المنشور 8
تم التأسيس للفكر العربي الحديث والمعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد فترات شهدت فيها البلاد العربية والإسلامية تراجعا عن الإسهام في مواصلة بناء الحضارة الإنسانية، بالنظر إلى عوامل داخلية وخارجية جعلتها تمر بمراحل صعبة، ران فيها التخلف والانحطاط بكل أشكاله وصوره وألوانه، وهيمنت عليها قوى الاستعمار، وطغى عليها الأغيار، وأمام وعي النخب الفكرية والثقافية العربية بأوضاع الأمة، وشعورهم بالمسؤولية لانقاذها مما هي فيه، بدأ التفكير في أساليب الخلاص من الاحتلال بكل أشكاله، ومواجهة مظاهر التخلف، والعمل على التحرر الوطني من خلال ما قامت به حركات الإصلاح، ودعاة النهضة..
وقد أسهمت النخب العربية من مختلف التيارات والمرجعيات بمشاريع فكرية، قدمت من خلالها رؤى، ووجهات نظر، وبدائل، لحل المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وانصب رهانها على محاربة الجهل والخرافات والشعوذة بنشر التربية والتعليم للناشئة، وإصلاح الشأن الديني وتنقيته مما أصابه من شوائب وانحرافات، ومعالجة الاختلالات الثقافية والاجتماعية بما كان ميسر لها من إمكانات...
ومن بين التيارات الفكرية والثقافية التي نشطت في هذا الشأن، وعبر مختلف المراحل، نجد الاتجاه السلفي الإصلاحي الديني الذي كان له فضل السبق في دخول غمار مواجهة الواقع العربي المتردي، والاتجاه القومي الذي راهن على مسألة الوحدة العربية، وخاض تجارب في هذا المجال، وكان له إيجابياته وسلبياته، ومن إيجابياته إسهامه في حركات التحرر العربية، غير أن هذا التوجه على إسهامه في بناء وعي قومي وحداثي مستنير، إلا أن بعض القوى ذات المصالح، عملت على محاربته وتحجيم دوره، بهدف إبقاء العرب مشتتين، مختلفين، ضعفاء على الرغم من توافر جميع شروط النهوض فيهم،
وقد ساعدت العوامل الداخلية المعارضة على عدم انتشار الاتجاه القومي، مما قلص من امتداده، وأضعف فعاليته.
ومن ضمن المشاريع البديلة التي سعت بعض النخب العربية إلى طرحها للنهوض بالمجتمعات العربية الاتجاه الاشتراكي الذي رفعت شعاره قوى فكرية وسياسية في الوطن العربي، وخاضت بعض الأقطار العربية هذه التجربة في نظم حكمها، ولكنها عرفت المصير نفسه الذي عرفه التيار القومي في عمقه التحرري، ومختلف التجارب التي سارت في هذا الاتجاه، وكان لفشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وتفكك الاتحاد، وانهيار المنظومة الاشتراكية في معظم أنظمة الحكم في الدول التي خاضت هذه التجربة، كان لذلك انعكاسه على الدول العربية التي خاضت التجربة نفسها، مع العلم أن لانهيار المنظومة الاشتراكية أسبابه، كما له عوامل داخلية، وعوامل خارجية...
ومن ضمن المشاريع التي كان لها بعض الأثر في المسار الفكري والسياسي لدى النخب، وأنظمة الحكم العربية، ما قدمه الاتجاه الليبرالي الذي كان له رواده، وله معارضوه، ومعيقو تجسيده ميدانيا، ولعل أهم العوامل الداخلية المعارضة هي افتقاده الأسس الاجتماعية، وغياب القوى السياسية المقتنعة بالمشروع، والداعمة له على مستوى المؤسسات، ومنظومات الحكم، إضافة إلى مسألة جوهرية تتمثل في هشاشة نمط الإنتاج الاقتصادي العربي ميدانيا، وهو ما كان له بالغ الأثر في غياب ملامح الاتجاه الليبيرالي في الواقع ، ولم تتوفر له الإمكانيات ولا شروط الملائمة لتجسيد هذا المشروع، وتعزيز تجذره في مسار البناء والتنمية، وعلى رأس هذه الشروط هو عدم توافر نمط الإنتاج الاقتصادي البرجوازي ولا الليبيرالي في الوطن العربي، وحتى التجارب الصناعية فاقدة للمرجعية والتقاليد والأخلاقيات، والحدود، فالبيئة الحاضنة تقتضي المواءمة، ولذا تجد تجسيد رؤية هذا الاتجاه في الواقع غير منسجمة، لما تواجه من روتين وعراقيل بيروقراطية، فتلجأ في معظمها كتجارب إلى التهرب الجبائي، وطرائق أخرى من طرق الفساد، فتكون في وضعية هشة وهنا تتجلى مظاهر الإفلاس وعدم الانسجام بين النظرية والتطبيق، بالإضافة إلى هذه العوامل الداخلية وهي متعددة، هناك عوامل خارجية هدفها محاربة كل حركة تنموية حقيقية مهما كانت مرجعياتها، ومهما كانت طبيعة النظام الذي يديرها، وعرقلة كل مشروع نهضوي مهما كان اتجاهه، ولذلك ظلت معالم الليبيرالية مجرد شعارات، ومن المعوقات أيضا مسألة الاحتكار، والتركيز على اقتصاديات الريوع في الوطن العربي، وغياب المعالم الحقيقية لبناء اقتصاد ليبيرالي على أسس صحيحة، ومعايير موضوعية، ووفق شروط حقيقية للاقتصاد الليبيرالي، ولذا لا تتجلى معالم الدولة الليبيرالية على الرغم من إيهام الناس بالمظاهر الخداعة، وهذه الدولة المأمولة في الوطن العربي غير واضحة المعالم إلى يوم الناس هذا، ولذلك لاحظ البحاثة العرب الذين أنجزوا دراسات في هذا التوجه هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على معظم اقتصاديات الوطن العربي، بالإضافة إلى مسألة التبعية الاقتصادية، بل توصلت هذه الشركات المتعددة الجنسيات إلى فرض سياستها وشروط، وبلغ بها الأمر إلى التدخل في سيادة الدول، وتمويل الحروب الأهلية فيها، وأدارت فتنا داخلية، لفرض توجهاتها، وسياسة حلفائها، وخدمة أهدافها، وبالإضافة إلى ذلك فإن عدم تجذر الاتجاه الليبيرالي يعود إلى ضعف الاستثمار الوطني، وقلة الانتاج، وهيمنة ثقافة الاستهلاك، وبسبب هشاشة اقتصاديات الدول العربية، وغياب ثقافة اقتصاد السوق، كما لاحظ هؤلاء البحاثة غياب معالم الدولة الليبيرالية الحقة، بالنظر إلى انعدام شروط قيامها..
وفي ظل غياب المعالم والشروط وغياب التوافقات، تعرضت معظم الدول في الوطن العربي إلى التهديدات والمخاطر التي كادت تودي بوجودها، وتفتيت كياناتها، وتعطيل أداء مؤسساتها، بل تعرض بعضها إلى التقسيم، بما تحمل من عوامل انهيارها في ذاتها، وبذرة تفككها من داخلها، وهو ما سهل للأغيار انتهاكها...
وأمام مجمل المشاريع والبدائل التي قدمها المفكرون العرب، وأمام ما تعيشه الأقطار العربية من تهديدات وتحديات، كان لابد من طرح السؤال الآتي: ما هو المشروع الأنسب للخروج من دوامة التخلف، وبناء الدولة الآمنة والقوية؟
وما هي مسؤولية النخب العربية في مجمل ما تعرضت له الدول العربية من تحديات؟ وماهي النواظم والشروط التي يتم على أساسها تعزيز الجبهة الداخلية؟ وما هي الأولويات التي يجب توافرها لموجهة تحديات الراهن والمستقبل؟
مقاربة التراث:
إن معظم الاتجاهات والمشاريع الفكرية التي قدمها المفكرون العرب، وما ترتب عنها من بدائل، يؤكد أنها جعلت من مقاربة التراث الفكري العربي الإسلامي ميدانا للدراسة والتحليل، واستخلاص النتائج، وتقديم مقترحات النهوض، كما أنها ركزت على أثر التراث بمختلف تجلياته في صناعة الحضارة العربية الإسلامية، وإسهامه في ترقية الإنسانية، عبر مختلف المراحل التاريخية، وقد تمت مقاربة التراث العربي الإسلامي في هذه المشاريع الفكرية من مختلف جوانبه، وحاولت استنهاض ما يمكن استنهاضه منه، لإدماجه في معارك النهوض، فكان للإنتقائية من منجزه الجانب الأوفر في مشاريع التحديث والعصرنة. كما كان أمام النخب الفكرية العربية تحديات التخلف بكل مظاهره، فحللوا أوضاعه، وقدموا البدائل والمقترحات، لاجتثاث مظاهر التخلف وأسبابه من البيئة العربية، بالإضافة إلى مواجهة تحديات الاستعمار الذي كانت تعاني منه معظم الأقطار العربية، فكان لابد من إعداد الاستراتيجيات لمواجهته، والدعوة إلى قيام الثورات ضد الاحتلال، والعمل على تحقيق الاستقلال، واسترجاع السيادة للأقطار العربية، والإعداد النفسي والعسكري والسياسي والديبلوماسي لمسألة التحرر بكل أبعاده، ومن ثمة التجند لتحدي بناء الدولة الوطنية، ومعالجة مسألة الهوية، والديمقراطية، وبناء المؤسسات، وقضايا التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ، كما كان لمشروع الوحدة العربية الحظ الأوفر في معظم المشاريع الفكرية العربية، وعرفت القضية الفلسطينية حضورا قويا في هذه المشاريع، باعتبارها قضية مركزية بالنسبة للعرب شعوبا وحكومات، بالإضافة إلى تحدي قضايا التحرر، وحقوق الإنسان، وسوى ذلك...
إن أهم ما يمكن أن يقال عن محتويات مشاريع المفكرين العرب على اختلاف مرجعياتها، وما قدمت من بدائل لمواجهة التحديات، أنها حللت معظم قضايا الوطن العربي، وشخصت معضلاته ومشاكله، وكان لها مخرجات متنوعة، حسب منظوماتها الفكرية ومرجعياتها، ووفق المناهج والآليات الإجرائية التي اعتمدتها في تحليل الظواهر المدروسة، وقد انتهت إلى تقديم مقترحات لحل المعضلات التي عاشها ويعيشها الوطن العربي، ولكن أغلب هذه البدائل لم يجد له صدى بالطموح والرغبة والتحقق الذي كان يحدوهم في الواقع والممارسة، لأسباب متعددة، ووإن تحققت نسب متفاوتة من مشاريعهم وأفكارهم، ويعود ذلك إلى عوامل ومعوقات داخلية وخارجية، ولعل ما لاحظه هؤلاء البحاثة والمفكرون العرب أن هناك تدمير ممنهج لجهود بناء الدول العربية، واتشكيك في اختياراتها السياسية، بإثارة النزعات، والفتن الداخلية، وإدخالها في صراعات جهوية وإقيليمية، مما أنهك جهودها، ويسر تدخل القوى الأجنبية وتوغلها في شؤونها الداخلية بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وإسهامها بفعالية في تفتيت بناها، وخلق المشاكل لها، وتزييف وعي مواطنيها، وإضعاف مقوماتها، بهدف الاستيلاء على مقدرات شعوبها، واستغلال ثرواتها، والعمل على إفشال أي مشروع بديل يسعى إلى صياغة شروط فكرية نهضوية جديدة...
والملاحظ أن معظم المشاريع الفكرية العربية أخذت في الحسبان قراءة التراث العربي الإسلامي منذ تأسيسه، إلى الفترة الراهنة، واطلعت بوعي على نتائج التجارب التي عرفها الوطن العربي، وسجلت المكاسب التي حققها عبر مساراته في مختلف المراحل، من بدايات الاستعمار إلى الثورات التحررية وإلى استرجاع السيادة، ومراحل بناء الدولة، مع عدم تجاوز الاختلالات التي مرت بها معظم الدول العربية، و طبيعة نظم الحكم فيها، وبعد دراسة كل ذلك دراسة شاملة فاحصة وافية ناقدة جريئة وموضوعية، تم توضيح مواطن الضعف والخلل، وإبراز مواطن القوة والتماسك والوحدة، ومن خلال ذلك تمت المراهنة على تقديم البدائل، وفق رؤية منهجية رأينا فيها التركيز على تعزيز معالم الدولة الوطنية، وشروط نهضتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مؤكدين إرتباط شروط النهضة بالشرعية والمصداقية...
وقد كان تطلع النخب العربية في مجملها تحديد معالم الدولة وجوهرها، وضبط مرجعياتها وتوظيف آليات اقناع الناس بها، والعمل على سبل تجسيد نظامها في الواقع والممارسة، ولم ذلك سهلا بالنظر إلى ما عرفت أنظمة الحكم في الوطن العربي من معارضات، واختلالات وتجاوزات، كانت لها آثارها في مسيرة البناء والتنمية...
ويستخلص من القناعات والرؤى والتصورات التي ضمنوها أعمالهم ومشاريعهم الفكرية، أنهم كانوا يهدفون إلى تحديد معالم بناء الدولة من خلال الفهوم القانونية والدستورية، برسم أقيلمها، وضبط حدودها، وتحديد دلالات رموزها، وتأكيد عمقها التاريخي، وعظمة سردياتها، وتجذر موروثها، ومضامين أدبياتها، ، ومشروعية مواثيقها، وصدقية قيمها، ومدى حفاظها على ذاكرتها، ووعيها بمصيرها، وما أنجزت عبر التاريخ، وما قدمت لترسيخ اختياراتها في أذهان مواطنيها، وتحصينهم بكل ما من شأنه حفظ كيان الأمة، وصون وحدتها، وبناء مستقبلها...
كما انتهت معظم المشاريع الفكرية العربية إلى تحديد الاختلالات ومعالجتها، مؤكدة تقوية الجبهة الداخلية بكل الوسائل المتاحة، ومواجهة تحديات الراهن والمستقبل، بالعلم والعمل، ووفق الشروط الموضوعية المناسبة...
/ نورالدين السد - الجزائر
تم التأسيس للفكر العربي الحديث والمعاصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد فترات شهدت فيها البلاد العربية والإسلامية تراجعا عن الإسهام في مواصلة بناء الحضارة الإنسانية، بالنظر إلى عوامل داخلية وخارجية جعلتها تمر بمراحل صعبة، ران فيها التخلف والانحطاط بكل أشكاله وصوره وألوانه، وهيمنت عليها قوى الاستعمار، وطغى عليها الأغيار، وأمام وعي النخب الفكرية والثقافية العربية بأوضاع الأمة، وشعورهم بالمسؤولية لانقاذها مما هي فيه، بدأ التفكير في أساليب الخلاص من الاحتلال بكل أشكاله، ومواجهة مظاهر التخلف، والعمل على التحرر الوطني من خلال ما قامت به حركات الإصلاح، ودعاة النهضة..
وقد أسهمت النخب العربية من مختلف التيارات والمرجعيات بمشاريع فكرية، قدمت من خلالها رؤى، ووجهات نظر، وبدائل، لحل المعضلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وانصب رهانها على محاربة الجهل والخرافات والشعوذة بنشر التربية والتعليم للناشئة، وإصلاح الشأن الديني وتنقيته مما أصابه من شوائب وانحرافات، ومعالجة الاختلالات الثقافية والاجتماعية بما كان ميسر لها من إمكانات...
ومن بين التيارات الفكرية والثقافية التي نشطت في هذا الشأن، وعبر مختلف المراحل، نجد الاتجاه السلفي الإصلاحي الديني الذي كان له فضل السبق في دخول غمار مواجهة الواقع العربي المتردي، والاتجاه القومي الذي راهن على مسألة الوحدة العربية، وخاض تجارب في هذا المجال، وكان له إيجابياته وسلبياته، ومن إيجابياته إسهامه في حركات التحرر العربية، غير أن هذا التوجه على إسهامه في بناء وعي قومي وحداثي مستنير، إلا أن بعض القوى ذات المصالح، عملت على محاربته وتحجيم دوره، بهدف إبقاء العرب مشتتين، مختلفين، ضعفاء على الرغم من توافر جميع شروط النهوض فيهم،
وقد ساعدت العوامل الداخلية المعارضة على عدم انتشار الاتجاه القومي، مما قلص من امتداده، وأضعف فعاليته.
ومن ضمن المشاريع البديلة التي سعت بعض النخب العربية إلى طرحها للنهوض بالمجتمعات العربية الاتجاه الاشتراكي الذي رفعت شعاره قوى فكرية وسياسية في الوطن العربي، وخاضت بعض الأقطار العربية هذه التجربة في نظم حكمها، ولكنها عرفت المصير نفسه الذي عرفه التيار القومي في عمقه التحرري، ومختلف التجارب التي سارت في هذا الاتجاه، وكان لفشل التجربة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وتفكك الاتحاد، وانهيار المنظومة الاشتراكية في معظم أنظمة الحكم في الدول التي خاضت هذه التجربة، كان لذلك انعكاسه على الدول العربية التي خاضت التجربة نفسها، مع العلم أن لانهيار المنظومة الاشتراكية أسبابه، كما له عوامل داخلية، وعوامل خارجية...
ومن ضمن المشاريع التي كان لها بعض الأثر في المسار الفكري والسياسي لدى النخب، وأنظمة الحكم العربية، ما قدمه الاتجاه الليبرالي الذي كان له رواده، وله معارضوه، ومعيقو تجسيده ميدانيا، ولعل أهم العوامل الداخلية المعارضة هي افتقاده الأسس الاجتماعية، وغياب القوى السياسية المقتنعة بالمشروع، والداعمة له على مستوى المؤسسات، ومنظومات الحكم، إضافة إلى مسألة جوهرية تتمثل في هشاشة نمط الإنتاج الاقتصادي العربي ميدانيا، وهو ما كان له بالغ الأثر في غياب ملامح الاتجاه الليبيرالي في الواقع ، ولم تتوفر له الإمكانيات ولا شروط الملائمة لتجسيد هذا المشروع، وتعزيز تجذره في مسار البناء والتنمية، وعلى رأس هذه الشروط هو عدم توافر نمط الإنتاج الاقتصادي البرجوازي ولا الليبيرالي في الوطن العربي، وحتى التجارب الصناعية فاقدة للمرجعية والتقاليد والأخلاقيات، والحدود، فالبيئة الحاضنة تقتضي المواءمة، ولذا تجد تجسيد رؤية هذا الاتجاه في الواقع غير منسجمة، لما تواجه من روتين وعراقيل بيروقراطية، فتلجأ في معظمها كتجارب إلى التهرب الجبائي، وطرائق أخرى من طرق الفساد، فتكون في وضعية هشة وهنا تتجلى مظاهر الإفلاس وعدم الانسجام بين النظرية والتطبيق، بالإضافة إلى هذه العوامل الداخلية وهي متعددة، هناك عوامل خارجية هدفها محاربة كل حركة تنموية حقيقية مهما كانت مرجعياتها، ومهما كانت طبيعة النظام الذي يديرها، وعرقلة كل مشروع نهضوي مهما كان اتجاهه، ولذلك ظلت معالم الليبيرالية مجرد شعارات، ومن المعوقات أيضا مسألة الاحتكار، والتركيز على اقتصاديات الريوع في الوطن العربي، وغياب المعالم الحقيقية لبناء اقتصاد ليبيرالي على أسس صحيحة، ومعايير موضوعية، ووفق شروط حقيقية للاقتصاد الليبيرالي، ولذا لا تتجلى معالم الدولة الليبيرالية على الرغم من إيهام الناس بالمظاهر الخداعة، وهذه الدولة المأمولة في الوطن العربي غير واضحة المعالم إلى يوم الناس هذا، ولذلك لاحظ البحاثة العرب الذين أنجزوا دراسات في هذا التوجه هيمنة الشركات المتعددة الجنسيات على معظم اقتصاديات الوطن العربي، بالإضافة إلى مسألة التبعية الاقتصادية، بل توصلت هذه الشركات المتعددة الجنسيات إلى فرض سياستها وشروط، وبلغ بها الأمر إلى التدخل في سيادة الدول، وتمويل الحروب الأهلية فيها، وأدارت فتنا داخلية، لفرض توجهاتها، وسياسة حلفائها، وخدمة أهدافها، وبالإضافة إلى ذلك فإن عدم تجذر الاتجاه الليبيرالي يعود إلى ضعف الاستثمار الوطني، وقلة الانتاج، وهيمنة ثقافة الاستهلاك، وبسبب هشاشة اقتصاديات الدول العربية، وغياب ثقافة اقتصاد السوق، كما لاحظ هؤلاء البحاثة غياب معالم الدولة الليبيرالية الحقة، بالنظر إلى انعدام شروط قيامها..
وفي ظل غياب المعالم والشروط وغياب التوافقات، تعرضت معظم الدول في الوطن العربي إلى التهديدات والمخاطر التي كادت تودي بوجودها، وتفتيت كياناتها، وتعطيل أداء مؤسساتها، بل تعرض بعضها إلى التقسيم، بما تحمل من عوامل انهيارها في ذاتها، وبذرة تفككها من داخلها، وهو ما سهل للأغيار انتهاكها...
وأمام مجمل المشاريع والبدائل التي قدمها المفكرون العرب، وأمام ما تعيشه الأقطار العربية من تهديدات وتحديات، كان لابد من طرح السؤال الآتي: ما هو المشروع الأنسب للخروج من دوامة التخلف، وبناء الدولة الآمنة والقوية؟
وما هي مسؤولية النخب العربية في مجمل ما تعرضت له الدول العربية من تحديات؟ وماهي النواظم والشروط التي يتم على أساسها تعزيز الجبهة الداخلية؟ وما هي الأولويات التي يجب توافرها لموجهة تحديات الراهن والمستقبل؟
مقاربة التراث:
إن معظم الاتجاهات والمشاريع الفكرية التي قدمها المفكرون العرب، وما ترتب عنها من بدائل، يؤكد أنها جعلت من مقاربة التراث الفكري العربي الإسلامي ميدانا للدراسة والتحليل، واستخلاص النتائج، وتقديم مقترحات النهوض، كما أنها ركزت على أثر التراث بمختلف تجلياته في صناعة الحضارة العربية الإسلامية، وإسهامه في ترقية الإنسانية، عبر مختلف المراحل التاريخية، وقد تمت مقاربة التراث العربي الإسلامي في هذه المشاريع الفكرية من مختلف جوانبه، وحاولت استنهاض ما يمكن استنهاضه منه، لإدماجه في معارك النهوض، فكان للإنتقائية من منجزه الجانب الأوفر في مشاريع التحديث والعصرنة. كما كان أمام النخب الفكرية العربية تحديات التخلف بكل مظاهره، فحللوا أوضاعه، وقدموا البدائل والمقترحات، لاجتثاث مظاهر التخلف وأسبابه من البيئة العربية، بالإضافة إلى مواجهة تحديات الاستعمار الذي كانت تعاني منه معظم الأقطار العربية، فكان لابد من إعداد الاستراتيجيات لمواجهته، والدعوة إلى قيام الثورات ضد الاحتلال، والعمل على تحقيق الاستقلال، واسترجاع السيادة للأقطار العربية، والإعداد النفسي والعسكري والسياسي والديبلوماسي لمسألة التحرر بكل أبعاده، ومن ثمة التجند لتحدي بناء الدولة الوطنية، ومعالجة مسألة الهوية، والديمقراطية، وبناء المؤسسات، وقضايا التحديث الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي ، كما كان لمشروع الوحدة العربية الحظ الأوفر في معظم المشاريع الفكرية العربية، وعرفت القضية الفلسطينية حضورا قويا في هذه المشاريع، باعتبارها قضية مركزية بالنسبة للعرب شعوبا وحكومات، بالإضافة إلى تحدي قضايا التحرر، وحقوق الإنسان، وسوى ذلك...
إن أهم ما يمكن أن يقال عن محتويات مشاريع المفكرين العرب على اختلاف مرجعياتها، وما قدمت من بدائل لمواجهة التحديات، أنها حللت معظم قضايا الوطن العربي، وشخصت معضلاته ومشاكله، وكان لها مخرجات متنوعة، حسب منظوماتها الفكرية ومرجعياتها، ووفق المناهج والآليات الإجرائية التي اعتمدتها في تحليل الظواهر المدروسة، وقد انتهت إلى تقديم مقترحات لحل المعضلات التي عاشها ويعيشها الوطن العربي، ولكن أغلب هذه البدائل لم يجد له صدى بالطموح والرغبة والتحقق الذي كان يحدوهم في الواقع والممارسة، لأسباب متعددة، ووإن تحققت نسب متفاوتة من مشاريعهم وأفكارهم، ويعود ذلك إلى عوامل ومعوقات داخلية وخارجية، ولعل ما لاحظه هؤلاء البحاثة والمفكرون العرب أن هناك تدمير ممنهج لجهود بناء الدول العربية، واتشكيك في اختياراتها السياسية، بإثارة النزعات، والفتن الداخلية، وإدخالها في صراعات جهوية وإقيليمية، مما أنهك جهودها، ويسر تدخل القوى الأجنبية وتوغلها في شؤونها الداخلية بأساليب مباشرة وغير مباشرة، وإسهامها بفعالية في تفتيت بناها، وخلق المشاكل لها، وتزييف وعي مواطنيها، وإضعاف مقوماتها، بهدف الاستيلاء على مقدرات شعوبها، واستغلال ثرواتها، والعمل على إفشال أي مشروع بديل يسعى إلى صياغة شروط فكرية نهضوية جديدة...
والملاحظ أن معظم المشاريع الفكرية العربية أخذت في الحسبان قراءة التراث العربي الإسلامي منذ تأسيسه، إلى الفترة الراهنة، واطلعت بوعي على نتائج التجارب التي عرفها الوطن العربي، وسجلت المكاسب التي حققها عبر مساراته في مختلف المراحل، من بدايات الاستعمار إلى الثورات التحررية وإلى استرجاع السيادة، ومراحل بناء الدولة، مع عدم تجاوز الاختلالات التي مرت بها معظم الدول العربية، و طبيعة نظم الحكم فيها، وبعد دراسة كل ذلك دراسة شاملة فاحصة وافية ناقدة جريئة وموضوعية، تم توضيح مواطن الضعف والخلل، وإبراز مواطن القوة والتماسك والوحدة، ومن خلال ذلك تمت المراهنة على تقديم البدائل، وفق رؤية منهجية رأينا فيها التركيز على تعزيز معالم الدولة الوطنية، وشروط نهضتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مؤكدين إرتباط شروط النهضة بالشرعية والمصداقية...
وقد كان تطلع النخب العربية في مجملها تحديد معالم الدولة وجوهرها، وضبط مرجعياتها وتوظيف آليات اقناع الناس بها، والعمل على سبل تجسيد نظامها في الواقع والممارسة، ولم ذلك سهلا بالنظر إلى ما عرفت أنظمة الحكم في الوطن العربي من معارضات، واختلالات وتجاوزات، كانت لها آثارها في مسيرة البناء والتنمية...
ويستخلص من القناعات والرؤى والتصورات التي ضمنوها أعمالهم ومشاريعهم الفكرية، أنهم كانوا يهدفون إلى تحديد معالم بناء الدولة من خلال الفهوم القانونية والدستورية، برسم أقيلمها، وضبط حدودها، وتحديد دلالات رموزها، وتأكيد عمقها التاريخي، وعظمة سردياتها، وتجذر موروثها، ومضامين أدبياتها، ، ومشروعية مواثيقها، وصدقية قيمها، ومدى حفاظها على ذاكرتها، ووعيها بمصيرها، وما أنجزت عبر التاريخ، وما قدمت لترسيخ اختياراتها في أذهان مواطنيها، وتحصينهم بكل ما من شأنه حفظ كيان الأمة، وصون وحدتها، وبناء مستقبلها...
كما انتهت معظم المشاريع الفكرية العربية إلى تحديد الاختلالات ومعالجتها، مؤكدة تقوية الجبهة الداخلية بكل الوسائل المتاحة، ومواجهة تحديات الراهن والمستقبل، بالعلم والعمل، ووفق الشروط الموضوعية المناسبة...
/ نورالدين السد - الجزائر