عبدالله نيازي - قصة لقاء...

هذه قصة لقاء بين جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة. . . وهي صورة صادقة من صور الحب في البادية - ولون من ألوان الغزل البريء. . . ففي الوقت الذي يقطع فيه العاشق المتيم المسافات البعيدة، وبتجشم المخاطر والصعاب - ليرى من شفقته حباً. وملأته هوى، لا يطمع ساعات، ثم يرجع وهو من النشوة يكاد أن يطير، لماذا؟ لأنه تحدث إلى حبيبته - وتحدثت إليه - وبثها لواعجه بألطف لفظ وأعفه. وشاركته نجواه بأرق لفظ وأعذبه عليها تجد طريقها إلى شباب هذا العصر الذي رق عندهم الحب وأصبح المفهوم من هذا اللفظ - هو رشف الثغور، وشم التهود، وأرضاه الغرائز

قال معبد الغني المشهور وقد ذهب إلى الغريض ليسمع عنه، فقرع الباب إلا أن أحداً لم يكلمه - فسأل بعض الجيران فقالوا: هو في الدار، فرجع وغني لحنا في شعر جميل:

علقت الهوى منها وليداً فلم لا يزال ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد

فما شعر إلا بصائح يصيح: يا معبد المغني - افهم وتلق عني شعر جميل الذي تغنى فيه يا شقي النجفة - وغنى - وحين أراد معبد الانصراف إلى المدينة، سمع بصائح يصيح يا معبد - انتظر أكلمك - فدخل وسلم - ثم جلس - وتحدثا قليلا - وخرج معبد من عنده - ورجع إلى المدينة - فتحدث بحديثه - وعجب من فطنته وقيافته! قال معبد وذكرت جميلا وبثينه فقلت: ليتني عرفت إنساناً يحدثني بقصة جميل وخبر الشعر فأكون أخذت بفضلة الأمر كله في الغناء والشعر، فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، وقيل لي: إن أردت أن تخبر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخاً منهم يقال له فلان يخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بيننا أنا في أيلي في الربيع إذا برجل منطو على رحلة كأنه جان فسلم على ثم قال: ممن أنت يا عبد الله؟ فقلت أحد بني حنظلة؛ قال: فإنتسب؛ فإنتسبت حتى بلغت إلى الفخذ الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أبن نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السفح؛ فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه إلى؟ فو الله ما أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذا الإبل ما كنت بأشكر مني عليه به. فقلت نعم، ومن أنت أولا؟ قال: لا تسألني من أنا ولا أخيرك؛ غير أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم - فإن رأيت أن تأتيهم فإنك نجد القوم في مجلسهم تنشدهم بكرة إدماء تجر خفيها غفلا من السمة، فإن ذكروا لك شيئاً فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن المرأة والصبي قد يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحداً تصبيه عينك ولا بيتاً من بيوتهم إلا نشدتها فيه، فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضاني. فلم يذكروا لي شيئاً، فأستاذ نتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا ترى الرجال، فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتاً ثم استقر فيها بيتاً بيتاً أنشدهم فلا يذكرون شيئاً، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني التفاقة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوءة! وثق بي رجل وزعم أن حاجته تعدل مالي ثم آنية وأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات! فانصرفت عامداً إلى أعظمها بيتاً، فإذا هو قد أرخى مؤخره ومقدمة، فسلمت فرد علي السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله. قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب. قلت أجل؛ قالت: أدخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، وقدح فيه لبن، والصحفة مصرية مفضضة والقدح مفضض لم أر إناء قط أحسن منه؛ فقالت: دونك؛ فتجمعت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت يا أمة الله، والله ما أتيت اليوم

أكرم منك ولا أحق بالفضل ... فهل ذكرت ما ضالتي شيئاً؟ فقالت: هل ترى هذه الشجرة

فوق الشرف؟ قلت نعم، قالت فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها ثم حال الليل بيني؛ وبينها؛ فقمت وجزيتها الخير وقلت: والله لقد تغديت ورويت! فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح في الأيل بكسائه ورافع عفيرته يغني، قلت: السلام عليك؛ قال: وعليك السلام ما وراءك؟ قلت؛ ما ورائي من شئ. قال: لا عليك! فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت علية القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله وأنا لم أجد شيئاً. ثم سألني عن صفة الإناءين: الصحفة والقدح، فوصفتهما له فتنفس الصعداء وقال: قد أصبت طلبتك ويحك! ثم ذكرت له الشجرة وإنها رأتها تطيف بها، فقال: حسبك! فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس مني بمزجر الكلب، فلما ظن أني قد نمت رمقته فقال إلى عيبة له فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر، ثم انطلق عامداً نحو الشجرة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهن، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس؛ فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قط وأبعده من كل ريبة. وسألته مثل مسألته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاماً. فلما أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت: فأنشدها:

علقت الهوى منها وليداً فلم يزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد

فلم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشاً ولاهجراً، حتى التفتت النفاقة فنظرت إلى الصبح، فودع كل واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قط ثم انصرفا. فقمت فمضيت فقمت فمضيت إلى ابلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه. فجاء بعدما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم. حتى متى تنام؟ فقمت وتوضأت وصليت وحلبت إبلي وأعانني عليها وهو أظهر الناس سروراً، ثم دعوته إلى الغداء فتغدى، ثم قام إلى عيبة فافتتحها فإذا فيها سلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما وقال: أما والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك. وحدثني حديثه وانتسب لي، فإذا هو جميل بن معمر والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتاً في منصرفي من عندها، فهل لك إن رأيتها أن ننشدها؟ قلت: نعم! فأنشدني:

وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نفسي أمصر تريد

ثم ودعني وانصرف، فمكثت حتى أخذت الإبل مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت البرد وأتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالباً واليوم زائراً، أفتأذنون؟ قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة عليه والله برد جميل، فجعلت أثني على ضيفي وأذكر فضله. وقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة حتى أنظر إليك؟ قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت ودعت لي بطرف. ثم قالت: يا أخا بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها فأخرجت لي ملحقة مروية مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومن إلى كسر البيت ولتخلعن مدرعتك ثم لتأتزرن بهذه الملحفة فهي أشبه ببردك. ففعلت ذلك وأخذت مدرعتي بيدي فجعلتها إلى جانبي. وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلاً من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبرد جميل ونظرة من بثينة. . قال معبد: فجزيت الشيخ خيراً وانصرفت من عنده وأنا والله أحسن الناس حالاً بنظرة من الغريض واستماع لغنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة فيما غنيت به وفيما غنى به الغريض على حق ذلك وصدقه، فما رأيت ولا سمعت بزوجين قط أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومني. .

وهذه أبيات من القصيدة التي قالها جميل. .

علقت الهوى منها وليداً فم يزل ... إلى اليوم ينمي حبها ويزيد

وأفنيت عمري في انتظاري نوالها ... وأفنت بذاك الدهر وهو جديد

فلا أنا مردود بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيد يبيد

وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... وقد قربت نضوي أمصر تريد

ولا قولها لولا العيون التي ترى ... لزرنك فاعذرني فدتك جدود

إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابت ويزيد

وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به ... تولت وقالت ذاك منك بعيد

بغداد

عبد الله نيازي

08 - 05 - 1950

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...