني به في بعض أمري، وإني لأعجب من جاه لا مال معه! ومن لسان لا يد له!
قال المنصور: أتنكر مروءته؟
قال سعيد: لا، ولكني وددت لو كان غنياً لم تدركه حرفة الأدب
قال المنصور: وطهارته؟
قال سعيد: لم يذكر الناس فيه رجساً
وأسكتا!
ولما قدمت حبيبة أبصرت في طريقها حبيباً وهو على حيرته، يستحثه صاحب الشرطة، فأنكرت بصرها، ورنت إليه، وأطال العجب رنوها، وألهم حبيب النظر نحوها. فالتقت العين بالعين، ووجب القلب للقلب، ثم أخضع الأسى عينيه، وأسجد جفنيه؛ فسارت نحوه مضطربة السير، قد مد الاستفهام ذراعيها، وابتدر سؤاله فمها. قالت: ما لك؟ فقص عليها قصته. فهزت رأسها وقالت: فهمت. . . فهمت. . . لقد فاح ذكاء المنصور عطراً، فنصبه شركاً؛ أنه صراع الملك في قصة يوسف! (وغمزت بعينها وضحكت)؛ ثم قالت بصوت حزين: يا حبيب. . . أعط الخليفة الهدية!
قال حبيب: لقد كانت صلة تحمل طابع الحب؟
قالت: أن حبنا معنا، وأما هذا الطابع فنحن الذين طبعناه، ونحن إذا شئنا محوناه، ليعود خاتمها الأول. . . خاتم البخل؛ فلقد يغلط البخيل فتكون غلطته جوداً، ثم ينقلب معنى الجود في نفسه ندما. ولقد علمت سعيداً بخيلاً، يكاد يسترجع قيئه إذا ذكر أنه كان طعاما!!
فاشمأز حبيب شمأزيزة المال، واطمأن طمأنينة الحب، ونادى صاحب الشرطة حيث وقف جنبه، فقال له: قد رضيت حكم الخليفة، وإني ذاهب لأحمل المال إليه. فقال صاحب الشرطة: أرحت واسترحت! وأمر شرطياً أن يذهب معه فيحمل عنه؛ ثم ذهب إلى الخليفة في سكاته، فأسر إليه رضى حبيب بحكمه، فتبسم ضاحكاً!
والتفت المنصور إلى سعيد وقال: إيه!
فنظر إليه سعيد نظرة تتألق بطلب الحديث! قال المنصور: إلا يزال حديث المال يتردد في نفسك!
قال سعيد: أنه يتردد مع أنفاسي، ولقد بت الليلة ضجيع خياله!
قال المنصور: كأنه امرأة ثانية!
وضحك ثم قال: أرايتك أن رددت عليك مالك بعينه أتحكمني في امرأتك؟
فأشرق وجه سعيد كثيراً، وأغيم قليلاً؛ ثم قال: نعم
قال المنصور: دعني إذن أستخلصه لك، واجلس عند الأُذن قليلاً حتى يأذن لك بالحضور مرة أخرى
فخرج سعيد متفائلاً، وهو يجمجم: نعم العطر!
فاهتز المنصور ضاحكاً، وهو يزمزم: نعم ذكاؤه!
ودخلت حبيبة تتهادى، وقد ربط التجلد على قلبها، فبدا وقارها. . .
قالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين والمؤمنات
قال المنصور: وعليك السلام أيتها المؤمنة
قالت: أحب أن أشكر أمير المؤمنين على عطره الذكي؛ فقد كان بشير يمن لزوجي، وأرجو أن يمسني يمنه كذلك
قال: ولكني أظنكما فرطتما فيه
قالت: ما وضعناه إلا حيث تخيرنا، عسى أن ينتشر طيبه على الطيبين
قال: (والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) وابتسم!
فانتفضت وقالت: (أولئك مبرؤون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم)!
قال: أوليس زوجك طيبا؟!
فارتجفت وقالت: أنه طيب المال، يجري حبه في دمه، كأنه ابن الدوانيق. . .
فأربد وجه المنصور غضباً وقال:
أتغمزينني بكنية (أبي الدوانيق) التي كناني بها بعض المرجفين في المدينة، إذ رأوني - حين بنيت بغداد - أباشرها بنفسي وأحاسب الصناع وأجازي المهملين، فظنوا أني فتنت بالدرهم والدانق، وإنما راقبت ربي فراقبت عملي، وقومت أمري فأرضيت نفسي، وما أنا بمفتون أو بخيل، ولكني رأيت كثيرا من الناس عبيد المال، فأمسكته لهم، ليكونوا عبيد الله وخليفته!
قالت: أني أجل أمير المؤمنين أن أغمزه بتلك الكنية، فلقد رعيت المال: كثيره وقليله، وديناره ودانقه، فكنت أباه! وأما سعيد، فقد حكمه المال وتولاه، حتى صار خادمه ومتبناه!
فتساير الغضب عن وجه المنصور وقال:
- أني أكبر عقلك!
قالت: وهل أكبرت عقل سعيد؟
فنظر إليها المنصور وسكت ثم قال:
- أراك برزة!!
قالت: ما رأى مني أحب الناس إلي إلا ما رآه الخليفة من وجهي ويدي، فما ضرني أن أكون برزة؟! إنما خلق الله المرأة رجلة ولم يخلقها جنة! وجعل اللسان حجة ولم يجعله عورة! وإن المرأة التي تخشى الرجال هي التي أخشى عليها الرجال. . .! أليس الله أحق أن تخشاه؟!
ولقد حجبت نفسي بالعفاف، فبلغت غاية الحجاب؟
- أظن سعيداً معجبا بعفافك؟
- يعجب بعفافي بعد أن يعجب بماله!
- هو سعيد بك
- لو وجد هواه مع غيري لكان أسعد!
- وأنت سعيدة؟
- أسمي (حبيبة)
- ليست الأسماء حقائق
- قد تكون الأسماء آمالاً، ألم يسم أمير المؤمنين قصره (الخلد)؟
فنظر إليها المنصور نظرة رائعة ثم قال:
- وكيف تزوجت إذن سعيداً؟!
- تعارفنا بالأسماء وتقاربنا بالأنساب، فتزوجنا، وقد كان قلبي على فطرته ينبض كما كان ينبض منذ ميلادي، وكان زوجي يرعاني كما يرعى إحدى قريباته، ويحبني كما تحبني إحدى قريباتي. . . وقد رأيته يتاجر فساعدته، وساعده الحظ معي، حتى أثرى، فكشف ثراؤه عن نفسه، وتجسد أمامي حبه للمال، يستكثر ولا يستكفي ويبخل ولا يستمتع، والمال تجاهه سلسلة لا تنتهي حلقاتها، كلما جذب حلقة بانت له أطراف أخرى فجرى إليها. . . فكرت وقدرت، فإذا موضع المال من قلبه في الأعماق، وإذا موضعي من ذلك القلب على الشط: أحمل دلوي لأغرف له، كأن عقد الزواج من عقود المال، وكأني شريكته في متجره لا في بيته. غير أني شريكة لا تشارك في ربح ولا تطالب بأجر!! وكيف يراني أو يسمعني وقد طرفت الدنيا عينيه، وسدت أذنيه؟! وهكذا حفر في قلبي أسفاً! وتتالت الأيام على حفر ذلك الأسف، فكان غضباً! وبالغت الشهور في حفر ذلك الغضب، فكان كرها!. . .
هناك سمعت من حفيرة قلبي دقاته الجديدة، فخلت خفقاته وقع المعاول!. . . أنا لم أولد على دكان ربوي شحيح، ولم أنشأ في رحل بدوي غليظ، فقد كان أبى أدبياً طبعني على أدبه، حناناً أرقني بحنانه، فكيف أعيش في كنز أسمع رنينه ولا يسمع أنيني؟ طار قلبي عن بيتي، فلم أدر: كيف يقع؟ وأين يقع؟ ولكني أحسست صدري فارغاً، قد طلاه الآسي بسواد، يعلن الحداد! ثم رأيت - في من رأيت - فلاناً
فابتسم المنصور ابتسامة المعرفة، واستكملت قولها:
تعرفته فتبينت فيه العفافة، وتأملته فتأولت فيه المروءة، رأيته شاعر النفس واللسان، رقيق القلب والبيان، فأحسست أن قلبي قد هبط معه، فما قابلته حتى تحادثت حمرة في الوجهين ودف عرس في القلبين!
قال المنصور: حسبك! فإني أخاف عليك الغرق والإغراق
قالت: قد بلغنا الساحل! (وأشارت إليه)
قال: وأين واجب الزوج؟
قالت: قد عرفت الواجب فرعيته، وقدرت الأمانة فأديتها؛ وما أثقل الواجب والأمانة إذا وغلت فيهما الكراهة! وأمير المؤمنين يعلم أن الله قد شرع الزواج آلفة لا نفرة، وشرع الطلاق ضرورة يلجأ إليها المضطر لا المغتر؛ ولكن كثيراً من الناس تعاموا عن حكمة الله، فاتخذوا الزواج مواجهة وجهين، لا معاقدة قلبين! وارتكبوا الطلاق مطية غرور لا قضية نفور، وما أحكم قول الله: (فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه!)
وأستأذن حبيب فأذن له، ودخل مع المال يحيي الخليفة، وابتسم لحبيبة ابتسامة ردتها بأحسن منها، ثم قالت: أن هذا المال لحبيب. إذ أهديته اليه، وقد كان مالي من قبل. إذ أهداه لي زوجي، فما أبعد زوجي عنه!
قال المنصور: إلا تفتديان به قلبيكما؟!
قال حبيب وحبيبة معا: نعم الحكم أمير المؤمنين!
ثم ابتسما في خجل من تطابق الصوتين على الجواب، فابتسم المنصور. . . وأخذت العيون تسارق النظر: فالمنصور يرخي طرفه ثم يلمح الحبيبين، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه والخليفة نظرة مقسمة بينهما، كأنها نظرة الأحول، وما أروع نظرات الحول المستعار! وإذن المنصور لسعيد بالحضور فحضر يدير عينيه!
قال المنصور: أهذا مالك يا سعيد؟
فرنا سعيد فرحاً؛ ثم قال: هو يا أمير المؤمنين
قال المنصور: خذه كما أشرت، وقد طلقت امرأتك كما شرطت فرفع سعيد رأسه ينظر إليه، ويقول: ولكنني رأيت عندها حبا وإخلاصاً!
قال المنصور: لقد أدت واجب الزواج فظننته حباً، ورعت أمانة العفاف فحسبته إخلاصاً، وما ربط قلبيكما حب، ولا جمع كبديكما ولد. . . على أنني قد تخيرت لك امرأة على هواك أسمها (سعدى) يا سعيد!
قال سعيد: الخيرة ما أختار أمير المؤمنين، وأنا درج يديه
وألتفت المنصور فجأة إلى حبيبة وحبيب؛ فإذا هي قد سدلت جفنها، وحدرت من تحتها إلى حبيب نظرة قد رويت من قلبها، بحبها! وإذا هو معقود النظر بها، كأنما نفثت فيه من سحرها!. . .
فهمس المنصور: خلقت هواك كما خلقت هوى لها!
ثم قال لهما: جمع الله بينكما بشرعه
ثم إذن لهم جميعاً، فخرجوا راضين، وهو يقول: الحمد لك، الآن تلاءمت الأسماء، والتأمت الأهواء
وبعد أيام زفت سعدى إلى سعيد، وزف مالها إلى ماله، فتواصيا بالاكتناز، وتباعثا على الاكتساب؛ فما أصبحت ليلة الزفاف حتى امسكا دفتر الحساب!
وبعد أشهر زفت حبيبة إلى حبيب، وزف حبها إلى حبه، فورى القلبان بنار الشوق، كأنهما زنداه! وتلاقى الفمان على قبلة ال (حب) كأنهما حرفاه! واستبدت بهما القبلة، فتطاعم المتلاثمان، كأنهما حمامتان!
رفعت فتح الله
28 - 04 - 1941
ألقى المنصور الورقة من يده، بعد أن ألقى ما فيها في نفسه، ولقد ارتعد إذ رأى رعيته تشكو بعض عماله، وكل راع مسؤول عن رعيته، فأين يفر الظالم من شكاية المظلوم؟ وكيف يواجه ظلم العامل حزم الخليفة؟
واخذ يفصل أنواع المظالم، ثم ينثرها في رأسه ليرسل إليها تفكيره، فتواردتها آراؤه كأنها حمام سراع إلى حب منثور، وتزاحمت، وتضاربت، حتى أحس ضرباتها في رأسه، ثم تلاقت الآراء على رأي سن عليه أمره، وعقد عليه قلبه: أن يعزل العامل لظلمه، ويأخذ ماله على عينه، ويترك المال في بيت مفرد، يسمى (بيت مال المظالم) ويكتب عليه اسم صاحبه
ولما استراح إلى رأيه نادى صاحبه ليأمره آمره، ثم قام إلى مجلس أهله ليقضي حق الاهل، فلقى في طريقه صبيا يلعب، فمس فرع أذنه بسبابته؛ فنظر إليه الصبي نظرة الصغر إلى الكبر، فأخذه على ذراعه، وغمز نغانغه، وكلمه مداعباً، ثم قبله على شغف، وأرسله على مرح قائلاً: إذا كان الحزم مع الكبير مجازاة، فهو مع الصغير مناغاة:
ونظر غير بعيد، فإذا رجل يمشي مشية الأسيان، يرسُّ الحديث في نفسه فتتحرك شفتاه بما لا تسمع أذناه، ويفتح عينيه ولكنه لا ينظر بهما، كأنهما انعكستا على رأسه، فتجسمت فيهما صور ما وراءها من تفكير، ولم تتصور أشباح ما أمامها من منظور، فهجس في نفس المنصور أنه يرى مظلوما أصابه بعض عماله، وارتجع إليه فكرة الأول، فلم يلبث أن أشار إلى الرجل الذاهل إشارة ضاعت في ذهوله، فأومأ إلى عصا ألقيت في طريق الرجل فاعترضته حتى كاد يتعثر، ولكنه اعتدل ولم يلتفت! صاح حاجب المنصور: أيها الرجل!
فالتفت الرجل التفاته كأنها أفاقة المغشي عليه، ثم برق عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين
قال المنصور: وعليك السلام يا أسير الشجون! هل تتذكر اسمك؟!
قال الرجل: سعيد. . . سعيد. . . يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: أسعيد أنت؟
قال الرجل: ذاك اسمي لا وصفي، والأسماء من اختيار الآباء، والأوصاف من اختيار الأقدار!
قال المنصور: وكيف كنت مع الأقدار؟
فتأوه سعيد، وقال:
- جعلت حياتي تتلون تلون الزمن: من سواد الليل إلى بياض الصبح، ومن حمرة الهجير إلى صفرة الأصيل. . . فلقد كان مشرق شبابي مغرب والدي، وكان ميراثي منه وفراً من الوصايا ونزراً من الدراهم، فما مددت يدي إليها حتى بعثت فيهما نشطة العمل، كأنها رقية التكسب، فتاجرت وأخلصت للتجارة حتى برت بي ودرت، لله درها! فقد صرت أعد أوقاتي بالدنانير حتى خيل إلي أن أشعة الشمس تجمد في يدي ذهباً!
فحدقه المنصور بعينين تطل منهما نفسه المحبة للمال، وقد كان المنصور يجمع في صفاته قوة الحزم ورجاحة الرأي وحب المال وطهارة اليد. فسطع في عينيه من معنى الذهب بربقه، ثم غلب عليهما من معنى الحزم حديده؛ ثم قال: أليس في هذا سعدك يا سعيد؟ فكيف احتضرك الهم؟
قال سعيد:
- لقد كنت أمس قرير العين بهيج القلب، إذ رجعت من سفرة راشدة - في تجارة رابحة - فدفعت إلى امرأتي ما أحضرت من كرائم الأموال، وطفقت اشغل يدي بتصفيفها ولساني بتحسينها، حتى أخذتني نشوة الظفر بما كسبت فأهديت، وأسرعت المرأة القبول. . . آه! يا لها من عجول!! تركتها ضائق النفس، وخرجت إلى الناس أؤدي حقوقاً لزمتني بالإياب، ثم رجعت إلى منزلي مع الليل، فأسر إلي حلماً منعما، تشيع فيه أضواء الذهب، وتنوس عليه أهداب الديباج، حتى استرد الليل بردته السوداء، وطوى فيها حلمي ألهني، فصحوت أمد يدي. . . قالت المرأة: مالك؟ قلت أين المال؟ قالت: المال أخذ. . . أحسست أن عقلي أخذ معه، وقمت أتفحص عن الجدار فما وجدت نقباً، وطفت أتوسم في الأثاث فما رأيت أثراً، فأي لص هجم على بيت كأنه حصن؟ وكيف تسور أو تدخل؟ تخيل لي أن عقلي قد اختنق، وأن صدري قد اشتعل، فسرت تيهان هائماً كمحترق يفر من نار شبت فيه!!. . . وهكذا رأيت قرة عيني تسيل في دموع كأنها ينبوع!. . . وأحسست بهجة قلبي تطير في خفقان، كأنها غربان!. . .
قال المنصور: لعل المال مأخوذ غير مسروق
فنظر إليه سعيد نظرة سائلة وهو يردد قوله: مأخوذ! مسروق!. . . مأخوذ! مسروق!. . .
فأطرق المنصور عنه قليلاً، ثم قال: منذ كم تزوجت امرأتك؟
قال سعيد: منذ سنة
قال المنصور: شابة أم مسنة؟
قال سعيد: شابة
قال المنصور: ألها ولد؟
قال سعيد: لا!
قال المنصور: أبرْزة إلى الرجال، أم مقصورة في الحجال؟
قال سعيد: برزة
قال المنصور: جميلة؟
قال سعيد: أن وجهها كالدينار: أخذت بريقه واستدارته
فهمس المنصور: وتركت لك رنينه وصفرته
ثم قال: يروقك جمالها إذن!
قال سعيد: أنها كالبدر يا أمير المؤمنين
قال المنصور: ذكية؟
قال سعيد: أن ذكاءها هو السماء التي تطلع بدرها
قال المنصور: تلك امرأة حبيبة قال سعيد: وذاك اسمها يا أمير المؤمنين
قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!
قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!
فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب
دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟
قال المنصور: ما الذي أقدمك؟
فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!
قال المنصور: ما اسمك؟
قال الرجل: حبيب!
قال المنصور: ما احب اسمك! ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .
قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين
فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه
قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟
فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً
فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!
قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .
قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .
قال حبيب: أنا. . .
قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.
قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه
قال المنصور: ومن أهداها إليك؟
فاعتقل لسان حبيب في فمه!
قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر
كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت سحابة من كسبه حتى تقاطرت في صرفه! كأن المال زائر عابر: ما سلم حتى ودع! ولكن هذه الهدية عريت عنده من معنى المال ولبست معنى القلب، فما يحسب رنين ذهبها إلا صدى الخفوق! ووثب خياله إلى رجل هنالك قد جمد قلبه جمود الذهب حتى عد خفوقه رنيناً!. . . رجل هنالك!. . . وأزعجه الخيال بوثيته، فصحا من غفوته، فإذا الخليفة يجسه بعينه وبجانبه صاحب الشرطة!
قال المنصور لصاحب الشرطة: خذ هذا الرجل، فخيره في ما خيرته، وأمهله، فعسى أن ينجده وقته، فإن أبى فصب عليه من العذاب ألف سوط!
******
وأمر المنصور حاجبه أن يستقدم سعيداً، ثم يستقدم زوجه، فلما قدم سعيد رأى في الفناء حبيباً مع صاحب الشرطة، فتعجب، وقال: أنت أمامي هنا وهناك!! ثم جد في السير كأنه يفر، حتى دخل على المنصور، فسلم وحيا، وبدت في عينيه نظرة الاهتمام.
قال المنصور: أتعرف الرجل الذي مررت به في فنائنا؟
قال سعيد: أعرفه
قال المنصور: أبينكما صداقة؟
قال سعيد: بيننا شيء
قال المنصور: كيف وجدته؟
قال سعيد: وجدته رجلا لا يعرف قيمة المال
قال المنصور: وكيف وجدت عقله؟
قال سعيد: هو رجل يروي أدباً ويقرض شعراً
قال المنصور: هل تتزاوران؟
قال سعيد: قد يزورنا
قال المنصور: ولكنك لست فارغاً للشعر والأدب!
قال سعيد: أن زوجي تحب الشعر والأدب، فإذا حضر تناشدا الشعر وتقارضا الأدب، حتى إذا أفلس أدبه قام عنا
فهمس المنصور: وهل يفلس الأدب كما يفلس المال؟! ثم قال: لعلك ترغب عن حديثه؟
قال سعيد: أن أكثر كلامه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف أرغب فيه؟
قال المنصور: أولست ترى له خيراً ترتجيه؟
قال سعيد: أنه ليس غنيا أرتجيه. . . غير أني. . .
فبادر المنصور قوله: غير أنك قد استفدت منه!
فاضطرب سعيد وقال: قد كان له جاه وجهه في عرض تجارتي، وله رأى رآني به في بعض أمري، وإني لأعجب من جاه لا مال معه! ومن لسان لا يد له!
قال المنصور: أتنكر مروءته؟
قال سعيد: لا، ولكني وددت لو كان غنياً لم تدركه حرفة الأدب
قال المنصور: وطهارته؟
قال سعيد: لم يذكر الناس فيه رجساً
وأسكتا!
ولما قدمت حبيبة أبصرت في طريقها حبيباً وهو على حيرته، يستحثه صاحب الشرطة، فأنكرت بصرها، ورنت إليه، وأطال العجب رنوها، وألهم حبيب النظر نحوها. فالتقت العين بالعين، ووجب القلب للقلب، ثم أخضع الأسى عينيه، وأسجد جفنيه؛ فسارت نحوه مضطربة السير، قد مد الاستفهام ذراعيها، وابتدر سؤاله فمها. قالت: ما لك؟ فقص عليها قصته. فهزت رأسها وقالت: فهمت. . . فهمت. . . لقد فاح ذكاء المنصور عطراً، فنصبه شركاً؛ أنه صراع الملك في قصة يوسف! (وغمزت بعينها وضحكت)؛ ثم قالت بصوت حزين: يا حبيب. . . أعط الخليفة الهدية!
قال حبيب: لقد كانت صلة تحمل طابع الحب؟
قالت: أن حبنا معنا، وأما هذا الطابع فنحن الذين طبعناه، ونحن إذا شئنا محوناه، ليعود خاتمها الأول. . . خاتم البخل؛ فلقد يغلط البخيل فتكون غلطته جوداً، ثم ينقلب معنى الجود في نفسه ندما. ولقد علمت سعيداً بخيلاً، يكاد يسترجع قيئه إذا ذكر أنه كان طعاما!!
فاشمأز حبيب شمأزيزة المال، واطمأن طمأنينة الحب، ونادى صاحب الشرطة حيث وقف جنبه، فقال له: قد رضيت حكم الخليفة، وإني ذاهب لأحمل المال إليه. فقال صاحب الشرطة: أرحت واسترحت! وأمر شرطياً أن يذهب معه فيحمل عنه؛ ثم ذهب إلى الخليفة في سكاته، فأسر إليه رضى حبيب بحكمه، فتبسم ضاحكاً!
والتفت المنصور إلى سعيد وقال: إيه!
فنظر إليه سعيد نظرة تتألق بطلب الحديث! قال المنصور: إلا يزال حديث المال يتردد في نفسك!
قال سعيد: أنه يتردد مع أنفاسي، ولقد بت الليلة ضجيع خياله!
قال المنصور: كأنه امرأة ثانية!
وضحك ثم قال: أرايتك أن رددت عليك مالك بعينه أتحكمني في امرأتك؟
فأشرق وجه سعيد كثيراً، وأغيم قليلاً؛ ثم قال: نعم
قال المنصور: دعني إذن أستخلصه لك، واجلس عند الأُذن قليلاً حتى يأذن لك بالحضور مرة أخرى
فخرج سعيد متفائلاً، وهو يجمجم: نعم العطر!
فاهتز المنصور ضاحكاً، وهو يزمزم: نعم ذكاؤه!
ودخلت حبيبة تتهادى، وقد ربط التجلد على قلبها، فبدا وقارها. . .
قالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين والمؤمنات
قال المنصور: وعليك السلام أيتها المؤمنة
قالت: أحب أن أشكر أمير المؤمنين على عطره الذكي؛ فقد كان بشير يمن لزوجي، وأرجو أن يمسني يمنه كذلك
قال: ولكني أظنكما فرطتما فيه
قالت: ما وضعناه إلا حيث تخيرنا، عسى أن ينتشر طيبه على الطيبين
قال: (والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات) وابتسم!
فانتفضت وقالت: (أولئك مبرؤون مما يقولون، لهم مغفرة ورزق كريم)!
قال: أوليس زوجك طيبا؟!
فارتجفت وقالت: أنه طيب المال، يجري حبه في دمه، كأنه ابن الدوانيق. . .
فأربد وجه المنصور غضباً وقال:
أتغمزينني بكنية (أبي الدوانيق) التي كناني بها بعض المرجفين في المدينة، إذ رأوني - حين بنيت بغداد - أباشرها بنفسي وأحاسب الصناع وأجازي المهملين، فظنوا أني فتنت بالدرهم والدانق، وإنما راقبت ربي فراقبت عملي، وقومت أمري فأرضيت نفسي، وما أنا بمفتون أو بخيل، ولكني رأيت كثيرا من الناس عبيد المال، فأمسكته لهم، ليكونوا عبيد الله وخليفته!
قالت: أني أجل أمير المؤمنين أن أغمزه بتلك الكنية، فلقد رعيت المال: كثيره وقليله، وديناره ودانقه، فكنت أباه! وأما سعيد، فقد حكمه المال وتولاه، حتى صار خادمه ومتبناه!
فتساير الغضب عن وجه المنصور وقال:
- أني أكبر عقلك!
قالت: وهل أكبرت عقل سعيد؟
فنظر إليها المنصور وسكت ثم قال:
- أراك برزة!!
قالت: ما رأى مني أحب الناس إلي إلا ما رآه الخليفة من وجهي ويدي، فما ضرني أن أكون برزة؟! إنما خلق الله المرأة رجلة ولم يخلقها جنة! وجعل اللسان حجة ولم يجعله عورة! وإن المرأة التي تخشى الرجال هي التي أخشى عليها الرجال. . .! أليس الله أحق أن تخشاه؟!
ولقد حجبت نفسي بالعفاف، فبلغت غاية الحجاب؟
- أظن سعيداً معجبا بعفافك؟
- يعجب بعفافي بعد أن يعجب بماله!
- هو سعيد بك
- لو وجد هواه مع غيري لكان أسعد!
- وأنت سعيدة؟
- أسمي (حبيبة)
- ليست الأسماء حقائق
- قد تكون الأسماء آمالاً، ألم يسم أمير المؤمنين قصره (الخلد)؟
فنظر إليها المنصور نظرة رائعة ثم قال:
- وكيف تزوجت إذن سعيداً؟!
- تعارفنا بالأسماء وتقاربنا بالأنساب، فتزوجنا، وقد كان قلبي على فطرته ينبض كما كان ينبض منذ ميلادي، وكان زوجي يرعاني كما يرعى إحدى قريباته، ويحبني كما تحبني إحدى قريباتي. . . وقد رأيته يتاجر فساعدته، وساعده الحظ معي، حتى أثرى، فكشف ثراؤه عن نفسه، وتجسد أمامي حبه للمال، يستكثر ولا يستكفي ويبخل ولا يستمتع، والمال تجاهه سلسلة لا تنتهي حلقاتها، كلما جذب حلقة بانت له أطراف أخرى فجرى إليها. . . فكرت وقدرت، فإذا موضع المال من قلبه في الأعماق، وإذا موضعي من ذلك القلب على الشط: أحمل دلوي لأغرف له، كأن عقد الزواج من عقود المال، وكأني شريكته في متجره لا في بيته. غير أني شريكة لا تشارك في ربح ولا تطالب بأجر!! وكيف يراني أو يسمعني وقد طرفت الدنيا عينيه، وسدت أذنيه؟! وهكذا حفر في قلبي أسفاً! وتتالت الأيام على حفر ذلك الأسف، فكان غضباً! وبالغت الشهور في حفر ذلك الغضب، فكان كرها!. . .
هناك سمعت من حفيرة قلبي دقاته الجديدة، فخلت خفقاته وقع المعاول!. . . أنا لم أولد على دكان ربوي شحيح، ولم أنشأ في رحل بدوي غليظ، فقد كان أبى أدبياً طبعني على أدبه، حناناً أرقني بحنانه، فكيف أعيش في كنز أسمع رنينه ولا يسمع أنيني؟ طار قلبي عن بيتي، فلم أدر: كيف يقع؟ وأين يقع؟ ولكني أحسست صدري فارغاً، قد طلاه الآسي بسواد، يعلن الحداد! ثم رأيت - في من رأيت - فلاناً
فابتسم المنصور ابتسامة المعرفة، واستكملت قولها:
تعرفته فتبينت فيه العفافة، وتأملته فتأولت فيه المروءة، رأيته شاعر النفس واللسان، رقيق القلب والبيان، فأحسست أن قلبي قد هبط معه، فما قابلته حتى تحادثت حمرة في الوجهين ودف عرس في القلبين!
قال المنصور: حسبك! فإني أخاف عليك الغرق والإغراق
قالت: قد بلغنا الساحل! (وأشارت إليه)
قال: وأين واجب الزوج؟
قالت: قد عرفت الواجب فرعيته، وقدرت الأمانة فأديتها؛ وما أثقل الواجب والأمانة إذا وغلت فيهما الكراهة! وأمير المؤمنين يعلم أن الله قد شرع الزواج آلفة لا نفرة، وشرع الطلاق ضرورة يلجأ إليها المضطر لا المغتر؛ ولكن كثيراً من الناس تعاموا عن حكمة الله، فاتخذوا الزواج مواجهة وجهين، لا معاقدة قلبين! وارتكبوا الطلاق مطية غرور لا قضية نفور، وما أحكم قول الله: (فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا، ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه!)
وأستأذن حبيب فأذن له، ودخل مع المال يحيي الخليفة، وابتسم لحبيبة ابتسامة ردتها بأحسن منها، ثم قالت: أن هذا المال لحبيب. إذ أهديته اليه، وقد كان مالي من قبل. إذ أهداه لي زوجي، فما أبعد زوجي عنه!
قال المنصور: إلا تفتديان به قلبيكما؟!
قال حبيب وحبيبة معا: نعم الحكم أمير المؤمنين!
ثم ابتسما في خجل من تطابق الصوتين على الجواب، فابتسم المنصور. . . وأخذت العيون تسارق النظر: فالمنصور يرخي طرفه ثم يلمح الحبيبين، وكل واحد منهما ينظر إلى صاحبه والخليفة نظرة مقسمة بينهما، كأنها نظرة الأحول، وما أروع نظرات الحول المستعار! وإذن المنصور لسعيد بالحضور فحضر يدير عينيه!
قال المنصور: أهذا مالك يا سعيد؟
فرنا سعيد فرحاً؛ ثم قال: هو يا أمير المؤمنين
قال المنصور: خذه كما أشرت، وقد طلقت امرأتك كما شرطت فرفع سعيد رأسه ينظر إليه، ويقول: ولكنني رأيت عندها حبا وإخلاصاً!
قال المنصور: لقد أدت واجب الزواج فظننته حباً، ورعت أمانة العفاف فحسبته إخلاصاً، وما ربط قلبيكما حب، ولا جمع كبديكما ولد. . . على أنني قد تخيرت لك امرأة على هواك أسمها (سعدى) يا سعيد!
قال سعيد: الخيرة ما أختار أمير المؤمنين، وأنا درج يديه
وألتفت المنصور فجأة إلى حبيبة وحبيب؛ فإذا هي قد سدلت جفنها، وحدرت من تحتها إلى حبيب نظرة قد رويت من قلبها، بحبها! وإذا هو معقود النظر بها، كأنما نفثت فيه من سحرها!. . .
فهمس المنصور: خلقت هواك كما خلقت هوى لها!
ثم قال لهما: جمع الله بينكما بشرعه
ثم إذن لهم جميعاً، فخرجوا راضين، وهو يقول: الحمد لك، الآن تلاءمت الأسماء، والتأمت الأهواء
وبعد أيام زفت سعدى إلى سعيد، وزف مالها إلى ماله، فتواصيا بالاكتناز، وتباعثا على الاكتساب؛ فما أصبحت ليلة الزفاف حتى امسكا دفتر الحساب!
وبعد أشهر زفت حبيبة إلى حبيب، وزف حبها إلى حبه، فورى القلبان بنار الشوق، كأنهما زنداه! وتلاقى الفمان على قبلة ال (حب) كأنهما حرفاه! واستبدت بهما القبلة، فتطاعم المتلاثمان، كأنهما حمامتان!
رفعت فتح الله
28 - 04 - 1941