فتحت سلوى عينها على الحياة على مدينة نيويورك، تلك المدينة التي تقوم فيها ناطحات السحاب، والبيوتات المالية التي تعبث بمقدرات العالم، وتسير التاريخ، وترسم له الاتجاه.
وكان والدها قد رحل إلى أمريكا قبل ذلك التاريخ، ووافته الفرصة فجمع مالاً وفيراً، وعاد إلى الوطن يفتش عن عروس في فلسطين أرادها أن تكون أسرته، فبنى بابنة عمه وعاد بها إلى أمريكا.
ولكن الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل ومراتع الصبا، جعل حياة الزوجة جحيماً لا يطاق، فما زالت به حتى قنع بالعودة بعد تصفية أعماله.
والحرية في مدينة نيويورك تختلف عنها في الشرق اختلافاً عظيماً، ذلك أن الفتاة والفتى يلعبان طفلين معاً، ويتعلمان شابين ولا يجدان في مسالك الحياة ما يغير ذلك. والتعليم في معانيه يحمل العقل مسئولية الخطأ في الحياة، وينير أمام الضمير الطريق، والفتى والفتاة في الخامسة عشرة يجتازان أشق مرحلة من مراحل الطيش، تلك المرحلة التي يعزف فيها الشيطان على قيثارة الشباب ألحان الجنون، وتصرخ الطبيعة في الجسد الغض بصوتها الذي يزلزل العقل ويدمر الإحساس، ويوقد بأبنائهم وبناتهم في هذه السن المبكرة، والآخذ بيدهم لاجتياز هذه المرحلة الموحشة.
عادت سلوى وهي في الخامسة عشرة من عمرها مع أمها وأبيها إلى أرض الوطن الذي لا تعرف عنه شياً، وإلى الأهل الذين تختلف طباعهم وسلوكهم وعاداتهم عما ألفته في نيويورك، فرأت نفسها غريبة لا تفهم الناس ولا يفهمونها. تبصر النساء يسرن وقد وضعن على وجوههن أغطية شفافة سوداء فلا تفهم معنى المحافظة على الأخلاق عن طريق الثياب بدلاً من غرسها في صميم الروح.
ومات والدها بعد سنتين من رجوعها إلى فلسطين، ولم يترك غيرها فكانت الوريثة الوحيدة لثروة كبيرة انفق الأب زهرة عمره الطويل في جمعها.
وكانت والدتها صغيرة السن، جميلة الملامح، مر في حياتها شاب بعد وفاة زوجها لوح لها بالحب فخدعها فانقادت إليه أسلمته قلبها وجسدها وحياتها وتزوجا.
وعاشت سلوى في المنزل الجديد، فكانت منقبضة الأسارير لم يرق في عينها زواج أمها، لأن ذكريات أبيها كانت عميقة في روحها، وكان يؤلمها أن ترى إنساناً آخر مع أمها تلك التي كانت قبل عهد قريب أحب الناس إلى أبيها.
وشبع الزوج وارتوت الحيوانية المتغلغلة فيه من جمال الأم، وراح لعاب نفسه المجرمة يسيل كلما رأى سلوى وهي كالوردة العابقة تملأ المنزل سحراً وفتنة وجمالاً وسعادة. وراح يتودد إليها ويكثر من المزاح معها، ومن العناية بها، ويطيل في مداعبتها فأدركت الأم ذلك، وشعرت بكيانها ينهار وبعزيمتها تخور، وبقلبها يتحطم، وهي ترى ذلك الذي أسلمته قلبها، ووثقت بشرفه ومروءته ورجولته، يطارد ابنتها، فثار غضبها، وجرحت كرامتها.
وأرسلت سلوى إلى جدتها في مدينة أخرى. وكانت تلك الجدة في الخمسين من عمرها، مات زوجها وجميع أبنائها ولم يبق غير ولد واحد في العشرين من عمره، لا يعمل عملاً، وإنما يعيش مع أمه على ما كانت ترسله أخته أم سلوى لهما من نقود.
وجدت سلوى عند جدتها لوناً جديداً من الحياة الطليقة لم تألفه عند أمها التي كانت تقيد حريتها، فأحبت العيش عندها، إن خالها يملأ فراغها؛ يسيران معاً بين الحقول الخضراء والبساتين المثمرة، ويتسلقان الجبال، ويهبطان الأودية في نزهتهما اليومية، ويلعبان معاً، ويأكلان معاً، وينامان معاً في غرفة واحدة. . والجدة ترى ذلك فلا يداخلها سوء، ولا يمر بخاطرها مكروه، ولا تجد في ذلك ضيراً! أليس خالها؟ أو ليست محرمة عليه وهي ابنة أخته؟
ولكن الطبيعة النائمة في جسديهما قد استيقضت، والجسدان الجائعان - وقد أهاج فيهما الإحساس بالجوع لطعام الغريب الشهي - قد تحررا من قيود الحياء بعد أن كان كل الاحتشام يحول بينهما وبين ذلك الإحساس المدمر العنيف. ولكن اللقاء الدائم والخلوة المستمرة، والتفكير المتواصل، قد استحال إلى حب جارف متبادل بين القلبين؛ فمات العقل في ساعة من ساعات الشهوة العنيفة الطاغية من حنين الجسد إلى الجسد، فنزلا، وقادهما الشيطان إلى الغواية والخطيئة، وراحا يأكلان من الثمرة المحرمة، والعجوز على مقربة منهما منصرفة إلى صلاتها وأورادها وعبادتها، تدعو لهما وتبارك حياتهما، والنار حولها قد التهمت الأخضر واليابس وقد أحرقت أعز ما عند حفيدتها من طهر، ودمرت القوانين السماوية يد الشيطان الرجيم، وعلى أصوات آي الذكر الحكيم، تنبعث صلاة عميقة من روح العجوز إلى الله.
ومرت الأيام، فشعرت الفتاة بشيء يتحرك في أحشائها، ففاتحت خالها الشاب الأرعن فلم يفهم شيئاً ولم يعنها على فهم ما غمض عليها، ولعله لا يعرف. . . واستمر دولاب الزمن في دورانه فكثر الحنين وظهرت أعراض الحمل. . . وتنبهت العجوز بعد فوات الوقت، ولم يكن بد من ظهور الفضيحة، فحملت الفتاة إلى المستشفى وهناك وضعت طفلة.
واتصل بعلم الأم ذلك الإثم، فجن جنونها، وخولط عقلها، فلطمت وجهها، وهي في إرسال كريمتها إلى جدتها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولكن بصيصاً من الإيمان العميق بالله وبالقضاء والقدر حالاً بينها وبين الموت. فأخذت طريقها إلى أمها وأخيها وبودها أن تسحقهما سحقاً. لقد انقلبت إلى وحش كاسر تريد الثأر لكرامة ابنتها! ولكن ممن! من أخيها - نعم من أعز إنسان لديها! تريد أن تثأر لكرامتها الجريحة، والعار الذي لم يسبق له مثيل، والذي سيكون نصيب ابنتها البريئة الطاهرة في الحياة. لكنها لم تستطع أن تفعل شيئاً أكثر من وضع الطفلة في ملجأ والهرب بابنتها إلى منزلها لتكون تحت جناحيها.
ومرت الأيام وأحست الفتاة بفداحة الإثم الذي اقترفته فكرهت الحياة ونقمت على البشر، أظلمت الدنيا في عينيها فما عادت ترى غير أطياف سود من البؤس والشقاء وما عادت تشعر إلا بتلك الجراح العميقة في قلبها تلك الجراح التي لا تميت ولكنها لا تبرأ منها على حد تعبير اللورد بايرون في ملحمته (الفارس هارولد).
وتقدم لخطبتها شاب متعلم رأى أطياف سعادته تنعكس في عينيها الساحرتين، فأحبها حباً مبرحاً عنيفاً - ولم يكن يعرف شيئاً عن أحزانها ومتاعب روحها وراح يمني النفس بها، وبالسعادة معها. . كان ذلك ما يضطرم به قلب الشاب العاشق الذي كان يزور أمها، ولكن الفتاة وهي ترى حبه العميق بادياً في عنايته بها، وفي سؤاله عنها وفي نظراته لها، وفي رغبته فيها - كانت تعيش في عالم بعيد، لم تحس بوجوده في قلبها، الذي حطمته الآلام وأصبح لا يتسع للسعادة ولا يقوى عليها.
وتقدم يخطبها، وكان ذلك ما تمنته الأم فرضيت به ولكن الفتاة لاذت بصمت عميق.
لقد مات قلبها ولم تكن راغبة في أن تجر الشقاء معها شاباً أحبها بأقوى ما في القلوب من حس وشعور، إنها لن تحبه. زاحت الأم المسكينة تضع المستحيل لتردها إلى المنطق، ولتزين لها الحياة الجديدة، بعد أن تلاشى الماضي بكل ما فيه من دموع وذكريات.
كانت الفتاة تحب أمها حباً عميقاً فسكتت أيضاً وحسبت أمها أن ذلك إيذاناً بالقبول وزفت البشرى إلى الشاب ففرح فرحاً شديداً وتلق سلوى خطيبها في بشر مصطنع وهو يضع خاتم الخطبة في أصبعها، ويضع قبلة حملها كل ما في قلبه من عبادة وحب شديد على يدها البضة الناصعة البياض. وفرحت الأم فرحاً شديداً وتمت مراسيم الخطبة في حفل رائع بهيج. وعين يوم الزفاف. ونامت العروس والغد ينتظرها والشاب العاشق يحلم بالسعادة في ذلك الغد بين ذراعيها.
وفتحت الأم غرفة العروس، بعد أن استبطأت نهوضها من النوم، فوجدتها جثة هامدة مضرجة بدمائها وهي في ملابس العرس. لقد قطعت إحدى الشرايين في جسمها لتستريح من آلام الحياة التي حملها عن روحها الموت.
المسيب - العراق
علي محمد سرطاوي
26 - 06 - 1950
==========================
علي محمد السرطاوي
علي محمد السرطاوي
( 1906 - 1971 م)
ولد في سرطة وتوفي في بغداد.
عاش في فلسطين والعراق.
تلقى تعليمه الأولي في كتّاب القرية، ثم التحق بدار المعلمين الابتدائية في القدس (1922) فالمدرسة الثانوية، ثم تخرج في دار المعلمين (1927)، وحصل على شهادة المعلمين العليا (1938).
تأثر بأستاذه درويش المقدادي فانكبّ على الشعر العربي وأمهات كتب التراث العربي.
عمل معلمًا في عدد من مدن فلسطين: قلقيلية - خان يونس - طولكرم - نابلس، ثم مديرًا لمدرسة جنين الثانوية، قبل أن تضطره ظروف النكبة إلى النزوح عن بلاده.
انتقل إلى بغداد (1948)، فعمل معلمًا للغة الإنجليزية في مدرسة المسيب الثانوية، ثم معلمًا ومحاضرًا في دار المعلمين الريفية، ثم أمينًا لسر غرفة بغداد التجارية (1954)، كما عمل معلمًا للإنجليزية في كلية الهندسة والصناعة (1963)، فمساعدًا لعميدها ومشرفًا على تحرير مجلة «رسالة المهندس» حتى أحيل إلى التقاعد 1970.
ترأس وفد معلِّمي بغداد للقاء الزعيم جمال عبدالناصر بالقاهرة.
الإنتاج الشعري:
- له ديوان الشاعر علي السرطاوي «أبوعصام» - جمع: سحاب علي السرطاوي - طبع على نفقتها - عمان (د.ت) وأشارت بعض المصادر إلى أن المترجم له جمع شعره وبعض شعر والده في ديوانين: «السفينة الكبرى»، و«السفينة الصغرى»، ولم يتسن له أن يطبعهما، وقد تولّت ابنته طبع ما تيسر من أشعاره وبعض أشعار أبيه، وله
مطارحات شعرية مع شعراء عصره ومنهم: إبراهيم طوقان - خالد نصرة - راتب الشامي - عمر أبوريشة - محمود الحوت - نازك الملائكة.
الأعمال الأخرى:
- له مسرحية «وليم تل» ترجمة عن الإنجليزية - مجلة «رسالة المهندس» بغداد، وله عدد من المقالات في مجلة «الرسالة» القاهرية الشهرية مشاركًا في المناظرات بين طه حسين وزكي مبارك، فضلاً عن عدد من المقالات في مجلة «رسالة المهندس»، وفي صحيفة «صوت الشعب»، وغيرهما من صحف عصره، وله ترجمة عن الإنجليزية لكتاب: «النبي المثالي لخواجا كمال الدين» (مخطوط في حوزة ابنته).
شغلت فلسطين مساحة كبرى من همّه، وغلبت على قصائده، وجعلها نقطة انطلاقة إلى التفاعل بالإنسان والوجود من حوله، كما مالت إلى الاتكاء على ذكريات
الماضي محاولة رسم صورة لفلسطين ما قبل النكبة، معتمدة لغة تصويرية تجسد ما يحمله صاحبها من حب لبلاده ووعي بقضيتها. له قصائد غزلية ذات نفس رومانسي رقيق، وله رثاء في زوجته امتزجت فيه برمز الوطن السليب.
وكان والدها قد رحل إلى أمريكا قبل ذلك التاريخ، ووافته الفرصة فجمع مالاً وفيراً، وعاد إلى الوطن يفتش عن عروس في فلسطين أرادها أن تكون أسرته، فبنى بابنة عمه وعاد بها إلى أمريكا.
ولكن الحنين إلى الوطن، والشوق إلى الأهل ومراتع الصبا، جعل حياة الزوجة جحيماً لا يطاق، فما زالت به حتى قنع بالعودة بعد تصفية أعماله.
والحرية في مدينة نيويورك تختلف عنها في الشرق اختلافاً عظيماً، ذلك أن الفتاة والفتى يلعبان طفلين معاً، ويتعلمان شابين ولا يجدان في مسالك الحياة ما يغير ذلك. والتعليم في معانيه يحمل العقل مسئولية الخطأ في الحياة، وينير أمام الضمير الطريق، والفتى والفتاة في الخامسة عشرة يجتازان أشق مرحلة من مراحل الطيش، تلك المرحلة التي يعزف فيها الشيطان على قيثارة الشباب ألحان الجنون، وتصرخ الطبيعة في الجسد الغض بصوتها الذي يزلزل العقل ويدمر الإحساس، ويوقد بأبنائهم وبناتهم في هذه السن المبكرة، والآخذ بيدهم لاجتياز هذه المرحلة الموحشة.
عادت سلوى وهي في الخامسة عشرة من عمرها مع أمها وأبيها إلى أرض الوطن الذي لا تعرف عنه شياً، وإلى الأهل الذين تختلف طباعهم وسلوكهم وعاداتهم عما ألفته في نيويورك، فرأت نفسها غريبة لا تفهم الناس ولا يفهمونها. تبصر النساء يسرن وقد وضعن على وجوههن أغطية شفافة سوداء فلا تفهم معنى المحافظة على الأخلاق عن طريق الثياب بدلاً من غرسها في صميم الروح.
ومات والدها بعد سنتين من رجوعها إلى فلسطين، ولم يترك غيرها فكانت الوريثة الوحيدة لثروة كبيرة انفق الأب زهرة عمره الطويل في جمعها.
وكانت والدتها صغيرة السن، جميلة الملامح، مر في حياتها شاب بعد وفاة زوجها لوح لها بالحب فخدعها فانقادت إليه أسلمته قلبها وجسدها وحياتها وتزوجا.
وعاشت سلوى في المنزل الجديد، فكانت منقبضة الأسارير لم يرق في عينها زواج أمها، لأن ذكريات أبيها كانت عميقة في روحها، وكان يؤلمها أن ترى إنساناً آخر مع أمها تلك التي كانت قبل عهد قريب أحب الناس إلى أبيها.
وشبع الزوج وارتوت الحيوانية المتغلغلة فيه من جمال الأم، وراح لعاب نفسه المجرمة يسيل كلما رأى سلوى وهي كالوردة العابقة تملأ المنزل سحراً وفتنة وجمالاً وسعادة. وراح يتودد إليها ويكثر من المزاح معها، ومن العناية بها، ويطيل في مداعبتها فأدركت الأم ذلك، وشعرت بكيانها ينهار وبعزيمتها تخور، وبقلبها يتحطم، وهي ترى ذلك الذي أسلمته قلبها، ووثقت بشرفه ومروءته ورجولته، يطارد ابنتها، فثار غضبها، وجرحت كرامتها.
وأرسلت سلوى إلى جدتها في مدينة أخرى. وكانت تلك الجدة في الخمسين من عمرها، مات زوجها وجميع أبنائها ولم يبق غير ولد واحد في العشرين من عمره، لا يعمل عملاً، وإنما يعيش مع أمه على ما كانت ترسله أخته أم سلوى لهما من نقود.
وجدت سلوى عند جدتها لوناً جديداً من الحياة الطليقة لم تألفه عند أمها التي كانت تقيد حريتها، فأحبت العيش عندها، إن خالها يملأ فراغها؛ يسيران معاً بين الحقول الخضراء والبساتين المثمرة، ويتسلقان الجبال، ويهبطان الأودية في نزهتهما اليومية، ويلعبان معاً، ويأكلان معاً، وينامان معاً في غرفة واحدة. . والجدة ترى ذلك فلا يداخلها سوء، ولا يمر بخاطرها مكروه، ولا تجد في ذلك ضيراً! أليس خالها؟ أو ليست محرمة عليه وهي ابنة أخته؟
ولكن الطبيعة النائمة في جسديهما قد استيقضت، والجسدان الجائعان - وقد أهاج فيهما الإحساس بالجوع لطعام الغريب الشهي - قد تحررا من قيود الحياء بعد أن كان كل الاحتشام يحول بينهما وبين ذلك الإحساس المدمر العنيف. ولكن اللقاء الدائم والخلوة المستمرة، والتفكير المتواصل، قد استحال إلى حب جارف متبادل بين القلبين؛ فمات العقل في ساعة من ساعات الشهوة العنيفة الطاغية من حنين الجسد إلى الجسد، فنزلا، وقادهما الشيطان إلى الغواية والخطيئة، وراحا يأكلان من الثمرة المحرمة، والعجوز على مقربة منهما منصرفة إلى صلاتها وأورادها وعبادتها، تدعو لهما وتبارك حياتهما، والنار حولها قد التهمت الأخضر واليابس وقد أحرقت أعز ما عند حفيدتها من طهر، ودمرت القوانين السماوية يد الشيطان الرجيم، وعلى أصوات آي الذكر الحكيم، تنبعث صلاة عميقة من روح العجوز إلى الله.
ومرت الأيام، فشعرت الفتاة بشيء يتحرك في أحشائها، ففاتحت خالها الشاب الأرعن فلم يفهم شيئاً ولم يعنها على فهم ما غمض عليها، ولعله لا يعرف. . . واستمر دولاب الزمن في دورانه فكثر الحنين وظهرت أعراض الحمل. . . وتنبهت العجوز بعد فوات الوقت، ولم يكن بد من ظهور الفضيحة، فحملت الفتاة إلى المستشفى وهناك وضعت طفلة.
واتصل بعلم الأم ذلك الإثم، فجن جنونها، وخولط عقلها، فلطمت وجهها، وهي في إرسال كريمتها إلى جدتها كانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولكن بصيصاً من الإيمان العميق بالله وبالقضاء والقدر حالاً بينها وبين الموت. فأخذت طريقها إلى أمها وأخيها وبودها أن تسحقهما سحقاً. لقد انقلبت إلى وحش كاسر تريد الثأر لكرامة ابنتها! ولكن ممن! من أخيها - نعم من أعز إنسان لديها! تريد أن تثأر لكرامتها الجريحة، والعار الذي لم يسبق له مثيل، والذي سيكون نصيب ابنتها البريئة الطاهرة في الحياة. لكنها لم تستطع أن تفعل شيئاً أكثر من وضع الطفلة في ملجأ والهرب بابنتها إلى منزلها لتكون تحت جناحيها.
ومرت الأيام وأحست الفتاة بفداحة الإثم الذي اقترفته فكرهت الحياة ونقمت على البشر، أظلمت الدنيا في عينيها فما عادت ترى غير أطياف سود من البؤس والشقاء وما عادت تشعر إلا بتلك الجراح العميقة في قلبها تلك الجراح التي لا تميت ولكنها لا تبرأ منها على حد تعبير اللورد بايرون في ملحمته (الفارس هارولد).
وتقدم لخطبتها شاب متعلم رأى أطياف سعادته تنعكس في عينيها الساحرتين، فأحبها حباً مبرحاً عنيفاً - ولم يكن يعرف شيئاً عن أحزانها ومتاعب روحها وراح يمني النفس بها، وبالسعادة معها. . كان ذلك ما يضطرم به قلب الشاب العاشق الذي كان يزور أمها، ولكن الفتاة وهي ترى حبه العميق بادياً في عنايته بها، وفي سؤاله عنها وفي نظراته لها، وفي رغبته فيها - كانت تعيش في عالم بعيد، لم تحس بوجوده في قلبها، الذي حطمته الآلام وأصبح لا يتسع للسعادة ولا يقوى عليها.
وتقدم يخطبها، وكان ذلك ما تمنته الأم فرضيت به ولكن الفتاة لاذت بصمت عميق.
لقد مات قلبها ولم تكن راغبة في أن تجر الشقاء معها شاباً أحبها بأقوى ما في القلوب من حس وشعور، إنها لن تحبه. زاحت الأم المسكينة تضع المستحيل لتردها إلى المنطق، ولتزين لها الحياة الجديدة، بعد أن تلاشى الماضي بكل ما فيه من دموع وذكريات.
كانت الفتاة تحب أمها حباً عميقاً فسكتت أيضاً وحسبت أمها أن ذلك إيذاناً بالقبول وزفت البشرى إلى الشاب ففرح فرحاً شديداً وتلق سلوى خطيبها في بشر مصطنع وهو يضع خاتم الخطبة في أصبعها، ويضع قبلة حملها كل ما في قلبه من عبادة وحب شديد على يدها البضة الناصعة البياض. وفرحت الأم فرحاً شديداً وتمت مراسيم الخطبة في حفل رائع بهيج. وعين يوم الزفاف. ونامت العروس والغد ينتظرها والشاب العاشق يحلم بالسعادة في ذلك الغد بين ذراعيها.
وفتحت الأم غرفة العروس، بعد أن استبطأت نهوضها من النوم، فوجدتها جثة هامدة مضرجة بدمائها وهي في ملابس العرس. لقد قطعت إحدى الشرايين في جسمها لتستريح من آلام الحياة التي حملها عن روحها الموت.
المسيب - العراق
علي محمد سرطاوي
26 - 06 - 1950
==========================
علي محمد السرطاوي
علي محمد السرطاوي
( 1906 - 1971 م)
ولد في سرطة وتوفي في بغداد.
عاش في فلسطين والعراق.
تلقى تعليمه الأولي في كتّاب القرية، ثم التحق بدار المعلمين الابتدائية في القدس (1922) فالمدرسة الثانوية، ثم تخرج في دار المعلمين (1927)، وحصل على شهادة المعلمين العليا (1938).
تأثر بأستاذه درويش المقدادي فانكبّ على الشعر العربي وأمهات كتب التراث العربي.
عمل معلمًا في عدد من مدن فلسطين: قلقيلية - خان يونس - طولكرم - نابلس، ثم مديرًا لمدرسة جنين الثانوية، قبل أن تضطره ظروف النكبة إلى النزوح عن بلاده.
انتقل إلى بغداد (1948)، فعمل معلمًا للغة الإنجليزية في مدرسة المسيب الثانوية، ثم معلمًا ومحاضرًا في دار المعلمين الريفية، ثم أمينًا لسر غرفة بغداد التجارية (1954)، كما عمل معلمًا للإنجليزية في كلية الهندسة والصناعة (1963)، فمساعدًا لعميدها ومشرفًا على تحرير مجلة «رسالة المهندس» حتى أحيل إلى التقاعد 1970.
ترأس وفد معلِّمي بغداد للقاء الزعيم جمال عبدالناصر بالقاهرة.
الإنتاج الشعري:
- له ديوان الشاعر علي السرطاوي «أبوعصام» - جمع: سحاب علي السرطاوي - طبع على نفقتها - عمان (د.ت) وأشارت بعض المصادر إلى أن المترجم له جمع شعره وبعض شعر والده في ديوانين: «السفينة الكبرى»، و«السفينة الصغرى»، ولم يتسن له أن يطبعهما، وقد تولّت ابنته طبع ما تيسر من أشعاره وبعض أشعار أبيه، وله
مطارحات شعرية مع شعراء عصره ومنهم: إبراهيم طوقان - خالد نصرة - راتب الشامي - عمر أبوريشة - محمود الحوت - نازك الملائكة.
الأعمال الأخرى:
- له مسرحية «وليم تل» ترجمة عن الإنجليزية - مجلة «رسالة المهندس» بغداد، وله عدد من المقالات في مجلة «الرسالة» القاهرية الشهرية مشاركًا في المناظرات بين طه حسين وزكي مبارك، فضلاً عن عدد من المقالات في مجلة «رسالة المهندس»، وفي صحيفة «صوت الشعب»، وغيرهما من صحف عصره، وله ترجمة عن الإنجليزية لكتاب: «النبي المثالي لخواجا كمال الدين» (مخطوط في حوزة ابنته).
شغلت فلسطين مساحة كبرى من همّه، وغلبت على قصائده، وجعلها نقطة انطلاقة إلى التفاعل بالإنسان والوجود من حوله، كما مالت إلى الاتكاء على ذكريات
الماضي محاولة رسم صورة لفلسطين ما قبل النكبة، معتمدة لغة تصويرية تجسد ما يحمله صاحبها من حب لبلاده ووعي بقضيتها. له قصائد غزلية ذات نفس رومانسي رقيق، وله رثاء في زوجته امتزجت فيه برمز الوطن السليب.