كان ظهور حمدي فجأة في أفق حياة سنية إعصارا مدمرا قلب كل شيء وجعلها تضيق بحياتها وتسأل نفسها فيم إصرارها على العزوبة وفيم تحاشيها للرجال. وأخذت تستعرض صور حياتها التي تجردت من كل ما يبعث النفس البهجة، وأطياف ماض كان حافلا بالأسى والحزن.
إنها عندما ولدت ووطأت قدماها الصغيرتان شاطئ الحياة أقلعت سفينة الموت تحمل أمها بين الراحلين، والذين حضروا ساعة الميلاد ورأوا أضواء الحياة ترقص في عيني الطفلة البريئة وظلال الموت تجثم على وجنتي الأم الشهيدة، أحسوا في بكاء الطفلة رثاء لأمها وندبا لحظ وضع عليه اليتم ميسمه.
غير أن السماء لم تكن قد أرادت بسنية يتما كاملا، فقد أبقت لها أباها العطوف وجعلت من شقيقتها الكبرى (إنعام) ملاكا حارسا يملأ بنور الحنان لياليها ويجمل بزهر العطف أيامها وينسيها ما استطاع مرارة اليتم وشقوة الحرمان. وكانت إنعام تحس - وهي ترعى شقيقتها الطفلة - زهو الأمومة المبكرة وسعادة الوفاء بالجميل نحو أمهما التي كانت دنيا من الشباب والحسن والعطف فلم يبق منها إلا صورة معلقة على جدار، وقبر نائي المزار، وذكرى ما تزال تغدو في خيالها وتروح.
وتوالت مواكب الأيام ومرت على البيت الصغير وسنية سادرة في غي الطفولة وإنعام حالمة أحلام الشباب، وأبوهما منصرف إلى عمله الذي يستغرق سحابة أيامه وصدر لياليه.
وأخذت الطفلة تنمو وتترعرع وبدأت الغشاوة تنجاب عن عينيها وعرفت أن أنعام ليست أمها بل شقيقة وافرة الحنو. على أن ذلك لم يقلل من حبها البنوي لها، بل لعله زاد عنفا واتسع أفقا، وأصبح نوعا من العبادة الصامتة وعرفان بالجميل وأخذ يطغى عليها الشعور بالرغبة في خدمتها وتوفير الراحة لها.
إن سنية الآن عذراء وافرة الأنوثة قد لمس الحب قلبها لأول مرة، وإنها لتستعرض حياتها الجرداء التي ولت هباء لم يورق فيها الحب من قبل، وتذكر أنها كانت في الثانية عشر من عمرها حين تقلدت الدار عقود الزهر ورفرفت عليها الأعلام وتوافد الناس وعزفت الموسيقى معلنة أن حياة إنعام قد ارتبطت بحياة رجل كان غريبا فأضحى أقرب إليها من كل قريب. ثم هي تذكر أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين اتشحت الدار بالسواد وتوافد الناس وتعالت الأصوات بالندب والبكاء معلنة أن الأب الحزين قد ألحق بالزوجة الراحلة.
ومنذ ذلك الحين أقامت سنية بصورة مستمرة في بيت إنعام وأخذت عيناها تتفتحان على أمور كثيرة غريبة. رأت سامي زوج أختها قد أشهر الحرب على زوجه وساقه إلى ذلك طعمه في الميراث الضخم الذي خلفه أبوها وأطمعه فيها ضعفها وقلة حيلتها وانفرادها، فما كان لها من الأقارب إلا عم يقيم في السودان. وكانت إنعام مضطرة إلى مداراته وإعطائه ما يطلب، وأسرف في شرب الخمر وساءت أخلاقه وزاد طلبه للمال، والمال كماء البحر كلما شرب منه الإنسان زاد عطشه وكانت الزوجة البائسة تسرف في البكاء والتفكير إسرافها في منحه المال، وكانت تشحب وتزداد نحولا بالرغم من تأكيد الطبيب بأن ضعفها يضر بالجنين الذي كان يتحرك في أحشائها.
وعلى صدر سنية كانت تنهدات إنعام تترامى في يأس مرير فتجد لها في ذلك الصدر الشفوق صدى وبلسما؛ ولطالما مرّ الليل أوائله وأواخره على الشقيقتين كبراهما تقول بشجوها وتبكي، والصغرى تحاول أن تمسح بيد العزاء أحزانا قاسية حتى إذا أجهدها ذلك فيئست أخذت تبكي فعانقتها أختها وتعانق الدمع فوق خدود لم تخلق للدموع.
وكانت إنعام تزداد نحولا، وسنية تزداد بغضا لسامي وللرجال على وجه العموم، وساعد على ذلك أنها لم تكن قد خبرت من الرجال إلا أباها، وكان على حنانه كثير الانصراف إلى عمله، وإلا هذا الرجل النذل الذي استغل ضعف امرأتين فأقبل يسرقهما كلما طاب له أن يسرق، وساء ظنها في الرجال، ولم تكن هي الملومة على أية حال.
وتتابعت أمواج الذكريات على خيال سنية وهي ساهدة تفكر وتذكرت كيف أبى القدر إلا أن يكرر في هذه الأسرة للمرة الثانية في تاريخها القصير، فعندما أنجبت إنعام ضيفا جديدا في ذلك المنزل، غادرته هي على الأعناق، وكان هذا المولود فتاة هي عدالات.
تولى الأستاذ عبد المجيد القليني المحامي الكهل الشهير، شؤون الوكالة عن سنية وإدارة أملاكها، وكان رجلا أمينا، وزاد من عطفه عليها عرفانه بحالتها وصداقته القديمة الوطيدة لوالدها. وتفرغت هي إلى تربية عدالات والقيام بذلك الواجب المقدس نحو أختها والوفاء بذلك الدين القديم.
إن التاريخ قد أعاد نفسه سريعا والحنان الذي شربته سنية من يدي إنعام قد عادت تسقيه إلى ابنة إنعام، وأضحت لها هذه الطفلة الجميلة بمثابة الكأس والخمر والحلم والنور الذي أفلت من يد الحزن وكف القدر لكي تعيش على ضوئه ذكريات تلك الشقيقة الراحلة.
وكأن الطفلة كانت قد سرقت من أمها وهي تموت كل جمالها: شعرها الكستنائي وعينيها المعسولتين، وذكاءها الوقاد وروحها الخفيفة ونظراتها الحالمة، وغدت سنية تشرب هذا الحسن في كأس القبل وتخال أنها تقبل الإبنة والأم معا.
والشقة التي كانت تسكنها في أحد البيوت التي تملكها، قد غدت صومعة أقامتها لتعيد فيها ذكريات إنعام ولتحرق لابنتها حياتها بخورا وتقضي العمر في هذه العبادة.
والبسمة البريئة على ثغر عدالات والنظرة الشاكرة في عينيها واللثغة الساحرة في شفتيها كانت العزاء الوحيد للحسناء الزاهدة في متع الحياة.
وكان الأستاذ عبد المجيد المحامي الذي يحضر ليعطيها نصيبها من إيراد الأملاك، وسامي زوج أختها الذي نسي زوجه وتزوج من أخرى والذي يحضر ليرى ابنته ولكي يقترض منها النقود أحيانا ولم يفكر في رد ما اقترض ولن يفكر في ذلك على التحقيق. هذا كانا الرجلين الوحيدين اللذين تطأ أقدامهما هذه الصومعة.
وظل نهر الأيام يجري وعلى صفحته تسبح سنية وعدالات، وكانت الأخيرة تتفتح كالزهرة وتنمو كالغصن النضير وسنية تظللها وتحنو عليها كالسرحة الزكية وتتعجل الأيام كي تراها عروسا ذات بعل وأما لأولاد.
وحين بلغت عدالات السادسة عشرة، وانقطعت عن الدراسة أضحت الثياب الأنيقة والعطور الغالية من نصيبها، ولطالما تمنت على خالتها أن تشاركها استعمال العطور أو أن تجاريها في أناقة الملبس فكانت تبتسم لها وتقول: (لقد كبرت يا بنيتي العزيزة) فتضحك عدالات وتقول: (حقا، لقد نسيت إنك هرمت وبلغت الثلاثين).
كان بين سكان (العمارة) التي تسكنها سنية مهندس أعزب يدعى حمدي، يقيم مع أمه العجوز وخادم، ولم تكن سنية قد رأته لأنها كانت قليلة الفضول قليلة الزيارة لجيرانها.
وذات مساء سمع رنين الجرس في مسكن سنية وفتحت الخادم الباب فوجدت حمدي أمامها يطلب مقابلة (الهانم) باعتبارها المالكة ليشكو إليها سوء أدب البواب في معاملة والدته المريضة، وترددت سنية هل تسمح له بالدخول أم لا؟ ووجدت من الأذوق أن تستقبله فإنه جارها وهو فيما تعلم رضي الخلق.
ووطأت قدما هذا الرجل الغريب بيت الأنثى الزاهدة ورأت سنية أمامها شابا طويل القامة قوي الجسم فتان الطلعة جريء النظرات يناهز الخامسة والثلاثين ويبدو عليه عدم الاكتراث بشيء ما. ومدت يدها تصافحه فضغطها في كفه الغليظة كأنما يصافح رجلا، وجلس قبل أن تسأله أن يجلس وخلع طربوشه ووضعه على مقعد بجانبه فتهدلت خصلة من شعره الفاحم السبط فوق جبينه الأسمر العريض، ووضع ساقا فوق أخرى وأشعل سيجارة ونفث دخانها عقدا في الهواء وبدأ يتكلم، وأخذت سنية تصغي لكلماته ثم تعلقت نظراتها بشفتيه الممتلئتين الحمراوين تلتقيان وتنفرجان وهو يتكلم ولم تعد تنصت إلى الألفاظ أو تتفهمها ولكنها غرقت في بحار من التيه عميقة وكانت ألفاظه تنساب كأصابع رقيقة تمزق عن ذاكرتها ستار الإهمال والكبت وتعرض عليها أحلام الشباب وتعيد إليها الشعور بتفاهة حياتها وحاجتها إلى الحياة الحافلة المليئة بحنان امرأة وعطف رجل.
وشعرت بالخجل وأحمر خداها وخشيت أن يكون قد اطلع على مجرى أفكارها ولكنه كان ما يزال يتكلم وينفث الدخان من أنفه الجميل وفمه الممتلئ بعد أن يكون قد ملأ به صدره العريض وأحست إنها رأته قبل ذلك، من سنين عديدة بل من أجيال عديدة إن صوته ليس غريبا عنها، وهذه الملامح طالما رسمتها يد المنى على لوح خيالها. وعادت تنظر إلى شفتيه تنفرجان وتلتقيان وخيل إليها أنهما في كل انفراجة والتقاء إنما تتهيآن لقبلة أو تفرغان من قبلة. وكبحت جراح نفسها وأنصتت إلى كلامه وسمعته يسألها هل يرضيها ما فعله البواب، ولم تكن قد فهمت شيئا مما قال، ولكنها وعدته بأنها ستنزل به العقاب؛ ونهض قائما وهو يعتذر من إزعاجه إياها، ولكنها أكدت له العكس ورجته أن يبلغ تحياتها وأسفها وتمنياتها إلى والدته. في تلك الليلة لم تنم، بل عادت بذاكرتها إلى حياتها كلها الفارغة من المتع وظلت تستعيد منظر الشفتين الممتلئتين والعينين اللامعتين الواثقتي النظرة. إن عينيه تلتقيان بذور الهناءة في حقل عمرها الأجرد، وشفتيه ترسمان بحركتهما السريعة خطوط حياة راقصة سعيدة تتمناها. لماذا ولدت ولماذا تعيش؟ لقد طالما حبرها هذا السؤال فكانت تجيب بأنها تعيش لعدالات. أما الآن فقد اهتدت إلى الجواب الصحيح. لقد قرأته في عينيه وسمعته في رنين ألفاظه، إنها خلقت له وإن حياتها وجدت لكي ترتبط بحياته.
واندفعت إلى خاطرها صور كثيرة، إن نظراته إليها كانت أكثر من مجرد نظرات، كان فيها توسل وأمر، وطاعة وعصيان، ومنى وأمل، وفيها دليل هوى ونجوى غرام. وسألت نفسها هل يتزوجها، وضغطت قلبها أصابع الفرح حين طاف به هذا السؤال وأجابتها نفسها: ولم لا؟ لعله لم يحضر إلا ليراك، وقد اتخذ من قصة البواب ذريعة لذلك. تذكري نظراته وابتسامته وضغطه يده على يدك وعادت تتساءل (وهل أرضى به) فأجابتها نفسها (نعم، أتظلين عانسا طول العمر؟ أم هل تظنين أن كل الرجال أدنياء كسامي زوج إنعام. أما تتوقين إلى رؤية أطفال لك يملئون بيتك بهجة. (ولكن أهذا هو الحب من أول نظرة) فوجمت نفسها قليلا وأجابت (نعم. بل كلا. هذا ليس حبا. إنه اللهفة التي تغمر الظمآن إذا أشرف على النبع الفرات، والنشوة التي تعمر القلب الضارب في الصحراء إذا اهتدى إلى الواحة، والراحة التي تفيض على الساهد إذا أوشك الكرى أن يغمض جفنيه. (وعدالات ما يكون شعورها إذا تزوجت؟) وللمرة الأولى تغيرت نظرتها إلى عدالات. لماذا تحطم هي حياتها لكي تسعد عدالات؟ إن إنعام لم تظل عانسا وهي تربيها، فلماذا تبقى هي عانسا من أجل ابنة إنعام؟ يكفي عدالات ما رأت من حنان، ويكفيها أنها ستظل لها كما كانت دائما ولكنها لن تحرم نفسها ليشبع الآخرون، ولن تكون الشمعة التي تحترق وعلى نورها تنصب العناكب شباكها وفي نارها تموت الفراشات الراقصة. وأغمضت عينيها ونامت ورأت نفسها في المنام تزف إلى حمدي.
وتكررت زيارات حمدي تصحبه والدته، فنجلس الجميع عدالات يسمرون ويتحدثون، وأخذت سنية تبالغ في التأنق وامتلأت ثقة بنفسها فتوردت وجنتها وزاد نشاطها والتماع عينيها الجميلتين وطفقت تلقي على حمدي نظراتها الحنون وتوسد نظراته إليها أجفانا ذابلة يقظة. وكانت تتلقى ضغطة يده على كتفها كأنها تأكيد لعهدهما وميثاق أبدي.
وفي ذات أصيل جاءت أم حمدي بمفردها وحيت وقالت: إن حمدي يسره أن يصاهر أسرتها الكريمة. فتوردت وجنتا سنية وخفق قلبها وكادت تثب من الفرحة الكبرى التي غمرت كيانها وواصلت أم حمدي الحديث قائلة (وهو لذلك يطلب يد عدالات).
ووجمت سنية وأصابها تبلد غريب، ولأول مرة أحست أن عدالات الطفلة الناردة قد أصبحت مزاحمة خطيرة. وعجبت من نفسها كيف قابلت النبأ بهدوء وكيف ودعت الضيفة في ثبات ووعدتها وعدا جميلا بعد أن تخاطب أبا عدالات في الأمر. وعادت إلى غرفتها وسبحت في يأس مرير. إنها تمنت أن تعيش بين يده فكيف فر منها إلى طفلتها الصغيرة؟ أتكون عدالات زوجة أفضل منها وهي الفتاة الطائشة الرعناء وكبحت جماح غيرتها العنيفة أن شقيقتها إنعام قد أطلت من وراء الغيب تسألها الرفق بابنتها وتنهدت سنية وملأ رأسها عزم جديد.
(لقد تمنيت أن أرى أولاده مني، وقد استجاب الله نصف الأمنية. إن أبناءه من عدالات سيكونون أبنائي، وسأشرف على تربيتهم كما أشرفت على تربية أمهم)
(ما الذي تغير في حياتي؟ سأعيش بقربه، وسأراه دائما، وسأحنو عليه حنوي على عدالات. إن الحجر الصغير الذي ألقى في نهر حياتي الهادئ قد انداحت له الدوائر، ولكن سطحه سرعان ما عاد إلى هدوئه وسيظل يجري في الصحراء التي قدر له أن يجري فيها حتى المصب). (لقد عشت شبابي زاهدة، وكثيرات غيري قد فررن من مثل هذا الألم إلى الدير، فلم لا أصبح راهبة بلا دير؟)
(إسكندرية)
إدوار حنا سعد
إنها عندما ولدت ووطأت قدماها الصغيرتان شاطئ الحياة أقلعت سفينة الموت تحمل أمها بين الراحلين، والذين حضروا ساعة الميلاد ورأوا أضواء الحياة ترقص في عيني الطفلة البريئة وظلال الموت تجثم على وجنتي الأم الشهيدة، أحسوا في بكاء الطفلة رثاء لأمها وندبا لحظ وضع عليه اليتم ميسمه.
غير أن السماء لم تكن قد أرادت بسنية يتما كاملا، فقد أبقت لها أباها العطوف وجعلت من شقيقتها الكبرى (إنعام) ملاكا حارسا يملأ بنور الحنان لياليها ويجمل بزهر العطف أيامها وينسيها ما استطاع مرارة اليتم وشقوة الحرمان. وكانت إنعام تحس - وهي ترعى شقيقتها الطفلة - زهو الأمومة المبكرة وسعادة الوفاء بالجميل نحو أمهما التي كانت دنيا من الشباب والحسن والعطف فلم يبق منها إلا صورة معلقة على جدار، وقبر نائي المزار، وذكرى ما تزال تغدو في خيالها وتروح.
وتوالت مواكب الأيام ومرت على البيت الصغير وسنية سادرة في غي الطفولة وإنعام حالمة أحلام الشباب، وأبوهما منصرف إلى عمله الذي يستغرق سحابة أيامه وصدر لياليه.
وأخذت الطفلة تنمو وتترعرع وبدأت الغشاوة تنجاب عن عينيها وعرفت أن أنعام ليست أمها بل شقيقة وافرة الحنو. على أن ذلك لم يقلل من حبها البنوي لها، بل لعله زاد عنفا واتسع أفقا، وأصبح نوعا من العبادة الصامتة وعرفان بالجميل وأخذ يطغى عليها الشعور بالرغبة في خدمتها وتوفير الراحة لها.
إن سنية الآن عذراء وافرة الأنوثة قد لمس الحب قلبها لأول مرة، وإنها لتستعرض حياتها الجرداء التي ولت هباء لم يورق فيها الحب من قبل، وتذكر أنها كانت في الثانية عشر من عمرها حين تقلدت الدار عقود الزهر ورفرفت عليها الأعلام وتوافد الناس وعزفت الموسيقى معلنة أن حياة إنعام قد ارتبطت بحياة رجل كان غريبا فأضحى أقرب إليها من كل قريب. ثم هي تذكر أنها كانت في الثالثة عشرة من عمرها حين اتشحت الدار بالسواد وتوافد الناس وتعالت الأصوات بالندب والبكاء معلنة أن الأب الحزين قد ألحق بالزوجة الراحلة.
ومنذ ذلك الحين أقامت سنية بصورة مستمرة في بيت إنعام وأخذت عيناها تتفتحان على أمور كثيرة غريبة. رأت سامي زوج أختها قد أشهر الحرب على زوجه وساقه إلى ذلك طعمه في الميراث الضخم الذي خلفه أبوها وأطمعه فيها ضعفها وقلة حيلتها وانفرادها، فما كان لها من الأقارب إلا عم يقيم في السودان. وكانت إنعام مضطرة إلى مداراته وإعطائه ما يطلب، وأسرف في شرب الخمر وساءت أخلاقه وزاد طلبه للمال، والمال كماء البحر كلما شرب منه الإنسان زاد عطشه وكانت الزوجة البائسة تسرف في البكاء والتفكير إسرافها في منحه المال، وكانت تشحب وتزداد نحولا بالرغم من تأكيد الطبيب بأن ضعفها يضر بالجنين الذي كان يتحرك في أحشائها.
وعلى صدر سنية كانت تنهدات إنعام تترامى في يأس مرير فتجد لها في ذلك الصدر الشفوق صدى وبلسما؛ ولطالما مرّ الليل أوائله وأواخره على الشقيقتين كبراهما تقول بشجوها وتبكي، والصغرى تحاول أن تمسح بيد العزاء أحزانا قاسية حتى إذا أجهدها ذلك فيئست أخذت تبكي فعانقتها أختها وتعانق الدمع فوق خدود لم تخلق للدموع.
وكانت إنعام تزداد نحولا، وسنية تزداد بغضا لسامي وللرجال على وجه العموم، وساعد على ذلك أنها لم تكن قد خبرت من الرجال إلا أباها، وكان على حنانه كثير الانصراف إلى عمله، وإلا هذا الرجل النذل الذي استغل ضعف امرأتين فأقبل يسرقهما كلما طاب له أن يسرق، وساء ظنها في الرجال، ولم تكن هي الملومة على أية حال.
وتتابعت أمواج الذكريات على خيال سنية وهي ساهدة تفكر وتذكرت كيف أبى القدر إلا أن يكرر في هذه الأسرة للمرة الثانية في تاريخها القصير، فعندما أنجبت إنعام ضيفا جديدا في ذلك المنزل، غادرته هي على الأعناق، وكان هذا المولود فتاة هي عدالات.
تولى الأستاذ عبد المجيد القليني المحامي الكهل الشهير، شؤون الوكالة عن سنية وإدارة أملاكها، وكان رجلا أمينا، وزاد من عطفه عليها عرفانه بحالتها وصداقته القديمة الوطيدة لوالدها. وتفرغت هي إلى تربية عدالات والقيام بذلك الواجب المقدس نحو أختها والوفاء بذلك الدين القديم.
إن التاريخ قد أعاد نفسه سريعا والحنان الذي شربته سنية من يدي إنعام قد عادت تسقيه إلى ابنة إنعام، وأضحت لها هذه الطفلة الجميلة بمثابة الكأس والخمر والحلم والنور الذي أفلت من يد الحزن وكف القدر لكي تعيش على ضوئه ذكريات تلك الشقيقة الراحلة.
وكأن الطفلة كانت قد سرقت من أمها وهي تموت كل جمالها: شعرها الكستنائي وعينيها المعسولتين، وذكاءها الوقاد وروحها الخفيفة ونظراتها الحالمة، وغدت سنية تشرب هذا الحسن في كأس القبل وتخال أنها تقبل الإبنة والأم معا.
والشقة التي كانت تسكنها في أحد البيوت التي تملكها، قد غدت صومعة أقامتها لتعيد فيها ذكريات إنعام ولتحرق لابنتها حياتها بخورا وتقضي العمر في هذه العبادة.
والبسمة البريئة على ثغر عدالات والنظرة الشاكرة في عينيها واللثغة الساحرة في شفتيها كانت العزاء الوحيد للحسناء الزاهدة في متع الحياة.
وكان الأستاذ عبد المجيد المحامي الذي يحضر ليعطيها نصيبها من إيراد الأملاك، وسامي زوج أختها الذي نسي زوجه وتزوج من أخرى والذي يحضر ليرى ابنته ولكي يقترض منها النقود أحيانا ولم يفكر في رد ما اقترض ولن يفكر في ذلك على التحقيق. هذا كانا الرجلين الوحيدين اللذين تطأ أقدامهما هذه الصومعة.
وظل نهر الأيام يجري وعلى صفحته تسبح سنية وعدالات، وكانت الأخيرة تتفتح كالزهرة وتنمو كالغصن النضير وسنية تظللها وتحنو عليها كالسرحة الزكية وتتعجل الأيام كي تراها عروسا ذات بعل وأما لأولاد.
وحين بلغت عدالات السادسة عشرة، وانقطعت عن الدراسة أضحت الثياب الأنيقة والعطور الغالية من نصيبها، ولطالما تمنت على خالتها أن تشاركها استعمال العطور أو أن تجاريها في أناقة الملبس فكانت تبتسم لها وتقول: (لقد كبرت يا بنيتي العزيزة) فتضحك عدالات وتقول: (حقا، لقد نسيت إنك هرمت وبلغت الثلاثين).
كان بين سكان (العمارة) التي تسكنها سنية مهندس أعزب يدعى حمدي، يقيم مع أمه العجوز وخادم، ولم تكن سنية قد رأته لأنها كانت قليلة الفضول قليلة الزيارة لجيرانها.
وذات مساء سمع رنين الجرس في مسكن سنية وفتحت الخادم الباب فوجدت حمدي أمامها يطلب مقابلة (الهانم) باعتبارها المالكة ليشكو إليها سوء أدب البواب في معاملة والدته المريضة، وترددت سنية هل تسمح له بالدخول أم لا؟ ووجدت من الأذوق أن تستقبله فإنه جارها وهو فيما تعلم رضي الخلق.
ووطأت قدما هذا الرجل الغريب بيت الأنثى الزاهدة ورأت سنية أمامها شابا طويل القامة قوي الجسم فتان الطلعة جريء النظرات يناهز الخامسة والثلاثين ويبدو عليه عدم الاكتراث بشيء ما. ومدت يدها تصافحه فضغطها في كفه الغليظة كأنما يصافح رجلا، وجلس قبل أن تسأله أن يجلس وخلع طربوشه ووضعه على مقعد بجانبه فتهدلت خصلة من شعره الفاحم السبط فوق جبينه الأسمر العريض، ووضع ساقا فوق أخرى وأشعل سيجارة ونفث دخانها عقدا في الهواء وبدأ يتكلم، وأخذت سنية تصغي لكلماته ثم تعلقت نظراتها بشفتيه الممتلئتين الحمراوين تلتقيان وتنفرجان وهو يتكلم ولم تعد تنصت إلى الألفاظ أو تتفهمها ولكنها غرقت في بحار من التيه عميقة وكانت ألفاظه تنساب كأصابع رقيقة تمزق عن ذاكرتها ستار الإهمال والكبت وتعرض عليها أحلام الشباب وتعيد إليها الشعور بتفاهة حياتها وحاجتها إلى الحياة الحافلة المليئة بحنان امرأة وعطف رجل.
وشعرت بالخجل وأحمر خداها وخشيت أن يكون قد اطلع على مجرى أفكارها ولكنه كان ما يزال يتكلم وينفث الدخان من أنفه الجميل وفمه الممتلئ بعد أن يكون قد ملأ به صدره العريض وأحست إنها رأته قبل ذلك، من سنين عديدة بل من أجيال عديدة إن صوته ليس غريبا عنها، وهذه الملامح طالما رسمتها يد المنى على لوح خيالها. وعادت تنظر إلى شفتيه تنفرجان وتلتقيان وخيل إليها أنهما في كل انفراجة والتقاء إنما تتهيآن لقبلة أو تفرغان من قبلة. وكبحت جراح نفسها وأنصتت إلى كلامه وسمعته يسألها هل يرضيها ما فعله البواب، ولم تكن قد فهمت شيئا مما قال، ولكنها وعدته بأنها ستنزل به العقاب؛ ونهض قائما وهو يعتذر من إزعاجه إياها، ولكنها أكدت له العكس ورجته أن يبلغ تحياتها وأسفها وتمنياتها إلى والدته. في تلك الليلة لم تنم، بل عادت بذاكرتها إلى حياتها كلها الفارغة من المتع وظلت تستعيد منظر الشفتين الممتلئتين والعينين اللامعتين الواثقتي النظرة. إن عينيه تلتقيان بذور الهناءة في حقل عمرها الأجرد، وشفتيه ترسمان بحركتهما السريعة خطوط حياة راقصة سعيدة تتمناها. لماذا ولدت ولماذا تعيش؟ لقد طالما حبرها هذا السؤال فكانت تجيب بأنها تعيش لعدالات. أما الآن فقد اهتدت إلى الجواب الصحيح. لقد قرأته في عينيه وسمعته في رنين ألفاظه، إنها خلقت له وإن حياتها وجدت لكي ترتبط بحياته.
واندفعت إلى خاطرها صور كثيرة، إن نظراته إليها كانت أكثر من مجرد نظرات، كان فيها توسل وأمر، وطاعة وعصيان، ومنى وأمل، وفيها دليل هوى ونجوى غرام. وسألت نفسها هل يتزوجها، وضغطت قلبها أصابع الفرح حين طاف به هذا السؤال وأجابتها نفسها: ولم لا؟ لعله لم يحضر إلا ليراك، وقد اتخذ من قصة البواب ذريعة لذلك. تذكري نظراته وابتسامته وضغطه يده على يدك وعادت تتساءل (وهل أرضى به) فأجابتها نفسها (نعم، أتظلين عانسا طول العمر؟ أم هل تظنين أن كل الرجال أدنياء كسامي زوج إنعام. أما تتوقين إلى رؤية أطفال لك يملئون بيتك بهجة. (ولكن أهذا هو الحب من أول نظرة) فوجمت نفسها قليلا وأجابت (نعم. بل كلا. هذا ليس حبا. إنه اللهفة التي تغمر الظمآن إذا أشرف على النبع الفرات، والنشوة التي تعمر القلب الضارب في الصحراء إذا اهتدى إلى الواحة، والراحة التي تفيض على الساهد إذا أوشك الكرى أن يغمض جفنيه. (وعدالات ما يكون شعورها إذا تزوجت؟) وللمرة الأولى تغيرت نظرتها إلى عدالات. لماذا تحطم هي حياتها لكي تسعد عدالات؟ إن إنعام لم تظل عانسا وهي تربيها، فلماذا تبقى هي عانسا من أجل ابنة إنعام؟ يكفي عدالات ما رأت من حنان، ويكفيها أنها ستظل لها كما كانت دائما ولكنها لن تحرم نفسها ليشبع الآخرون، ولن تكون الشمعة التي تحترق وعلى نورها تنصب العناكب شباكها وفي نارها تموت الفراشات الراقصة. وأغمضت عينيها ونامت ورأت نفسها في المنام تزف إلى حمدي.
وتكررت زيارات حمدي تصحبه والدته، فنجلس الجميع عدالات يسمرون ويتحدثون، وأخذت سنية تبالغ في التأنق وامتلأت ثقة بنفسها فتوردت وجنتها وزاد نشاطها والتماع عينيها الجميلتين وطفقت تلقي على حمدي نظراتها الحنون وتوسد نظراته إليها أجفانا ذابلة يقظة. وكانت تتلقى ضغطة يده على كتفها كأنها تأكيد لعهدهما وميثاق أبدي.
وفي ذات أصيل جاءت أم حمدي بمفردها وحيت وقالت: إن حمدي يسره أن يصاهر أسرتها الكريمة. فتوردت وجنتا سنية وخفق قلبها وكادت تثب من الفرحة الكبرى التي غمرت كيانها وواصلت أم حمدي الحديث قائلة (وهو لذلك يطلب يد عدالات).
ووجمت سنية وأصابها تبلد غريب، ولأول مرة أحست أن عدالات الطفلة الناردة قد أصبحت مزاحمة خطيرة. وعجبت من نفسها كيف قابلت النبأ بهدوء وكيف ودعت الضيفة في ثبات ووعدتها وعدا جميلا بعد أن تخاطب أبا عدالات في الأمر. وعادت إلى غرفتها وسبحت في يأس مرير. إنها تمنت أن تعيش بين يده فكيف فر منها إلى طفلتها الصغيرة؟ أتكون عدالات زوجة أفضل منها وهي الفتاة الطائشة الرعناء وكبحت جماح غيرتها العنيفة أن شقيقتها إنعام قد أطلت من وراء الغيب تسألها الرفق بابنتها وتنهدت سنية وملأ رأسها عزم جديد.
(لقد تمنيت أن أرى أولاده مني، وقد استجاب الله نصف الأمنية. إن أبناءه من عدالات سيكونون أبنائي، وسأشرف على تربيتهم كما أشرفت على تربية أمهم)
(ما الذي تغير في حياتي؟ سأعيش بقربه، وسأراه دائما، وسأحنو عليه حنوي على عدالات. إن الحجر الصغير الذي ألقى في نهر حياتي الهادئ قد انداحت له الدوائر، ولكن سطحه سرعان ما عاد إلى هدوئه وسيظل يجري في الصحراء التي قدر له أن يجري فيها حتى المصب). (لقد عشت شبابي زاهدة، وكثيرات غيري قد فررن من مثل هذا الألم إلى الدير، فلم لا أصبح راهبة بلا دير؟)
(إسكندرية)
إدوار حنا سعد