(لم تجف الزهور البيضاء التي وضعوها على قبرك، ولم تتلاشى أصداء النواح من الأفق بعد. لقد كف جرس الموتى عن دقاته الحزينة المتفرقة، ولكن الأسى لم يكف عن دق الصدور التي اشتملت على صورتك الحبيبة يا مادلين، والدمع لم يكف عن الاشتعال في مآق تسهر الليل بعدك. . .
هاهي ذي الشمس تغمض جفنيها بين فلذات من الدم القاتم، وهاهو ذا وشاح الليل يلف الكائنات، وهاهي ذي الأشجار الضخمة في نواحي المكان ساكنة واجمة. . . الجميع يشاركونني آلامي ووحدتي. . . وأنت في طي لحدك يا مادلين راقدة، كما رقدت ماجد ولين المسكينة من قبل!)
أقبلت علينا صاحبة النزُل في صباح تقول: بشرى لكم. . . إن أسرة صغيرة من مواطنيكم توشك أن تحل هنا: أب وابنه وابنته. . . لقد أعددنا الغرفة المجاورة وهيأناها، وستكون هنا في المساء).
وانطلقت صاحبة النزل فانضمت إلى أختيها في الغرفة الكبيرة التي كنا نسميها (الإدارة). كن ثلاث أخوات سوريات يشتغلن بالخياطة ويدرن هذا النزل الصغير الأنيق. وكان للثلاث طابع واحد. . . بدانة مفرطة تصحبها رقة وظرف - وكثيراً ما تكون البدانة والرقة صنوان!
أما (الإدارة) فهي المكان الذي تجلس (الزكائب) الثلاث في ناحية منه معظم النهار. . . بينما تتناثر في النواحي الأخرى ماكينات الخياطة، والفتيات اللواتي يتعلمن المهنة، وخليط من الأدوات والأقمشة والسلال. . . دائماً! وفي هذه الغرفة يتشاور الثلاث البدينات همساً في ما يهمهن من الأمور التي تختص بالنزلاء؛ وفي هذه الغرفة تقوم (الزبونات) بتجريب (البروفة) أمام المرآة وتسلم الثياب التي تكمل خياطتها.
وفي هذه الغرفة تنعقد جلسات عائلية بين الأسر المقيمة بالنزل، فينصت الجميع إلى حكايات طريفة تحكيها (الزكائب) عن أصلهن الرفيع وعن الشبان الذين تقدموا للزواج منهن في غابر الأيام. . . وكان نصيبهم جميعاً الرفض!
في ذلك المساء قدمتنا كبرى الأخوات الثلاث إلى مادلين وأسرتها الصغيرة. . . أما أبوها فكان رجلاً، مسناً، في فمه أسنان صناعية، وعلى عينيه منظار غائم لا تكاد ترى عينيه من ورائه. أما الأخ فكان شاباً ظريفاً لما ينته من دراسة الطب. أما هي - مادلين - فقد بدت فتاة في الربيع الخامس والعشرين من عمرها، نحيلة، سمراء، في عينيها لهيب قاتم، وفي خصلات شعرها الأسود المهدل فن وعبقرية.
كانت الصورة الأولى التي وعتها لها ذاكرتي هي تلك، وكانت أذاك في ثوب بنفسجي اللون، يزيد لهب عينيها قتامة وسحراً. كانت مرحة كثيرة الضحك، وكان أول ما فعلته أن دعتني إليها - وكنت إذاك في السادسة من العمر - فقالت لي: ما اسمك؟) وحاولت أن أجيب. . . ولكن قبلتها كوت فمي وخدي، وأرسلتني أعدو إلى أمي في تعثر وخجل!. .
وسرعان ما اتصل الود بين مادلين وبين أمي، فكانتا تشتركان في كل أمر من الأمور. . . كنت تراهما معاً طيلة الوقت في المطبخ، أو أما ماكينة الخياطة، أو في الخارج تبتاعان شيئاً. . . إلى آخر هذا كله!.
واتصل الود أكثر من هذا بيني - أنا الصغير - وبين مادلين. كانت دائماً تدخر لي جانباً من الحلوى، وكانت دائماً تستقل هي بعمل ما أحتاج إليه من قطع الملابس الصغيرة، وكانت في كثير من الأحيان تصحبني معها إلى الخارج. . . ومن قبل ومن بعد كانت تحيطني بساعديها وتضمني إلى صدرها الحار لتغمرني بقبلات لا عداد لها. . . قبلات محمومة والهة أشعر أنا الصغير بأنها تختلف كثيراً عن قبلات أمي وسائر من بالمنزل. . .
أما من ناحيتي، فقد كنت أحب كثيراً أن تقبلني، وأن أملأ خياشيمي الصغيرة بعطر البنفسج الذي يفوح دائماً من شعرها الحالك. وكنت أحب أن ألوذ بغرفتها التي كانت غالباً ما تخلو من الأب والأخ. . . وهناك أطل من نافذة كبيرة على سطح دار مجاورة - كانت على ذلك السطح بقايا لعب ملونة، وأصص صغيرة في كل واحدة منها زهرة حمراء!.
. . . إلى أن كان ذلك اليوم الذي رأتني فيه أمي بين ذراعي مادلين وهي تقبلني تلك القبلات المحمومة، فدعتني إلى غرفتنا بعيداً عن أنظارها، ثم عبست في وجهي وحذرتني قائلة: لا تدعها تقبلك مرة ثانية. . أفاهم أنت؟ لا تذهب إليها إن دعتك. . إياك! وعرتني الدهشة، ولم يستطع عقلي آنذاك أن يفسر ذاك التصرف الغريب. . أتحرمني من مادلين؟. . لماذا لا أدعها تقبلني؟ لماذا لا أذهب إليها. .
رحمك الله يا أمي، فما كنت آنذاك أستطيع أن أدرك شيئاً مما كان يدور بخلدك. . أنت يا من حنكتك التجارب وعرفت من أمور الدنيا الكثير. أما الآن، وقد كبرت واتسعت مداركي، فأني أعتب عليك يا أمي - أعتب عليك حتى وأنت في عالمك الآخر: لماذا دار بخاطرك ما دار عن مادلين؟ هل كانت مادلين كغيرها من البشر؟ لماذا حرمتني منها، وحرمتها مني؟ إن الأمر لم يكن أكثر من أنها فتاة جياشة العاطفة طال بها انتظار الزواج والأمومة. . فلماذا قصرت عن فهمها؟. . .
وقد كان محالاً أن أقطع صلتي بها هكذا دفعة واحدة! أريد على الأقل أن أعود لرؤية الصور الجميلة التي بغرفتها، وأن أطل أحياناً من النافذة الكبيرة على السطح المليء باللعب وأصص الزهور!. . وهكذا مضيت إلى أمي، وتوسلت إليها والدموع في عيني قائلاً: لا أدعها تقبلني. . لكن دعيني أذهب إليها إذا نادتني مثلاً! فنظرت إلى نظرة حادة، وقالت: حسن. . . سنرى!
(وفي ذلك المساء دعوتني إليك يا مادلين، وأريتني آلة للتصوير اشتراها أخوك، ثم حاولت من بعد أن تقبليني. . كدت أن أستسلم أول الأمر حسب ما اعتدت، لكني تذكرت والدتي. . فاضطربت! لكنك ألححت يا مادلين، فلما حاولت أن أتخلص من ذراعيك. . عرت وجهك سمات الدهشة، وقلت ماذا. . ألا تريد أن أقبلك؟)
وحاولت أنا أن أنظر في عينيك لكنني لم أستطع، فأرخيت أهدابي، وكان طبيعياً أن تلحظي في تصرفي إزاءك شيئاً غريباً طارئاً، فوضعت يديك على كتفي، وحدقت فيَّ بعينين تجلت فيهما الحيرة، وقلت: لماذا؟. . لماذا لا تريد!؟)
وفي براءة الطفل، كأني أريد أن أخلص من هم يجثم على صدري، أو كأنني أريد أن ألصق التهمة بصاحبتها، رميت في وجهك بالحقيقة ويدي تخفي اضطراب وجهي. . . قلت: أمي قالت لي. لا تدع مادلين تقبلك!). فكأنما أصابتك لطمة شديدة. . . لقد شحب وجهك الحبيب، وغامت عيناك فتلاشى منهما ذلك الألق الحار في الضباب. صرفتني في لطف، لكني مضيت إلى تلك الشرفة الكبيرة التي تطل على الميدان الفسيح، وهناك انتحيت ركناً بعيداً، وجلست أبكي - لم أكن وحدي في تلك الساعة. . لقد رأيت في يدك منديلاً صغيراً وأنت تحملين الطعام إلى أبيك في الليل!
ولم يكن في مقدورك أن تطيلي الصبر أو السكوت، ففي صباح اليوم التالي فاتحت أمي في الأمر - كان ذلك وهي تطهو الطعام - فعاتبتها عتاباً رقيقاً، فأنكرت يا مادلين وقالت إنني - أنا - قد اخترعت ذلك الشيء اختراعاً. .!
ولم تصف القلوب في تلك الساعة، فكان أن تشاجرتما من بعد كطفلتين، وكان أن انطلقت كل واحدة إلى غرفتها تغسل كبرياءها بفيض من الدموع السخينة.
كان اليوم التالي يوم الرحيل، فاستطاعت كبرى الشقيقات الثلاث أن تصلح بينكما، فتعانقتما عناقاً مؤثراً، وأبت أمي إلا أن ترتدي ثياب الخروج من وقتها وتصحبك أن وأسرتك الصغيرة إلى القطار.! أما أنا، فقد أوعزت أمي لإحدى الشقيقات أن تأخذني إلى (الإدارة) لتقص على قصة شائقة، حتى لا أفكر في اللحاق بك. كانت تعلم مدى تعلقي بكن فكنت عند (حسن ظنها) وهربت من الأخت الطيبة إلى الشرفة المطلة على الميدان الفسيح، ومن هناك جعلت أصغي إلى أصوات القطر الغادية والرائحة، متخيلاً إياك وأنت ترحلين إلى السودان!
مضت عليَّ أيام من بعدك قضيتها في ذكرى اليمة، كلما أتاني صفير القطار اغرورقت عيناي بالدموع، وكلما نظرت إلى غرفتك الخالية! أكل قلبي الأسى. ثم كان أن انتهت أيامنا بدورنا ورحلنا إلى السودان - كنت أحس دائماً بفرحة كلما عدنا إليه، لكنها كانت هذه المرة فرحة زائدة. . . تذكرني بشعوري يوم عدت إلى دارنا بعد أن ضللت في إحدى المرات نهاراً كاملاً. ولقد تخليت أني سرعان ما ألقاك يا مادلين، لكن آمالي خابت إذ عرفت أنك تقيمين في بلد مجاور، ومن ثم فلا أمل في شيء أكثر من زيارات معدودة. . . ربما اعترضت أمي أيضاً على أن تصحبني فيها. . ما كان أشد فرحتي يوم زرنا بيتك للمرة الأولى! كان البيت جميلاً يوحي بالرغد والسلام، وكان بالفناء شجرة تين جعلت تقطفين منها وتطعمينني، وكانت بالفناء الآخر (عشة) كبيرة فيها سرب من اليمام الجبلي، وقبل هذا وذاك كنت أنت هناك.
لقد كانت المرة الأولى والأخيرة يا مادلين، وإني لا أزال أذكر كيف ظهرت مرحة أمام الجميع حتى لكأنك فتاة مقبلة على الزواج! ماذا قلت! سامحيني. . فربما أكون قد مسست شعورك! لا أنكر أني تساءلت طويلاً. . . لم بقيت دون زواج حتى ذلك الوقت؟ لو كنت زوجة آنذاك وكان لك أطفال، لما أفرغت عليَّ كل هذا الحب، ولما تركت في حياتي ذلك الأثر العميق!. . . ثم كان يا مادلين أن حملوا إلينا ذلك النبأ السيء، حملته إلينا جارة تمت إليك بصلة قرابة، قالت إنك شغفت بالقصص وأدمنّها إدماناً شديداً - وجدك أخوك ذات يوم نائمة وعلى صدرك قصة حب ضممت عليها راحتيك. . . فما كان منه إلا أن جذبها منك في عنف وهو يصرخ بك: استيقظي! كانت حماقة منه كلفتك أعصابك. لقد دهتك نوبة حادة انتهت بذلك (الشلل) الذي أصاب إحدى يديك! أواه يا مادلين! قالوا إنك بت ضحية للسقم والعلة، وإنك تذوين كغصن في طريقة إلى الخلف. كان من سخف الأيام أن منعتنا زيارتك في ذلك الوقت، وأن شهوراً مرت فكدنا ننسى أمرك كل النسيان.
وفي يوم سعيد - أحد أيام العيد الثلاثة - كانت ساحة البيعة في أوج زينتها، تموج بالناس رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وكان هناك حلقة منهم تحت شجرة (اللالوب) الضخمة في ظل البرج الكبير، وفي وسط الحلقة شاب ظريف يقوم ببعض الألعاب ليضحك الناس. لمحتك فجأة، وأنا على حافة الجدار مع ثلة من الرفاق، مع فتاة أخرى في ناحية من المكان. لم أكد أعرفك يا مادلين، لكنني أحسست أنه لا بد أن تكوني أنت، فوثبت إلى الأرض دون أن أعي، ورخت أخترق جموع الناس وقلبي يدق في خبل!
آه، كم كنت جميلة في ذلك اليوم يا مادلين! كنت في معطف من الصوف أحمر اللون، وكان على رأسك قلنسوة بديعة حمراء أيضاً، وكنت كأحسن ما تكون الفتاة صحة وجمالاً. لم تبخلي على بقبلة صغيرة في خدي، ولكن ترقرقت في عينيك آنذاك دموع الفرح والسعادة؟ لقد رأتك أمي في تلك الساعة فأقبلت عليك تحييك في شوق واهتمام. . وأي اهتمام! لقد أثرت يا حبيبتي يومها حسد النساء وألهبت قلوب الرجال - وصدقي أنني فرحت لك كل الفرح إذ قالوا إنك ستتزوجين. . . أخيراً!
ستجدين إذن من تفرغين عليه ذلك الحنان المكبوت، وسيروي حقلك الظامئ أيضاً بفيض من الحب والرعاية. . لكن جاء ذلك اليوم المشئوم. . بعد شهر من الزمن. . اهتز البرج الكبير في الصباح، ودق الجرس الضخم في أعلاه دقات متقطعة رهيبة! لقد غرقت سفينة كانت تحمل خطيبك. . وغرق كل أمل باق لك في الحياة! لم تتحملي الصدمة يا مادلين. . فعادتك نوبة شديدة كانت هي النهاية! هاهي الشمس تدرج في السماء، وهاهي الطيور البيضاء تنشر أجنحتها على قبة البيعة، وهاهو الندى يترقرق بعد على الغصون وإلى الساحة الكبيرة يحملون نعشاً أبيض صغيراً، نعشك أيتها العروس!
يوسف جبرا
مجلة الرسالة - العدد 832
بتاريخ: 13 - 06 - 1949
هاهي ذي الشمس تغمض جفنيها بين فلذات من الدم القاتم، وهاهو ذا وشاح الليل يلف الكائنات، وهاهي ذي الأشجار الضخمة في نواحي المكان ساكنة واجمة. . . الجميع يشاركونني آلامي ووحدتي. . . وأنت في طي لحدك يا مادلين راقدة، كما رقدت ماجد ولين المسكينة من قبل!)
أقبلت علينا صاحبة النزُل في صباح تقول: بشرى لكم. . . إن أسرة صغيرة من مواطنيكم توشك أن تحل هنا: أب وابنه وابنته. . . لقد أعددنا الغرفة المجاورة وهيأناها، وستكون هنا في المساء).
وانطلقت صاحبة النزل فانضمت إلى أختيها في الغرفة الكبيرة التي كنا نسميها (الإدارة). كن ثلاث أخوات سوريات يشتغلن بالخياطة ويدرن هذا النزل الصغير الأنيق. وكان للثلاث طابع واحد. . . بدانة مفرطة تصحبها رقة وظرف - وكثيراً ما تكون البدانة والرقة صنوان!
أما (الإدارة) فهي المكان الذي تجلس (الزكائب) الثلاث في ناحية منه معظم النهار. . . بينما تتناثر في النواحي الأخرى ماكينات الخياطة، والفتيات اللواتي يتعلمن المهنة، وخليط من الأدوات والأقمشة والسلال. . . دائماً! وفي هذه الغرفة يتشاور الثلاث البدينات همساً في ما يهمهن من الأمور التي تختص بالنزلاء؛ وفي هذه الغرفة تقوم (الزبونات) بتجريب (البروفة) أمام المرآة وتسلم الثياب التي تكمل خياطتها.
وفي هذه الغرفة تنعقد جلسات عائلية بين الأسر المقيمة بالنزل، فينصت الجميع إلى حكايات طريفة تحكيها (الزكائب) عن أصلهن الرفيع وعن الشبان الذين تقدموا للزواج منهن في غابر الأيام. . . وكان نصيبهم جميعاً الرفض!
في ذلك المساء قدمتنا كبرى الأخوات الثلاث إلى مادلين وأسرتها الصغيرة. . . أما أبوها فكان رجلاً، مسناً، في فمه أسنان صناعية، وعلى عينيه منظار غائم لا تكاد ترى عينيه من ورائه. أما الأخ فكان شاباً ظريفاً لما ينته من دراسة الطب. أما هي - مادلين - فقد بدت فتاة في الربيع الخامس والعشرين من عمرها، نحيلة، سمراء، في عينيها لهيب قاتم، وفي خصلات شعرها الأسود المهدل فن وعبقرية.
كانت الصورة الأولى التي وعتها لها ذاكرتي هي تلك، وكانت أذاك في ثوب بنفسجي اللون، يزيد لهب عينيها قتامة وسحراً. كانت مرحة كثيرة الضحك، وكان أول ما فعلته أن دعتني إليها - وكنت إذاك في السادسة من العمر - فقالت لي: ما اسمك؟) وحاولت أن أجيب. . . ولكن قبلتها كوت فمي وخدي، وأرسلتني أعدو إلى أمي في تعثر وخجل!. .
وسرعان ما اتصل الود بين مادلين وبين أمي، فكانتا تشتركان في كل أمر من الأمور. . . كنت تراهما معاً طيلة الوقت في المطبخ، أو أما ماكينة الخياطة، أو في الخارج تبتاعان شيئاً. . . إلى آخر هذا كله!.
واتصل الود أكثر من هذا بيني - أنا الصغير - وبين مادلين. كانت دائماً تدخر لي جانباً من الحلوى، وكانت دائماً تستقل هي بعمل ما أحتاج إليه من قطع الملابس الصغيرة، وكانت في كثير من الأحيان تصحبني معها إلى الخارج. . . ومن قبل ومن بعد كانت تحيطني بساعديها وتضمني إلى صدرها الحار لتغمرني بقبلات لا عداد لها. . . قبلات محمومة والهة أشعر أنا الصغير بأنها تختلف كثيراً عن قبلات أمي وسائر من بالمنزل. . .
أما من ناحيتي، فقد كنت أحب كثيراً أن تقبلني، وأن أملأ خياشيمي الصغيرة بعطر البنفسج الذي يفوح دائماً من شعرها الحالك. وكنت أحب أن ألوذ بغرفتها التي كانت غالباً ما تخلو من الأب والأخ. . . وهناك أطل من نافذة كبيرة على سطح دار مجاورة - كانت على ذلك السطح بقايا لعب ملونة، وأصص صغيرة في كل واحدة منها زهرة حمراء!.
. . . إلى أن كان ذلك اليوم الذي رأتني فيه أمي بين ذراعي مادلين وهي تقبلني تلك القبلات المحمومة، فدعتني إلى غرفتنا بعيداً عن أنظارها، ثم عبست في وجهي وحذرتني قائلة: لا تدعها تقبلك مرة ثانية. . أفاهم أنت؟ لا تذهب إليها إن دعتك. . إياك! وعرتني الدهشة، ولم يستطع عقلي آنذاك أن يفسر ذاك التصرف الغريب. . أتحرمني من مادلين؟. . لماذا لا أدعها تقبلني؟ لماذا لا أذهب إليها. .
رحمك الله يا أمي، فما كنت آنذاك أستطيع أن أدرك شيئاً مما كان يدور بخلدك. . أنت يا من حنكتك التجارب وعرفت من أمور الدنيا الكثير. أما الآن، وقد كبرت واتسعت مداركي، فأني أعتب عليك يا أمي - أعتب عليك حتى وأنت في عالمك الآخر: لماذا دار بخاطرك ما دار عن مادلين؟ هل كانت مادلين كغيرها من البشر؟ لماذا حرمتني منها، وحرمتها مني؟ إن الأمر لم يكن أكثر من أنها فتاة جياشة العاطفة طال بها انتظار الزواج والأمومة. . فلماذا قصرت عن فهمها؟. . .
وقد كان محالاً أن أقطع صلتي بها هكذا دفعة واحدة! أريد على الأقل أن أعود لرؤية الصور الجميلة التي بغرفتها، وأن أطل أحياناً من النافذة الكبيرة على السطح المليء باللعب وأصص الزهور!. . وهكذا مضيت إلى أمي، وتوسلت إليها والدموع في عيني قائلاً: لا أدعها تقبلني. . لكن دعيني أذهب إليها إذا نادتني مثلاً! فنظرت إلى نظرة حادة، وقالت: حسن. . . سنرى!
(وفي ذلك المساء دعوتني إليك يا مادلين، وأريتني آلة للتصوير اشتراها أخوك، ثم حاولت من بعد أن تقبليني. . كدت أن أستسلم أول الأمر حسب ما اعتدت، لكني تذكرت والدتي. . فاضطربت! لكنك ألححت يا مادلين، فلما حاولت أن أتخلص من ذراعيك. . عرت وجهك سمات الدهشة، وقلت ماذا. . ألا تريد أن أقبلك؟)
وحاولت أنا أن أنظر في عينيك لكنني لم أستطع، فأرخيت أهدابي، وكان طبيعياً أن تلحظي في تصرفي إزاءك شيئاً غريباً طارئاً، فوضعت يديك على كتفي، وحدقت فيَّ بعينين تجلت فيهما الحيرة، وقلت: لماذا؟. . لماذا لا تريد!؟)
وفي براءة الطفل، كأني أريد أن أخلص من هم يجثم على صدري، أو كأنني أريد أن ألصق التهمة بصاحبتها، رميت في وجهك بالحقيقة ويدي تخفي اضطراب وجهي. . . قلت: أمي قالت لي. لا تدع مادلين تقبلك!). فكأنما أصابتك لطمة شديدة. . . لقد شحب وجهك الحبيب، وغامت عيناك فتلاشى منهما ذلك الألق الحار في الضباب. صرفتني في لطف، لكني مضيت إلى تلك الشرفة الكبيرة التي تطل على الميدان الفسيح، وهناك انتحيت ركناً بعيداً، وجلست أبكي - لم أكن وحدي في تلك الساعة. . لقد رأيت في يدك منديلاً صغيراً وأنت تحملين الطعام إلى أبيك في الليل!
ولم يكن في مقدورك أن تطيلي الصبر أو السكوت، ففي صباح اليوم التالي فاتحت أمي في الأمر - كان ذلك وهي تطهو الطعام - فعاتبتها عتاباً رقيقاً، فأنكرت يا مادلين وقالت إنني - أنا - قد اخترعت ذلك الشيء اختراعاً. .!
ولم تصف القلوب في تلك الساعة، فكان أن تشاجرتما من بعد كطفلتين، وكان أن انطلقت كل واحدة إلى غرفتها تغسل كبرياءها بفيض من الدموع السخينة.
كان اليوم التالي يوم الرحيل، فاستطاعت كبرى الشقيقات الثلاث أن تصلح بينكما، فتعانقتما عناقاً مؤثراً، وأبت أمي إلا أن ترتدي ثياب الخروج من وقتها وتصحبك أن وأسرتك الصغيرة إلى القطار.! أما أنا، فقد أوعزت أمي لإحدى الشقيقات أن تأخذني إلى (الإدارة) لتقص على قصة شائقة، حتى لا أفكر في اللحاق بك. كانت تعلم مدى تعلقي بكن فكنت عند (حسن ظنها) وهربت من الأخت الطيبة إلى الشرفة المطلة على الميدان الفسيح، ومن هناك جعلت أصغي إلى أصوات القطر الغادية والرائحة، متخيلاً إياك وأنت ترحلين إلى السودان!
مضت عليَّ أيام من بعدك قضيتها في ذكرى اليمة، كلما أتاني صفير القطار اغرورقت عيناي بالدموع، وكلما نظرت إلى غرفتك الخالية! أكل قلبي الأسى. ثم كان أن انتهت أيامنا بدورنا ورحلنا إلى السودان - كنت أحس دائماً بفرحة كلما عدنا إليه، لكنها كانت هذه المرة فرحة زائدة. . . تذكرني بشعوري يوم عدت إلى دارنا بعد أن ضللت في إحدى المرات نهاراً كاملاً. ولقد تخليت أني سرعان ما ألقاك يا مادلين، لكن آمالي خابت إذ عرفت أنك تقيمين في بلد مجاور، ومن ثم فلا أمل في شيء أكثر من زيارات معدودة. . . ربما اعترضت أمي أيضاً على أن تصحبني فيها. . ما كان أشد فرحتي يوم زرنا بيتك للمرة الأولى! كان البيت جميلاً يوحي بالرغد والسلام، وكان بالفناء شجرة تين جعلت تقطفين منها وتطعمينني، وكانت بالفناء الآخر (عشة) كبيرة فيها سرب من اليمام الجبلي، وقبل هذا وذاك كنت أنت هناك.
لقد كانت المرة الأولى والأخيرة يا مادلين، وإني لا أزال أذكر كيف ظهرت مرحة أمام الجميع حتى لكأنك فتاة مقبلة على الزواج! ماذا قلت! سامحيني. . فربما أكون قد مسست شعورك! لا أنكر أني تساءلت طويلاً. . . لم بقيت دون زواج حتى ذلك الوقت؟ لو كنت زوجة آنذاك وكان لك أطفال، لما أفرغت عليَّ كل هذا الحب، ولما تركت في حياتي ذلك الأثر العميق!. . . ثم كان يا مادلين أن حملوا إلينا ذلك النبأ السيء، حملته إلينا جارة تمت إليك بصلة قرابة، قالت إنك شغفت بالقصص وأدمنّها إدماناً شديداً - وجدك أخوك ذات يوم نائمة وعلى صدرك قصة حب ضممت عليها راحتيك. . . فما كان منه إلا أن جذبها منك في عنف وهو يصرخ بك: استيقظي! كانت حماقة منه كلفتك أعصابك. لقد دهتك نوبة حادة انتهت بذلك (الشلل) الذي أصاب إحدى يديك! أواه يا مادلين! قالوا إنك بت ضحية للسقم والعلة، وإنك تذوين كغصن في طريقة إلى الخلف. كان من سخف الأيام أن منعتنا زيارتك في ذلك الوقت، وأن شهوراً مرت فكدنا ننسى أمرك كل النسيان.
وفي يوم سعيد - أحد أيام العيد الثلاثة - كانت ساحة البيعة في أوج زينتها، تموج بالناس رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وكان هناك حلقة منهم تحت شجرة (اللالوب) الضخمة في ظل البرج الكبير، وفي وسط الحلقة شاب ظريف يقوم ببعض الألعاب ليضحك الناس. لمحتك فجأة، وأنا على حافة الجدار مع ثلة من الرفاق، مع فتاة أخرى في ناحية من المكان. لم أكد أعرفك يا مادلين، لكنني أحسست أنه لا بد أن تكوني أنت، فوثبت إلى الأرض دون أن أعي، ورخت أخترق جموع الناس وقلبي يدق في خبل!
آه، كم كنت جميلة في ذلك اليوم يا مادلين! كنت في معطف من الصوف أحمر اللون، وكان على رأسك قلنسوة بديعة حمراء أيضاً، وكنت كأحسن ما تكون الفتاة صحة وجمالاً. لم تبخلي على بقبلة صغيرة في خدي، ولكن ترقرقت في عينيك آنذاك دموع الفرح والسعادة؟ لقد رأتك أمي في تلك الساعة فأقبلت عليك تحييك في شوق واهتمام. . وأي اهتمام! لقد أثرت يا حبيبتي يومها حسد النساء وألهبت قلوب الرجال - وصدقي أنني فرحت لك كل الفرح إذ قالوا إنك ستتزوجين. . . أخيراً!
ستجدين إذن من تفرغين عليه ذلك الحنان المكبوت، وسيروي حقلك الظامئ أيضاً بفيض من الحب والرعاية. . لكن جاء ذلك اليوم المشئوم. . بعد شهر من الزمن. . اهتز البرج الكبير في الصباح، ودق الجرس الضخم في أعلاه دقات متقطعة رهيبة! لقد غرقت سفينة كانت تحمل خطيبك. . وغرق كل أمل باق لك في الحياة! لم تتحملي الصدمة يا مادلين. . فعادتك نوبة شديدة كانت هي النهاية! هاهي الشمس تدرج في السماء، وهاهي الطيور البيضاء تنشر أجنحتها على قبة البيعة، وهاهو الندى يترقرق بعد على الغصون وإلى الساحة الكبيرة يحملون نعشاً أبيض صغيراً، نعشك أيتها العروس!
يوسف جبرا
مجلة الرسالة - العدد 832
بتاريخ: 13 - 06 - 1949