كان قد مضى موهن من الليل، وهجدت الحكة، ونامت الكائنات، وتوارت النجوم وراء ستار الغمام؛ فعمت العتمة وانبسط رواق الظلام!.

وكان هناك بصيص من نور يتسلل من خصائص نافذة منزل قائم على ناصية الطريق. . .

في هذا المنزل وفي هذه الغرفة بالذات؛ كان الشاعر يصغي إلى إحدى القطع الموسيقية تذاع من محطة (صوفيا) وقد غابت أفكاره في عوالم من خيال!.

- رحمة بشبابك يا بني. ألا تعطي جسدك حظاً من راحة؟ قالتها أمه في نغمة مريرة، وراحت تنظر إليه بعينين قد رشحت فيهما الدموع!. ولم يشأ أن يجيبها على قالتها وظل يدور على إيقاع الموسيقى وهو شارد الذهن، تائه النظر كأنما هو غائب عنها في عالم آخر غير هذا العالم الأرضي!. . .

ولكنه ما عتم أن أستنبه إلى وجودها فجأة. فتوقف عن الرقص وقال أشبه ما يكون بالحالم:

- معذرة يا أماه. فإني لألتمس راحة البدن، وهدوء الضمير في الإصغاء إلى هذه الموسيقى الإلهية؛ فإنها لا تزال تنقلني على نغماتها السماوية من آفاق إلى آفاق، حتى ليخيل إلي أنني أفنى في الوجود المطلق وأغدو ذرة مذعورة فيه!. . .

وانطلق يدور في خطوات رتيبة إلا أنها ساذجة فما كان بينها وبين النغم الساري تطابق أو اتفاق! واستطرد يقول كمن يخاطب شخوصاً غير منظورة:

- أواه يا (أوتربي) يا ربة الموسيقى، أفيضي على كياني المكدود بموسيقاك العذبة فإنها غذاء روحي، أنصتي ي أماه إلى هذا اللحن الحالم. . . إنه (لموزار) ومن قبل استمعت إلى لحنين أحدهما (لباخ) والآخر (لبيتهوفن)!. . .

إن الناس هناك في (صوفيا) ليصحون على هذه الأنغام الخالدة، وإنهم ليغفون عليها، فتهدهد آلامهم، وتحيي فيهم موات الأمل!. . .

. . . وتجاوبت في نفس أمه أصداء الحيرة، وتكلمت فيها وساوسها فأشفقت على ابنها أن تكون مسته مواس الجنون قالت:

- يا بني نم، وأشفق على نفسك، فإنك مجهد الحس، مضعضع البدن!

. . . وتقدم منها في وناء ومهل، وأوسد راحتيه كتفيها وقال وهو يدفعها في هينة ورفق إلى الباب:

- أحرى بك يا أماه أن تعودي إلى فراشك، وأن تدعيني وحدي تسبح أفكاري وتنطلق شاعريتي. . . إن الشاعر يا أماه لا يعيش لنفسه وإنما يعيش لسواه!. . .

. . . وشاءت أن تتكلم إلا أن الكلمات ماتت على شفتيها. . . وصلت فيها دمعها يفصح عما إستسر في نفسها من ألم وكمد، ووجدت أنه لا معدى لها من أن تغادره، فمضت إلى حجرتها. . .

وبرقت في ذهنها، وفي مسترخية على فراشها، صورة ابنها يوم أن كان لا يزال في المهد كفلا غريراً. وذكرت أنها أملت وقتها أن يكون لها في المستقبل أمناً من الزمان. . . ولكن الفتى ما كاد أن يشب عن الطوق حتى صدف عن الدرس واجتوى المدرسة إذ أنس في نفسه رغبة مشبوبة في قرض الشعر. . .

وبدا لأمه أنه لا غناء في كل الجهود التي بذلتها ليعود ابنها إلى الدرس، وقد كبر في وهمه أنه شاعر. . . فغدا يتغنى بشعره الناس، وغدا يتردد اسمه على الأفواه ويغدو ذكره ملء الأسماع.

وكانت أمه تنصت إلى تلك الكلمات وإلى سواها، وتبكي في ابنها مظها العثر. فإن أقرانه قد واصلوا الدرس، وما كادوا يحصلون على درجاتهم العلمية حتى تلقتهم الوظائف الممتازة. . . وكثيراً ما كان يستجلي في عينها ما يدور برأسها فكان يقول لنفسه:

- هذه أني تبكيني حياً. لتبك اليوم؛ فإنها لن تلبث أن تضحك طويلا حينما آخذ مكاني بين فحول الشعراء، وكبار الأدباء فإنهم ليقولون في الأمثال الفرائد. إن من يضحك كثيراً لهو الذي يضحك أخيراً. . .

. . . وبقى الفتى في غرفته يدور على نغمات الموسيقى. وقد شبه له أنه يستند إلى صدر فتاة ناهد في دورة راقصة. فكان يحتوي فراغا - يمثلها - بين ذراعيه، حتى إذا ما انتهت الرقصة قال في صوت يفيض رقة وحناناً: - غداً نلتقي هنا يا غرمي في نفس الموعد. . . فإلى اللقاء. . . وراحت ذراعاه تطوقانها، وسعت شفتاه إلى أن التقتا، في الخيال - بشفتيها في قبلة طويلة حالمة. . .

. . . إن أقسى اللحظات التي تمر بإنسان لهي التي يستشعر فيها أنه محروم من الحب. فإنه في أعقاب هذا الشعور بالحرمان، يجفل من الناس. ويعاف صحبتهم، وينطوي على نفسه ويستوحد ولم تنشب هذه الحال السالبة أن تتحقق في أحلام اليقظة؛ فيكبر في وهمه أنه قد أحبته فتاة وأنها صارت له خليصة فهي تقابله - في الخيال - في غفلة من الناس، وتبثه لواعج الحب، وتهبه كل ما أنتكرته عليه حياة الناس. وإذا ما اختلفت على إنسان هذه الحال أدت به إلى الجنون. . .

. . . وما كادت صورة الفتاة تبرح خيال الشاعر حتى جلس إلى مكتبه وغيب يده في درج من أدراجه، وأخرج قرطاساً وقلماً وسطر بضع كلمات أنشأ مطلعها بصوت عال:

(اللحن الإلهي). . . يا له من عنوان!

وأكب على القرطاس يثبت ما عن له، حتى إذا ما فرغ من كتابته نهض إلى نافذة، وفتحها ووقف وراءها.

وراحت أنسام الفجر الندية تصافح وجهه، وتاهت نظراته في الفضاء والمحيط ثم ارتدت إليه مذعورة؛ فأغلق النافذة، وتراجع إلى فراشه، وتطرح عليه، وأسلم عينيه لإغفاءة طويلة معسولة. . .

كان محمد أو الأستاذ محمد كما يحب أن يدعوه الناس، واحداً من هؤلاء الشبان الذين يسلمون أنفسهم لقراءات غير منظمة، وكان قد انقطع عن المدرسة في أولى مراحلها فاعتمد على خبرته الضئيلة في اختيار لون الثقافة الذي يتفق ومزاجه. فلم يفد شيئاً.

وكان يبعث بمحاولاته الساذجة إلى الصحف والمجلات فكانوا - كما هو منتظر - يغفلونها ولا ينشرونها. فانعكست هذه الحال السالبة على نفسه؛ فاستشعر لأصحاب الصحف والمحررين على السواء كراهة مرة. . وصور له الوهم أنهم يغارون منه، وينفسون عليه موهبته الخالقة. . .

وكثيراً ما كان يمضي في الطريق محتضناً أفكاره، حتى إذا ما صادف صديقاً لم يشأ أن يتركه قبل أن يلقى عليه إحدى قصائده؛ وكانت خبراته بالدورات العاطفية التي تختلف على الناس منعدمة. فكان يقع على الواحد من أصدقائه وهو مرح الصدر، غائم الخاطر يريد أن يسمعه إحدى قصائده. فيعتذر صاحبه من عدم إمكانه سماعها. فيناله من ذلك هم كبير ويقول في نفسه:

- إن الناس عيت عقولهم عن فهم أشعاري، وفيها تلك الالتماعات الذهنية التي لا تنقاد إلا لذهن جبار! وإني عهدتهم يتهافتون على ذلك الرخيص من الأدب الذي تطالعهم به الصحف والمجلات. . . أما أنت يا محمد؛ فإن في عنقك رسالة ينبغي أن تؤديها، وإن أصحاب الرسالات ليلاقون من عنت الناس وإجحافهم ما لا قبل لغيرهم به. فلتثابر وإنك واصل بإذن الله. . .

. . . ونهض من فراشه في رأد الضحى. . . وأمر يده بين الوسائد وأخرج القرطاس الذي سطر عليه قصيدته (اللحن الإلهي) ونادى اخته، فما إن أقبلت حتى قال لها:

- اجلسي فسألقي عليك قصيدتي الجديدة (اللحن الإلهي). . . وكانت الفتاة قد تعياها الجهد من تدبير البيت. وكان لا يزال أمامها عمل شاق متواصل. فأجابته في لهجة يشيع فيها الغضب المستور: إنني جد متعبة ولا قبل في بسماع قصائدك

ومضت عنه إلى طهي الطعام وتنظيف الصحاف. وبقي هو في فراشه بعض الوقت تتردد الحسرة بين جنبيه وتمتم

- حتى أنت يا شقيقتي تبالغين في تحقير شعري وامتهانه. . .

. . . وكانوا قد أعدوا له طعام الإفطار. فما قاربه، بل ارتدى ملابسه، وانطلق إلى الطريق كمن ركبه الشيطان. وكان النهار قد انتصف، وغامت السماء، وآذنت بإمطار. . .

ودرج في الطريق وهو ذاهل لا يدري أين تقوده قدماه. . .

ونسى نفسه فراح يتغنى بقصيدته (اللحن الإلهي) وخيل إليه أن الطبيعة أطرقت تنصت إليه! لقد عدم في الناس من يستمع إليه. فليحك إلى الطبيعة شعره وليبثها آلامه. . . الطبيعة. . . إنها أخته الخليصة، فليس فيها مكر الناس وليس فيها خبثهم! وهطل المطر مدراراً بينما تابع هو طريقه غير حافل حتى لاح له مقهى على رجع البصر فخف إليه!

وتهالك على المقعد في إعياء، وراح يرقب حبات البرد وهي تساقط على الأرض في ثورة وغضب. . .

وعن له أن يستعرض - وهو جالس - رحلة حياته فهاله أنه احتمل صنوف الهوان والذل، والعسف الجور!

وأحس بالحزن ينوش صدره، والألم يهصر قلبه. . . وتزاحمت الصور في رأسه وبرزت من بينها صورة أمه تتكلم فيها نظراتها بأن آمالها خابت فيه

ثم ومضت في ذهنه لحظات السعادة الموهوبة التي استشعرها مرة يتيمة في هدأة حب عابر. فأغمض عينيه على الذكرى الحبيبة يلتذ مقامها فما أسرع أن خبت في الماضي البعيد!

وجثم على صدره ألم الحرمان. . . الحرمان المروع. . . وعندئذ جرت على شفتيه بسمة مريرة. وهانت لديه الحياة، وود لو عاجله الموت، وتمتم:

إن من الموهوبين من لم يعرف الناس أقدارهم إلا بعد مماتهم، وأنهم كانوا في حياتهم مضطهدين، محرومين. فلعلك أنت يا محمد أن يكتب لك الخلود بعد وفاتك. . .

. . . وهدأ عند هذه الخاطرة وسكن إليها، وأخرج القرطاس والقلم من جيبه وسطر عنواناً لقصيدة جديدة. . . (الشاعر الخالد) وجرى قلمه على الصفحة البيضاء كأنه ريشة رسام مفتن. ولما فرغ من تدوين أشعاره ونهض كانت حمرة الشفق قد انتشرت في السماء. . .

وكانت نظراته وهو يدرج في الطريق عائداً إلى بيته قلقة مذعورة لا تثبت على شيء!

وكان ذهنه في مثل نظراته من الغموض والشرود. . فراح يبرق بشتى ألوان التفكير.

وانطلق يضحك في أعماق نفسه، من وجوده هو، بل من وجود الناس أجمعين. فما هي الحكمة الكبرى في خلق هذه الجموع الآدمية؟. . . أليبقوا سنوات هي في عمر الزمان لحظات قصار، ثم تبتلعهم أمهم الأرض. وكأنهم لم يدرجوا عليها يوماً. بدا له كل شيء على حقيقته، وهمّ وقبض الريح. ماذا جناه من حياته؟ لا شيء!. .

ولد، وتألم، ولن يلبث أن يمضي على الدنيا كآلاف غيره مشيعاً بحزن مصطنع، وألم مفتعل!. . .

فمن العدم أقبل. . وإلى العدم يعود. وتبقى ذكراه بين الناس تبقى رسالته التي ضمنها أشعاره تلك التي لم يقدر لأحد أن يطلع عليها حتى اليوم. . من يدري؟. . .

لعل أحداً أن يقف عليها، ولعل كاتباً منصفاً أن يكتب عنه وسمه (بالشاعر العظيم). . .

وبلغ منزله خائراً مكدوداً فصافحه وجه أمه يشيع فيه الألم كما يعهد به!. ولما قدما له الطعام. تناوله بشهوة منهومة. إذ كان جائعاً!. . .

ودلف إلى حجرته، وأغلق الباب وراءه كما ألف أن يفعل كل مساء وتهالك على المقعد في تراخي بدن مجهد، وأخرج قصيدته (الشاعر الخالد) من جيبه وراح يستعيد قراءتها!. .

وأدار مفتاح المذياع فتناهت إلى مسمعه نغمات موسيقى عذبة حنون وشالت به أفكاره إلى السماوات العلا وهو في حال من خدر الحس وسكرة النفس. . .

. . . ولما مضى موهن من الليل، وهجدت الحركة، ونامت الكائنات؛ تسلل الشاعر في خطوات مخنوقة إلى غرفة أمه واستملى منها ون أخته نظرات طويلة حانية. . .

ولما قفل راجعاً إلى غرفته كانت تلتمع في عينيه دمعات حرى وأمتدت يده المرتعشة في صلابة وعزم إلى زجاجة (الفيرونال) التي كانت أمه تتعاطى أقراصها لتطرد عنها السهر والأرق، وأفرغ حباتها في جوفه واحدة بعد الأخرى. . .

وبينا كان اللحن ينساب في هدأة الليل حزيناً مولولا، كان الشاعر قد خارت قواه وهوى على أرض الغرفة، جثة لا حراك بها!. . .

كمال رستم


08 - 12 - 1947

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...