لو قدر لكل إنسان أن يحب كما أحببت، وأن يمنى بالحبيبة كما منيت؛ لفاض ينبوع العواطف في هذه الدنيا.

لقد قضيت ريق شبابي على مقعد الدرس، وصرفت زهرة أيامي وأن أقلب صفحات الكتب. ولقد كنت أحسب أن هذه الأوراق الجامدة ستنال مني؛ فتحد نشاط عاطفتي. ولكني كنت مخطئاً في ظني؛ إذ كنت كلما انصرفت لحظة عن الدرس طالعتني العيون الناعسة فعدت وكأن لم أقظ لحظة إلى جانب كتاب، ولم أمض ثانية بعيداً عن تيار العاطفة الجارفة.

وظللت تبيع العاطفة؛ فأمضيت حقبة من الزمن سادراً لا أرعوي، حتى قيض الله لي الصدمة التي أبرأتني من الداء.

كان ذلك في صبيحة يوم من أيام الربيع في حماة؛ فقد استيقظت باكراً ومضيت للحقول أمتع العين بمفاتن الطبيعة، ولم يطل بي الطواف كثيراً؛ فقد كان عقرب الساعة يسرع في جريه فيدنو من الثامنة. وكانت المدرسة تتمثل لي من ورائه، وكانت دقات الجرس ترن في أذني مؤذنة بحلول الدرس الأول. . . يا إلهي كيف أترك هذا الهواء الطلق، وهذه الجنان الرحبة. . . لأنحدر إلى الغرفة الضيقة. . . إلى الهواء الحبيس!. وكيف أضحي بهذه الحرية المطلقة لأستريح إلى نظام أقل ما يقال فيه إنه غول الحرية! ولم أذهب في تفكيري بعيداً فلم يبق للثامنة إلا دقائق عشر لا تكاد تكفي للوصول إلى المدرسة.

وعدت أدراجي آسفاً، وانحدرت إلى المدينة لا ألوي على شئ. وبينا أنا في الطريق قرع مسمعي نبرات صوت عذب فرفعت رأسي لأتبين مصدرها، فإذا أنا أمام جبين وضاح يبهر بنوره شمس تلك الصبيحة الفاتنة.

إنها فتاة في مقتبل العمر، وقفت في نافذة بيتها تتلهى برؤية المارة. لقد انحنت قليلاً ممسكة شعرها المتهدل بيمناها وراحت تداعب بيسراها قطتها الجميلة. ولقد لبثت هذه القطة تونو إليها شاخصة ذاهلة، وكأنها قد سحرت بزرقة تلك العيون، أو أنها فتنت بمنظر ذلك الجبين. . . ولم أشعر إلا وقد طرحت كتبي على الأرض ثم جلست فوقها ورحت أرنو إلى النافذة شاخصاً ذاهلاً. . لقد أنساني هذا الجمال كل ما قد شهدت في الحقول من جمال، وأبعدت هذه الحقول شبح المدرسة عن فكري. وكأن فعلتي هذه لم ترق للآنسة المحترمة؛ فإنها لم تكد تراني أحدق في وجهها حتى اعتدلت بوقفتها وسوت شعرها بيدها ثم أغلقت النافذة وانصرفت.

أما أنا فقد لبثت في مكاني أفكر بحظي التاعس، وأقرن نفسي إلى تلك القطة السعيدة! إنها أسعد من على الأرض! ألا يكفيها أنها تستمتع بحريتها وتعيش إلى جانب الآنسة الفتانة!. . ألا يكفيها أنها لا تمسك نفسها ساعات طويلة على مقعد الدرس. ألا يكفيها أنها لا تشغل بالها بقوانين الجبر، ولا ترهق نفسها بحفظ قواعد الصرف والنحو! سعيدة أنت أيتها القطة.

وبينا أنا سابح في سماء الخيال؛ وقعت عيني على الساعة فإذا بها تشير إلى الثامنة والربع. . . يا للمصيبة!. . . أين المدرسة؟. بأي وجه أقابل الناظر؟. . . ومضيت أجر ساقي جراً، وكنت كلما سرت خطوتين تلفت لأرى النافذة ومن وراء النافذة. حتى إذا ما خفي المنزل عني عدوت نحو المدرسة ودخلتها متأخراً؛ فاستقبلني الناظر بطلعته الكالحة. وبعد السؤال والجواب سجل لي ما يناسبني من جزاء ثم سمح لي بالدخول إلى الصف.

ودخلت الصف فألفيت زملائي الطلاب ساكتين كأن على رؤوسهم الطير. لقد كان الوجوم يخيم في سماء الغرفة، وكان الصمت يستأثر بالأفواه. . . أين هذا الكلوح من تلك البشاشة! وأين هذا التزمت من ذلك المرح؟. . .

وأخذت وقعدي ورحت أفكر. ولقد كان لي في صمت الطلاب وهدوئهم ما يحملني على الانطلاق في سماء الخيال. . . لقد فتحت الكتاب لأتابع الأستاذ في قراءته، ولكن العيون الزرقاء كانت تطالعني من بين الأسطر. . . لقد كانت كل كلمى عيناً زرقاء، وكان كل سطر خصلة شقراء. لقد كنت في زاد والطلاب في واد. وانتهى الدرس الأول، وتبعه الثاني، وانصرم النهار وأنا لا أعلم كيف انصرم؛ ولكن الذي أذكره هو أنه كان طويلاً، وأني لم أفد به من العلم لا كثيراً ولا قليلاً.

ورجعت البيت في المساء كاسف البال محطم الأعصاب، ولم أقدر على المطالعة، فأغلقت الكتاب واضطجعت في الفراش. . . ولكن أنى للنوم أن يزور الأجفان التي تتطلع من وراء الخيال إلى صورة الحبيب المجهول.

وتوالت الأيام وأنا أزداد بالآنسة شغفاً، وتتابعت الليالي وأنا أطوف حول بيتها لعلي أظفر منها بنظرة. ولكن هيهات! فقد كانت لا تكترث بوجودي، ولا تبالي بمروري وإنما تعتدل في وقفتها فتغلق النافذة ثم تنادي قطتها وتنصرف. وكنت إذا لحظت منها الصدود غضبت وأقسمت أن لا أمر من أمام بيتها، ولكن ما أسرع ما أحنث بهذا القسم فلا أجدني إلا سائراً في طريق بيتها. لقد كانت هذه القصة تتمثل كل يوم، ولكنها تنتهي وكأني لم ألحظ صدوداً ولم أحلف يميناً.

وأقبل الصيف وأغلقت المدارس أبوابها فوجدت في العطلة الصيفية عوناً على تحقيق رغباتي. لقد رحت أقضي الأيام الطوال حول منزل آنستي فأستقصي أخبارها وأتنشق عبير رائحتها. . . ولقد تخطت معرفتي بها الحدود التي كان الربيع قد رسمها فلم أعد أقنع برؤيتها في النافذة، وإنما أصبحت أراها في الطريق رائحة غادية برفقة مربيتها العجوز (نانو).

وإن أنس لا أنس تلك اللحظات التي كنت أقضيها بانتظار خروجها. لقد كانت اللحظة شهراً، وكانت الساعة دهراً، ولكني ما كنت لأشعر بوطأة هذا الطول. فقد كان لي خلفه آمال تعدل كل ما ألقاه من آلام. لقد كنت أنتظر طويلاً ثم لا ألبث أن أسمع صوتاً ملائكياً يرن في أذني. إنه صوتها وهي تقول: (نانو. . . امشي يا نانو) ثم ينفتح الباب وتخرج منه وهي تخطو خطوة وئيدة وإلى جانبها (نانو) فأقف في الطريق محاولاً استدراجها إلى ابتسامة رقيقة. ولكني كنت أعود كل مرة خائباً. فقد كانت تمر بي دون أن تشعر بوجودي أو تفطن إلى عواطفي. وإني لا أزال أعجب لتلك العواطف الجامدة كيف لم تعصف بها نظراتي الحادة، وإني لا أزال أكبر ذلك القلب الهادئ الذي لم تستطع أن تحركه نبرات قلبي المتأججة. . .

وقد أوشك الصيف أن ينقضي قبل أن أنتهي إلى تنيجة مرضية، فقد ظل قلب الآنسة بعيداً عن قلبي وبقيت آذانها مغلقة عن سماع صوتي، وقد تراءى لي أنها تكتم عواطفها خوفاً من (نانو) العجوز، فاعتقدت أن الحب يقضي علي أن استعطف (نانو) وأن استدر رحمتها.

ولما كان الغد ملت بنظري نحو (نانو) فابتسمت لي وابتسمت لها وقلت في نفسي إنها ولاشك قد أدركت معنى ابتسامتي وفهمت مغزى وقوفي، وتتابعت النظرات والابتسامات ورأيت (نانو) ذات صباح وحدها فدنوت منها وتكلفت من الشجاعة أكثر مما أطيق، ثم اعترضتها وقلت لها: (الهوى صعب يا نانو!) فهجزت برأسها هزة العجب والكبرياء ثم أجابتني (والصبر طيب. . . طيب يا حبيبي!.) ثم مضت لسبيلها وظللت وحدي أفكر في معنى كلمتها. . .


*************

وبعد هذه المقابلة تغيرت (نانو) علي، فراحت تبخل بابتساماتها الغراء، وباتت تقتصد بنظراتها العرجاء. . . لقد أصبحت (نانو) تتيه علي، وكان تيهها ذا معنى خاص لم أستطع فهمه!. . . أتراها حسبت أني موله بثغرها الأدرد؟. . أم تراها ظنت أني مدله بوجهها الأجعد!. . هذا مستحيل!. . إن للحب دائرة موصدة في أوجه الشياطين!. . . إن في الحب نفحة سماوية لا يدركها أولئك الذين التصقوا بالأرض فلم يتجهوا بأعينهم إلى السماء ليبصروا ما أبدع الله فيها من جمال!. . إن في الحب وقف على القلوب الزاخرة بالحياة، الشاعرة بجمال الوجود؛ أما (نانو) فإنها بعيدة عن الحياة. . . بعيدة عن الحب. . . إن الحب ليلفظها لفظ النواة!. . إذاً ما بالها تتيه علي؟. . هذا سر مستغلق!. . وما أكثر ما يستغلق على المرء من أسرار!.

ما (نانو) ومالي!. . إنها وسيلة غير صالحة للوصول إلى آنستي. وقد بقيت يومين أفكر، لم أذق خلالهما طعاماً ولم أرق في فمي شراباً. وكان من نتيجة تفكيري أني عولت على أن أكتب إلى آنستي رسالة أشرح فيها حبي وقمت إلى مكتبتي وأمسكت بالقلم وأخذت أشرح ما يخاطرني من أشواق. ثم ختمت الرسالة بالكلمة التالية: (أي آنستي!. . . إني لأرجو منك أن تعلميني رأيك صريحاً. . . فإما قبول أنعم فيه بعطفك، وإما رفض يبرئني من حبك. . . وإني لأنتظر كلمتك الفاصلة آملاً أن ألقاها غداً معلقة في مصراع الشباك. . .)

ولم تكد شمس الغد تطلع حتى كنت أمام المنزل أنتظر. وبعد فترة وجيزة بصرت بالقطة الحبيبة تمد رأسها من الباب، فلوحت لها بقطعة لحم كنت أحضرتها من السوق، ولم تكد تراها حتى عدت نحوي فأمسكتها بيدي وربطت الرسالة في عنقها وتركتها تعود أدراجها.

ولما كان الغد دلفت إلى المنزل وأنا أقدم رجلاً وأؤخر رجلاً. لقد كان قلبي يخفق هلعاً، وكانت عيناي تتشوقان وكأنهما تتحريان شيئاً مضاعاً. وكان ذهني غارقاً في التفكير أي غلطة هذه الغلطة التي ارتكبتها؟ وأي حماقة هذه الحماقة التي أتيتها؟. وهل ثمت أكثر جنوناً من فتى يسلم سره إلى قطة!؟ إن كل ما كنت أخشاه هو أن تكون الرسالة قد وقعت في يد غيرها فينفضح الأمر، ويطلع الأهل على السر.

وما كدت أدنو من المنزل حتى لمحت قطعة من الورق معلقة في النافذة، ومددت يدي المرتجفة فأخذتها وفتحتها وقرأتها!. . يا للسعادة!. . . إنها من آنستي. . . آنستي الحبيبة. . . يا للعجب إنها تدعوني لمقابلتها بعد منتصف الليل في بيتها!. هذا لا يكاد يصدق. . . يا لله!. . أتراني في اليقظة أم في المنام!. . ماذا أصابها فبدلها؟. . وماذا عراها فغيرها؟. . أيكون الصدود الذي كانت تبديه مجرد وهم باطل ألجأها إليه عيون القوم المفتحة حولها؟ هذه هي الحقيقة بعينها. . . إنها تحبني وتحبني ولكنها لم تكن لتجرأ على البوح بهذا الحب!. . . غفرانك يا آنستي!. . . لقد اتهمتك بالقسوة ولكني كنت مخطئاً في ظني، وإن بعض الظن إثم.

لقد قرأت الورقة ثم طويتها، ورحت أنتظر الساعة الموعودة بفارغ الصبر، ودقت الثانية عشرة، ثم الواحدة بعد منتصف الليل؛ فانحدرت إلى المنزل والآمال المعسولة تحدوني. ولم أكد أصل الباب حتى وجدته مفتوحاً، ولم أكد ألجه حتى وجدتني أمام شبح لم أتبينه لشدة الظلام. . . إنه ولا ريب شبح آنستي المحبوبة. . .

وتقدمت منها وأنا لا أكاد أصدق نفسي! وعرتني رعشة من الفرح كادت تنسيني صوابي، وانحنت آنستي عليّ وراحت تمطرني بوابل من القبل؛ فانتشيت من السرور ومددت يدي محاولاً لمس ثغرها. . . وكم كانت دهشتي عظيمة حين وجدت أن يدي قد دخلت في فوهة لا قرار لها. . يا إلهي!. . أين الأسنان الناصعة، أسنان آنستي المحبوبة؟

وفتحت عيني وحدقت في الثغر الذي كان يقبلني، إنه ثغر أورد وأمعنت النظر بالوجه الذي يقابلني. . . يا للغرابة!. . . إنه وجه (نانو) العجوز التي أبغضها. ولا يستطيع أن يتمثل خيبتي هذه إلا أولئك المقامرون الذين أضاعوا في ثانية واحدة كل ما قد ربحوه في ساعات. لقد تبدلت عواطفي بعد اشتعالها وخمد الدم في عروقي. وما هي إلا ساعات معدودات حتى انقلب التبلد العاطفي إلى ثورة غضب كادت تطيح بصوابي فانقضضت على (نانو) ودفعتها بيدي دفعة قوية فسقطت مغشياً عليها.

ولقد خشيت الفضيحة فحاولت أن ألوذ بالفرار، ولكني حين هممت بفتح الباب غشيت عيناي فلم أعد أبصر شيئاً. ولقد زاد في ارتباكي أني سمعت وقع أقدام متجهة نحوي. . . إنه رب البيت. لقد نبهه صوت وقوع (نانو) فجاء يستطلع الخبر. يا للكارثة! إنه يحمل في يده عصا غليظة لو أهوى بها على جدار لدكه. ولقد حاولت أن أجد لنفسي مفراً ولكن سهمي قد طاش فلم أعد أدري ما أصنع. ولم أجد بداً من طلب الأمان.

ولقد عجب رب البيت من أمري: إن ملامحي لا تنبئ عن سوء الطوية الذي أتى بي إلى بيته بعد منتصف الليل؟. . هذا سر لم يستطع له تفسيراً. وحاولت أن أفضي له بالحقيقة الواقعة، ولكن هل يصدق أن (نانو) تحب. . إنه سيتهمني بالجنون وسيرميني بالكذب. . ولم أجد بداً من اللجوء إلى الحيلة فادعيت أن كلباً عقوراً تبعني في الشارع وحاصرني فلم أستطع الخلاص منه. واتفق أن مررت بالقرب من باب هذا المنزل فوجدته مفتوحاً، فولجته وسرعان ما اصطدمت بشخص ارتاع من دخولي فسقط مغشياً عليه.

وكانت (نانو) قد أفاقت من غشيتها وسمعت كلامي. ويبدو أن هذا التخلص الحسن قد أعجبها؛ فأنبأت رب البيت بأنها قد نسيت الباب مفتوحاً منذ المساء، وأنها استفاقت عند منتصف الليل وذكرت ما قد نسيت فخرجت تغلقه فكان أن صدفتني.

وقد جازت هذه الحيلة على رب البيت فأحسن بي الظن، ورثى لحالي، وطيب خاطري ثم فتح لي الباب، وتركني أنصرف بسلام.

ولقد خرجت من البيت وآليت على نفسي أن لا أعود إليه ثانية. لقد ألقيت شبكتي طامعاً بالسمكة الجميلة ولكني لم أعثر إلا على سلحفاة بشعة. ولقد خشيت أن ألقيها ثانية فأعثر على ثعبان يقضي على حياتي. لقد خرجت من البيت بعد أن نذرت التوبة عن الحب. نعم لقد تبت ولقد مضى علي سنون عدة ركن قلبي خلالها للسكينة، وارتاح للهدوء لولا بعض نزوات كانت تعتاده في الفترات فيتحرك بين أضلاعه، ويحاول الانطلاق من أغلال التوبة ولكنه سرعان ما يذكر العيون الزرقاء، ويتخيل (نانو) العجوز؛ فيعود إلى هدوئه ويخلد إلى سكينته وهو يقول: (إني تبت عن الحب منذ زمن بعيد. . .)

(حماه - سوريا)

زهدي الشواف







16 - 02 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...